من أفضل ما قيل عن الكتاب
مقدمة المترجم
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول
1 - النموذج الأصلي: الملطيون
2 - تناغم العالم: الفيثاغوريون
3 - الرجل الذي بحث عن نفسه: هرقليطس
4 - حقيقة اللاشيء: بارمنيدس
5 - طرق المفارقة: زينون
6 - الحب والصراع: إمبيدوكليس
7 - العقل والمادة: أناكساجوراس
8 - من يضحك أخيرا: ديموقريطس
9 - وهبت رياح المتاعب: السفسطائيون
الجزء الثاني
10 - شهيد الفلسفة: سقراط والسقراطيات
11 - جمهورية المنطق: أفلاطون
12 - المعلم الأول: أرسطو
الجزء الثالث
13 - الطرق الثلاث إلى السكينة: الأبيقورية والرواقية والشكوكية
14 - قلعة الورع: من العصور القديمة حتى عصر النهضة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
مقدمة المترجم
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول
1 - النموذج الأصلي: الملطيون
2 - تناغم العالم: الفيثاغوريون
3 - الرجل الذي بحث عن نفسه: هرقليطس
4 - حقيقة اللاشيء: بارمنيدس
5 - طرق المفارقة: زينون
6 - الحب والصراع: إمبيدوكليس
7 - العقل والمادة: أناكساجوراس
8 - من يضحك أخيرا: ديموقريطس
9 - وهبت رياح المتاعب: السفسطائيون
الجزء الثاني
10 - شهيد الفلسفة: سقراط والسقراطيات
11 - جمهورية المنطق: أفلاطون
12 - المعلم الأول: أرسطو
الجزء الثالث
13 - الطرق الثلاث إلى السكينة: الأبيقورية والرواقية والشكوكية
14 - قلعة الورع: من العصور القديمة حتى عصر النهضة
حلم العقل
حلم العقل
تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
تأليف
أنتوني جوتليب
ترجمة
محمد طلبة نصار
من أفضل ما قيل عن الكتاب
يقدم هذا الدليل الرائع للمتفكرين الإلهام والسلوى في الآن عينه ... وهو يتسم بسلاسة الأسلوب، وعمق المعلومة، وبراعة الكتابة ... وينتهي نهاية مشوقة بمجيء ديكارت وبزوغ فجر الفلسفة الحديثة، والتي سيتناولها جوتليب في كتاب لاحق لا أطيق الانتظار حتى أقرأه.
شوشا جوبي، صحيفة «ذي إندبندنت»
على كل شخص أن يعرف ولو اليسير من المعلومات عن تاريخ الفكر اليوناني، وهذا الكتاب هو السبيل الأمثل لذلك. إنه كتاب واضح، ومشروح بشكل رائع، وخضعت مادته للدراسة المستفيضة، ومكتوب بشكل سلس، ويتسم بالطرافة في المواضع المناسبة، كما أنه يفيض بالاحترام لإنجازات الماضي.
كولين ماكجين، صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»
ها هو كتاب وضعه صحفي يتناول فيه نصف تاريخ الفلسفة، وكم ينبض بالحياة هذا الكتاب! إنه يحوي من المعلومات ما يفتقده بعض من الكتب التي يقدمها الفلاسفة أنفسهم، وهو يقرب الفلسفة من أذهان الجمهور، لكن دون ابتذال أو إسراف في التبسيط ... وحين يصدر الجزء الثاني، سأكون قطعا من بين قارئيه.
تيد هوندرايش، مجلة «جود بوك جايد»
حين كنت صغيرا انغمست لأيام في فيض من المتعة والاكتشاف من خلال كتاب برتراند راسل «تاريخ الفلسفة الغربية». وفي وقت لاحق، حدث الأمر عينه مع كتاب إيه جيه آير «اللغة والحقيقة والمنطق». إن الاستعراض الرائع الذي يقدمه جوتليب لا يوسع من آفاق اهتماماتي ومعارفي الحالية فحسب، وإنما يعيد إلي أيضا ذلك الشعور بالإثارة الذي كنت أشعر به خلال رحلات الاستكشاف المبكرة التي قمت بها بين جنبات عالم الفلسفة؛ عالم المعرفة والتعلم.
جون بايلي
يركز جوتليب على أكثر المواضع إثارة للاهتمام وأكثرها ثراء في فكر أي فيلسوف ... وإذا جاء الجزء الثاني من عمله على نفس المستوى، فسيشكل الجزآن أفضل تأريخ للفلسفة منذ أعمال برتراند راسل.
نيكولاس فيرن، مجلة «سبكتيتور»
يكتب جوتليب بسلاسة ورشاقة، ويتمتع بموهبة جعل الأمور الصعبة تبدو يسيرة الفهم.
ريتشارد جنكنز، صحيفة «ذا نيويورك تايمز»
من المميزات البارزة للكتاب أنه لا يستعرض مجموعة من النتائج فحسب، كما تفعل الكتب التي تتناول تاريخ الفلسفة بشكل مختصر، وإنما يعرض عددا من الحجج المقدمة على نحو سلس.
أنتوني كوينتون
يندر أن نجد من القراء من لم يتعلم الجديد من هذا الكتاب، بل ويندر أكثر أن يشعر أحدهم بالسأم.
فريدريك رافايل، صحيفة «ذا صنداي تايمز»
إن كتاب جوتليب بما يتمتع به من أسلوب شائق وما يزخر به من معلومات رائعة يستحق أن يكون المقدمة التاريخية المعيارية للطلاب وللقراء العاديين، وأن يحل محل سواه من الكتب، بما في ذلك كتاب برتراند راسل الذي حقق نجاحا كبيرا «تاريخ الفلسفة الغربية».
إيه سي جرايلينج، صحيفة «ذي إندبندنت أون صنداي»
كتاب «حلم العقل» لجوتليب كتاب ممتع في قراءته. وهو مكتوب بكل رشاقة وحرفية، ويرسم صورة كلية رائعة للفلسفة الغربية وصولا إلى عصر النهضة.
سير روجر بنروز
إن مناقب هذه الخلاصة الوافية واضحة للعيان؛ فهي مكتوبة بأسلوب مرح لائق، حيث يظهر لويس كارول إلى جوار بارمنيدس، ويساعدنا فلان أوبراين على استيضاح أفكار هسيود، ويحلق أمبرتو إيكو بأجنحة أرسطية.
جورج شتاينر، صحيفة «ذي أوبزرفر»
مع هذا الكتاب،يصير تاريخ الفلسفة ممتعا متعة لا حدود لها ومفيدا أقصى درجات الاستفادة.
سير أنتوني كيني، الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة «ذا تايمز»
كل جيل محكوم عليه أن يعيد تفسير الماضي، ومحكوم عليه أن يعيد صياغة نفس الأسئلة الجوهرية. وهذا الكتاب الرائع يبين مدى جدوى هاتين العمليتين، وكيف يمكن أن يستمتع المرء أثناء القيام بهما.
كريستيان تايلر، صحيفة «فاينانشال تايمز»
كتاب آسر للألباب، مكتوب بصورة خلابة وبحرفية مبهرة، وفي الوقت عينه يتسم بروح الهواية في أفضل صورها.
روبرت كونكويست، الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة «ذا تايمز»: أفضل كتب العام على مستوى العالم
مقدمة المترجم
ما من شيء يستحق الثناء كالسعي إلى تيسير المعرفة لمن تبدو لهم بعض أنواعها عسيرة. وعندما يتجاوز المؤلف عرض الأفكار مبسطة إلى تقديمها للقارئ سائغة في قالب يجمع بين لغة الحياة وحبكة القصة؛ فهو يبلغ الغاية في نيل المسعى. ولم يكن دخول هذا الكتاب قوائم الكتب الأكثر شعبية إلا نتيجة لقدرة مؤلفه أنتوني جوتليب على تحقيق هذا الإنجاز بالمزج بين تيسير الأفكار واستخدام الحكي، إضافة إلى سهولة اللغة وحيويتها التي تأتي من قدرة المؤلف على استخدام الانتقالات اللغوية الخاطفة، وتعبيرات الحديث اليومي المفعمة بطاقة من الحميمية. وإذا صح أن بعض المؤلفين ينهل من بحر لا ينفد فلا شك أن جوتليب أحد هؤلاء المؤلفين، حتى وإن كان الموضوع الذي يتناوله جامدا كالصخور.
يبلغ متن الكتاب في نسخته الإنجليزية أربعمائة وثلاثين صفحة، حشاها المؤلف بالتأريخ للفلسفة الغربية القديمة في الحضارتين اليونانية والرومانية وفلسفة عصر النهضة الأوروبي، مع إشارات للتراث الفلسفي استوجبها البحث في الحضارات الأخرى، كما في حالتي الفلسفة الإسلامية والفارسية القديمة متمثلة في المانوية. وقد اجتهد المؤلف في الجمع بين شمول العرض والحفاظ على انتباه القارئ العادي بالتسهيل والتقريب، مدركا أن الخطر الرئيس الذي يواجه مؤلفا لكتاب كهذا يكمن في إقناع القارئ بأن يستمر في القراءة إلى النهاية، وألا تقف المفاهيم الفلسفية عائقا أمام القراءة المتحمسة. ويغطي الكتاب رحلة الفلسفة عبر ما يزيد على ألفي عام، بدءا من طاليس الملطي في القرن السادس قبل الميلاد وانتهاء برينيه ديكارت في القرن السابع عشر، ليعرض لتقلبات البحث الفلسفي وخيوطه الممتدة عبر قرونه الطويلة وسياحاته في مجالات تخرج عن التعريف الدقيق للفلسفة الآن. ونحن في ذلك بإزاء تأريخ للفلسفة وتأريخ للفلاسفة أنفسهم في اهتماماتهم التي تخرج أحيانا عن التعريف الدقيق للفلسفة، مع الأخذ في الاعتبار أن معنى الفلسفة كان يتجاوز تعريفها الضيق في العصور الحديثة. ولا شك أن هذا يفيد القارئ في الإلمام بإنجازات الفلاسفة، ويعرفه بمسار العلوم من الاندراج تحت علم واحد هو الفلسفة إلى تمايزها واستقلالها بتأثير التراكم المعرفي الهائل الذي حدث للإنسان على مر العصور.
ورغم ولوجه في أغوار الأفكار الفلسفية لم يفقد المؤلف حياده ولا قدرته على البحث في الفلسفة وتاريخها بنفس الباحث، وإن كان نجح فيما هو أصعب من ذلك وهو إرجاع نفس الباحث إلى خلفية الكتاب ليلعب دور الشاعر المتجول الذي يمضي في البلاد حاكيا تاريخ الأقدمين وحكمتهم، فيستمع له العامة ويأخذون عنه الحكمة.
والقارئ العربي ليس بعيدا عن مرامي الكتاب وفوائده؛ فالمؤلف وإن حصر اهتمامه في تاريخ الفلسفة الغربية واقفا على أعتاب العصر الحديث الذي سيغطيه بكتاب آخر ينبغي أن يكون محل ترقب كذلك، لم يفته أن يذكر - ولو في سطور قليلة - أن في تاريخ الفلسفة الغربية بين العصور الهيلينية من جانب وفلاسفة اللاهوت المدرسي وعصر النهضة من جانب آخر لم يصله إلا اعتناء العرب بهذه الفلسفة من خلال جهود ابن سينا والفارابي والكندي، فضلا عن جهود العرب المتقدمة في الرياضيات والبصريات والتشريح، وهي جلها الجهود التي أفاد منها الغرب بالرحلة إلى الأندلس لطلب العلم وبالترجمة عن العربية إلى اللاتينية.
ومما يتميز به الكاتب عن غيره ربطه الفلسفات القديمة بأصدائها في الفكر الحديث، كربطه - على سبيل المثال - بين مقولات السفسطائيين في نسبية الحقيقة والنزعات النسبية الحديثة في مجال الأخلاق والثقافة، وصولا إلى الفلسفة البرجماتية الحديثة لدى وليام جيمس، مراعيا بدقة الباحث بيان أوجه الاختلاف بين النسبيات الحديثة والنسبية اليونانية. ويستعرض المؤلف بمهارة وتركيز الجدل القائم بين القائلين بالنسبية والرافضين لها، واضعا حجج الفريقين أمام القارئ ليصبح الأخير مستوعبا للمقولات الجدلية الأساسية للنزعتين في صفحات إن لم يكن في سطور قليلة، وليفتح له بعد ذلك آفاقا أخرى من التفكير والبحث في هذه القضية القديمة قدم الإنسان. ومن أمثلة ذلك عرضه المركز لأشكال القياس الأربعة عند أرسطو، واستمرار هيمنة المنطق الأرسطي في الدوائر الفلسفية واللاهوتية حتى القرن التاسع عشر، ثم إيراده نقد القدماء للمنطق الصوري الأرسطي متمثلا في الرواقيين قديما وعدد من الفلاسفة المحدثين، ثم ذكره محاولات لايبنتس في القرن الثامن عشر لتطوير المنطق الأرسطي ليصبح أكثر اكتمالا في قدرته على ضبط المنطق الإنساني والأقضية التي نطلقها في كلامنا، ثم يعرض بعد ذلك لما يشوب نظرة لايبنتس من قصور، ثم يرتد على أثره إلى الراهب رامون لول في القرن الثالث عشر، والذي كان يرى أنه من الممكن إقناع المسلمين بالمسيحية إذا ما أمكن التعبير عن صفات الرب في المسيحية برموز رياضية، وهو جهد رآه المؤلف متسما بالسذاجة الشديدة، ثم يتقدم المؤلف مرة أخرى إلى جذور فكرة الضبط الرياضي للتفكير عند توماس هوبز في القرن السابع عشر، ثم يقفز إلى القرن التاسع عشر مع جهود الإنجليزيين جورج بول وأوجست دو مورجان في تأسيس المنطق الرياضي، ثم ينتهي ببرتراند راسل وأستاذه وايتهيد اللذين مكنا المنطق في نهاية الأمر من أن يصبح علم المنطق الرياضي. وهذا الجهد الأمين الذي لا يتطلب من القارئ سوى بعض التركيز في رحلة الوصول إلى المعرفة انطلاقا من الفلسفة القديمة يشهد وحده بأن الكاتب لم يضح بالمعرفة في سبيل الحكي، بل استطاع في جهد حميد أن يجمع بين أمانة استيفاء المعرفة ومهارة العرض وسلاسته.
ويبدد المؤلف بعض الأوهام الرائجة بشأن هذا الفيلسوف أو ذاك وهذه القصة التاريخية أو تلك، وقد فعل هذا على سبيل المثال مع السفسطائيين مبينا أنهم - أيا كانت مثالبهم - قد مثلوا نزعة نقدية لليقينيات الأخلاقية كانت من الأهمية في تاريخ الفكر الإنساني بمكان واستدعت بالمقابل ردودا وبحوثا فلسفية عبرت بشكل أفضل عن الإيمان بالمطلقات الأخلاقية والدينية والثقافية.
ونظرا لأهمية الأحداث التاريخية المتعلقة بالشخصيات في كتاب من هذا النوع يسعى للمزج بين فن الحكي وعرض الأفكار، يتوقف المؤلف عند لحظات درامية مهمة في التاريخ كلحظة مقتل الفيلسوفة السكندرية هيباتيا، ويعرض الروايتين التاريخيتين المشهورتين لمقتلها، مرجحا أن مقتلها لم يكن بباعث من التعصب الديني ورفض الفلسفة بقدر ما كان بسبب الصراع السياسي بين أورستيس حاكم الإسكندرية وكيرلس رئيس القساوسة بها، وإن بقيت الروايتان تتصارعان وتوظفان أدبيا وتاريخيا لأغراض مختلفة. والمؤلف ينحو إلى ترجيح الرواية التي ترى مقتل هيباتيا ناتجا عن التنافس السياسي على تلك التي تراه عاقبة للتعصب الديني ضد الفيلسوفة غير المسيحية.
يتمتع مؤلف الكتاب بقدرة عالية على المزج بين تبسيط المعني الفلسفي ووجازة العبارة؛ وهذه القدرة على الشرح مع الإيجاز تطرد في جميع فصول الكتاب لتعطيه ما له من سمة مميزة وشعبية مستحقة.
ومن لمحاته اللافتة للنظر التي تدل على طبيعة الكتاب ككل وطريقة تأليفه إشارته في الفصل الخاص بأرسطو إلى تشاؤم أفلاطون مقابل تفاؤل أرسطو، فالكهف المظلم البائس الذي رأى أفلاطون أنه يمثل الحياة على الأرض، وأنه لا بد للفيلسوف أن يريه للناس من هذا المنظور البئيس كي يدركوا أنه لا يمكن الخروج من ذلك الكهف إلا بالتأمل في المثل والاستغراق فيها؛ يراه أرسطو في كتابه الأثير «الحيوان» مكانا يمكن العيش فيه حالما نوقد المصباح لنرى النور لا أكثر، وسيبدو الكهف أشد إثارة إذا بدأنا كذلك في دراسة الحيوانات التي تعيش فيه. وهو ما ظهر كذلك في دفاع أرسطو عن الشعر الذي يراه أفلاطون محاكاة لواقع على الأرض لا يتسم إلا بالنقص والفساد، وأن الاستغراق فيه يبتعد بالناس عن مباشرة المثل والتأمل فيها والتطلع إليها. أما أرسطو فيرى الشعر محاكيا لا لما هو كائن بل لما يجب أن يكون.
ولو توقف الكاتب عند حد العرض والربط والتردد بين القديم والحديث لكان جيدا، ولكنه لم يأل جهدا كذلك في تفنيد رأي هذا الفيلسوف أو ذاك، كما فعل في الفصل الخاص ببارمنيدس مثلا ثم في الفصل التالي الخاص بتلميذه زينون. ولا يخلو فصل من إيراد النقد على هذا الفيلسوف أو ذاك أو من تبديد وهم شائع عن هذه المدرسة أو تلك، كما سبقت الإشارة في حالة بعض السفسطائيين. وهو في هذا يفيد من التطورات المختلفة في البحث في تاريخ الفلسفة ومن التطور في البحث الفلسفي نفسه. ومتى تعذر تكوين فكرة كاملة أو مترابطة عما قصده فيلسوف قديم فقد جل أعماله أو بعضها، أشار إلى ذلك بوضوح ناسبا ما يلحق بفكر القدماء من تشوه إلى هذا السبب التاريخي، بل ويحاول سد الفجوات بشكل أو بآخر معتمدا على القراءات المتتابعة لأعمال هؤلاء الفلاسفة عبر التاريخ، ويظهر ذلك في الفصل الخاص ببارمنيدس وفي الفصل الخاص بأرسطو كما سبقت الإشارة.
وبعد أن يكون الكتاب معارف أساسية لدى القارئ ستتردد أصداء هذه التجربة الثرية التي عايشها خلال رحلته مع الكتاب في حياته وقراءاته بعد ذلك. وكفى بهذا الكتاب فخرا أن يكون عارضا للأفكار الفلسفية الأساسية وأن يحقق إلمام القارئ بها، لم لا وهو يقدم المعرفة في قالب عجيب وطريف يستحق الوصف بالسهل الممتنع!
شكر وتقدير
لقد قدم لي كثير من الباحثين العون والمساعدة بالتعليقات أو الاقتراحات أو النقد أو بالرد على ما طرحته من أسئلة. ولذلك أخص بالشكر كلا من: جوناثان بارنز، ووالتر بركرت، وبرايان كوبنهافر، والأب الراحل كوبلستون، وجون ديلون، والسير كينيث دوفر، وأنتوني جرايلينج، وجيم هانكينسون، وإدوارد هاسي، وجون مارينبون، وويلارد فان أورمان كواين، وجون فالانس، ومارتن وست. كما أتقدم بخالص الشكر لكل من: أوليفر بلاك، ودانييل بورستين، وراي مونك، وأندرو راشباس، ومات ريدلي، وإيلين سميث (التي كان ذلك الكتاب فكرتها)، والسير بيتر ستروسون، وزوجتي ميراندا سيمور؛ لما قدموه لي من دعم ومساعدة وتشجيع. ولا يفوتني أن أتقدم بأسمى آيات الشكر والتقدير لكل من روبرت بينانت ري وبيل إيموت رئيسي التحرير المتواليين لجريدة «ذي إيكونوميست» لسماحهما لي بإجازات طويلة للتفرغ لهذا الكتاب.
مقدمة
كان آخر ما توقعت أن أكتشفه حين شرعت في تأليف هذا الكتاب منذ أكثر من عشرة أعوام أنه ليس هناك ما يسمى فلسفة، ولكن هذا ما اكتشفته بالفعل وفسر لي الكثير من الأمور بعد ذلك. وانطلقت عازما على إغفال كل ما ظننت أني أعرفه، وبدأت في دراسة كتابات أولئك الذين عاشوا على مدار الألفين والستمائة عام الماضية؛ أولئك الذين يعدهم العالم فلاسفة الغرب العظام. وكان هدفي (الذي تأدب أصدقائي في وصفه ب «الطموح» وغالبا ما كانوا يقصدون «المجنون») أن أتناول قصة الفلسفة كما ينبغي لصحفي أن يعالجها؛ بحيث أعتمد على المصادر الأولية فقط أينما وجدت، وأن أتشكك في كل شيء بات يعتبر حكمة سائرة مألوفة، وفوق كل ذلك أن أحاول تفسير كل ذلك قدر ما أستطيع من الوضوح.
وبينما كنت أعرض للشخصيات المختلفة من القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد الذين جرت العادة على وضعهم في سلة واحدة بوصفهم فلاسفة - بداية بسقراط وأفلاطون وأرسطو (الذين يشار إليهم غالبا بالثالوث، ولكن هل كان هناك من هم أكثر اختلافا فيما بينهم من هؤلاء الثلاثة؟) ومرورا بأهل الفكر في العصور الهيلينية، والمتصوفين والسحرة والمنجمين من أهل العصور القديمة، إلى الأوائل من المفكرين المسيحيين والرهبان المفتونين بالمنطق والعلماء، وعلماء اللاهوت الذين عاشوا في بداية العصور الوسطى، ومن عاش في عصر النهضة من السحرة وأصحاب الرؤى والنحاتين والمهندسين، وصولا إلى بدايات العصور الحديثة - تجلت أمام عيني بنية «الفلسفة» التي تعد افتراضا أقدم موضوعات البحث على الإطلاق، وتوصلت إلى أن علم التأريخ التقليدي الذي يسعى إلى تمييز الفلسفة عن العلوم الفيزيائية والرياضية والاجتماعية والدراسات الإنسانية قد بسطها تبسيطا مخلا؛ إذ كان ضربا من المستحيل أن تقصر ما يشار إليه عادة ب «الفلسفة» على موضوع واحد يمكن وضعه في سهولة على الخريطة الأكاديمية.
يرجع ذلك في أحد أسبابه إلى أن أسماء الأماكن على تلك الخرائط تنزع إلى التغير؛ ففي العصور الوسطى - على سبيل المثال - كانت الفلسفة تغطي عمليا كل فروع المعرفة النظرية التي لا تندرج تحت علم اللاهوت. كان الموضوع البحثي لنيوتن هو «الفلسفة الطبيعية»، وهو مصطلح شاع استخدامه في النصف الأول من القرن التاسع عشر ليغطي معظم ما يندرج الآن تحت بند العلم وجزءا مما يندرج تحت بند الفلسفة. وما كان يسمى بالتفكير الفلسفي يميل بطبيعة الحال إلى التشتت عبر الحدود التقليدية؛ ففضول هذا النوع من التفكير الذي لا يهدأ ونهمه الذي لا يشبع أديا إلى خلق مناطق جديدة من الفكر تزيد مهمة رسم الخريطة تعقيدا. وكما سنرى في الفصل الأول فقد خرجت العلوم الغربية للحياة عندما بلغ بعض المفكرين اليونانيين المعروفين باسم «الفلاسفة الأوائل» من الجرأة مبلغا عظيما تجاهلوا فيه الحديث المعتاد عن الآلهة وشرعوا في البحث عن أسباب طبيعية لكل حدث. وبعد ذلك بفترة طويلة ولد علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد من رحم أعمال من كان يطلق عليهم آنذاك فلاسفة. وما زالت عملية الإبداع تلك مستمرة حتى اليوم؛ فلغات البرمجة على سبيل المثال نشأت بفضل ما كان يعتبر لفترة طويلة أكثر اختراعات الفلاسفة مللا ألا وهو المنطق الصوري. وثمة مثال صغير ولكنه نموذجي لكيفية نجاح الفلسفة في تحقيق طفرات جديدة يتمثل في حالة جورج كانتور - عالم رياضيات ألماني عاش في القرن التاسع عشر - وكان بحثه في موضوع اللانهاية قد استبعده زملاؤه العلماء في بادئ الأمر بوصفه «فلسفة» محضة حيث بدا بحثا شديد الشذوذ والتنظير ولم يكن من الأهمية بمكان، ولكنه الآن يدرس في الجامعات باسم «نظرية المجموعات».
والواقع أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ طريقة تفكير شديدة النهم إلى المعرفة أكثر منه تاريخ فرع محدد من فروع المعرفة. وتعتبر الصورة التقليدية للفلسفة بوصفها ضربا من ضروب العلوم التأملية للتفكير المحض، المفصول فصلا غريبا عن الموضوعات الأخرى، خدعة ووهما في الرؤية التاريخية. ويعزى ذلك الوهم إلى الطريقة التي ننظر بها إلى الماضي، وبالأخص إلى الطريقة التي نميل إليها في تصنيف المعرفة وتقسيمها ومن ثم إعادة تصنيفها، فالأعمال الفلسفية تسترقها العلوم الأخرى وتتبناها على نحو منتظم؛ فما كان بالأمس فلسفة أخلاقية أصبح اليوم جزءا من التشريع أو اقتصاديات الرفاه، وما كان يندرج في الماضي تحت فلسفة العقل أضحى ينتمي إلى العلوم الإدراكية. ويمتد الطريق في كلا الاتجاهين؛ إذ تثير تساؤلات جديدة في العلوم الأخرى أسئلة جديدة لدى المهتمين بالفلسفة حيث يصبح اقتصاد الغد ضربا مهما من ضروب العلم لدى الفلاسفة الأخلاقيين بعد غد. ويتمثل أحد تأثيرات تلك الحدود الفاصلة بين العلوم والتي تتغير باطراد في إمكانية أن يبدو التفكير الفلسفي عقيما على نحو غير معتاد حتى بالنسبة للمبادرات الفكرية. ويعزى ذلك بالأساس إلى أنه إذا اكتسب أي فرع من فروع الفلسفة قيمة وأهمية فسرعان ما يخرج من إطار الفلسفة. ومن ثم نشأ ذلك المظهر الخادع الذي يوحي بأن الفلاسفة لا يحرزون أي تقدم أبدا.
ذات مرة وصف عالم النفس ويليام جيمس الفلسفة بأنها «محاولة شديدة العناد للتفكير بوضوح.» وعلى الرغم من شدة جفاف هذا التعريف فهو أكثر التعريفات التي أعرفها قربا من الصواب. صحيح أن الوضوح ليس تحديدا أول ما يخطر بالذهن عندما يفكر معظم الناس في الفلسفة، فلا أحد ينكر أن محاولات الفلاسفة للتفكير بوضوح غالبا ما باءت بنتائج عكسية (فأيا ما كان الفرع الذي أنتج لنا شخصية مثل هايدجر، مثلا، مدين للعالم بالاعتذار!) ورغم ذلك فإن ويليام جيمس كان محقا في وصف الفلسفة بهذا الوصف؛ ذلك أنه حتى ممارسو أكثر أشكال الفلسفة غموضا يسعون جاهدين إلى فهم الأمور فهما عقلانيا، وهذا الجهد هو ما يجعل منهم فلاسفة. ومع أن ذلك الجهد لا يؤتي ثماره في بعض الأحيان فإنه ينجح في أحيان أخرى.
كان خلع صفة «العناد» على التفكير الفلسفي مناسبا إلى أبعد الحدود؛ حيث وصفه برتراند راسل ذات مرة بأنه «شديد العناد بشكل غير عادي»، والشيء الذي يميزه عن الأنواع الأخرى من التفكير هو عدم استعداده لقبول إجابات تقليدية، حتى عندما يبدو الإعراض عن فعل ذلك حمقا من وجهة نظر عملية؛ ولذلك غالبا ما يصبح الفلاسفة موضع سخرية لدى الجميع. وقد أدرك الأوائل من مؤرخي الفلسفة الإغريق هذا الأمر إدراكا أفضل منا اليوم؛ إذ امتلأت كتبهم بالحكايات الهزلية التي قد يكون بعضها صحيحا ومعظمها في صميم الموضوع، حتى وإن كان مختلقا. ويعد الاعتراض على تلك السخرية ممن يستحق السخرية تجاهلا لروح الدعابة التي تكمن في الفلسفة، فكثيرا ما كان الفلاسفة يرفعون حواجبهم دهشة مما يراه الناس منطقا سليما في ذلك العصر. وتكتمل الدعابة لاحقا عندما يتضح أن «المنطق السليم» هو ما التبس فيه التباسا غير عادي. ولا شك أنه أحيانا لا تصيب الدعابة، ويبدو الفيلسوف في نهاية الأمر هو الأحمق، ولكنها في الحقيقة مخاطر المهنة.
غالبا ما تبوء المحاولة العنيدة لدفع التساؤلات المنطقية إلى حدودها القصوى بالفشل، وحينها يبدو حلم العقل الذي يستنهض التفكير الفلسفي محض سراب، ولكن في أحيان أخرى تحقق المحاولة نجاحا باهرا ويتجسد الحلم على صورة وحي مثمر. ويسعى هذا الكتاب إلى كشف جانبي القصة المتعلقة بحلم العقل منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى عصر النهضة، وستستكمل الحكاية في مجلد ثان من ديكارت حتى عصرنا الحالي.
الجزء الأول
الفصل الأول
النموذج الأصلي: الملطيون
لن يحسم التاريخ أبدا هوية منشئ الفلسفة، فقد يكون أحد العباقرة الفقراء هو من اخترعها ثم غرق في لجة التاريخ غير المكتوب قبل أن يتمكن من الإعلان عن نفسه للأجيال القادمة. وليس هناك ما يدعونا لأن نعتقد بوجود ذلك الشخص، ولكن عندئذ ما كانت الفلسفة لتظهر إلى الوجود. ولحسن الحظ توجد على الأقل سجلات لإحدى بدايات الفلسفة، حتى إن لم نتيقن من أنها لم تسبق ببدايات أخرى زائفة.
ويحظى حاليا الفلاسفة الأوائل بدراسة جادة في المكتبات والجامعات، لكن العديد منهم اشتهروا في بدايتهم فيما يمكن أن يعد فرعا من الأعمال الاستعراضية؛ فقد كانوا يظهرون للناس مرتدين ثيابا فخمة في الغالب ويلقون المحاضرات عليهم أو يقولون قصائد الشعر فيهم. وقد جذبت هذه العروض الكثير من المارة والأتباع المخلصين وأصحاب العقول البسيطة في بعض الأحيان. وكان بعض هؤلاء الرجال أكثر تبسطا مع الآخرين من غيرهم. فمن جهة نجد الشاعر الرحالة زينوفانيس الذي قال - وهو في الثانية والتسعين من العمر حسب زعمه آنذاك - إنه قضى «سبعة وستين عاما ... طارحا الهموم بين جنبات أرض اليونان.» ومن جهة أخرى نجد مثالا لأحد الأرستقراطيين الذين يزدرون كل ما حولهم وهو هرقليطس الأفسسي (والذي عرف في العصور القديمة باسم «الكئيب» و«المنتحب» و«الغامض») والذي كان باعترافه يبغض الحكماء ومن يستمع إليهم من العامة وبدا أنه يحتفظ بآرائه لنفسه. وقد عاش معظم الفلاسفة الأوائل بين طرفي هذين النقيضين، وكان ذلك في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في أجزاء مما يعرف الآن باليونان وتركيا وإيطاليا.
واليوم يعرف هؤلاء باسم «فلاسفة ما قبل سقراط»، وهو ما يشير إلى أن معظمهم لسوء حظهم - كما يرى مؤرخو القرن التاسع عشر - قد ولدوا قبل سقراط (469-399ق.م.) قد يفضل البعض إطلاق هذه التسمية عليهم، ولكنهم في حقيقة الأمر لم يكونوا محض افتتاحية لإحدى حفلات الأوبرا السقراطية؛ فكما قال نيتشه فإنهم اخترعوا النماذج الأصلية للفلسفة اللاحقة، كما أنهم اخترعوا العلم، الذي كان حينذاك يفضي إلى النتائج نفسها التي تفضي إليها الفلسفة.
ولم تهبط أولى هذه المعجزات من السماء على حين غرة، فلم تكن بلاد الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد هي فجر التاريخ، وقد يكون ثمة برهان على أن البداية قد سبقت ذلك عن طريق الهندسة البابلية البدائية أو الديانات الإغريقية القديمة. وقد يقال أيضا إن فلاسفة ما قبل سقراط لم يخترعوا التفكير ذاته، رغم أنهم كانوا مفكرين من الطراز الأول، وإن البحث في بعض المساعي السابقة قد يساعد على إيضاح أفكارهم. لكننا بصدد تاريخ الفلسفة وليس تاريخ كل شيء، وعلينا أن نبدأ من نقطة ما. •••
أفضل مكان نبدأ منه هو مدينة ملطية، وهي إحدى المدن الأيونية التي تقع على ساحل آسيا الصغرى (في تركيا حاليا). وفي القرن السادس قبل الميلاد، عندما ترعرع كل من طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس هناك، كانت ملطية قوة بحرية تمتلك العديد من المستعمرات في الشمال في تراقيا وحول البحر الأسود، بالإضافة إلى علاقات تجارية مع أجزاء من جنوب إيطاليا وبلاد الشرق ومصر. وكانت ملطية مدينة متطورة توفر للبعض وقت الفراغ الذي أكد أرسطو لاحقا أنه أحد المتطلبات الأساسية للفلسفة. وقد ناقش أرسطو بعد ذلك بمائتي عام أفكار هؤلاء الرجال الملطيين الثلاثة مرات عدة، حيث قسم المفكرين الإغريق الأوائل إلى «علماء اللاهوت» الذين رأوا أن العالم تتحكم فيه كيانات طائشة خارقة للطبيعة و«علماء الطبيعة» الذين حاولوا تفسير العالم الذي يبدو مضطربا وغير منظم، وفقا لمبادئ أكثر بساطة وموضوعية. وقد أكد أرسطو أن الملطيين هم أول علماء الطبيعة.
دون العديد من فلاسفة ما قبل سقراط خواطرهم بالإضافة إلى إلقائها على الملأ، ولكن يمكن بالكاد التعرف عليها مما تبقى منها حتى اليوم؛ إذ تناثرت كتاباتهم بمرور الوقت ولم ينج منها إلا القليل. وطوال ما يقرب من ألفي عام، ظل الباحثون يبحثون في فقرات لا تتجاوز بضع عبارات، ويقفون على بعض الكلمات هنا وهناك وهنالك، معولين في ذلك تعويلا شديدا على مصادر ثانوية لا يجدون غيرها. ويمكن الاعتماد على بعض التعليقات القديمة على تلك الأجزاء التي عثر عليها في محاولة لتحري الدقة على أقل تقدير، ولكن حتى أفضل هذه الأجزاء قد كتب بعد عصر فلاسفة ما قبل سقراط بعدة أجيال، بل بمئات الأعوام. وسنجد العجب العجاب إذا قرأنا بعض المصادر الثانوية مثل الكتابات غير الدقيقة، رغم إمتاعها، لكاتب السير ديوجين ليرتيوس (الذي عاش في القرن الثالث الميلادي) حيث كان ديوجين مؤرخا يفتقر إلى البصيرة يبتلع كل ما يصادفه من روايات كالحوت يبتلع فريسته.
ويجب أخذ هذه التحذيرات بعين الاعتبار عند معاينة الفيلسوف طاليس الملطي. اشتهر طاليس في بلاد الإغريق لعدة أسباب، أشهرها ما لم يقم به في حقيقة الأمر، وهو أنه تنبأ بحدوث كسوف للشمس عام 585ق.م. حدث ذلك الكسوف وسط معركة بين الدولتين المجاورتين لمدينة ملطية من ناحية الشرق وهما الليديون والميديون؛ مما أضاف إلى البعد الدرامي للأمر وساهم في الشهرة الفكرية التي حققها طاليس. وقد تأثر المقاتلون بحدوث هذا الكسوف أثناء المعركة حتى إنهم ألقوا أسلحتهم وجنحوا للسلم. وقد تأثر الإغريق بشكل عام بهذه النبوءة التي بدا أن طاليس الملطي قد تنبأ بها؛ حتى إنهم نسبوا إليه لاحقا كما لا يصدق من الحكم اللفظية والفعلية والاكتشافات، من إثبات العديد من النظريات الهندسية، إلى القدرة على جمع الثروات الضخمة. وأهم ما في الأمر أنهم صاروا يكنون لفكره احتراما لا حدود له.
طاليس.
في الواقع لم يتنبأ طاليس بنبوءة حقيقية، بل كان الأمر محض افتراض مستنير مبني على معلومات. فأغلب الظن أن طاليس لم يكن يفهم الطبيعة الحقيقية لكسوف الشمس؛ حتى إنه لم يكن يعلم أن للقمر أية علاقة بالأمر، ولكنه لحسن حظه كان رجلا رحالة، وهذا ما يفسر سبب افتراضه المذكور. وربما يكون قد اطلع على السجلات الدقيقة لذوي البصيرة من المنجمين البابليين، وعرف عن دورة تميز وقائع الكسوف في الماضي، حيث كان هناك أعوام محددة قد يحدث فيها الكسوف وأعوام أخرى لا يمكن أن يحدث فيها. وأقصى ما يمكن أن يكون قد استنتجه طاليس من هذه السجلات أن هناك فرصة كبيرة لحدوث كسوف في مكان ما في وقت ما خلال عام 585ق.م. ولو ادعى طاليس أكثر من ذلك لرآه الناس دجالا.
وكان ذلك الكسوف فرصة سانحة لتدعيم نظرة علماء الطبيعة للعالم. من الواضح أن هؤلاء كانوا مفكرين يعتد بهم. وقد يبدو ذلك غريبا عندما ينظر المرء للتفاصيل المتبقية من آرائهم؛ ذلك أن النظريات المنسوبة بطريقة يعول عليها إلى طاليس تؤكد أن أحجار المغناطيس إنما هي كائنات حية وأن العالم مصنوع من الماء. ربما ذكر طاليس أيضا العديد من الأمور التي تأتي في مرتبة أقل من الناحية التخمينية؛ مما أكسبه سمعة وصيتا بين أقرانه بوصفه رجلا ذا معرفة عملية. وإذا نظرنا إلى هاتين الفكرتين الجامحتين في سياقهما الطبيعي، نجد أنهما تستحقان بعض الاحترام.
لننظر إلى مسألة الماء أولا. من الخصائص المميزة لما نطلق عليه الآن التفسير العلمي للأمور أن يكون بسيطا قدر الإمكان، ولكن طاليس تجاوز تلك النقطة وحاول اختزال كل الأمور في أمر واحد فقط وهو الماء. ويبدو أنه لم يتمكن من الوصول فعليا لأية تفسيرات تقوم على الماء في تلك العصور القديمة التي كان يعيش بها. إلا أنه في بحثه عن مادة طبيعية يمكنها توحيد ظواهر العالم وتبسيطها كان يسعى على الأقل وراء المعرفة فيما نعتبره الآن المكان الصحيح، عوضا عن تعقيد الأمور من خلال الاستعانة في تفسيره بالكثير من الآلهة.
وليس واضحا ما إذا كان طاليس يقصد بالفعل أن كل شيء يتكون من الماء بشكل ما أم أن الماء يشكل أصل كل شيء، وربما قصد كليهما. ومن المفارقات التاريخية غير المضللة أن يفسر ما يرمي إليه طاليس - كما قال أرسطو - بأن الماء هو الأصل
arche ، وهو مصطلح استخدمه بعض المفكرين اللاحقين، ليس بمعنى أصل الأشياء فحسب بل المادة الأساسية التي يتكون منها كل شيء بطريقة ما ويعود إليها كل شيء في النهاية.
وأيا كان التفسير، لم يكن الماء خيارا سيئا بالنسبة لطاليس؛ فعلى النقيض من العناصر الأخرى الشائعة كالأرض والنار، يمكن للماء أن يتخذ أشكالا متعددة كالثلج أو البخار؛ ولذلك يبدو عنصرا نشطا متعدد الاستخدامات. وعندما اقترح أرسطو أسبابا لتفضيل طاليس للماء لاحظ أيضا أن للماء ارتباطا شديدا بالحياة، فالطعام والدم والمني كلها تحتوي على الماء، والنبات والحيوان كل يتغذى على الماء، والكائنات الحية تميل نحو الرطوبة إلى حد ما ويصيبها الجفاف عند الموت. كما أن العديد من التفسيرات الأسطورية للكون تعطي دورا رئيسا للماء حيث سطر البابليون وقدماء المصريين أساطير عن الخلق يلعب فيها الماء دورا بارزا، وهو أمر ليس بغريب؛ لأن كلتا الحضارتين اعتمدتا على الأنهار التي استقر حولها الناس. وفي ملاحم هوميروس (في القرن الثامن قبل الميلاد) كان أوقيانوس الذي يجسد الماء المحيط بسطح الأرض الدائري هو واهب الحياة وربما كان منجب كل الآلهة. وطبقا لما ذكره بلوتارخ (حوالي 46-120م)، كان الكهنة المصريون يحبون الإشارة إلى أن هوميروس وطاليس قد استمدا أفكارهما حول الماء من مصر.
وربما علم طاليس بالأساطير المصرية والبابلية القديمة، إلا أن هذا لا يعني أنه كان مرددا لها وحسب أو حتى إنه استمدها منهما، بل ربما تكون الأساطير وتأملاته الخاصة قد نشأت عن وعي بفاعلية الماء وتعدد استخداماته وتغلغله في جل عمليات الحياة. كما أن طاليس قد استفاد من هذا الوعي بطريقة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ لم يكن الماء لديه شقيق الإلهة تيثيس وزوجها، كما كان أوقيانوس في «ملاحم هوميروس»، ولم يكن كذلك خليطا من أنواع الماء الثلاثة المشخصة في علم الكون البابلي وهم أبسو وتيامات ومومو الذين أوجدوا الآلهة، ولم يكن كذلك نون - الماء البدائي الذي كان أبا لإله الشمس في الصباح في الأسطورة المصرية القديمة - بل هو ماء طبيعي يمكن للمرء السباحة فيه أو تناوله، وهو لا يتعلق بأية آلهة مجسدة سواء بالميلاد أو بالزواج.
وثمة فرق آخر بين طاليس ومن سبقه من صناع الأساطير، ألا وهو أنه ربما يكون طاليس قد شعر بضرورة ذكر أسباب لبعض أقواله على الأقل؛ فقد رأى أن الأرض ترتكز على الماء، ويبدو أنه قال ذلك «لأنها تطفو كالخشب والمواد المشابهة بما يمكنها من الارتكاز على الماء وليس على الهواء.» كانت قضية ارتكاز الأرض من أكثر الأسئلة التي سعى علماء الطبيعة جاهدين إلى الإجابة عنها. وبدلا من الإصرار على تفسير دوجمائي، يبدو أن طاليس حاول التفكير في الأمر بطريقة منطقية؛ فالماء يمكنه حمل بعض الأشياء كألواح الخشب، وكذلك قد يحمل الأرض ذاتها. ولكن أرسطو لم ينبهر بذلك الاستدلال، بل أوضح أنه إذا كانت الأرض بحاجة لما ترتكز عليه فالأمر نفسه ينطبق على الماء الذي يزعم أنه يحمل الأرض. وهكذا لم يجب طاليس بالفعل على السؤال. وثمة اعتراض قوي آخر على منطق طاليس وهو أن ألواح الخشب قد تطفو ولكن بعض الأشياء الأخرى لا تطفو، فلماذا إذن نفترض أن تطفو الأرض كلوح الخشب ولا تغرق كالحجر؟ ولكن حتى تلك الهزيمة انقلبت نصرا لطاليس، فكي ندحض أفكاره علينا أن نجادله بالمنطق، وهي إشادة ما كنا لنفكر في تقديمها للكهنة المصريين.
وربما يستحق طاليس الإشادة نفسها لزعمه أن المغناطيس والكهرمان كائنات حية (أو ذات روح، حيث تشير هاتان الصفتان إلى الشيء نفسه في الوقت الحاضر ). فقد لاحظ أنها تتمتع بالقدرة على تحريك بعض الأشياء الأخرى وتحريك نفسها باتجاه تلك الأشياء، وحاول تفسير هذا اللغز باقتراح أن بها نوعا من الحياة، فالحركة التلقائية غالبا ما تعد إحدى علامات الحياة. ونحن نختلف مع طاليس في أن القدرة على إحداث الحركة لا تكفي وحدها لإسباغ صفة الحياة على الحجر، ولكن هذا لا يعني أن نتجاهل تأملاته بوصفها ضربا من العته. وحتى اليوم لا يوجد بين أيدينا تعريف دقيق للحياة، وفي القرن السابع قبل الميلاد لم يكن هناك إلا ما يمكن أن يوصف بالتعريف الغامض لها. وهكذا قد تصبح فكرة طاليس التي تبدو شاذة نتيجة طبيعية لعقل فضولي كثير السؤال في وقت لم يفهم الناس فيه من الأمور إلا قليلا.
وقبل أن نترك طاليس جانبا ونستعرض فلاسفة آخرين من الملطيين، ثمة طرفة عنه تستحق أن تروى حتى وإن كانت من كتابات ديوجين ليرتيوس:
يقال إنه ذات مرة عندما اصطحبته امرأة عجوز في الهواء الطلق كي يراقب النجوم سقط في خندق، وعندما أخذ يصرخ طالبا النجدة سارعت العجوز قائلة: «أنى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟»
وإذا صحت تلك الرواية فإن طاليس لا يستحق المطالبة بلقب أول الفلاسفة فحسب، بل بلقب أول الأساتذة شاردي الذهن. وعلى أية حال، فإن تلك الرواية تشهد بحقيقة استمتاع الناس بالربط بين الفلسفة والانفصال عن العالم. ويروي سقراط نسخة أخرى من الرواية نفسها عن طاليس في إحدى محاورات أفلاطون. وفي مسرحية «السحب» يقص أرسطوفان نسخة مشابهة ولكنها أشد قسوة من الرواية نفسها عن سقراط ذاته. •••
لقد كان الإغريق يقدرون النظام العقلي ويسعون إلى إيجاده أينما أعوزهم، وهو أحد الأسباب التي دعت الآخرين لدراستهم. ومن مظاهر تلك الرغبة في الترتيب المحكم للأمور ما نجده في الطريقة التي سجلوا بها تاريخهم. ففي المصادر القديمة التي تروي قصة تاريخ الفلسفة نجد سلسلة كبيرة من الأساتذة والطلاب، وكل منهم يسلم شعلة المعرفة إلى وريث محدد. وهكذا أطلق الملطيون على أناكسيماندر (حوالي 610-546ق.م.) - وهو مواطن ملطي أصغر سنا قليلا من طاليس - لقب «تلميذ طاليس وخليفته» رغم أنه قد لا يكون تتلمذ على يديه أصلا. وعلى غرار طاليس، كان أناكسيماندر موسوعي المعارف، ورغم أنه لم يتبق له مما كتبه سوى جزء من عبارة واحدة فقط من كتاب «عن الطبيعة» فثمة أدلة كافية على أنه ألف كتابا بهذا الاسم تقريبا (باللغة اليونانية) وأن هذا الكتاب قد غطى كل شيء تقريبا، بل إنه رسم أول خريطة معترف بها للأجزاء المعلومة من الأرض آنذاك. أما ما لم يكن يعلمه حول الطبيعة - وهو بالطبع قدر كبير - فقد اختلقه.
ولا يعني ذلك أن الرجل كان كاذبا، بل أنه حاول التفكير في الأمور وحلها بنفسه، وأنه تأمل مليا في نشأة الكون ومآله والمبادئ التي تحكم العمليات الطبيعية وتركيب الشمس والقمر والنجوم وتطور الحياة والطقس والكثير من الأمور الأخرى، كما وظف بعض الصور والأفكار الأخرى المشابهة لتفسير كل ما شاهده من أمور، ولكن يبدو أن ما لم يره كان أكثر أهمية مما رآه. وقد أدرك أناكسيماندر أن أفضل تفسير للطبيعة لا يمكن أن يعتمد دائما على ما نلاحظه مباشرة، ولكنه يتطلب الغوص في الأعماق أكثر. وعوضا عن الماء عند طاليس، افترض أناكسيماندر وجود أصل خفي للعالم؛ أو مادة أساسية صنع منها. وإذا كانت فلسفة طاليس قد تعرضت لأحد المظاهر الأساسية للتفكير العلمي وهو الحافز لتبسيط الظواهر المدركة بالحواس وتغيرها، فإن أعمال أناكسيماندر جسدت مظهرا آخر لا يقل عنه أهمية، ألا وهو أن العلم يؤكد أنه ثمة الكثير في هذا العالم أكثر مما تراه العين.
وأطلق أناكسيماندر على مادته الأساسية اسم
apeiron
أو «المطلق» بمعنى «غير المحدود»، وغالبا ما كانت تترجم إلى «اللانهائي»، ولكن هذا يجعل أناكسيماندر يبدو غامضا أكثر من اللازم. ولا ريب أنه ظن المواد الخام للعالم غير محدودة بمعنى أنها «كبيرة جدا»، تماما كوصف هوميروس المحيط بأنه «غير محدود»، ولكن أكثر ما عني به أناكسيماندر هو أن المادة الأساسية أيا كانت يجب ألا تكون في حد ذاتها ذات خصائص يمكن إدراكها بالحواس حتى يتسنى تفسير كل الظواهر المدركة بالحواس وفقا لها.
ولاحظ أناكسيماندر أن الأشياء التي يمكن إدراكها بالحواس تأتي في مجموعات متضادة كالساخن والبارد أو الرطب والجاف على سبيل المثال، وهذه العناصر - كما يطلق عليها - في حالة صراع دائم. وعن ذلك يقول فيما تبقى من كلماته: «إنها تعاقب بعضها بعضا على الظلم الذي تقترفه طبقا لتقييم الزمن.» ويبدو أن فكرته تتلخص في أن الأشياء تعتدي على بعضها (مرتكبة «الظلم») وتتبادل أدوار الضحية والمعتدي المنتقم بينما يلعب الزمن دور الحكم. ويقضي الزمن على سبيل المثال أن تشرب الظلمات والنور من كأس الظلم المذكور قدرا متساويا. ونحن نرى نتيجة هذا الصراع في تعاقب الليل والنهار. وثمة صراعات أخرى تدور ليل نهار في لعبة «حجر - ورق - مقص» كونية، فأحيانا تهاجم النيران الماء فتعمل على تبخيرها، وأحيانا أخرى يرد الماء بإخماد النيران.
ويتكرر مفهوم العناصر المتصارعة الذي يظهر لأول مرة عند أناكسيماندر كثيرا في الأدب الغربي مثل قول ميلتون:
الحر والبرد والرطوبة والجفاف،
أربعة أبطال يتملكهم الغضب، يسعون نحو الغلبة.
بالإضافة إلى ما لا يعد ولا يحصى من الأقوال الأخرى. ولكن كيف ينشأ الساخن والبارد والرطب والجاف من المطلق غير المحدود؟ لم يكن بوسع أناكسيماندر إلا أن يقول إن الأمر به نوع من «التمايز». ربما تكون نظريته قد تركت العديد من الأسئلة بلا إجابات، ولكنها على الأقل محاولة للتعامل مع بعض الأسئلة الأخرى. وبالنسبة لأناكسيماندر تكمن ميزة افتراض أن كل شيء قد تطور من كتلة بدائية غير محدودة في أنه يسعى إلى حل لغز لم يكن إلا ليؤرق طاليس أو أي شخص آخر يعتقد أن أحد العناصر الطبيعية هو «أصل» الأشياء الحالية. واللغز كالتالي: إذا كان أصل كل الأشياء من الماء فكيف تكونت النار؟ ألم يكن من المفترض أن تخمد عند لحظة مولدها؟ وكان الحل الذي توصل إليه أناكسيماندر يكمن في القول إن الأضداد الأساسية قد خلقت معا من المطلق غير المحدود، بحيث لا يحظى أي من المواد المتصارعة بأفضلية على خصمها بطريقة غير عادلة.
وبمزيد من التفاصيل، تسير رواية أناكسيماندر عن خلق الكون على النحو التالي: انفصلت بيضة أو بذرة أو حبة سماد تحتوي على الأضداد الأساسية، كالساخن والبارد، عن المطلق غير المحدود، ثم أخذت تنمو حتى أصبحت كتلة باردة رطبة محاطة بحلقة من نار، وأدت الصدمة التي نشأت عن ارتطام الساخن بالبارد إلى نشأة غشاوة داكنة بين الاثنين كون الجزء البارد الأرض، أما النار فقد تشكلت منها النجوم. والأرض عبارة عن قرص مسطح أو ربما أسطوانة، ولكنها ليست جسما كرويا بالتأكيد. والعجيب في الأمر أن الشمس والقمر والنجوم ليست أجساما كروية فحسب، بل إنها عجلات من النار تدور حول الأرض كل منها محاطة بحلقة مجوفة من الضباب، وفي تلك الحلقات ثقوب تخرج منها النار؛ ولذلك تكون كل حلقة من حلقات الضباب مشابهة للأنبوب الداخلي المثقوب لإطار الدراجة المنفوخ والمليء بالنيران، وما نراه عندما ننظر إلى الضوء في السماء إنما هو هذه الثقوب، أما الخسوف فهو ما نراه عندما يسد أحد الثقوب لفترة.
يؤكد ذلك التفسير على أن ثمة الكثير في الكون أكثر مما تراه العين. وسيبدو تصور أناكسيماندر للأجرام السماوية أقل غرابة إذا حاولنا أن نتخيل كيف توصل إليه، فقد تكون صورة الشجرة التي تنمو وتغير لحاءها هي ما دفعه إلى تخيل النجوم على هيئة حلقات. ويبدو أن أناكسيماندر قد استخدم تلك الصورة ليوضح كيف تكون غلاف من اللهب حول الأرض أثناء الانفصال الأصلي بين الساخن والبارد. وإذا أخذنا هذه الصورة بعين الاعتبار يسهل أن نرى كيف تخيل الأجرام السماوية على شكل عجلات سلختها الأرض كالجلد يسلخ من اللحم، وهو ما يفسر على الأقل من أين أتت. وكل ما كان يحتاج إلى تفسيره هو لماذا تبدو لنا هذه الأجرام نقطا أو كرات من الضوء، وهو ما أجابت عليه نظرية فتحات التنفس أو الثقوب.
وثمة فكرة أخرى خيالية في دراسة أناكسيماندر لعلم الكون اشتهرت بتعقيدها أكثر مما اشتهرت بغرابتها الواضحة. لم يفكر أناكسيماندر في أن الأرض بحاجة إلى أية وسادة سواء من الماء أو من أي شيء آخر لتمسكها، ولكنه رأى أنها ترتكز على مركز الكون الكروي ويدور حولها كل شيء آخر، وأن هذا الوضع المحوري هو ما يفسر عدم سقوط الأرض في الفضاء؛ فهي محفوظة في مكانها عن طريق التوازن كما أوضح أرسطو (في شرحه لوجهة نظر أناكسيماندر وليست وجهة نظره الخاصة) قائلا:
حيث إنه يتحتم على ما يقع في المركز ويتصل بالطرفين بصورة متساوية ألا ينحرف مثقال ذرة لأعلى أو لأسفل أو ناحية الأطراف، ومن المستحيل عليه أن يتحرك في اتجاهات عكسية في الوقت ذاته، فإنه بالضرورة يظل ثابتا.
مثل الأرض هنا كمثل حمار بوريدان الشهير الذي ترك في منتصف المسافة بالضبط بين حفنتين من التبن فاحتار بينهما ولم يستطع أن يقرر أيهما يأكل حتى هلك جوعا في النهاية. وتعد فكرة أناكسيماندر تلك فكرة متقدمة من عدة جوانب (ولا يعنينا في هذا المقام كونها فكرة خاطئة، على الأقل لافتراضها أن الأرض مركز الكون). فهي أولا فكرة رياضية ممتعة، وعلى غرار لاعب السيرك الذي يقفز في الهواء واثقا من أن زميله سوف يتأرجح كي يلحق به، فقد قفز أناكسيماندر حاجز الدعم المادي بشجاعة وآمن بفكرة رياضية للوقوف على حقيقة الأرض. لم تكن قوانين الحركة الخاصة بجاليليو أو نيوتن والتي تحفظ الأشياء في مسارها الثابت بطريقة يمكن معها حسابها بدقة قد اكتشفت بعد، ولكن لدينا مبدأ رياضي عام يستشهد بالمسافة المتساوية من الأرض إلى حواف الكون، وهو يستخدم لتفسير أمر أساسي. وعلى غرار المطلق غير المحدود لدى أناكسيماندر، فإن مبدأ التوازن الخاص بأناكسيماندر خفي وموضوعي، ولكنه في الوقت ذاته كالآلهة في قوته. وكانت تلك الفكرة جديدة غير مألوفة لدى علماء الطبيعة الآخرين الذين سارعوا بإعادة الوسادة المادية للأرض كي ترتكز عليها.
إن تماسك رواية أناكسيماندر مثير للإعجاب؛ فهو لم يصف الحياة الحيوانية على الأرض بلغة الخرافات بل ذكر أنها نشأت عن عملية «التمايز» نفسها التي تفسر نشأة الكون. وكما تكون الضباب البدائي الذي يحيط بالأجرام السماوية عن طريق الصراع بين الساخن والبارد؛ فقد انبثقت الحياة من الضباب بفضل تحفيز حرارة الشمس. وظلت فكرة نشأة الكائنات الحية تلقائيا من المادة الدافئة الرطبة منتشرة حتى القرن السابع عشر حين بدأ المجهر يشير إلى غير ذلك، ولكن تلك الفكرة استمرت حتى القرن التاسع عشر. ومن المفترض أن أناكسيماندر قد اعتقد أيضا أن المخلوقات الأولى كانت محاطة بشرنقة شائكة، مستخدما المصطلح نفسه للقشرة أو اللحاء والذي استخدمه في تفسيره لغلاف اللهب الذي تكونت منه النجوم. وقد بنيت الرواية بأكملها لتكون عبارة عن فكرة موحدة؛ ومن ثم فهي تتسم بأقصى درجات البساطة.
كان تفسير أناكسيماندر لظهور الإنسان ذاته بارعا، رغم أنه لم يكن يتمتع بالبصيرة الكافية. ثمة فكرة مغلوطة تقول إنه استبق نظرية التطور، وهذه الفكرة تستمد قوتها من بعض الملاحظات - مثل تلك المذكورة في أحد المصادر المهمة الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي - التي تنسب إليه فكرة نشأة الإنسان وتطوره من كائنات مختلفة النوع. لكن للأسف، لم يكن أناكسيماندر هو داروين. وثمة روايات أخرى أكثر ثراء تؤكد أن ما كان يدور بخلده هو أن البشر الأوائل كانوا يحملون في أحشاء الأسماك، أو كائنات تشبه الأسماك، تؤدي وظيفة الأم البديلة. وبالطبع لم يقصد أناكسيماندر أن أحد الأنواع - وهو الإنسان - قد تطور تدريجيا من نوع آخر وهو الأسماك، ولكن يبدو أن ما دفعه إلى القول بتلك النظرية هو ملاحظة أن الإنسان يحتاج إلى فترة رضاعة طويلة بشكل استثنائي لا يستطيع فيها الاعتناء بنفسه، إضافة إلى اعتقاده أن أوائل البشر ما كانوا ليبقوا على قيد الحياة إذا ما اعتمدوا على أنفسهم. وما إن اعتنت بهم الأسماك وتمكنوا من الاعتناء بأنفسهم حتى خرج الجيل الأول من الأطفال المائيين إلى اليابسة حيث أمكنهم الاعتناء بصغارهم فيما بعد. •••
يعد أناكسيمينس خليفة أناكسيماندر في سلسلة النسب التقليدية للفلاسفة الملطيين، وهو آخر حبات عقد هؤلاء الفلاسفة. كان أناكسيمينس يصغر أناكسيماندر بخمسة وعشرين عاما، وتزامنت نهاية حياته المهنية مع تدمير مدينة ملطية على يد الفرس عام 494ق.م. وأعيد إنشاء المدينة بعد ذلك بخمسة عشر عاما، ولكنها اشتهرت منذ ذلك الحين بصناعة الصوف أكثر منها بالفلسفة.
كان مؤرخو الفلسفة القدماء ينظرون لأناكسيمينس بوصفه أعظم الملطيين الثلاثة، وقد أخذتهم فكرة أن أناكسيمينس هو آخر حبات العنقود إلى الاعتقاد بأنه درة هذا العقد وقمة هذه السلسلة، أما المحدثون فقد رأوه أقلهم أهمية؛ إذ لم يكن واسع الخيال بشكل ممتع كأناكسيماندر، بل إنه مقارنة بما حققه أناكسيماندر من تقدم في التأمل والتفكير، بدا كما لو كان لا يتهادى فحسب بل يتهادى للخلف. فعلى سبيل المثال، تجاهل أناكسيمينس فكرة أناكسيماندر المعقدة حول التوازن - رغم تضليلها - وعاد إلى وجهة النظر القائلة بأن ثمة شيئا ماديا يحمل الأرض وهو الهواء، وقام بتشبيه الأمر بورقة شجر يحملها الهواء، تماما كما اختار طاليس من قبله الماء وشبه الأرض بلوح الخشب العائم. كما عاد أناكسيمينس بنظره إلى الخلف عند اختياره للمادة الأساسية التي يتكون منها العالم، وعلى غرار طاليس فقد اختار أحد العناصر اليومية عوضا عن المادة غير المحدودة الغامضة التي اختارها أناكسيماندر، ولكنه استبدل الهواء بالماء الذي اختاره طاليس.
لماذا كان أناكسيمينس مهتما بالهواء وهو أقل العناصر قيمة؟ ترتبط الإجابة جل الارتباط بالتنفس الذي ارتبط في أذهان الإغريق بالحياة والروح. ويبدو أن أناكسيمينس قد أشار إلى وجود تشابه بين روح الإنسان وأصل العالم؛ فكلاهما على حد قوله يرجع أصله إلى الهواء. وللوهلة الأولى يبدو أنه ليس تشابها مفيدا قدر ما هو لغز مزدوج. فأنى للهواء أن يكون روحا؟ وحتى إن كان كذلك، فما علاقة ذلك بالمادة التي صنعت منها الصخور والأشجار؟ إلا أن أناكسيمينس لم يكن غامضا كما يبدو؛ فقد كان لكلمة «الروح» في هذا الوقت دلالات مختلفة، ولم يكن ثمة فارق واضح بين العقل والمادة، وكانت الروح لا تعني سوى المادة التي تضفي الحياة على الكائنات الحية. وإن كان ثمة مادة كهذه فإن الهواء متمثلا في النفس هو الخيار الأمثل لها. ولم يكن أناكسيمينس أول من اختار الهواء؛ ففي أشعار هوميروس كانت الروح - ضمن أشياء أخرى - هي نفس الحياة الذي هرب من فم أحد الأبطال إذ هو يحتضر. وفي ملحمة الإلياذة كان بوسع الريح أن تلقح الإناث وتخصبهن، على الأقل في حالة الجياد.
وإذا اعتبرنا الهواء قوة مانحة للحياة فسوف تتضح لنا فكرة أناكسيمينس الرئيسة، حيث أجمع المفكرون الإغريق الأوائل قاطبة على أن العالم قد نشأ وتطور وحده ولم تخلقه الآلهة من العدم. ربما تكون آلهة الأساطير التقليدية قد استحدثت بعض الأشياء، ولكنها استخدمت في ذلك مواد موجودة بالفعل صنعوا منها هم أنفسهم؛ ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يعتقد الإغريق أن المادة الأساسية التي تكون منها العالم تتمتع بالقدرة على النمو والتطور؛ أي إنها ترتبط بالحياة بشكل ما. وبوسعنا أن نفترض أن طاليس قد لاحظ وجود صلة بين الماء والحياة؛ فقد صدم بحقيقة احتياج النباتات والحيوانات إلى الماء. أما أناكسيمينس فقد لاحظ وجود صلة بين الهواء والحياة، إذ لفتت انتباهه حقيقة أن البشر يتنفسون ولكن الجثث لا تتنفس.
وكما رأينا عند طاليس، لا يمكننا أن نتأكد مما إذا كان طاليس يعتقد أن كل شيء يتكون من الماء أم أن الماء وجد أولا ثم تسبب في ظهور كل الكائنات بطريقة أو بأخرى. أما في حالة أناكسيمينس فثمة المزيد من اليقين؛ فقد آمن بأن كل شيء مصنوع من الهواء بل إنه حاول تفسير ذلك. وكانت طريقة تلك المحاولة للتفسير هي ما أثارت إعجاب بعض أتباعه حتى يومنا هذا، بل إنها دفعت بعضهم إلى أن ينسب له اكتشاف نموذج أولي للتفسير العلمي. وقد يبدو ذلك التقدير غريبا عما يستحقه رجل يؤمن أن الأشجار والصخور وكل شيء مصنوع من هواء رقيق.
في حقيقة الأمر كانت النقطة المحورية بالنسبة لأناكسيمينس حول الهواء الذي تكونت منه الأشجار والصخور تتمثل في أنه ليس رقيقا على الإطلاق؛ فهو يرى أن الهواء يتخذ أشكالا متعددة على أساس درجة تخلخله أو كثافته. وأكثر هذه الأشكال تخلخلا هو النار ثم الهواء العادي الذي إن كثفته تحصل على الرياح، وتليه في الكثافة السحب ثم الماء فالأرض وأخيرا الأحجار. أما الهواء الذي نتنفسه في الجو فهو الحالة الطبيعية للمادة والتي ستعود إليها كل الحالات الأخرى، ولكن ما يؤدي إلى اضطرابه هو حركته الدائمة. وهذا يفسر وجود الهواء في بعض الأماكن بكميات أكبر من أماكن أخرى؛ مما يجعله أكثر كثافة في هذه الأماكن. ولذلك يعتبر التكثف والخلخلة اللذان تسببهما حركة الهواء وسائل التغيير في عالم أناكسيمينس؛ فهما يفسران وجود الساخن والبارد والرطب والجاف والصلب والمائع. ويعد هذا التفسير تطورا لمفهوم «التمايز» الغامض الذي يستخدمه أناكسيماندر لتفسير نشأة العناصر المختلفة من المادة اللانهائية.
ويكمن التجديد المهم في تلك الرواية في أن أناكسيمينس يجعل الاختلافات في الجودة أو النوع تعتمد على الاختلافات في الكم أو العدد، حيث يفسر تنوع العناصر من خلال الكميات المتغيرة من الهواء التي توجد بها. وقد استمرت عادة اختزال التنوع الحيوي للعالم في تلك المفاهيم الكمية منذ عهد أناكسيمينس حتى عصرنا هذا، ولكن الفكرة التي تكمن خلفه - وهي أن كتاب الطبيعة قد كتب بلغة الرياضيات - لم تفسر كاملة حتى عصر جاليليو ونيوتن في القرن السابع عشر. (وثمة المزيد من التوقعات الأكثر إثارة للإعجاب بشأن تلك الفكرة لدى الفيثاغوريين - وهو موضوعنا التالي - الذين رأوا الأرقام في الطبيعة لأنهم كانوا يرونها في كل شيء حولهم.)
وما تبقى من رواية أناكسيمينس لا يشبه ما قاله جاليليو أو نيوتن على الإطلاق. وعن ذلك قال هيبوليتوس، وهو رجل دين مسيحي عاش في روما في القرن الثالث الميلادي:
يقول إن الأجرام السماوية لا تتحرك تحت الأرض كما افترض الآخرون، بل تتحرك حولها كما لو كانت قبعة حقيقية تلف رءوسنا ونشعر بها فوقها ونلمسها، وإن الشمس لا تختبئ تحت الأرض بل تغطيها الأجزاء العليا من الأرض والمسافة البعيدة بيننا وبينها.
رأى أناكسيمينس العالم كما لو كان قبة سماوية حديثة، حيث نجلس وننظر إلى سقف ذي قبة (القبعة الحقيقية) وتتحرك النجوم فوقنا. وعلى غرار الأرض، تتخذ الشمس والنجوم أشكالا مسطحة؛ مما يمكنها من الطفو كأوراق الشجر تطير مع الرياح. ويقال إن الشمس والنجوم أجسام نارية تكونت على شكل رطوبة تبخرت من الأرض وأخذت تزداد تخلخلا بصورة تدريجية حتى انفجرت مكونة ألسنة اللهب. ويحل ظلام الليل عندما تختفي الشمس التي تعتبر أكبر الأوراق المشتعلة خلف الجبال الشمالية.
وقد حاول أناكسيمينس أيضا أن يستخدم أدواته الجديدة الخاصة بالتخلخل والتكثف لوصف الجو، وهو موضوع رائج لدى المعتادين على حياة البحر من أهل ملطية، ولكن جهوده تمخضت عن تأكيد آراء أناكسيماندر؛ فقد اقتبس تفسير أناكسيماندر للرعد والبرق بأنه الفرار العنيف للرياح التي حبستها السحب. وأصبحت تلك الفكرة موضع سخرية في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد في مسرحية «السحب» لأرسطوفان:
ستريبسيادس : ... إذن ما هي الصاعقة الرعدية؟
سقراط :
عندما ترفع الرياح الجافة إلى أعلى وتحبس في السحب تنتفخ السحب بالرياح كالمثانة تنتفخ بالبول حتى تضطر إلى الانفجار وطرد الرياح سريعا بسبب كثافتها العالية، ثم تتسبب قوة اندفاع الرياح المطرودة وزخمها في تأججها.
ستريبسيادس :
نعم بحق زيوس! وعلى أية حال هذا ما حدث لي ذات مرة حيث كنت أقوم بشي قطعة سميكة من النقانق لأقربائي، ولم أهتم بشقها طوليا فانتفخت حتى انفجرت فجأة فلوثت عيني بالفتات واحترق وجهي.
وكان الرعد والزلازل - وليس انفجار النقانق - هما بالضبط نوع الظواهر التي حاول علماء الأساطير تفسيرها بأن نسبوها إلى أفعال الآلهة. وفي أعمال الشاعرين الأيونيين هوميروس وهسيود كانت الزلازل تحدث بسبب بوسيدون الذي يهز الأرض محدثا دويا، أما بالنسبة لأناكسيمينس فقد كانت تحدث (كما ذكر أرسطو):
عندما تبتل الأرض ثم تجف فتتمزق إربا إربا، وتهتز بفعل قمم الجبال التي تنفصل عن أماكنها وتنهار. وهكذا تحدث الزلازل في كل من فترات الجفاف والأمطار الغزيرة؛ ففي فترات الجفاف تجف الأرض وتتشقق، وعندما ترتفع الرطوبة بها تتقوض وتنهار.
وهكذا فقد جعل المذهب الطبيعي - وهو نظرة علماء الطبيعة للعالم - من بوسيدون شخصا لا قيمة له ولا وزن. وقد يتساءل المرء كيف كان الإغريق يؤمنون به هذا الإيمان القوي، وهو سؤال خادع؛ إذ ربما كان هناك أكثر من نظرة للمعتقدات الدينية كما هو الحال الآن، ولكن هذا الأمر لا يعنينا في هذا المقام. وحتى إن كان من آمنوا ببوسيدون والآلهة الأخرى قد أعجبتهم احتمالية وجود تفسيرات طبيعية للزلازل وما شابه من الأمور فنحن في الحقيقة لا نعلم أن أيا ممن سبق الملطيين قد توصل إلى تفسيرات كهذه. •••
ومع انهيار مدينة ملطية انتقل مركز النشاط الفلسفي لفترة غربا نحو المستعمرات الإغريقية بجنوب إيطاليا. وهكذا تعرض النشاط الفلسفي لتغيرات ملحوظة؛ حيث أضيفت للمناقشات النزيهة المحايدة حول الجو تأملات حول مصير الروح وكيفية الحياة بصورة صحيحة. وقد يرتاح بعض القراء لسماع ذلك حيث تعد تلك الموضوعات أكثر ملاءمة للمفهوم الشائع عن الفلسفة. ولكن قبل الانتقال إلى فيثاغورس وأتباعه في الغرب، من الأهمية بمكان أن نقيم الملطيين ونقدم تفسيرا لماذا يستحقون هم أيضا لقب فلاسفة.
عند المقارنة بين الطرق التي اتبعها الملطيون وتلك التي اتبعها الأطباء الأبقراطيون بعد ذلك بمائة عام - ناهيك عن أرشميدس وإقليدس في القرن الثالث قبل الميلاد - نجد أن الطرق التي اتبعها الملطيون كانت شديدة البساطة. ومن قبيل المفارقة أن هذا تحديدا ما يدخلهم في زمرة الفلاسفة؛ فقد كان التفكير العلمي حديث الولادة بين ظهرانيهم، ولكنهم امتلكوا الجرأة اللازمة للبحث عن أسباب الأمور حيث حاولوا التعمق في البحث أكثر مما كان متاحا وفقا للصورة التقليدية للعالم حينئذ مستخدمين في ذلك عقولهم، وهو ما يجعل منهم فلاسفة.
لقد كان استخدام العقل عملا إيمانيا خالصا؛ فلا فائدة ترجى من محاولة وصف القوانين الموضوعية التي تحكم الكون إذا لم تكن ثمة قوانين كهذه أو إذا كانت هذه القوانين خارج نطاق الإدراك. لقد افترض الملطيون ببساطة وجود تلك القوانين وقدرة العقل على إدراكها، وجنوا ثمار هذا الإيمان بوجود نمط واضح وجلي في الطبيعة عندما توصلوا إلى ما بدا لهم تفسيرات جيدة لبعض الظواهر مثل الحياة والكسوف والخسوف والرعد. ويوضح حديث أناكسيماندر عن «الضرورة» والعناصر التي «تعاقب بعضها بعضا على الظلم الذي تقترفه طبقا لتقييم الزمن» الإيمان الجديد لدى الملطيين بعالم تحكمه قوانين مفهومة، على الرغم من أن هذا الحديث جاء في ألفاظ شاعرية.
ولكن تلك المعتقدات لم يعلن عنها صراحة إلا في وقت لاحق؛ فقد أخذ الأطباء الذين أحاطوا بأبقراط الكوسي (حوالي 460-370ق.م.) يتباهون بالمذهب الطبيعي الجديد. وفي ذلك قالوا عن مرض الصرع الذي اشتهر باسم «المرض المقدس»:
ينشأ هذا المرض ذو الطابع المقدس عن الأسباب نفسها التي تسبب الأمراض الأخرى؛ عن الأشياء التي تدخل الجسم وتخرج منه وعن البرد والشمس واضطراب الرياح ... وليست هناك حاجة لوضع هذا المرض في فئة خاصة واعتباره أكثر قدسية من الأمراض الأخرى، فكلها إلهية وفي الوقت ذاته كلها بشرية، ولكل منها طبيعته وقوته الخاصة، ولا شيء منها مفقود فيه الأمل أو مستعص على العلاج.
ولم يقسم هؤلاء الأطباء العالم إلى أمور إلهية غامضة وأخرى قابلة للتفسير عن طريق الطبيعة؛ فيبدو أنهم ساروا على درب الملطيين وافترضوا أن كل شيء قابل للتفسير.
لقد كان الأطباء الأبقراطيون يتمتعون بقوة الملاحظة للحقائق ويساورهم شك كبير فيما لا يمكن إثباته. ويقال إن الملطيين كانوا على النقيض من الأطباء الأبقراطيين غير مهتمين بالتحقق من تأملاتهم، وهو ما انتقص من قيمتهم. وثمة جزء من الحقيقة في ذلك القول، رغم وجود دليل على أن أناكسيمينس على سبيل المثال قام بالفعل بإجراء تجارب من نوع ما. ورغم أنه أجرى التجربة بشكل أبعد ما يكون عن الصواب؛ فلا ينتقص هذا مما قام به. فقد ذكر (في توضيح لأحد التفسيرات المقبولة) أنك إذا زممت شفتيك واتخذ فمك شكل فتحة صغيرة ونفخت في يدك فسوف يخرج النفس من فمك باردا، ولكن إذا أخرجت زفيرا من فم مفتوح على مصراعيه فسوف يخرج النفس ساخنا. ويبدو أن تلك الحقيقة تدعم نظريته الخاصة بالتخلخل والتكثف والتي تقول إن الهواء المضغوط أكثر برودة والهواء المتخلخل أكثر سخونة. (وفي حقيقة الأمر، إن الهواء المضغوط أكثر سخونة ولكنه بمروره في اليد بشكل أسرع في تلك «التجربة» يجعل اليد تشعر بدرجة أعلى من البرودة.)
تعد محاولة أناكسيمينس لدعم نظريته عن الكون عن طريق تدفئة يديه هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فبشكل عام ، لم يحمل الملطيون أنفسهم عناء التجارب. ولا يدهشنا ذلك لأن مجالات بحثهم المفضلة - وهي السماء والجو وأصل الأشياء - لم تكن ملائمة لها؛ فالعواصف الرعدية وغروب الشمس ظواهر لا يمكن التعامل معها أو تحليلها بسهولة. وعندما واجهتهم هذه الألغاز وسدت طريقهم لجأ الملطيون إلى ما يجيدونه بالفعل، ألا وهو محاولة التفكير المنطقي فيها عن طريق القياسات والملاحظات المتاحة. ومع وضع اهتماماتهم في الاعتبار، يصعب علينا الاعتقاد أنهم كانوا سيحرزون المزيد من التقدم إذا فكروا في إجراء المزيد من التجارب.
وثمة انتقاد أكثر خطورة موجه لكل من الملطيين والأطباء الأبقراطيين، وهو أن ادعاءاتهم بامتلاك معرفة أكثر رقيا لم يكن إلا خدعة. على سبيل المثال، كان مؤلف العمل الأبقراطي المستشهد به سابقا يعتقد أن مرض الصرع يعزى إلى البلغم الذي يتدفق من الرأس إلى الشرايين ويقطع تدفق الهواء. ورغم أنه كان يحتقر المشعوذين الذين يستخدمون السحر في محاولاتهم لعلاج الصرع، فإنه لم يكن بأوفر منهم حظا. وإجمالا يمكن القول إن أوائل المؤيدين للمذهب الطبيعي اشتهروا برفضهم الشديد للتفسيرات الخرافية للطبيعة أكثر من اشتهارهم بتفاصيل ما قدموه من بدائل.
ولم يستطع أكثر من أتى بعد ذلك من الأيونيين التمسك بالرؤية الجديدة للعالم؛ حيث كان هناك العديد من الأمور التي لم يتمكنوا من تفسيرها. ولنأخذ هيرودوت (حوالي 485-430ق.م.) على سبيل المثال؛ فهو عادة ما يلقب ب «أبو التاريخ» وأحيانا على نحو أقل لطفا ب «أبو الأكاذيب»، ويستشهد به كثيرا على نحو ملائم بوصفه باحثا واقعيا معبرا عن الملطيين. ولكن بالإضافة إلى أقواله التي تتسم بالواقعية والنزوع إلى الطبيعة مثل محاولته تفسير فيضان النيل وتشكيكه الشديد في بعض الروايات الخارقة للطبيعة؛ فثمة هفوات له تعود به إلى دروب اللاهوتيين صانعي الأساطير. فهو يقول على سبيل المثال إن زلزال ديلوس أرسلته الآلهة تحذيرا للناس، وليس مجرد ذكر الألوهية هو ما يبرز انحرافه عن المسار الضيق المتشكك لعلماء الطبيعة. ويقال إن كلا من أناكسيماندر وأناكسيمينس قد أشارا إلى «الأصل» الخاص بهما بوصفه إلهيا، إلا أن القارئ الحديث يجب ألا يقرأ كثيرا في مثل هذه الآراء . فلكي تضفي صفة الألوهية على أي شيء في تلك الأيام، لم يكن الأمر يلزم أكثر من أن يكون هذا الشيء حيا؛ أي قادرا على إحداث الحركة، ولكن لا يموت. وكما قال أحد المعلقين المحدثين: «يمكن أن نطلق على أية قوة نراها تعمل في العالم وجدت قبلنا وستستمر بعدنا لقب إله، ومعظمها كان كذلك بالفعل.» ولم تكن خطيئة هيرودوت أنه تحدث عن الألوهية ولكن أنه قدم لنا كائنات شخصية يلفها الغموض اللازم للتقوى الدينية على أنها السبب الأوحد للأحداث الطبيعية، وهو ما أصر كل من طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس على رفضه رفضا مطلقا.
لكن ما الذي حدا بالملطيين والأطباء الأبقراطيين لأن ينظروا إلى الطبيعة بتلك الطريقة الجديدة، متحررين من قيود الأساطير والخرافات حول الأمراض المقدسة؟ في الحقيقة لا يعلم أحد الإجابة يقينا. وقد اعتقد أرسطو أن المهم بشأن الفلاسفة الأوائل هو أنهم كانوا يتمتعون بكثير من وقت الفراغ، ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، إن كان له صلة به بالأساس. فثمة ثلاث حقائق أخرى حولهم أكثر صلة بالموضوع؛ أولها: أن الأيونيين (وخاصة الملطيين) كانوا رجالا عمليين يحرصون على تنمية مهاراتهم في علم الفلك والجغرافيا والملاحة ومسح الأراضي ولم يكن لديهم متسع من الوقت للأساطير الخيالية. وثانيها: أن العديد منهم بوصفهم تجارا مجتهدين كانوا رحالة يقابلون الكثير من الأجانب أو على الأقل يسمعون عنهم، وكان للأجانب أساطير وخرافات مختلفة مما شجع الأيونيين على التشكك في معتقداتهم الخاصة. وآخرها: تفكيرهم الذي يتحرر من الدين كما يتحرر الجمل من عقاله. كان للأيونيين آلهتهم التقليدية وهي آلهة جبل أولمبوس التي كتب عنها هوميروس وخصصت لها المعابد، ولكن إيمانهم بآلهتهم لم يكن إيمانا قويا. ومقارنة بأنصار الطوائف الدينية والأديان الشعبية المتعددة التي نشأت في شمال تراقيا وغربها، يبدو أن الملطيين كانوا مجموعة من اللاأدريين، ويصعب تخيل أن نشأة المذهب الطبيعي لأول مرة في تلك الظروف كان محض مصادفة.
وقد يساعدنا انتشار المناظرات التنافسية العلنية على تفسير نشأة المذهب الطبيعي ومن ثم الفلسفة في بلاد اليونان؛ فقد اشتهر مواطنو المدن الإغريقية بحب الجدل، ويبدو أن الإغريق قد اعتبروا البرهان والنقد أكثر استخدامات الحديث نبلا. وقد كتب أرسطو قائلا: «إن المراد من قوة الحديث توضيح الملائم وغير الملائم ومن ثم العادل والظالم.» فلا عجب إذن أن تتحول أدوات الجدل في بعض المدن على الأقل إلى دراسة الطبيعة. وجدير بالذكر أيضا أنه عندما كان الفلاسفة الأوائل يلقون الخطب ويحتجون على أي شيء كان ذلك على مرأى ومسمع من جمهور تزداد ثقافته يوما بعد يوم. نشأت الكتابة الأبجدية أولا في اليونان في القرن الثامن قبل الميلاد، وأخذت في الانتشار بحلول القرن السادس قبل الميلاد؛ مما أتاح تدوين كل ما يمكن قوله بسهولة ويسر، وهو شيء جديد يصعب علينا أن نقدره حق تقديره. وببلورة المعتقدات والأساطير والنظريات والروايات من كل نوع؛ أصبحت هذه المعتقدات والأساطير والنظريات والروايات متاحة للتمحيص والتدقيق والنقد بطريقة لم يفكر فيها أحد من قبل في الثقافات التي اعتمدت على رواية القصص قبل اختراع الكتابة. ورغم كل عيوبهم يبدو أن الملطيين هم أول من حاول استغلال تلك الفرصة.
الفصل الثاني
تناغم العالم: الفيثاغوريون
كانت الروايات حول فيثاغورس تطارده وتلتصق به كما تلتصق برادة الحديد بالمغناطيس؛ فقد قيل على سبيل المثال إنه ظهر في أماكن عدة في وقت واحد، وإن روحه قد تناسخت عدة مرات. وإذا أخذنا هذا الكلام على محمله يمكننا ضمه إلى المجموعة الغفيرة نفسها من الروايات التي تشمل الادعاء بأنه كان يمتلك فخذا ذهبية، ولكن إذا فكرنا في هذا الكلام بشكل رمزي فهو تقليل من شأن الرجل؛ فقد كان فيثاغورس - أو على الأقل المذهب الفيثاغوري - موجودا في كل مكان ولا يزال.
ولا يوجد طالب على وجه الأرض لم يسمع بهذا الاسم مرتين على الأقل في الهندسة (حيث تنسب إليه النظرية الشهيرة حول أطوال أضلاع المثلثات قائمة الزاوية) وكذلك في مسرحية شكسبير «الليلة الثانية عشرة»:
المهرج :
ماذا يقول فيثاغورس عن الطيور الجارحة؟
مالفوليو :
يقول إن روح المرأة العجوز قد تسكن جسد طائر.
المهرج :
وما قولك في رأيه ؟
مالفوليو :
إنني أقدر للروح مكانتها ولكني لا أوافق على رأيه مطلقا.
المهرج :
الوداع، ولتبق حيث أنت في الظلام. عليك أن تؤمن برأي فيثاغورس قبل أن تثق بعقلك، ولتخش قتل دجاجة على الأرض مخافة أن تضيع روح جدتك.
وكما لو أن المثلثات وتناسخ الأرواح لم تكن موضوعات متنوعة بما فيه الكفاية، بوسعنا القول إننا نجد فيثاغورس أينما استخدمنا التعبيرات الحسابية مثل «مربعات» أو «مكعبات» أو مررنا بالصورة الشعرية ل «الموسيقى السماوية» أو استخدمنا مصطلح «فيلسوف» بالمعنى الشائع لمحب الحكمة الذي يسعى إلى أن يسمو فوق المنغصات الدنيوية. والأهم من ذلك أن أفلاطون قد صاغ بعض معتقداته الأشد تأثيرا على هدي من أفكار فيثاغورس.
وعندما يستشهد برتراند راسل بالمشهد السابق من مسرحية «الليلة الثانية عشرة» في الفصل الذي يتحدث فيه عن فيثاغورس في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»، يقول مازحا إن فيثاغورس قد أقام دينا «عقائده الأساسية تناسخ الأرواح وتأثيم تناول الفول.» يبالغ راسل في وصف أهمية مسألة الفول، وله بعض العذر في ذلك، إلا أنه لم يقلل من شأن فيثاغورس بوجه عام، بل إنه على النقيض من ذلك قال إن فيثاغورس كان «واحدا من أهم المفكرين الذين مشوا على الأرض.» ولفترة كان راسل نفسه فيثاغوريا متحمسا في بعض الجوانب، وهو ما قد يفسر مغالاته في التقدير.
فيثاغورس.
وإذا كان فيثاغورس موجودا في كل مكان من الكتب المدرسية إلى عقل برتراند راسل؛ فقد أصبح كذلك أثرا بعد عين إذ لم يتبق مما قاله أو كتبه شيء اليوم (على الأقل لا شيء يحمل اسمه؛ ففي حقيقة الأمر قد يكون هو صاحب بعض القصائد التي يعود تاريخها للقرن السادس والتي نسبت للشاعر الأسطوري أورفيوس). وفي الروايات القديمة عن الفيثاغوريين يتعذر التمييز بين أفكار فيثاغورس ذاته وبين أفكار أتباعه، ويرجع ذلك غالبا إلى أن أتباع الطوائف الدينية التي استمدت إلهامها من فيثاغورس تراءى لهم أنه يجدر بهم نسب كل ما يتوصلون إليه إلى معلمهم، كما أن الفيثاغوريين كانوا يتفاخرون بحماية عقائدهم كما لو كانت أسرارا لا يفصحون عنها إلا لمن يركب سفينتهم. وقد تمكنوا من الحفاظ على تلك السرية إلى حد ما ولكن بشكل غير مباشر؛ فقد أثارت الكثير من اللغط حول الفيثاغوريين حتى إنه يتعذر سماع صوت فيثاغورس الحقيقي وسط ضجيج الثرثرة.
وفيما يلي مثال تقليدي لسفاسف الأمور المتناقضة التي كتبت في عصور قديمة حول حياة فيثاغورس:
أولا منع فيثاغورس تناول البربون وبعض أنواع الأسماك الأخرى، وفرض الامتناع عن تناول قلوب الحيوانات والفول وأحيانا - طبقا لرواية أرسطو - أمعاء الحيوانات وسمك الغرنار. ويقول البعض إنه قد اكتفى بتناول العسل أو شمع العسل أو الخبز، وإنه لم يقرب كأس الخمر من فيه قط وقت النهار، وإنه كان يضيف الخضراوات مسلوقة أو نيئة إذا أحب أن يتناول طعاما شهيا، ونادرا ما كان يتناول السمك ... وكانت القرابين التي يقدمها دائما من الجماد رغم أن البعض قال إنه كان يقدم الديوك والجداء وصغار الخنزير، بيد أنه لم يذبح الحملان قط. أما أريستوكزينس فيزعم أنه كان يوافق على تناول لحوم الحيوانات الأخرى، ولم يحرم على نفسه إلا لحوم الثيران التي تثير الأرض والكباش.
وبوسعنا أن نؤكد أن فيثاغورس كان يتبع أكثر النظم الغذائية إثارة للجدل في العصور القديمة، وأكثر النظريات المثبتة صحتها عن هذا الأمر تقضي بأنه كان نباتيا؛ ذلك أنه اعتقد أن أرواح البشر تتناسخ أحيانا في صورة حيوانات (أو كما قال مالفوليو إن روح المرأة العجوز قد تسكن جسد طائر).
ورغم أنه ليست ثمة علاقة بين نظام فيثاغورس الغذائي ونظرياته الهندسية فالجوانب العلمية والروحية في المذهب الفيثاغوري تتفق مع بعضها. وقبل توضيحها أود أن أسرد باختصار بعض المعلومات المتوفرة عن حياة فيثاغورس ومدرسته؛ إذ لا يتوفر لدينا منها سوى القليل ولكنه قيم. •••
ولد فيثاغورس عام 570ق.م. وتوفي عن عمر يناهز سبعين عاما؛ أي إنه كان معاصرا لأناكسيمينس. ورغم أنه كان أيونيا على غرار أناكسيمينس وولد في جزيرة ساموس التي تقع شمال غرب ملطية، فقد غادر موطنه نحو المستعمرات الإغريقية جنوبي إيطاليا عندما كان في الأربعين من عمره وقضى بها ما تبقى من حياته. وعندما هاجر كان صيته قد ذاع بالفعل بوصفه حكيما زاهدا. ورغم أنه لا دليل على أن فيثاغورس الحكيم وأتباعه قد طردوا من جزيرة ساموس فلا تأخذنا الدهشة إذا علمنا أنهم غادروا مدينة آخذة في التدهور تحت حكم الطاغية الفاسق بوليكراتيس. إلا أن الاضطهاد الحقيقي بدأ بالفعل لاحقا عندما استقر فيثاغورس في مدينة كروتون جنوبي إيطاليا وأنشأ مدرسته فيها حيث لعب فيثاغورس وأتباعه دورا رئيسا في سياسة المدينة، ولكن ماهية الأمر الذي تورط فيه والسبب الذي دعا إلى نشوب ثورة عنيفة ضده بعد عقدين من النجاح والشهرة هناك لا يزالان يكتنفهما الغموض. ألقي القبض على العديد من الفيثاغوريين الأوائل في مدينة كروتون والمدن المجاورة لها وقتلوا في نهاية القرن السادس ومطلع القرن الخامس قبل الميلاد، وتعرض فيثاغورس نفسه للنفي. ويشير أحد المؤرخين إلى أن العداء الواضح تجاه فيثاغورس قد زاد من حدته «الغضب الذي شعر به رجل الشارع في تلك الأيام؛ لأن التشريعات الخاصة بهم كان يصدرها مجموعة من المتحذلقين الذين أصروا على الامتناع عن تناول الفول ومنعوا رجل الشارع من ضرب كلبه لأنهم ميزوا في نباحه صوت أحد الأصدقاء الراحلين.»
وبعد تلك الثورة رحل فيثاغورس حتى استقر به المقام في مدينة ميتابونتو التي تقع على خليج تارانتو. وسرعان ما ازدهرت المجتمعات الفيثاغورية مرة أخرى وازدادت انتشارا عبر جنوبي إيطاليا. ولكن في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد تعرض الفيثاغوريون إلى حملة تطهير أخرى أشد وطأة عليهم فرقت الكثير منهم وغادروا إيطاليا متجهين إلى اليونان. واتخذت الأفرع المبتورة للمذهب الفيثاغوري صورا مختلفة في الأراضي الجديدة التي أقاموا بها وبدأت تضعف شوكتهم. وبحلول مطلع القرن الرابع قبل الميلاد كانت كل الجماعات الفيثاغورية تقريبا قد غادرت موطنها في إيطاليا حتى أصبحوا لا يرى إلا مساكنهم خلال هذا القرن.
رغم ذلك ظل تأثير أفكارهم يتزايد وخاصة عن طريق أفلاطون الذي كان له صديق مقرب من أتباع فيثاغورس وهو أرخيتاس التارانتومي. كان أرخيتاس التارانتومي رجل دولة ومفكرا وعالم رياضيات، وربما كان أحد مصادر إلهام أفلاطون لفكرته الشهيرة الخاصة ب «الملوك الفلاسفة». وقد كتب أرسطو بشيء من مبالغة لم تنطو على أية سخرية قائلا إن فلسفة أفلاطون تسلك نهج فيثاغورس في معظم الجوانب. ومن المؤكد أن أفكار فيثاغورس قد استوعبها المذهب الأفلاطوني كاملة حتى صار من الصعب التمييز بين الفلسفتين. وربما كان على فيثاغورس أن يبتهج لذلك التناسخ العظيم.
أرخيتاس. •••
وفيما يلي صورة مركبة للفيثاغورية، ولن نقوم إلا بمحاولة يسيرة للتفريق بين صورها الأولى والأخيرة، ناهيك عن آراء الرجل نفسه وآراء أتباعه. بالنسبة لفيثاغورس نفسه يمكننا القول إنه كان يؤمن بالتناسخ وإنه كان يهتم بالأرقام ولو قليلا، وما أثير عنه غير ذلك ليس إلا تخمينات. وسنزعم أيضا أن الفيثاغوريين جميعهم نسيج واحد لا فرق بينهم، رغم أن بعضهم في حقيقة الأمر كان مهتما بالأمور العلمية والعقلية بينما انغمس آخرون في شئون المحرمات والأقوال الغامضة والإرشادات الخرافية للحياة التي شكلت الجانب الديني من المنهج الفيثاغوري. وحتى في القرن العشرين كان ثمة نوعان مختلفان من الاهتمام بفيثاغورس؛ فمن ناحية نجد العلماء وفلاسفة العلم من أمثال فرنر هايزنبرج والسير كارل بوبر اللذين يؤكدان أن الفيزياء الحديثة تعيد إلى الأذهان فيثاغورس، ومن ناحية أخرى نجد كتبا حول فيثاغورس نفسه قد نشرت في سلسلة تتضمن أعمالا عن الخيمياء وكهنة الدرويد وعلم التنجيم. وكان الأمر يتطلب عقلا جريئا كعقل فيثاغورس ليمزج بين هذين الجانبين.
ويسهل تبين العلاقة بين هذين الجانبين في مفهوم فيثاغورس الجديد عن الخلاص الروحي، وهو ما يمكن تلخيصه على النحو التالي: إذا أردت أن تحيا إلى الأبد فادرس الرياضيات. ولإدراك هذا المفهوم بمزيد من الجدية يجب أولا أن نعلم بعض الشيء عن عقائد الديانة الأورفية.
لا نحتاج لمعرفة أي شيء عن أورفيوس ذاته أو عن تاريخ الأورفية؛ ذلك أن أحدا لا يعلم الكثير عن أي منهما. فعندما تشير المصادر القديمة لأورفيوس أو للديانة الأورفية فهي غالبا ما تشير إلى المعتقدات التي نشأت في تراقيا حول التناسخ وفكرة حاجة الروح إلى التطهر من أجل الظفر بالسعادة في الآخرة. ويعتقد البعض أنه ثمة عقيدة رسمية مفصلة للديانة الأورفية كانت مدونة بالفعل في زمن فيثاغورس، بينما يعتقد آخرون أن أفكار الأورفية كانت حينئذ أكثر تشتتا ولم تتماسك إلا بعد مئات السنين. وأيا كان الأمر، فقد دونت كل المفاهيم التي تعنينا هنا في إحدى نسخ أسطورة ديونيسيوس التي اتفقت النسخ العديدة من الديانة الأورفية على الإعجاب بها.
طبقا للأسطورة، كان ديونيسيوس ثمرة علاقة مزدوجة الإثم بين زيوس وبيرسيفوني (وهي مزدوجة الإثم لأن بيرسيفوني نفسها كانت ثمرة علاقة غير شرعية بين زيوس ووالدته). ونصب زيوس ديونيسيوس حاكما للعالم، ولكن الطفل سيئ الطالع قتله التيتان الذين التهموه فأخذهم زيوس بصاعقة من البرق. ومن رماد التيتان ولد الإنسان؛ ومن ثم فهو مزيج من الخير والشر، فجزء منه خير بل في الواقع إلهي لأن البقايا المهضومة من ديونيسيوس كانت في الرماد، والجزء الآخر يحمل الشر لأن ذلك الرماد يأتي من التيتان؛ ولذلك فقد تلوث الإنسان بأفعالهم الآثمة. ويوازي العنصران - المدنس والإلهي - جسد الإنسان الفاني المدنس من ناحية وروحه الخالدة من ناحية أخرى، ولا يساعده على السمو على ما ورثه من إثم سوى التطهر القاسي. ويعتبر الموت الأمل الوحيد للتحرر الكامل من الجسد الذي يعد سجنا يحبس الروح. ورغم ذلك يعتبر الموت أحيانا انتقالا من سيئ إلى أسوأ لأن الأرواح التي لم تتطهر تلقى عقابا شديدا بعد الموت.
وتمثل تلك الأسطورة جوهر قصائد أورفيوس وكتاباته وقصائده الشعرية، وهي النص المقدس للدين الذي بعث به أورفيوس. وكما تعد الديانة الأورفية إحياء أكثر عقلانية لديانة الطوائف الديونيسية والباخوسية فقد كان أيضا أكثر تقشفا منها؛ ولذلك يمكن اعتبار المذهب الفيثاغوري نسخة أكثر عقلانية من الديانة الأورفية.
في عبادة ديونيسيوس، كان الغرض الرئيس من الطقوس الدينية هو الوصول إلى درجة من الاتحاد مع الرب عن طريق إقامة الشعائر، وبعض الطقوس الأخرى التي اشتهرت بالانغماس في ممارسة الجنس أو معاقرة الخمر أو ارتكاب العنف أو أي مزيج بينها. لكن في الديانة الأورفية كانت الطقوس أكثر رسمية واحتشاما واهتماما بإنكار الذات عوضا عن الانغماس في الملذات، ولكنها كانت أيضا هراء لا طائل منه. وثمة صورة نادرة لأتباع الديانة الأورفية - أو على الأقل كيف كان الآخرون يرونهم - في مسرحية يوريبيديس التي تحمل عنوان «هيبوليتوس» والتي قدمت على المسرح بعد وفاة فيثاغورس ببضعة وسبعين عاما، فعندما غضب ثيسيوس من ابنه غير الشرعي هيبوليتوس سخر منه قائلا:
والآن فلتته فخرا بطهارتك وتزه بغذائك الخالي من اللحوم، وتجعل من أورفيوس سيدك ونبيك، وتنغمس في الإعجاب المجنون بمباهاته الخطابية! نعم، لقد افتضح أمرك!
وهناك تطور جديد في الصورة الفيثاغورية للديانة الأورفية ألا وهو أن التطهر ومن ثم الاتحاد مع الرب يتطلبان أن يحيا الإنسان حياة التأمل والتساؤل. وكما قال الفيلسوف هرقليطس (حوالي 540-480ق.م.) فقد «كان فيثاغورس يتساءل أكثر من أي شخص آخر على وجه الأرض.» وقد شمل هذا العديد من الأمور من أهمها الرياضيات. فمن المفترض على الفيثاغوري المخلص قبل كل شيء أن يدرس الأرقام والهندسة وعلم الفلك والموسيقى لأن كلا من تلك العلوم توضح جانبا من مبادئ النظام في الكون.
ولقد آمن الفيثاغوريون بأهمية دراسة الطبيعة من أجل المعرفة المجردة فحسب لا من أجل أية جائزة عملية. ويبدو أنهم كانوا أول من استخدم مصطلح «الفلسفة» للإشارة إلى حب الحكمة لذاتها كما أوضح شيشرون في القصة التالية:
طلب منه ليون (حاكم فليوس وهي أحد مراكز المذهب الفيثاغوري في جنوب شرق اليونان) ... أن يحدد أكثر الفنون التي يعول عليها، ولكن فيثاغورس قال إنه لا يعلم أي شيء عن الفنون بل هو فيلسوف. فتعجب ليون من ذلك المصطلح الجديد وسأله عن ماهية الفلاسفة ... فأجاب فيثاغورس قائلا إن حياة الإنسان تشبه مهرجانا تقام فيه أروع الألعاب ... وإن بعض الرجال في هذا الحفل ... يسعون إلى الظفر بالتاج المجيد، بينما ينجذب آخرون لاحتمال تحقيق الربح عن طريق البيع والشراء. وإن ثمة صنفا معينا من أفضل أصناف الرجال الأحرار الذين لا يسعون لنيل الإطراء ولا لتحقيق الربح، ولكنهم أتوا من أجل مشاهدة الحفل ومعاينة ما يحدث وكيف يحدث. وهكذا نحن البشر، فكأنما أتينا من إحدى المدن إلى حفل مزدحم ... ودخلنا هذه الدنيا فكان منا الطموح ومنا عابد المال، ولكن ثمة القليل ممن أمعنوا النظر في طبيعة الأمور ولم يروا نفعا في غير ذلك، وأطلق هؤلاء الرجال على أنفسهم اسم محبي الحكمة (وهو معنى كلمة فيلسوف). وكما يحدث في عالم الألعاب أخذ هؤلاء الرجال الصادقون يشاهدون الألعاب دون البحث عن أية مآرب لأنفسهم؛ إذ إن تأمل الطبيعة واكتشافها يفوق كل المساعي الأخرى في الحياة.
ثمة فكرة لا شك في انتمائها للديانة الأورفية تتغلغل في التفسيرات الفيثاغورية للتساؤل (وخاصة تلك المتعلقة بأفلاطون في لحظاته الأكثر فيثاغورية) وهي التناقض بين الجسد الفاني الملوث وما يمكن اكتشافه عن العالم من خلال الحواس من ناحية وبين المعرفة الأسمى والأكثر نقاء، والتي يمكن للروح أن تصل إليها من ناحية أخرى. ويمكننا أن نرى ذلك في إحدى الكتابات التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي والتي تصف اهتمام فيثاغورس بالهندسة:
إنني أحاكي الفيثاغوريين الذين كانت لديهم عبارة تقليدية تعبر عما أقصده وهي «شكل وقاعدة ارتقاء، لا شكل ومال.» وقد قصدوا بذلك أن الهندسة التي تستحق الدراسة هي تلك التي تقيم مع كل نظرية جديدة منصة للارتقاء عليها، وتسمو بالروح عاليا بدلا من تركها تتدنى إلى مرتبة (الأشياء المادية التي تدركها الحواس) ومن ثم تصبح تالية على الضروريات العامة للحياة الفانية.
وبعبارة أخرى، إذا استخدمت الهندسة لأغراض مادية دنيوية وحسب - كما فعل المصريون القدماء على سبيل المثال لحساب مساحة الأرض - فسوف تظل روحك رهينة الحبس في سجن الجسد المادي؛ فالهندسة بوسعها أيضا أن تقدم للروح وسيلة للفرار إذا استخدمت كموضوع للدراسة الموضوعية المجردة؛ أي إذا درست أولا لاكتشاف الصحيح من النظريات، وهي سلوى لا تجدر إلا بالأرواح الطاهرة. ورغم أن التساؤلات الرياضية للفيثاغوريين قد أتت ثمارها في نهاية الأمر من كل الجوانب العملية فإن دوافعهم لتبنيها كانت أخلاقية أو روحية إلى حد كبير. وقد اعتقد الناس أن إدراك الترتيب المنظم للكون وجماله يسمح بنوع من المشاركة في ذلك النظام وهذا الجمال . ويمكننا القول باختصار إن جزءا من عظمة الكون ينتقل إلى من يدرسه.
وقد عبر سقراط عن تلك الفكرة التي أصبحت تمثل جوهر الفيثاغورية في «جمهورية» أفلاطون قائلا:
لا ريب يا أديمانتس؛ فمن كان ذهنه ثابتا على الحقائق الخارجية فليس لديه وقت للنظر للأشياء التافهة ... ولكنه يثبت ناظريه على كل ما هو ذا طبيعة سرمدية لا تتبدل ولا تتغير، وحينما يرى الإنسان أن هذه الأشياء لا تظلم بعضها بعضا بل تنتظم في تناغم كما يتطلب العقل؛ سوف يسعى إلى تقليدها، وربما يسعى إلى التغيير من نفسه كي يصبح مشابها لها ... وعند ذلك يصبح محب الحكمة المتوحد مع النظام الإلهي على القدر عينه من النظام والسمو.
وبعد مرور حوالي 2300 عام كتب برتراند راسل شيئا مشابها في الفصل الأخير من أحد كتبه الأوائل والذي يحمل عنوان «مشكلات الفلسفة» حيث أكد أن الفلسفة تستحق الدراسة؛ «لأن العقل يغدو عظيما من خلال عظمة الكون التي تتأملها الفلسفة ويتمكن من تحقيق تلك الوحدة مع الكون التي تحقق له الخير الأسمى.»
يبدو كل ذلك رائعا، ولكن ما الذي يفترض أن يهتم به الفيلسوف ويثبت عليه ناظريه؟ بالنسبة للفيثاغوريين يبدو أن موضع الاهتمام كان الأجرام السماوية التي تدور في مساراتها المنظمة المتناغمة في السماء. أما بالنسبة لأفلاطون فقد كان موضع الاهتمام المذكور أمرا أكثر تجردا ترمز إليه الأجرام السماوية، وهو الأشكال المثالية التي تعتبر الأشياء الأرضية صورا أدنى منها (وسوف نوضح المزيد عن تلك الأشكال في الحديث عن أفلاطون نفسه). أما راسل فيبدو أنه كان يتغنى بالحياة العقلانية ولكنه كان أقل وضوحا فيما يتعلق بماهية تلك الحياة. وما يجمع بين تلك التفسيرات هو حقيقة أن تأمل شيء ما قد يكسب المرء بعض صفاته الحسنة على ما يبدو عن طريق التأثر به ومحاولة محاكاته. فقد اعتقد أفلاطون على سبيل المثال فكرة أن الدراسة الفلسفية للكون السرمدي تضفي على المرء نوعا من الخلود حيث قال:
من كان جادا في حب المعرفة والحكمة الحقيقية يجب أن يتسم فكره بالخلود والطابع الإلهي إذا أراد بلوغ الحقيقة. وبقدر ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تشارك في هذا الخلود يجب أن يتسم هو أيضا بالخلود بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
كان هذا جزءا من محاورة «طيمايوس» الخاص بأفلاطون، وهي أكثر محاوراته اتساما بالطابع الفيثاغوري. ويردد برتراند راسل الكلام ذاته قائلا: «من خلال الكون اللامحدود يحصل العقل الذي يتأمله على نصيب من اللامحدودية.»
ويعد الحصول على «نصيب» من الخلود أو اللامحدودية فكرة فيها من الغموض ما يكفي لاعتبارها تعبيرا مخففا عن الإشادة بالفلسفة. بالطبع كان راسل، على سبيل المثال، لا يقصد سوى تلك الإشادة، رغم أن اختياره للإشارات اللغوية يشير إلى الماضي نحو فيثاغورس. ولا يتضح لنا على الفور كيف يمكن للمرء أن يصبح خالدا بالمعنى الحرفي عن طريق تأمل شيء خالد (مثل الكون) فحسب طبقا لمعتقد فيثاغورس. كما تبدو الفكرة الأساسية - بالقدر الذي يمكننا إيضاحها به - على النحو التالي: الروح مثقلة بالهموم الدنيوية والعملية، وإذا ظلت على تلوثها هذا فلن تهرب من قيد الجسد أبدا، بل ستنتقل إلى جسد آخر عند الموت فحسب سواء أكان هذا الجسد لآدمي أو لحيوان، ولكن إذا اتبع الإنسان المنهج الصحيح للتطهر - وهو نوع من التمرينات الروحية التي تدعى بناء الأرواح، على غرار تمرينات بناء الأجسام - فسوف تنطلق الروح حرة طليقة ويفك أسرها وتتمكن من الصعود إلى العالم الروحي السرمدي الذي يعد موطنها الحقيقي. ويتكون هذا المنهج التطهري من شقين؛ أولهما: اتقاء المحرمات (مثل الامتناع عن تناول الفول أو ما شابه) والآخر: أن تحيا حياة التدريبات الفلسفية الصارمة؛ حياة «التأمل» أو التساؤل الخالص. •••
وكما رأينا، تعد الرياضيات بالنسبة للفيثاغوريين مفتاح النظام والجمال في الكون، وتقع مسئولية اكتشافهما على عاتق الفلسفة. وطبقا للروايات التي تناقلتها الأجيال، فقد بدأ الفيثاغوريون في ذلك بالاكتشاف العظيم للعلاقة بين الأرقام والأصوات الموسيقية. ومن دلائل إدانتنا بالفضل للفيثاغوريين أن معظم المثقفين اليوم لا يجدون هذا الاكتشاف مدهشا على الإطلاق.
فقد اكتشفوا أنه ثمة علاقة مباشرة بين ثلاث مسافات موسيقية اعتبرها الإغريق متناغمة أو عذبة الصوت ، وهي الأوكتاف والمسافة الرابعة والخامسة التامة من ناحية، وبين ثلاث نسب رقمية من ناحية أخرى. ويمكن التعبير عن تلك العلاقة عن طريق أطوال الأوتار التي تنقر لإصدار النغمات الموسيقية. ولنأخذ على سبيل المثال آلة المونوكورد أحادية الوتر التي قد تكون أول ما ظهر فيه هذا الاكتشاف. فعن طريق الضغط على الوتر في أماكن مختلفة منه يمكن إصدار نغمات موسيقية مختلفة مثلما يحدث في الجيتار، فإذا ضغطت على الوتر في منتصف طوله بالضبط تصبح النغمة الصادرة أعلى بمقدار أوكتاف واحد عنها في حالة اهتزاز الوتر بحرية (أي إذا لم يضغط على الوتر). وهكذا فإن المسافة الموسيقية للأوكتاف تتطابق مع النسبة 2 : 1، فالنغمة الأكثر انخفاضا تصدر عن وتر يبلغ طوله ضعف طول الوتر الذي يصدر النغمة الأعلى بمسافة واحدة. وعلى نحو مماثل فإن المسافتين الموسيقيتين ذواتي الصوت العذب والمعروفتين باسم المسافة الرابعة والخامسة التامة تتطابقان مع النسب 4: 3 و3: 2 على التوالي.
ما أروع هذا الاكتشاف! إذ يوضح أن الظواهر (وهي في تلك الحالة الأصوات الموسيقية) لها بنية خفية يمكن كشفها. وهو برهان مادي على أن الأرقام بوسعها أن تكشف أسرار العالم. كما أن النسب الثلاث (2 : 1 و4 : 3 و3 : 2) تضم الأرقام 1 و2 و3 و4 والتي يبلغ مجموعها 10، وهو أمر رائع أيضا لأن الرقم 10 كان الرقم المثالي بالنسبة للفيثاغوريين حيث كان يتمتع بمغزى روحي عظيم لديهم. لقد سر الفيثاغوريون كثيرا بأن لاحظوا أن المسافات المتناسقة التي تتمتع بأهمية خاصة في الموسيقى الإغريقية تطابق أرقاما ذات دلالة خاصة.
ومن منظورنا الحالي المنتفع بالفكر العلمي، بوسعنا أن نؤكد أن تفسير اكتشافات الفيثاغوريين يكمن في ثلاث حقائق؛ أولاها: أن طبقة النغمة الموسيقية تتعلق بمعدل اهتزاز الهواء، وثانيتها: أن هذا المعدل في حالة الآلات الوترية يحدده معدل اهتزاز الوتر، وأخراها: أن معدل اهتزاز الوتر هو دالة لطول الوتر، (أما الرقم السحري 10 فليس له أي مغزى حقيقي). لم يكن الفيثاغوريون في موقف يسمح لهم بتقديم مثل هذه التفسيرات، ولكن يبدو أن هذا الاكتشاف المذهل جعلهم يشعرون أنهم في موقف يسمح لهم بالقفز إلى استنتاج شامل، وهو أن الأرقام من المتطلبات الأساسية لنظام الطبيعة التي تغلب عليها الفوضى؛ ولذلك فقد لعب الفيثاغوريون دورا أساسيا في تفسير الظواهر الطبيعية، حالهم في ذلك حال الأرقام (أو بشكل عام المفاهيم الكمية). حاول أن تتخيل كتابا مدرسيا يتحدث عن الفيزياء أو الكيمياء بلا أرقام فيه، سيكون ذلك أمرا مستحيلا. ولا يدهشنا أن الفيثاغوريين لم يتمكنوا من صياغة كل ذلك فلجئوا إلى المفردات التي توارثوها عن الملطيين؛ ومن ثم فقد رأوا أن الأرقام هي «أصل» كل شيء.
وفي حديثنا عن طاليس وخلفائه أشرنا بالفعل إلى الغموض الذي يكتنف مفهوم «الأصل». فهل كون الأرقام أصولا يعني أنها أول الأشياء التي وجدت، أم أنها المادة التي صنع منها كل شيء، أم أنها بطريقة ما السبب في حدوث أي شيء؟ لقد استعرض أرسطو العديد من الاقتراحات حول مقصد الفيثاغوريين ولم يؤيد معظمها، بل كانت نبرته عند الحديث عن أسلافه السابقين نبرة معلم رياض الأطفال الذي يقص الروايات الساذجة التي سمعها من الأطفال في المدرسة اليوم، خاصة عندما يذكر الفيثاغوريين وهذيانهم بشأن الأرقام. وهو يعترض بشدة على «إيمان الفيثاغوريين ... بأن الطبيعة بأكملها تتكون من الأرقام» مؤكدا أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا لأن «الأجسام الطبيعية وهبتها الطبيعة وزنا وخفة، إلا أنه لا يمكن تجميع عدد من الوحدات (أي الأرقام) لنكون منها جسما، ولا يمكن أن يكون لها وزن.» ومما لا شك فيه أن تفكير أرسطو في هذا المقام كان شديد الحرفية، فهل يمكن أن يكون الفيثاغوريون قد افترضوا بالفعل أن الرقم 6 على سبيل المثال له وزن، أو أنك إذا حطمت صخرة فسوف يخلف حطامها مجموعة من الأرقام؟ والإجابة على الأرجح هي لا. من المؤكد أن الفيثاغوريين خلصوا إلى أن الطبيعة رياضية الأصل. ونظرا لطبيعة ذلك العصر، كان من الطبيعي بالنسبة لهم أن يقوموا بتلخيص أفكارهم الغامضة في كون الأرقام تمثل «أصول» كل شيء أو مبادئه، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن الأشياء المادية مصنوعة من الأرقام بالطريقة نفسها التي صنعت بها المنازل من الطوب.
لكن يبدو بالفعل أن الفيثاغوريين قد اعتقدوا أن الأشياء المادية تتكون من الأرقام بطريقة معينة أو بالأحرى بطريقة خاصة تنبع من أسلوبهم في تناول الهندسة. ولنأخذ على سبيل المثال الطريقة التالية: ارسم شكلا من أربع نقاط مثل ذلك الموجود على زهر النرد، ثم قم بتوصيل تلك النقاط عن طريق خطوط لتكون مربعا، ثم ارسم المزيد من النقاط والخطوط لتكون مكعبا. في هذا التدريب البسيط كونت النقاط خطوطا، وكونت الخطوط شكلا هندسيا، وكونت الأشكال الهندسية مجسما. وهذه تقريبا هي نظرة الفيثاغوريين ذوي العقلية الهندسية للأشياء المادية؛ فهي لديهم تتكون من نقاط وخطوط وهكذا. اعتقد أرسطو أنهم يقدمون إجابة للسؤال القديم الذي طرحه الملطيون عن المادة التي صنعت منها الأشياء المادية، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يطرحون سؤالا آخر؛ فقد وجدوا في التركيز على الجانب الرياضي للأمور تجديدا مثيرا وفضلوا مناقشة ذلك. وقد يكون هذا هو السبب الذي دعاهم للقول إن الأشياء المادية صنعت من الأرقام بطريقة ما. ورغم أننا نميز بوضوح بين الأرقام والنقاط الهندسية فقد تناول الفيثاغوريون مفهوم الوحدات بشكل أوسع، وهو ما قد يعني أنه يشير أحيانا إلى أمر معين وأحيانا أخرى إلى أمر آخر. ولا ريب أن ذلك الغموض قد زاد منه أن مثلوا الأرقام بأشكال هندسية من النقاط أو الحصى كالأشكال التي توجد على حجر الدومينو أو زهر النرد.
ولسوء الحظ، لا يستطيع أكثر مفسري النظريات الفيثاغورية تعاطفا إنقاذ الفيثاغوريين من بعض التطرف الذي قادهم إليه افتتانهم بالأرقام. ويبدو أنهم ذهبوا إلى حد مطابقة بعض الأرقام المحددة بالعديد من الأفكار المجردة؛ فقد ذكر أحد المعلقين القدامى أن الفيثاغوريين كانوا يرون أن العقل يحمل الرقم 1، والذكورة الرقم 2، والأنوثة الرقم 3، والعدل الرقم 4، والزواج الرقم 5، والفرصة الرقم 7 (بعض المصادر الأخرى تعطي أرقاما مختلفة للعديد من تلك المفاهيم). وفي بعض الأحيان يمكن للمرء أن يرى بصعوبة مصدر الإلهام لتلك الأفكار الرقمية غير المترابطة، وخير مثال على ذلك هو العدل الذي يحمل الرقم 4؛ إذ مثل هذا الرقم بشكل مربع متساوي الأضلاع، ولذلك يمكننا أن نسميه شكلا عادلا. وما زلنا حتى الآن نستخدم في اللغة الإنجليزية كلمة
square
بمعنى «عادل» كما في حديثنا عن تسوية الديون
squaring debts . ولكن رغم أنه قد يكون في الأفكار المجنونة شيء من عقل، فلا يخرجها ذلك عن كونها جنونا. ولا ريب أن شيئا ما - حبذا لو علمناه - قد حدا بهم إلى قول ذلك، ولكن لدى الفيثاغوريين ثمة أفكار أخرى أكثر أهمية تستدعي النظر فيها.
أما آخر جزء من عقيدة الفلسفة الشاملة للفيثاغوريين سنتناوله هنا فهو الجزء الذي يتناول الأصول والمبادئ الأولية للكون، والذي يأتي على رأس أولوياتهم. رغم اعتقادهم أن الأرقام بطريقة ما هي مقومات كل شيء؛ فلم يعتقدوا أنها المقومات الأولية فحسب بل آمنوا أيضا بأن بوسعهم الغوص أعمق من ذلك؛ إذ إن الأرقام نفسها قد تكونت من شيء آخر. وهذا الشيء الآخر كان «المطلق» الخاص بأناكسيماندر أو شيئا يشبهه.
ويعد المفهومان الأساسيان في الفكر الفيثاغوري هما المحدود واللامحدود؛ إذ يرى الفيثاغوريون أنه أينما بحث الإنسان عن تفسير للنظام أو الجمال في أية ظاهرة فلا ريب أن هذين المفهومين يكمنان خلفه. وقد اكتشف أفلاطون لاحقا عقيدة لا بد وأنها تنتمي للفيثاغوريين، وهي تمضي على النحو التالي:
لقد أورثنا أسلافنا الذين كانوا أفضل منا وأقرب منا إلى الآلهة هدية في صورة قول مأثور يقول إن كل الأشياء الموجودة منذ القدم تتكون من شيء واحد ومن أشياء متعددة، وإن في طبيعتها مزيجا بين المحدود واللامحدود.
ويبدو أن الفكرة التي تكمن خلف هذا الحديث عن المزيج بين المحدود واللامحدود هي كالتالي: يخلق النظام والجمال عندما يفرض نوع من الحدود، أو التحديد، على المادة الخام اللامحدودة للكون. ومن الأمثلة الدنيوية على ذلك الطريقة التي يستخدم بها قالب الخبز لتكوين شكل محدد من قطعة عجين عديمة الشكل. وكما رآها الفيثاغوريون، تقوم النسب الموسيقية بتحديد النتائج المهمة لفرض النظام على الصوت عديم الشكل. ومثلما تؤدي النسب إلى إحداث التناغم الموسيقي من الضوضاء المتنافر، رأى الفيثاغوريون أن العديد من الأشياء الأخرى القيمة إنما هي أمثلة على التناغم أو تناسق الإيقاع كالجسد الصحي والروح الفاضلة والمجتمع العادل، وهي أمور رأوا فيها النسب الصحيحة أو المزيج الصحيح من العناصر. وفي كل حالة تعد النسبة أو المزيج المتناسق مثالا على إنشاء النظام أو الحدود. ويؤثر المفهوم المزدوج للمحدود واللامحدود على الأرقام عن طريق المفاهيم الحسابية الخاصة بالأعداد الزوجية والفردية؛ فاللامحدود يطابق الأعداد الزوجية (أو ربما يؤدي إلى تكوينها)، أما المحدود فله العلاقة نفسها ولكن مع الأعداد الفردية. وتتحد الأعداد الزوجية والفردية مكونة الرقم 1، بينما تكونت كل الأعداد الأخرى من الرقم 1.
وهكذا نحصل على وصفة الأرقام ومن ثم الوصفة الخاصة بكل الأشياء الأخرى التي تتكون من الأرقام بشكل ما. ولكن كيف جاءت الأرقام أصلا؟ قدم الفيثاغوريون تفسيرا لبداية الكون. في نسخة أناكسيماندر من تلك الرواية انفصلت بيضة أو بذرة بشكل ما عن المطلق غير المحدود، وظلت تنمو حتى صارت العالم الذي نعرفه الآن. وبالمثل تبدأ رواية الفيثاغوريين ببذرة، ولكن بذرتهم تنمو عن طريق امتصاص اللامحدود ومن ثم إعطاؤه شكلا أو حدودا. وكذلك نشأ كل شيء في العالم من كواكب وصخور وموسيقى وربما حتى البشر، نتيجة لهذا النمو الذي يقتات على المشيمة اللامحدودة عديمة الشكل. ويبدو أن هذا الامتصاص كان مقصودا بالمعنى الحرفي إلى حد ما، فيشار إلى اللامحدود في هذا السياق بالروح؛ أي الهواء أو النفس. وهكذا أصبح لدينا تفسير لتطور الكون تسيطر عليه صورة كائن حي ينمو ويتنفس ويستمد غذاءه من البيئة المحيطة به.
ولكن كيف يفترض بذلك التفسير البيولوجي الزائف أن يستمر في ظل وجود الأفكار الفيثاغورية الأكثر تجردا وتعقيدا حول الهندسة والأرقام؟ إن ثمة قولا بأن كل الأرقام يمكن أن تنشأ من الرقم 1 (على سبيل المثال بتكرار إضافة الرقم 1) أو أن المكعب يمكن اعتباره مكونا من نقاط وخطوط. ولكن هل بوسعنا الآن أن نفترض أن الرقم 1 قد نشأت عنه الأرقام الأخرى والتي بدورها أنجبت الخطوط التي أنجبت الأشكال الهندسية ... إلخ في لحظة محددة من تطور الكون؟ يبدو الأمر كما لو كانت بضع صفحات من بداية سفر التكوين قد فقدت واختلطت مع صفحات من كتاب الرياضيات للمرحلة الابتدائية.
وتلك هي النقطة التي يستحسن فيها التوقف عن الافتراض؛ إذ إن مصادر كل تلك التأملات حول الفيثاغوريين هزيلة وربما تكون فاسدة، وفي مرحلة ما يضطر المرء إلى الاعتراف بأنه لا يمكن الحصول على مزيد من المعلومات من هذه المصادر. وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى أن الفيثاغوريين لم يكونوا رجالا خارقين تحرروا في خطوة واحدة من الأفكار البدائية لأسلافهم، بل كانوا لا يزالون يتبعون طرق علماء الطبيعة الأوائل الذين اهتموا كما رأينا بالروايات البسيطة لكيفية بدء كل ذلك، وكانوا يبذلون قصارى جهدهم للانتقال إلى أنواع أخرى من الأسئلة وخاصة الأسئلة الرياضية، ولكنهم لم يدركوا كيف يتخلصون تماما من الأساليب العتيقة في الحديث. •••
وكما رأينا سابقا، كان يفترض بالفيثاغوري الصالح أن يكرس كل وقته وجهده لدراسة الطبيعة، وخاصة علم الفلك والرياضيات والموسيقى، وهو ما يفترض أن يطهر روحه. ومن السهل الإعلان عن النوايا الحسنة في بداية الفصل الدراسي، ولكن ماذا حقق الفيثاغوريون في ذلك؟
ورغم قلة ما نعلمه عن مساهماتهم في الموسيقى (أو بشكل أكثر دقة في علم الأصوات الموسيقية) فهي معلومات مفيدة، تتكون من الملاحظات المشار إليها سابقا والتي أظهرت العلاقة بين النسب والمسافات الموسيقية المتناغمة ذات الأصوات العذبة، وهذا كل شيء. ورغم ذلك فقد انبهر بها مؤرخو العلوم في العصر الحديث، حيث يقال إن انشغال الفيثاغوريين بعلم الصوت هو «الحالة المهمة الوحيدة التي نملك فيها دليلا على انخراط الفلاسفة في البحث التجريبي» قبل أفلاطون. لكن الفكرة الموسيقية الأشهر لدى الفيثاغوريين - وهي إيمانهم ب «التناغم» أو «الموسيقى السماوية» - لم تكن لها إلا علاقة ضعيفة بالبحث التجريبي، بل إنها صورة تلخص بدقة تخيلهم عن الكون. وقد آمن الكثيرون بهذه الفكرة لأنها كانت تبدو فكرة جذابة. ويشهد على كثرة إيحاءاتها ظهورها في أعمال كل من أفلاطون وشيشرون وتشوسر وشكسبير وميلتون وبوب ودرايدن وآخرين. وقد وصفها أرسطو بشكل جيد في كتاباته، إلا أن الفكرة وصفت على النحو الأفضل على لسان لورنزو في مسرحية «تاجر البندقية» حين قال:
اجلسي يا جيسيكا وانظري كيف رصعت السماء،
بأجسام من الذهب البراق،
إنها من كوكب مهما صغر حجمه فلا ترينه إلا يغني أثناء حركته،
كالملاك الذي يبعث أنغامه،
إلى أسماع الملائكة الصغار،
مثل هذا التناغم تعرفه الأرواح الخالدة،
فإن أطبقت عليها أجسادنا الفانية الغليظة المخلوقة من طين،
سلبتنا القدرة على سماعه.
في حقيقة الأمر، صاغ لورنزو الفكرة بشكل يوحي بأنه تفوق على الفيثاغوريين. ويبدو أن المعتقد الأصلي كان يقول إن سبب الأصوات التي تطلقها الأجرام السماوية يرجع إلى انطلاقها بعنف في الفضاء بسرعات مختلفة، وإن النسب بين تلك السرعات المختلفة هي النسب الصحيحة لضمان تناغم تلك الأصوات وإننا لا نلاحظ تلك الموسيقى لأننا سمعناها منذ لحظة ولادتنا حتى اعتدنا عليها. ويصف أرسطو الفكرة في مقدمة كتابه (رغم عدم اقتناعه بها) قائلا: «إن ما يحدث للناس هو ما حدث من قبل للنحاسين الذين اعتادوا على الضوضاء الصادرة من ورشة الحداد، حتى إنها لم تعد تمثل بالنسبة لهم أي اختلاف.» ورغم وجود معتقد فيثاغوري يؤكد أن فيثاغورس نفسه كان بإمكانه سماع التناغم السماوي لأنه كان في حقيقة الأمر إلها وليس إنسانا، فإنه لا يوجد الكثير من الأدلة قبل شكسبير على حقيقة أننا لا نستطيع سماع تلك الأصوات لأننا بشر. ورغم ذلك تتسم فكرة شكسبير نوعا ما بالطابع الفيثاغوري أكثر من الفيثاغوريين أنفسهم، فنظرية احتباس الروح مؤقتا في «ثوب بال قذر» طوال الحياة الفانية مما يبعدها عن الإدراك الكامل للنظام والجمال المتناغمين في الكون؛ إنما هي فكرة أورفية خالصة، وكان فيثاغورس سيعجب بها ولكن يبدو أنه لم يفكر قط في تطبيق تلك الفكرة على مسألة: «لم لا يستطيع الإنسان سماع التناغم السماوي؟»
أما موقف أرسطو من هذا الموضوع فقد كان أقل من الناحية التصويرية حيث قال:
رغم عذوبة تلك النظرية وشاعريتها فلا يمكن أن تكون تفسيرا واقعيا للحقائق ... فالضوضاء الشديدة كما نعلم تحطم الأجسام الصلبة حتى للكائنات غير الحية ... ولكن إذا كانت الأجسام المتحركة شديدة الضخامة والصوت الذي ينفذ من خلالها إلينا متناسبا مع حجمها؛ فسوف يصل إلينا هذا الصوت بأضعاف شدة صوت الرعد، وسوف تكون قوة حركته هائلة. وفي حقيقة الأمر يكمن السبب وراء عدم سماعنا هذا الصوت وعدم تأثر أجسادنا بتلك القوة العنيفة في أمر بسيط جدا ألا وهو أنه لا وجود لهذه الضوضاء من الأساس.
ولكن بالنسبة للفيثاغوريين، كانت تلك النظرية أروع من ألا تعتبر حقيقية، فقد كانت تربط بين ثلاثة أمور يعد الربط بينها هو جوهر الفلسفة الفيثاغورية وهي نظام الطبيعة (متمثلا في الحركات المنتظمة للأجرام السماوية) وجمالها (متمثلا في التناغم والتناسق الناتج عن تلك الحركات) وانتشار الأرقام (متمثلا في النسب التي توضح ذلك التناسق).
وكما عانت تلك النظرية من حيرة افتراض وجود صوت لم يسمعه أحد من قبل، اعتمدت المعتقدات الفلكية الأخرى للفيثاغوريين على أشياء خفية تثير الشك في وجودها. وينطبق ذلك على الأقل على آخر النظريات الفلكية للفيثاغوريين وأشدها تأثيرا والتي وضعها كتاب القرن الخامس قبل الميلاد. وتنص هذه النظريات على أن الأرض والأجرام السماوية كافة تدور حول نار مركزية غير مرئية أو «موقد مركزي» كذلك الموجود في منتصف المنزل، وأن ثمة «أرضا مضادة» غير مرئية أيضا تدور في مدار بين الأرض والنار المركزية. وقيل إن الفيثاغوريين فسروا حقيقة أننا لا نرى أيا من تلك الأشياء بأننا نعيش على جانب من الأرض بعيد عنها دائما.
تتمثل أهم الحقائق بشأن تلك النظرية في أنها أزاحت الأرض عن موضعها كمركز للكون، وجعلتها تدور حول النار المركزية مثلها كمثل الأجرام السماوية الأخرى. يبدو أن تلك الفكرة المبتكرة لا علاقة لها بالأجزاء الأخرى من الفكر الفيثاغوري على الإطلاق، ولكنها ليست أمرا تافها. وفي إهدائه لكتاب «عن ثورات الأجرام السماوية» الذي نشر عام 1543م يقول كوبرنيكوس إن التفكير في هذا النظام القديم هو ما شجعه على بحث الافتراض غير التقليدي في ذلك الوقت بأن الأرض تدور حول الشمس ولا تقبع في مركز الكون (وهو المعتقد السائد لدى الجميع في العصور الوسطى) فقال في ذلك: «وانطلاقا من تلك النقطة بدأت أفكر في حركة الأرض .» وهكذا كانت الفيثاغورية نقطة الانطلاق لعلم الفلك الحديث، حتى وإن كان ذلك محض مصادفة.
وأيا كانت الأسباب التي دفعت الفيثاغوريين القدامى لعرض وجهات نظرهم الفلكية، لا يوجد إلا القليل من الأدلة على ما دونوه من ملاحظات تفصيلية حول الأجرام السماوية أو حتى على تطبيق الرياضيات المحببة إليهم على علم الفلك، وهو ما يثير الدهشة. ولكن أول من قام بمحاولة جادة لتطبيق الرياضيات من أجل اكتشاف قوانين الحركة السماوية وهو يوهانز كبلر (1571-1630م) كان فيثاغوريا خالصا (وإن جاء بعد انقضاء عصرهم)، وقد قاده يقينه بأن السموات لا بد أن تكون مرتبة في نمط متناسق يتجلى واضحا في علاقات رياضية بسيطة إلى صياغة العديد من التعميمات حول الكواكب، والتي كان بعضها أضغاثا مضللة طواها النسيان اليوم، وخاصة ممن يرغبون في إقصاء رجال العلم الحديث عن خزي الارتباط بالفلاسفة القدامى المخبولين، وبعضها الآخر أصبح الآن من معالم علم الفيزياء. وكثيرا ما يستشهد بقوانين كبلر الثلاثة لحركة الكواكب بوصفها البوابة التي انتقل منها علم كونيات العصور الوسطى إلى علم الفلك الحديث. لكن كبلر كان فيثاغوريا في كثير من أفكاره حتى إن بحثه الذي يحمل عنوان «تناغم العالم» (1619م) والذي أعلن فيه عن العديد من اكتشافاته الشهيرة لم يحلل حركة الكواكب بلغة السلالم الموسيقية الكبيرة والصغيرة فحسب، بل حدد النغمات المختلفة الخافتة التي تصدرها مدارات كل من زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد بالإضافة إلى القمر والأرض.
ورغم أن الفيثاغوريين الأصليين كانوا مصدر إلهام للأجيال اللاحقة؛ فمن الصعوبة بمكان تحديد ما يجب أن ينسب إليهم من فضل في تقدم علم الفلك الوليد في عصرهم. أما الرياضيات البحتة فقد كانت أمرا مختلفا، فحتى أرسطو المتشكك اضطر إلى الاعتراف بأنهم «أول من ساهم في تقدم ذلك العلم.» ويبدو أن أهم نتائج ما أحرز من تقدم في علم الرياضيات - والذي يرجع الفضل فيه للفيثاغوريين بما فيه النظرية الشهيرة ذاتها - تعود إلى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أو ما بعده؛ أي بعد وفاة فيثاغورس بفترة طويلة، ولكن بعض الأجزاء الأخرى من المعتقد الرياضي قد يرجع تاريخها إليه. ربما كان تصنيف الأرقام إلى «مربعات»، كالرقمين 4 و9 على سبيل المثال، موجودا منذ القدم (فقد كان الفيثاغوريون يمثلون تلك الأرقام بمربعات من النقاط، وهو سبب تسمية هذا المصطلح)، وربما ينطبق الأمر نفسه على العديد من النظريات حول الأرقام والتي تناسب ذلك التمثيل الهندسي. وقد يكون تقسيم الأرقام إلى أرقام زوجية وأخرى فردية أحد اختراعات الفيثاغوريين القديمة، أما فكرة أن فيثاغورس نفسه كان أول من قدم إثباتات أو نظريات رياضية دقيقة - وليس محض ملاحظات متعددة حول الأرقام والمثلثات وغيرها - فهي شيء يتمنى أنصاره أن لو كان صحيحا.
ومن بين هؤلاء الأنصار كان راسل الأكثر جرأة في العصر الحديث، ويعتمد ادعاؤه أن فيثاغورس كان الأكثر تأثيرا بين المفكرين على فكرة أن تأثير الرياضيات على المجالات الأخرى من الفكر لا يرجع الفضل فيه إلا لفيثاغورس. ويبدو أن راسل كان يقصد بكلامه نوعين من التأثير رغم أنه لم يحددهما بوضوح، أحدهما يتعلق بطريقة الإثبات الرياضي الذي نجده في كتاب «العناصر» لإقليدس الذي كتب عام 300 قبل الميلاد تقريبا، والذي ظل المرجع الرئيس في علم الهندسة حتى أضيف إليه العديد من أسفار العهد الجديد في القرن التاسع عشر. وتنطلق براهين إقليدس ببعض الاستنتاجات من مسلمات بسيطة يفترض أنها بدهية وصولا إلى استنتاجات جوهرية ومعقدة. وكان لهذا الأسلوب الشاق في البناء المنطقي عميق الأثر خارج مجال الرياضيات وداخله، ليس بوصفه نموذجا لطريقة تنظيم النتائج العلمية فحسب (فقد كتب نيوتن على سبيل المثال كتاب «الأصول» بالطريقة نفسها) بل في القانون وعلم اللاهوت. وقد قال راسل: «لولا فيثاغورس ما كان علماء اللاهوت ليسعوا إلى إيجاد براهين منطقية لوجود الله ولفكرة الخلود.» وإذا كان بوسعنا القول إن مفهوم الأدلة الرياضية تطور على يد الإغريق وكذلك قبل عصر إقليدس (الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد) فليس ثمة ما يدعو للاعتقاد أن فيثاغورس أو أتباعه هم من ينسب إليهم كامل الفضل في اختراع هذا المفهوم أو حتى جزء من هذا الفضل. ويظهر هذ الاستنتاج الدقيق جليا في أعمال بارمنيدس الذي سنتناوله في فصل لاحق. إن ما ينسب الفضل إليهم فيه حقا هو أمر ذو صلة ولكنه أكثر دقة؛ إذ يبدو أن الفيثاغوريين كانوا أول من أكد أن الرياضيات يمكن الاهتمام بها من أجل الإشباع العقلي، وليس لأنها تصلح لإجراء الحسابات فحسب. وربما كان جوناثان سويفت يرسم صورة هزلية للفيثاغوريين في ذهنه عندما وصف علماء الرياضيات شاردي الذهن في جزيرة لابوتا في روايته «رحلات جليفر»:
لقد بنيت منازلهم بطريقة سيئة ... فلا زوايا قائمة في أية وحدة سكنية ولو حتى واحدة، ويرجع ذلك الخلل إلى الاحتقار الذي يكنونه للهندسة العملية ... ولم أر قط من هم أكثر حمقا ورعونة من هؤلاء، ولا من هم أشد منهم بطئا وارتباكا في المفاهيم المتعلقة بكل الموضوعات ما عدا الرياضيات والموسيقى.
كان اتخاذ موقف نظري ثابت تجاه الرياضيات كما فعل الفيثاغوريون الحقيقيون سيساعد دون شك على الأقل في تمهيد الطريق لفكرة البراهين الرياضية التي لم يكن الإغريق - وهم أكثر البشر اتباعا للطرق العملية في التفكير في ذلك العصر - ليستخدموها بكثرة. ونظرا لاهتمامه بالتأمل ورغبته في كشف النقاب عن الأساس الرياضي للأشياء، يهتم الفيثاغوري بالأشياء الرياضية كالمثلثات والأرقام في حد ذاتها وليس بوصفها محض نماذج لقطع الأرض أو المبالغ المالية، كما يحاول الفيثاغوري التفكير في تلك الأمور بشكل مجرد ليتوصل إلى كيفية ارتباط الحقائق والمفاهيم الرياضية ببعضها؛ مما ينتهي به إلى أسس براهين إقليدس سواء أدرك هذه الأسس أم لم يدركها.
أما النوع الآخر من تأثير الرياضيات الذي ينسب راسل الفضل فيه إلى فيثاغورس فهو أكثر غموضا من النوع الأول، وهو ناتج عن الفكرة القائلة إن الرياضيات تتيح المعرفة المتعلقة بعالم من الأشياء المثالية (كالدوائر المثالية أو الخطوط المستقيمة استقامة تامة)، وهو أعلى منزلة مما ندركه عن العالم المادي الوعر غير المثالي من خلال الحواس. ويفترض بالمعرفة الرياضية ألا تكون أكثر دقة فحسب، بل أن تكون أكثر سموا وإيضاحا كذلك؛ ذلك أنها أكثر تجريدا مما يجعلها نموذجا يحتذى به لكل أنواع المعرفة الأخرى. وعندما كتب راسل لاحقا عن «تراجعه عن تأييد فيثاغورس» بشكل نهائي، أكد أن ما تراجع عنه هو «الشعور بأن العقل أرقى من الحواس أي الإدراك الحسي كالإبصار.» ومن السهل اعتبار هذا الشعور تطورا طبيعيا للديانة الأورفية؛ فالجسد وكل ما ينقله لنا من معرفة إنما هي أشياء ملوثة فاسدة، أما العقل أو الروح وما ينقلانه لنا فهي أفضل وأحسن. وكان أهم مؤيدي ذلك الاتجاه هو أفلاطون؛ ولذلك كان راسل محقا عندما اعتبر أن الفيثاغوريين - وإن لم يكن فيثاغورس نفسه - جزءا من إلهام أفلاطون في هذا الأمر. ولكن الجزء الذي يبالغ فيه راسل هو الافتراض بأن وصول الفيثاغوريين أولا لذلك الأمر يعني أنهم أصحاب الفضل في كل محاولات السير في هذا الدرب، ولكنه يبدو دائما طريقا طويلا يغري الكثيرين للسير فيه. وبعد كل ذلك، إذا كان الروحانيون من علماء الرياضيات يرغبون في نموذج يتخذونه قدوة فإن فيثاغورس هو غايتهم المنشودة. وقد لا يكون فيثاغورس في حقيقة الأمر قد قام بالمعجزات التي تنسب إليه ولكن هذا ينطبق على كل القديسين أو معظمهم.
الفصل الثالث
الرجل الذي بحث عن نفسه:
هرقليطس
ترجع الصورة الرائجة بين الناس للفيلسوف على أنه معلم شارد الذهن إلى عهد طاليس كما رأينا. وقد جاء هرقليطس (حوالي 540-480ق.م.) ليعرض جانبا آخر من الصورة التقليدية الساخرة عن الفيلسوف ألا وهو جانب الغموض؛ فقد استحق لقب «صانع الحجج» عن جدارة. وعندما سأل يوريبيديس سقراط عن رأيه في كتابات هرقليطس فمن المفترض أن سقراط أجاب بقوله: «ما أروع الجزء الذي أفهمه! وما أروع الجزء الذي لم أفهمه أيضا، ولكنه يحتاج إلى غواص ماهر كي ينفذ إلى أعماق معانيه.» ليست هذه محض مزحة بسيطة من سقراط؛ فثمة مثالان آخران على أقوال هرقليطس المستعصية على الفهم نعرضهما فيما يلي: «الموت هو كل ما يتراءى لنا في يقظتنا، بينما ما نراه خلال نومنا فهو النوم.» «إن الحياة تشبه طفلا يلعب، ويحرك دماه أثناء لعبه. والملكية تنتمي إلى الطفل.»
وليست أقوال هرقليطس محيرة ومربكة بهذه الدرجة، بيد أن ثمة شكلا من أشكال التناقض تقريبا في الأجزاء المائة والثلاثين التي قدر لها البقاء من كتابه. وقد قال أحد المعلقين على كتابات هرقليطس عن أحد تلك الأجزاء الذي جاء مباشرا لا غموض فيه ولا التباس: «إن خلو هذا النص من أي شكل من أشكال الإبهام يلقي بظلال الشك على مدى صحته.»
ولا يعني هذا أن هرقليطس كان يتعمد أن يحيك ألغازا لا مغزى لها ولا هدف من ورائها، فكتاباته على مجملها لا تسبب لنا الضيق أو التبرم بقدر ما تصيبنا بشيء من الإثارة والتشوق؛ لأن هناك غالبا شيئا جديدا يسعى إلى الإفصاح عنه. كما أن ثمة مغزى وهدفا من وراء أسلوبه الغامض، فقد قال: «إن الطبيعة تؤثر الخفاء وتحبه.» وهو ما يعني أن الأمور ليست في باطنها كما يبدو ظاهرها، بل إن حقيقة الأمور في رأي هرقليطس تكون دائما على عكس ما تتبدى لنا. ولا تمثل بعض ألغازه التي يبدو فيها التناقض واضحا للعيان إلا طريقته الخاصة في التعبير عن هذه الحقيقة. وقد صوب أرسطو في رسالته عن البلاغة سهام النقد إلى التراكيب اللغوية الغامضة التي يستخدمها هرقليطس، ولو قدر لهرقليطس أن يرد عليه لأجابه أن العالم نفسه هو الذي يعتريه الغموض. وبذلك نجد ترابطا شديدا بين الشكل والمضمون عند هرقليطس؛ فالطبيعة ذاتها هي منبع الألغاز، وهي حقيقة استخدمها فيما حاكه من ألغاز بهدف الشرح والتوضيح. •••
ولم يكن هرقليطس كأي من سابقيه، فالاهتمامات التي شغلته والمواقف التي تبناها جعلته بمنأى عن أهل ملطية وأتباع فيثاغورس؛ فعلى عكس فيثاغورس، الذي سماه «أمير الدجالين»، لم ينشئ هرقليطس مدرسة من أي نوع طيلة فترة حياته، بل إنه لم يتبع أيا من المدارس التي كانت قائمة آنذاك. والحقيقة التي لا خلاف عليها أنه كان متكبرا ومزدريا لمن حوله، وهو ما قد يساعدنا على فهم السر وراء غموض أسلوبه. وربما أحب أن يظن أنه يعبر عن حكمته كما كان يفعل الوسطاء الروحيون في دلفي كانوا كما قال: «لا يفصحون ولا يبهمون ولكن يعطون إشارة.» ويقال إنه وضع النسخة الوحيدة من كتابه في أحد المعابد لتكون بمنأى عن أيدي العامة والرعاع، وقد حدث ذلك في وقت ما في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد بعد وفاة فيثاغورس بفترة قصيرة في مدينة أفسس (التي تقع على بعد بضع وثلاثين ميلا شمال مدينة ملطية) حيث كان هرقليطس أحد أعضاء الأسرة المالكة الممتدة.
هرقليطس.
وعلى الرغم من قربه من موطن علماء الطبيعة الأوائل كانت دوافع هرقليطس تختلف عن دوافع طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس اختلافا كبيرا. ولا يسعنا أن ننكر أنه اتبع طريقتهم في الحديث عن العناصر المادية التي أقر أنها تتغير وتتبدل بفعل العمليات اليومية. وهو في هذا كان أقرب إلى منهج الملطيين منه إلى منهج الفيثاغوريين؛ حيث يبدو أنه لم ترقه فكرة الاعتماد على الأرقام ودورها في تفسير الطبيعة، كما أن قواعد الفيزياء والفلك المتخبطة التي اعتمد عليها الملطيون لم تكن ليكتفى بها، فلم يساهم في هذه المواضيع أو غيرها من العلوم بشيء يذكر. ويبدو أيضا أنه لم يؤمن بما قاله الملطيون عن أن الكون نشأ كله من مادة واحدة وخلق في لحظة واحدة، بل كان يؤمن بأزلية وجود الكون؛ وبذلك فهو لم يبحث قط عن أصل الأشياء إذ لم يعتقد يوما أن ثمة أصلا لها، واستعاض عن ذلك بقوله: «أنا خرجت للبحث عن نفسي.»
لم يقل أحد من الملطيين بذلك الكلام من قبل؛ فقد كان البحث في العالم الخارجي شغلهم الشاغل حتى لم يجدوا متسعا من الوقت والجهد والاهتمام للنظر فيما في داخل أنفسهم. أما هرقليطس فقد شغل نفسه بالبحث في العالمين، وحيث إنه كان يؤمن أن المبادئ التي تحكم العالمين تنبع من مشكاة واحدة فقد رأى أن البحث عن سر العالم الأول لا يكون إلا عن طريق البحث في العالم الآخر، وهذا ما دعا البعض إلى اعتبار هرقليطس عالم النفس الأول في البشرية، فربما كان المفكر الأول الذي بحث في النفس البشرية ليس من المنظور التقليدي للنفس على أنها نفحة سماوية بثت الحياة في الجسد فحسب، بل على أنها تلعب دورا في عملية التفكير والإدراك لدى الإنسان. وقد كان هرقليطس على دراية فائقة بمدى غموض هذه النفس المفكرة فقال: «لن تتمكن من اكتشاف حدود هذه النفس مهما أمعنت في البحث.» ولذلك شرع في رحلته الاستكشافية داخل النفس البشرية مستخدما أسلوب الاستبطان لوصف بعض ما يعتلج في أعماق النفس الداخلية، فنجده يتحدث عن الأحلام والمشاعر والشخصية (وقد قال في شأن الشخصية: «إن شخصية المرء هي قدره»).
ولا يعني هذا التحول إلى النموذج الاستبطاني أنه تخلى عن طريقته الموضوعية في البحث التي تميز بها علماء الطبيعة عن علماء اللاهوت صناع الأساطير. فهو لم يهتم بالنفس الداخلية دون الظواهر الخارجية؛ حيث شدد على أهمية الدلائل التي نتلقاها عن طريق الحواس (فقال: إن كل ما نستقبله من البصر أو السمع أو ما نتعلمه من خلال التجارب يندرج في قائمة اهتماماتي). وكل ما يسوقه من أمثلة وأوصاف توضيحية تدعم كلامه تجعلنا نضعه في معسكر المفكرين العقلانيين بدلا من إدراجه مع زمرة الشعراء المبدعين، بل إنه يحذر صراحة من الثقة في شهادة الشعراء لا سيما عند الحديث عن «الأشياء المجهولة».
ولم يكن البحث الدقيق في العوالم الداخلية والخارجية هو كل ما في الأمر بالنسبة لهرقليطس؛ فهو يرى أننا لا يمكننا أن نعول على ما ندركه عن طريق الحواس أو بأي شكل آخر ما لم يكن لدى المرء فهم صحيح للمبادئ التي تحكم الطبيعة والتي يشير إليها هرقليطس ب «المبادئ» أو «النظريات» أو «الصيغ» التي تحكم الأشياء. وقد وصل ما قدمه فيثاغورس من علم إلى طريق مسدود لأنه لم يحطه ب «المبادئ» الصحيحة فقد كان علمه «علما غزيرا، ولكنه كان كالسراب الخادع.» ويبدو أن الجميع عدا هرقليطس قد ضلوا ضلالا بعيدا حيث قال هرقليطس: «إن الناس قد خدعوا في التعرف على كل ما يظهر لهم، تماما مثل هوميروس الذي كان أكثر اليونانيين حكمة.» وفي بعض كتاباته يشبه هرقليطس الناس بالبهائم والسكارى والنائمين والأطفال (موضحا أن أفكارهم تشبه دماهم)؛ ذلك أنهم جميعا لا يطبقون «المبادئ» الحقيقية التي يقول عنها: «إن الناس يفشلون دائما في فهمها سواء قبل سماعها أو حتى حال نفاذها إلى آذانهم.»
إذن ما هو هذا الذي استطاع هرقليطس رؤيته وإدراكه وعجز الجميع عن الوصول إليه؟ للأسف بعد كل هذه الضجة وهذا اللغط من المحبط أن نتوصل إلى أن هرقليطس لم يكن لديه سر واحد أو أمر عظيم يمكن تلخيصه بسهولة في عبارة موجزة، وبدلا من ذلك خلط مجموعة من الأسرار ذات الصلة والتي يمكن تلخيصها في شعارين اثنين. أول هذين الشعارين هو فكرة الصراع والكفاح التي يدور كل شيء في الكون في فلكها، وهذا يتضح في قوله: «إن الأشياء جميعها تنشأ بفعل الصراع بينها.» وهذا يعني أن خلف حالة الانسجام والتناغم التي تظهر عليها الأشياء يتغير كل شيء بشكل مستمر ولا يثبت على حال أبدا؛ إذ توجد حالة من الصراع بين الأضداد وحرب ضروس تدور بينها جميعا، إلا أن هذه الأضداد هي الشيء نفسه في الوقت ذاته، وهذا هو الشعار الثاني لديه، فكما يقول: «إن الأشياء كلها واحدة.» وهذه الحقيقة المزدوجة هي ثمرة رحلة البحث عن نفسه التي قادها بنفسه. ولا عجب إذن في أنه وجد التعبير عن هذه الحقيقة بشكل مبسط يعد ضربا من المستحيل.
ويرى هرقليطس أن هذه الأفكار عن الصراع والتغيير ووحدة الأشياء ليست سوى جزء من صورة واحدة، وأن هذه الأفكار مستقاة جزئيا مما صادفه في رحلته الاستبطانية ومن خلال ملاحظاته للطبيعة كذلك. ولكي نتمكن من فهم المشهد الذي يرسمه من الأفضل لنا أن نقسم هذه الصورة إلى أجزاء عدة ونتناول كلا منها على حدة. ولنبدأ بفكرته حول «التغير المستمر» ثم بعد ذلك فكرة الصراع (والدور المحوري الذي تلعبه النار فيها)، ثم ما يقوله بشأن الأضداد وكيف أنها تعتبر الشيء نفسه، ثم نحاول في النهاية تركيب الصورة ووضع هذه الأجزاء جنبا إلى جنب.
وقد شرح هرقليطس جانبا من نظريته عن «التغير المستمر» بمثال تشبيهي قد يستعصي فهمه لأول وهلة فقال: «حتى الجرعة يمكن أن تنفصل ما لم تقلب.» وتتكون الجرعة التي يشير إليها هرقليطس من الشعير والجبن المبشور حيث يقلبان في دورق من الخمر. وعملية التقليب هذه هي بيت القصيد في هذا المثال، فإذا لم يكن الشعير والجبن في حالة دوران مستمر أثناء تناولها لترسبا في قاع الدورق ووجدت نفسك تحتسي خمرا عادية. إذن فالجرعة تعتمد على الحركة. ويجسد هذا المثال ما يعتبره هرقليطس حقيقة مبهمة عن الطبيعة ككل، بمعنى أن خصائص الطبيعة تعتمد على الحركة أو التغيير. ثم يضرب مثالا آخر بالأنهار قائلا: «إذا نزل الإنسان في النهر ذاته مرتين فسيجد ماء جديدا في كل مرة.» ويلفت هرقليطس أنظارنا في هذا المثال إلى حقيقة أن كل نهر يتكون من مياه تتغير باستمرار، فإذا ما نزلت اليوم في مكان معين من نهر التيمز مثلا ثم نزلت غدا في المكان نفسه فأنت في الحقيقة تنزل في ماء جديد كل مرة. ويرى هرقليطس أن ما يحدث مع الأنهار ينطبق بشكل أو بآخر على كل شيء حولنا بما في ذلك النفس البشرية، فالأمر كما ذكر في أحد الشعارات القديمة: «كل شيء يطفو.»
ولا يحدث هذا التدفق بصورة هادئة «فالحرب أصل كل شيء وذروة كل شيء» كما يقول هرقليطس بشكل مأساوي. ولكن لماذا طعم هرقليطس نظريته عن التغير المستمر بفكرة خيالية حول وجود الصراع؟ بما أن الطبيعة تؤثر الخفاء والإبهام فليس حتما أن يكون كل ما توصل إليه هرقليطس موافقا للسليقة. وقد تكشف مقولته التالية عن الأضداد جانبا من الإجابة؛ إذ يقول:
كان هوميروس مخطئا عندما قال: «هل سيأتي يوم وتضع الصراعات والحروب بين الآلهة والبشر أوزارها؟» ذلك أنه لا يمكن أن يصدر نغم دون أصوات عالية وأخرى منخفضة، وكذلك لا يمكن أن توجد حيوانات دون الذكور والإناث، وكلها تمثل أضدادا.
ويمثل الضد عند هرقليطس الغريم أو الخصم؛ وبذلك فإن الموسيقى تنطوي على صراع داخلها لأنها تستخدم كلا من الأصوات العالية والمنخفضة التي تقع على نهايات مختلفة في السلم الموسيقي. وفي الواقع إن انتقال هرقليطس من مصطلح «الضد» إلى «الخصم» ثم إلى «الصراع» ومنه إلى «الحرب» كما لو كان الأمر جليا أن كل ضد مستغرق بشكل ما في حالة من الحرب، قد يعكس صورة المعركة الأبدية بين العناصر المادية كما يصفها أناكسيماندر حين يتحدث عن مفاهيم العقاب والقصاص والعدالة. وبينما كان أهل ملطية يرون أن الحرب متمثلة في التفاعل بين العناصر، وهو شكل التغيير الذي اهتموا به أكثر من غيره؛ فإن هرقليطس قد وسع فكرة التغيير أو الاختلاف وخرج بها إلى رحاب أوسع، واقتبس صورة النزاع التي رسموها في كتاباته وأعماله؛ ففي مثال الأنهار التي لا تخلو من جموح أو عنف بأي حال من الأحوال نجد أنه ليس من الحكمة أن نبحث عن دليل وجود الصراع في الشيء الواحد؛ لأن هذا سيفقدنا تركيزنا ويجعلنا لا نرى الأمور على حقيقتها. ويرى هرقليطس أن الأنهار المتدفقة تمثل جزءا من صورة الصراع الدائر بين العناصر فيقول: «يولد الهواء حال موت النار، وتولد المياه بموت الهواء.»
وقد وضع هرقليطس أحد هذه العناصر في منزلة تعلو سائر العناصر الأخرى؛ فقد كان أحد هؤلاء المفكرين الذين هوستهم النار؛ فالكون عنده «نار أبدية لا تنطفئ، بل تشتعل بمقدار وتخبو بمقدار.» بل قال: «إن جميع الأشياء تعد معادلة للنار، تماما كما نحصل على البضائع عن طريق الذهب ونحصل على الذهب عن طريق بيع البضائع.» وهنا يشبه هرقليطس الدور الذي يلعبه الذهب في عملية التبادل التجاري بالنار ودورها في إحداث التغيير المادي، ولكن هذا ينطوي على شيء من المبالغة، فالنار (على الأقل بمعناها المتداول) لا تدخل في كل عملية للتغيير المادي، إذن ما الذي يجعلها فريدة بين العناصر الأخرى؟ ربما كان هرقليطس يتبنى نظرية التغير الدوري للكون، والتي تقول إن كل شيء يتحول بصفة دورية إلى نار في سلسلة متعاقبة من الحرائق الكونية. وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يعد مؤشرا على أن النار تدخل في تكوين جميع الأشياء من حولنا. وإذا ما سلمنا بصحة هذه الفكرة فإننا نجد أن النار تتلاءم بشكل كبير مع مفهومه عن الطبيعة على أنها في حالة من الهياج والاضطراب الدائمين، حتى وإن لم نر مواقد كونية بأعيننا؛ لأن ألسنة اللهب تجسد صورة الصراع الدائر في قلب الأشياء؛ وبهذا فإن لهبا مشتعلا بشكل منتظم (كلهب شمعة على سبيل المثال) يعد أحد تجليات هذا التغيير المستمر الذي يحدث في الخفاء تحت قناع الاستقرار الظاهري؛ حيث إنه يستطيع أن يظهر في حالة من الاستقرار أو الثبات الظاهري لأنه يتغذى على بعض الوقود بشكل دائم، تماما مثل النهر الذي يحتاج إلى تدفق دائم من المواد الجديدة. هذا بالإضافة إلى أن النار هي العنصر الوحيد الذي يمكن ملاحظة كيف يقوم بتحويل شيء ما إلى شيء آخر (كتحويل الخشب إلى رماد مثلا)؛ وبهذا فهو يلعب الدور الحيوي في إحداث التغيير. وكل هذا يتلاءم مع الصورة والمفهوم العامين لدى هرقليطس عن الهياج والاضطراب الدائمين.
وكذلك ربط هرقليطس أيضا بين النار والروح والرب و«المبادئ» التي تحكم العالم، إلا أنه لا يبدو ثمة أي رابط بين هذه العناصر من الوهلة الأولى. وهنا يفرق هرقليطس بين نوعين من النار؛ فالنار الإلهية أو النار الروحية تختلف عن ذلك اللهب العادي الذي نراه يحرق الأشياء على الموقد، فهي «أثير» السماء؛ ذلك الهواء المخلخل الساخن الجاف الذي يهبط من الممالك العليا، وهي التي اعتبرها المفكرون الأوائل الينبوع الذي خرجت منه كافة الأرواح. وكما نرى، لقد اعتبر هرقليطس الروح كيانا عاقلا يفكر؛ ولذلك فهو يرى أن ثمة تشابها قويا بين الينبوع الذي خرجت منه كافة الأرواح والمبادئ المسيرة للطبيعة، فكما ينظر للروح على أنها الدافع وراء أفعال الإنسان والقوة المحركة لها؛ فإن الروح التي تهيمن على العالم أيضا هي المبدأ الحاكم له ومصدر كل ما نراه فيه من أحداث وظواهر. وليس من الغريب أن يصف الإغريق هذه الروح المهيمنة على العالم والتي تتصف ب «السرمدية». وقد اعتدنا أن ننظر للنار كآلة للدمار العشوائي، ولكن هرقليطس يعتبرها القوة المنظمة التي تحفظ التوازن بين العناصر. وكانت النار تدخل بشكل جوهري في عمليات التناوب بين الساخن والبارد والرطب والجاف. وقد اهتم الملطيون بذلك الأمر كثيرا (فقالوا: «إن البارد يسخن، والساخن يبرد، والرطب يجف، والجاف يترطب»).
وأشار هرقليطس في أكثر من موضع إلى مسألة تعاقب النوم واليقظة والحياة والموت، وكان يعزو هذه التغيرات التي تصيب العالم إلى ظاهرة المد والجزر التي تحدث بين العناصر المادية؛ فيقول على سبيل المثال إن الموت يحدث عندما تصبح الروح رطبة للغاية، ولكن هذه الرطوبة تتحول إلى حياة في النهاية فقال: «إن الأرواح يصيبها الموت عندما تتحول إلى مياه، وتموت المياه عندما تتحول إلى تراب، ومن هذا التراب تنبع المياه مرة أخرى لتخرج منها روح جديدة.» وهذه العملية الدورية التي تقود فيها المياه إلى الحياة وإلى الموت أيضا تبعا لمكانها في الدورة تبين إلى أي مدى يمكن للأضداد أن تتضافر.
ويأخذنا هذا إلى المكون الأخير في الصورة التي رسمها هرقليطس؛ ألا وهو وحدة الأشياء، والذي يتناول كيف تتماثل الأضداد. وقد كفر هرقليطس لسابقيه من الحكماء عدم تقديرهم لهذه الحقيقة، حتى هسيود الذي يعتبره هرقليطس أكثر الفلاسفة حكمة وأوفرهم علما لم يستطع أن يدرك حقيقة الليل والنهار وأنهما «شيء واحد». كان هسيود يرى أن الليل نوع من قوى الظلام التي تغطي مؤقتا على النهار، وهو ما يشبه اعتقاد أحد الفلاسفة الخرافيين لدى الكاتب الروائي الهزلي (فلان أوبراين) أن الليل حالة غير صحية للجو تسببها تراكمات من الهواء الأسود. ويبدو أن هسيود لم يكن ليدرك حقيقة أن الليل والنهار وجهان لعملة واحدة؛ ولذلك رأى هرقليطس أن هسيود قد فاته أمر جلل عن العالم. وهناك من الأمثلة الكثير الذي يدلل على فكرة وحدة الأضداد نذكر منها:
إن الطريقين الصاعد والهابط ليسا سوى طريق واحد.
إن الحي والميت والنائم واليقظ والصغير والكبير ... كلها أشكال لشيء واحد.
إن المرض هو الذي يجعل الصحة أمرا جميلا فيه من الخير الكثير، والجوع هو ما يسبب التخمة، والتعب يمهد طريقا للراحة.
إن البحر هو أكثر منابع الماء نقاء وأكثرها تلوثا؛ فهو للأسماك صالح للشرب وحافظ للحياة، بينما لدى الناس غير مستساغ الشرب ويوردهم المهالك.
وهذه أمثلة أربع تجسد علاقة الوحدة بين الأشياء المتضادة ظاهريا لدى هرقليطس. أما المثال الأول فهو مثال واضح وصريح؛ فالطريق المؤدية إلى أعلى التل هي نفسها طريق النزول منه، تماما كالمدخل يخرج الإنسان منه. أما المثال الثاني فيعتريه بعض الغموض حيث إن من على قيد الحياة ليس بالطبع ميتا، والفتاة الصغيرة ليست فتاة كبيرة في الوقت ذاته، وكذلك الإنسان النائم ليس يقظان، ولكن كما يرى هرقليطس ووفقا لرؤيته ومفهومه حول عملية إعادة تدوير الكون؛ فإن هذه الأضداد تنتهي إلى الشيء ذاته، فالنائم لا بد وأن يستيقظ، واليقظ لا بد وأن ينام، وكذلك الحي لا محيص له من الموت، والأموات يبعثون إلى الحياة مرة أخرى (وكذلك فكل قديم سيصبح جديدا). أما المثال الثالث الذي يتحدث عن الصحة والمرض والأزواج الأخرى فيبدو أن هرقليطس يقصد أن الإرهاق هو ما يعطي للراحة معنى والمرض هو ما يعطي للصحة معنى والعكس صحيح. أما المثال الرابع فيعرض شكلا جديدا من أشكال الترابط بين الأضداد، فيقول فيه إن المادة الواحدة قد تكون لها تأثيرات متناقضة على الكائنات المختلفة.
ونستخلص من هذه الأمثلة أن هرقليطس يرى أن كل ضدين ليسا شيئين في حقيقتيهما بل شيء واحد كما هو الحال مع الليل والنهار؛ فهما شيء واحد لا شيئين. ولكننا نرى أن هذا يعد من قبيل التعميم المبالغ فيه ولا نجد فيه من الأهمية إلا قليلا. ويمكننا على سبيل المثال توضيح المظاهر التي يكون النوم فيها مختلفا عن اليقظة على الرغم من وجود رابط بينهما، ويمكننا أن نسرد العديد من الفوارق بين ما تعنيه كلمة «الضد» وكلمة «الشيء نفسه»، وهو ما يجعل حديث هرقليطس يعجز عن إقناعنا بالحكم على الأضداد بالتشابه. ولكن كما نعتقد أن سرد هذه الفوارق من الأهمية بمكان، فقد بدا لهرقليطس أن تسليط الضوء على العلاقات القائمة بين الشباب والشيخوخة والصحة والمرض وطرق الصعود وطرق النزول وغيرها شيء ذو أهمية بالغة، حيث اعتقد أن ذلك سيساعده على فهم هذه الأشياء. وكما كان فيثاغورس مفتونا بالعلاقة بين الإيقاع الموسيقي والأرقام - وهو ما جعله يقول إن جميع الظواهر يمكن تفسيرها عن طريق الأرقام بطريقة أو بأخرى - فإن هرقليطس كان مولعا بفكرة العلاقة بين الأضداد مما حدا به إلى القول في النهاية: «إن كل الأشياء شيء واحد.» •••
ومن بين الأشياء العديدة التي لا تبدو من النظرة الأولى أنها تنطبق عليها فكرة «أن كل الأشياء شيء واحد» هو فكر هرقليطس نفسه؛ إذ يبدو مناقضا لنفسه كما سيتضح لنا الآن. فمن جانب يرى هرقليطس التغير الدائم والصراع أينما ولى وجهه، ومن جانب آخر يبدو هذا الصراع وكأنه معركة تثير الضحك حيث إن الأضداد المتناحرة - مثل العناصر أو الليل والنهار أو الشباب والشيخوخة - ينتهي بها الحال إلى طريق واحد. ويبقى السؤال إذن: هل ثمة تغير مستمر وصراع كما يقول هرقليطس أم لا؟ والإجابة هي نعم، توجد هذه الأشياء ولكن التغير المستمر والاستقرار والوحدة والتنوع وجهان لعملة واحدة كالليل والنهار. ولنمعن النظر في مثال النهر مرة أخرى، فهو نهر واحد، لكنه يتكون من مياه عدة، ورغم أنه يتكون من مياه عدة فهو يبقى نهرا واحدا. ومن هنا يمكننا أن نجمع جل أفكار هرقليطس عن الصراع والوحدة في إطار واحد، ورغم أنه لم يصرح بهذه الفكرة أبدا فهذا التفسير المزدوج للتغير المستمر في الشيء الواحد أو لوحدة الأشياء المتغيرة يبدو هو المبدأ الذي اعتقد أن المفكرين الأوائل لم يدركوه. •••
وقد عجز بعض المفكرين اللاحقين عن إدراك ما كان يحدث حتى بعد محاولات هرقليطس لشرحه وتفسيره؛ فقد أساء أفلاطون مثلا لهرقليطس حينما قام بنشر أفكاره بشكل يشوبه التحريف والتشويه، فقد اعتمد أفلاطون على فيلسوف يدعى قراطيلوس ألم بجانب واحد من فكر هرقليطس ثم هب يتحدث به دون مراعاة لباقي الجوانب. وقد ردد أفلاطون ومن بعده تلميذه أرسطو آراء قراطيلوس، ثم فسر غالبية من تلاهم من المفكرين أفكار قراطيلوس من وجهة نظرهم الشخصية فحسب.
ويرى قراطيلوس أن جميع الأشياء تعاني حالة من التغير الدائم والمستمر؛ وبهذا فلا يمكن لإنسان أن يقول أية معلومة صحيحة عن شيء ما إذ هو في تغير مستمر وسريع. ولذلك أشار أرسطو إلى «أفكار ... هرقليطس وأتباعه مثل ... قراطيلوس، الذين انتهوا إلى أنه ليس من الصواب أن يقول الإنسان شيئا بل أن يشير بإصبعه فقط.» وفي إحدى محاورات أفلاطون قام سقراط بتحليل هذه الفكرة المتطرفة التي نتجت عن حالة سيئة من التغير العقلي فقال:
في سعيهم للوقوف على حقيقة طبيعة الأشياء، دائما ما يصاب كثير من الفلاسفة المعاصرين بحالة من الدوار نتيجة سعيهم المستمر في كل اتجاه، ولكن يخيل لهم أن العالم هو الذي يدور من حولهم ويتحرك في جميع الاتجاهات. ويعتقدون أن هذه هي طبيعة الطبيعة على الرغم من أنها تنبع من داخلهم؛ فهم يظنون أنه ليس ثمة شيء ثابت أو مستقر ولا يوجد إلا التغير المستمر والحركة.
وما إن نسب أفلاطون هذا الهراء إلى هرقليطس حتى سهل عليه أن يسخر ممن يزعمون أنهم أتباع هرقليطس (الذين لم يتبق منهم سوى قراطيلوس) فقال:
لا سبيل لمناقشة مبادئ هرقليطس ... فحتى عندما تتحدث مع أهل مدينة أفسس الذين يزعمون أنهم على علاقة حميمة بأتباع هرقليطس، قد تشعر أنك تتحدث مع شخص مجنون؛ فهم في حالة من الحركة السرمدية تماما مثل أطروحاتهم ... وعندما تطرح سؤالا تجدهم في الإجابة يتصيدون من منهجهم المضطرب حكمة أو مثلا تنبئيا ليشنوا به هجومهم عليك، وإذا ما حاولت أن تصل إلى أي معنى لحديثهم فسيباغتونك بمثل آخر ويطعمونه باستعارة جديدة زائفة؛ ولذلك فلن تصل إلى أية إجابة شافية عند الحديث إلى أي منهم؛ إذ إنهم ببساطة لا يتفقون حول رأي واحد، ولكنهم يصبون جل تركيزهم على عدم ترك أية أرض صلبة يمكنك الوقوف عليها سواء في خطابهم أو في عقولهم.
ومن أشهر ما قال هرقليطس والذي يبدو أنه يدعم التفسير المتطرف الذي قدمه أفلاطون وأرسطو هو مقولته الشهيرة: «لا يستطيع الإنسان أن ينزل في النهر نفسه مرتين.» والفكرة وراء هذا المثال واضحة وضوح الشمس في كبد السماء، فبما أن المياه التي تشكل النهر في حالة تغير مستمر فمن ثم ينزل الإنسان نهرا جديدا في كل مرة، ولكن السؤال: إلى أي مدى ينبغي لنا أن نأخذ هذا المثال على محمل الجد؟ وفقا لرأي قراطيلوس المتطرف علينا أن نأخذه على معناه الحرفي، فالأنهار كما نعرفها ليست موجودة؛ إذ لو افترضنا وجود نهر التيمز فهو لا يوجد إلا في لحظة عابرة لا يلبث حتى يتحول إلى نهر آخر. وتشير بعض الاعتبارات الأخرى المتعلقة بتفسير قراطيلوس إلى صحة هذه النتيجة فيما يتعلق بكافة الأشياء، فالأشياء كلها تتكون من مواد دائمة التغير، وهو ما لخصه سقراط في عبارة قال فيها: «ليس ثمة شيء ثابت أو مستقر فلا يوجد إلا التغير المستمر والحركة.»
ولكن إذا أمعنت النظر في هذا الكلام فستجده على طرفي نقيض مع ما قاله هرقليطس سابقا بشأن النهر؛ إذ يقول: «إذا نزل الإنسان في النهر ذاته مرتين فسيجد ماء جديدا في كل مرة.» وهو في هذا المثال يتحدث بوضوح عن مياه مختلفة تتدفق في النهر نفسه؛ أي إن وجود مياه جديدة لا يقتضي بالضرورة خلق أنهار جديدة؛ ومن ثم فيمكنك أن تخوض النهر نفسه مرتين. ويبدو أن ما فعله قراطيلوس وأفلاطون وأرسطو هو أنهم أخذوا شطرا واحدا من فلسفة هرقليطس ذات الحدين وتجاهلوا الشطر الآخر تماما. ومن المستحيل أن تفهم هرقليطس إذا زعمت كما زعموا أنه كان يقصد ما يفهم حرفيا من كلامه أنك «لا تستطيع أن تخوض النهر نفسه مرتين.»
ومما زاد هرقليطس فخرا وتيها أنه اكتشف حقيقة أن الأنهار وسائر الأشياء الأخرى هي في حالة من التغير المستمر حتى وإن ظهرت لنا على خلاف ذلك، وهي الحقيقة التي حاول أن يلفت إليها أنظارنا، ولكنه لم يفكر أن هذه الأنهار وتلك الأشياء في حالة شديدة من الفوضى لدرجة أنك لا تستطيع أن تناقشها، ولا قيمة لها على الإطلاق كما قال قراطيلوس. وفي النهاية لم تؤد هذه المبالغة الفجة إلا إلى إدحاض ما كان يحاول أن يقوله وتفنيده، فلو افترضنا عدم وجود الأنهار فلن تكون إذن محمومة بهذا التغير المستمر بل لن يكون بها أي شيء .
لقد استطاع أفلاطون على الأقل أن يستخدم تفسيره المغلوط لفلسفة هرقليطس على نحو مثمر، فرغم أنه سخر مما اعتبره نظرية هرقليطس فقد رأى أن بها قسطا من الحقيقة، فأفلاطون كما يقول أرسطو:
كان مقتنعا بحقيقة عقيدة هرقليطس وفلسفته التي تقول إن كل ما ندركه بالحواس فان وهالك؛ ولذلك إذا كان للمعرفة أو التفكير هدف فلا محيص من أن تكون ثمة أشياء ثابتة لا تتغير غير تلك التي ندركها بالحواس إذ ليس هناك معرفة عن شيء لا يلبث أن يتغير.
وبذلك نجد أن مبالغة أفلاطون فيما قاله عن هرقليطس أدت إلى إثارة تساؤل جوهري: كيف لنا أن نصل إلى معرفة يقينية عن عالم متغير؟
وقد أدى التركيز على هذا السؤال إلى إغفال ما هو أكثر خداعا وتضليلا فيما قاله هرقليطس، فأفكاره لم تتطور على يد أي شخص آخر؛ ذلك أنها ربما لم تكن لتصل إلى نتائج مختلفة إذا ما حاول شخص آخر أن يتناولها بالدراسة. لكن شخصا آخر عاش في زمانه تناول أحد موضوعاته بشكل مستقل فشكل المرحلة التالية والأهم في الفلسفة، فما قام به بارمنيدس - والذي سننتقل للحديث عنه في الفصل التالي - يعتبر تطورا لفكرة ترابط الأشياء عند هرقليطس. فكلاهما انتقد التفسيرات الأولى وما تلاها من تفسيرات لتطور الكون وما يقع فيه من ظواهر، وكلاهما عمل على تبديل هذا الاعتقاد بفكرة وحدة الأشياء، ولكن شتان الفارق بين هاتين الرؤيتين، فبارمنيدس يرى أن لا شيء يتغير على الإطلاق، بينما يرى هرقليطس أن الأشياء جميعها في تغير مستمر (وإن لم يكن على النحو المبالغ فيه كما عند قراطيلوس)، ولكن أفكار بارمنيدس كان لها الأثر الأكبر، في الوقت الذي لم يتبق فيه من أفكار هرقليطس إلا ما اختلسه أفلاطون منها.
ولذلك يرجع الفضل إلى أفلاطون في محو الوجه الحقيقي لفلسفة هرقليطس من ذاكرة تاريخ الفلسفة؛ إذ قدم سوء الفهم والتبسيط المبالغ فيه يد العون لهرقليطس ليبقى غامضا مبهما لا يدرك كنهه، بل قيل إنه أراد أن تظل عقيدته في طي الخفاء، وهو ما حدث بالفعل كما أراد.
الفصل الرابع
حقيقة اللاشيء: بارمنيدس
كان ظهور بارمنيدس أشبه بثعبان يلج جنة الفلسفة اليونانية، ولكنه لم يأت ليهب المعرفة، بل جاء مهددا بانتزاعها، فحجج بارمنيدس قوضت بنيان التفسيرات السابقة التي ناقشت مسألة الطبيعة. لقد حاول معظم العلماء الأوائل الوصول إلى تفسير لكيفية تطور الكون، أما بارمنيدس فقد حاول أن يبرهن أن الكون لم يتطور بالمرة. وكذلك حاول المفكرون الأوائل أن يبحثوا عن تفسير للأحداث في عالم متغير يكتظ بالظواهر المتنوعة فجاء بارمنيدس ليبرهن أنه ليس في الكون ما يعرف بالتغير أو التنوع؛ إذ إن الواقع عنده يتكون من شيء واحد يتصف بالكمال والثبات والخلود. وبعد رحيل بارمنيدس وتلاميذه كان لزاما أن يعاد بناء صرح المعرفة الذي هدموه وقوضوا أساسه بما خلفوه من أدلة وبراهين محيرة.
رغم هذا لم ير بارمنيدس أنه جاء ليهدم، بل اعتقد أنه جاء ليخرج الناس من ظلمات الجهل والضلال إلى أنوار الحق والمعرفة ويصل بهم إلى ما سماه «طريق الحقيقة». ومن أجل التأكيد على هذه الغاية صاغ بارمنيدس تفسيره في شكل وحي ادعى أنه نزل عليه من إحدى الإلهات خلال رحلة سماوية فقال:
وقد حيتني الإلهة برفق وأخذت يدي اليمنى في يمناها وخاطبتني قائلة: «تحياتي أيها الشاب الصغير، يا من حضرت إلى منزلي في صحبة الخالدين من السائقين تجرك الجياد. لم يخبئ لك القدر شرا عندما كتب عليك أن تسلك هذا الطريق الذي ينأى كثيرا عن طرق البشر، بل إنه كتب لك الحق والعدالة، وإنه لحق لك أن تنهل العلم كل العلم هنا.»
لا نعرف عن كاتب هذه الأسطر إلا قليلا. وإن كنا نعرف الكثير عن حياة هرقليطس فلا نعرف عن بارمنيدس إلا قليلا، فليس لدينا إلا ما تبقى من رفات أفكاره؛ إذ لم نقف على أي من أخبار حياته الخاصة. ويوضح وصف أفلاطون للقاء سقراط وبارمنيدس أنه ولد حوالي عام 515ق.م. وكان حينها بالتأكيد أصغر سنا من هرقليطس وأكبر من سقراط. وبالإضافة لذلك يمكننا القول إنه قد عاش هو وتلميذه زينون في مدينة إيليا وهي إحدى المستعمرات الأيونية على الساحل الغربي لإيطاليا، وقد كان على قدر لا بأس به من الثراء والنبوغ شأنه في هذا شأن الكثير من فلاسفة عصره.
ويبدو أنه لم يستق أفكاره من أي مصدر وكأنها نزلت عليه من السماء؛ فقد زعم البعض أنه أحد الفيثاغوريين المنشقين عن إيطاليا معتمدين في زعمهم هذا على قدومه منها، ولكن في الحقيقة لا يوجد دافع حقيقي للقول بصحة هذا الأمر اللهم إلا استخدامه الأدلة الاستنباطية التي افترض الناس أن الفيثاغوريين استخدموها في الرياضيات في الوقت ذاته تقريبا. ويقال كذلك إنه كان أحد تلامذة الشاعر ورجل اللاهوت زينوفانيس، ولكن هذا القول قد يكون مضللا بعض الشيء - وإن صح - لأن فكر بارمنيدس يتميز بالأصالة ولا يبدو أنه استقاه من أي شخص كائنا من كان.
وكما سنرى لاحقا، فإن بارمنيدس قد تلاعب كثيرا بمفهوم «اللاشيء» بطريقة تذكرنا بالنكات الساخرة التي حيكت حول مصطلح «لا أحد» الذي لم يستطع لويس كارول أن يقاومه فقال:
استأنف الملك حديثه مع الرسول باسطا إليه يده ليناوله مزيدا من القش وسأله: «من قابلت في الطريق؟»
فأجاب الرسول: «لا أحد.»
فرد الملك: «صحيح، هذه الفتاة رأته أيضا؛ لذا بالتأكيد لا أحد يمشي أبطأ منك.»
قال الرسول بنبرة عابسة: «لقد بذلت ما في وسعي، وأنا على يقين أن لا أحد يمشي أسرع مني.»
فأجابه الملك: «حقا لا يمكنه أن يفعل ذلك وإلا لسبقك إلى هنا.»
وهناك كثير من النكات التي كانت متداولة بين اليونانيين منذ عهد هوميروس؛ ففي الأوديسة مثلا يروى أن عملاقا وسيما وغبيا في آن واحد يدعى بوليفيموس قد أمسك بأوديسيوس وسأله عن اسمه - وكان أوديسيوس معروفا بحيله وألاعيبه الماكرة - فأجابه: «لا أحد.» ثم قام أوديسيوس بفقء عين هذا العملاق الذي لم يكن له إلا عين واحدة، فانتبه جيران بوليفيموس على صراخه من شدة الألم وهرعوا ليقدموا له يد العون فأخبرهم أن «لا أحد» قد تعرض له بالأذى، وهو ما أساء جيرانه فهمه فرجعوا عنه وتركوه وحيدا. ويسعنا القول هنا إن هذه القصة تنطوي على لب فلسفة بارمنيدس، ولكن استغلال بارمنيدس للتلاعب بالألفاظ في هذه القصة اتخذ شكلا جديدا.
كما أن الشكل الذي اختاره لكتابة أعماله لم يكن مألوفا على الأقل بالنسبة للفلاسفة؛ فقد استخدم الشعر سداسي التفعيلة وهو الشكل الذي كان شائعا منذ عهد هوميروس وهسيود وكثير من الشعراء الأقل شأنا. ولم يكتب بالشعر من فلاسفة ما قبل سقراط سوى زينوفانيس وإمبيدوكليس. وعلى عكس زينوفانيس يقلد بارمنيدس الأسلوب والخيال اللذين استخدمهما الشعراء الملحميون في مقدمة قصائده على الأقل. وتذكرنا رحلته برحلة أوديسيوس إلى هاديس، كما أن الإلهة التي ألقت عليه التحية تذكرنا بربات الشعر اللاتي كن يوحين بالرؤى الشعرية التقليدية. وهكذا تقول الإلهات اللاتي كن على جبل هيليكون - واللاتي ظهرن في مقدمة قصيدة «ميلاد الآلهة» لهسيود - للشاعر: «إننا لندري كيف نتحدث بالكذب كما لو كان صدقا، ولكننا كذلك ندري كيف نتحدث بالحق متى أردنا ذلك.» وبالمثل فإن إلهة بارمنيدس أخبرته أنها ستحدثه بحديث يختلط فيه الحق بالباطل فقالت: «كل من القلب الراسخ للحقيقة الكاملة وآراء الخالدين التي لا يعول عليها أبدا.»
ولحسن حظ بارمنيدس - أو بالأحرى لحسن حظ قرائه - ظلت كلمات الإلهة الصادقة بمنأى عن كلماتها الزائفة. وتتكون قصيدة بارمنيدس التي لم يتبق منها سوى 150 بيتا من ثلاثة أجزاء هي المقدمة التي كتبت على غرار مقدمات القصائد البطولية التي سبق أن اقتبسنا منها جزءا، والجزء الثاني الذي يتحدث عن «الطريق إلى الحقيقة» والذي يتسم بشيء من الكثافة والغموض والذي يقول فيه بارمنيدس إن العالم سرمدي جامد لا يتغير ولا يتبدل، ثم الجزء الأخير الذي قد يؤدي إلى خداع القارئ باعتراف بارمنيدس نفسه ويسمى «طريق التجلي» والذي لم يتبق منه سوى فقرات صغيرة. ويسهل فهم هذه الأسطر القليلة التي تأتي في نهاية القصيدة؛ فهي تقدم تفسيرا طبيعيا للعالم المادي المتغير. ويظل السبب الذي دعا لكتابتها مبهما، فلماذا تقدم الإلهة تفسيرات أقرت بنفسها أنها خادعة ومضللة وتتناقض مع ما ورد في الجزء السابق عليها «طريق الحقيقة»؟ وسأرجئ الإجابة على هذا السؤال قليلا؛ فالجزء الأهم من القصيدة هو «طريق الحقيقة» وبه يجب أن نستهل حديثنا. (ولكي يسهل فهم هذا التفسير سأتناول بعض أفكار ميليسيوس وهو أحد تلاميذ بارمنيدس المخلصين والبسطاء، ثم أشرح طريقة تفكير بارمنيدس بشكل يتلاءم مع فكره العام.) •••
لقد بدأ بارمنيدس بفكرة بسيطة حول الفكر واللغة ثم حول هذه الفكرة إلى فلسفة كاملة. لقد قال إنه ليس بوسع أي إنسان أن يفكر في شيء غير موجود أو يتحدث عنه؛ فهذا من وجهة نظره يعادل الحديث عن اللاشيء، والشخص الذي يتحدث عن اللاشيء أو يفكر فيه لن يستطيع أن يتحدث أو يفكر بشكل سوي بأي حال من الأحوال؛ ولذلك علينا أن نمحو الأشياء غير الموجودة أو اللاشيء تماما من فكرنا. وعجب عجاب أن نجد أن الأمر ليس بالسهولة التي يتحدث بها بارمنيدس، فهذه الأفكار السلبية موجودة في كل شيء حولنا. ويوضح ذلك على سبيل المثال أنه لا سبيل لنا للحديث عن أن شيئا ما قد خرج إلى الوجود؛ إذ يتضمن ذلك أنه لم يكن موجودا من قبل، وهذا بالنسبة لبارمنيدس ضرب من المستحيل فلا يمكننا أن نتحدث عن شيء غير موجود. وبالمثل لا سبيل لنا إلى الحديث عن شيء سينقطع يوما من الوجود؛ لأن هذا ينطوي على الفكرة المستحيلة أنه سيأتي عليه يوم يكون فيه لا وجود له، ولذلك فلا ينبغي أن ندعي أن هناك شيئا سيأتي إلى الوجود أو ينقطع عنه؛ ولذلك فكل الأشياء خالدة.
وهذه الفكرة في حد ذاتها كافية لإثارة الدهشة؛ فكلنا يرى أن الأشياء تولد وتموت وتأتي إلى الوجود ثم تنقطع عنه، ولكن الأسوأ لم يأت بعد، إذ يترتب على فكرة بارمنيدس بأنه لا يمكننا الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه أن لا شيء يتغير أبدا؛ لأنه إذا تغير أي شيء فإن هذا يعني أنه كان موجودا في وقت معين بشكل معين ثم أصبح غير موجود في وقت آخر، ولكننا لا نستطيع الحديث عن شيء غير موجود؛ ولذلك لا نستطيع الحديث عن التغيير. ويستتبع ذلك أيضا أنه ليس ثمة شيء يتحرك، فحركته تعني أنه في وقت ما كان موجودا في مكان معين ثم انتقل من مكانه ذاك إلى مكان آخر فأصبح غير موجود في مكانه الأول. ولا يسعنا أن نتحدث عن انعدام وجود الشيء في مكان معين؛ لأن هذا ينفي قدرته على الحركة. وإذا كان بارمنيدس مصيبا في تفكيره، فليس في اعتقاد هرقليطس بكون دائم الاضطراب إلا محض الخطأ.
يرى بارمنيدس أيضا أن وجود أي شيء يقتضي كونه في حالة من الكمال التام، فإذا افترضنا أن هذا الشيء ينقصه أو كان ينقصه جزء ما في وقت من الأوقات؛ فهذا يعني أن هناك جزءا منه ليس موجودا، وهو أمر لا يمكننا الحديث عنه أو التفكير فيه؛ ومن ثم فإن تفسيرات أناكسيماندر وأناكسيمينس لا بد أن تكون خاطئة إذا افترضنا صحة أقوال بارمنيدس، إذ لم يمر الكون بمراحل التطور التي قالوا بها أو بأي شكل آخر؛ لأنه وجد على حالته تلك من الكمال التام. وفي سياق الجدل حول الكون وعدم تطوره عبر الزمن يقدم لنا بارمنيدس سببا آخر على فكرة عدم انبثاق الكون من اللاشيء متسائلا: «ما الذي دفع الكون إلى الوجود من العدم لاحقا وليس سابقا؟» أي «لماذا نشأ الكون من العدم في تلك اللحظة دون غيرها؟» ويبدو أن هذا السؤال لم يحاول أحد قبل بارمنيدس الإجابة عليه.
وبما أن الكون أو «الموجود» كما يحب أن يسميه بارمنيدس لا يتغير في كل الأوقات فهو لا يتغير في أي مكان؛ فلا مكان فارغ في الكون لأن هذا يعني أنه لا يوجد شيء في هذا المكان، وهو ما يرفضه بارمنيدس تماما؛ إذ إن الوجود لا بد أن يوجد ممتلئا بكامله. وأخيرا، بما أن بارمنيدس يعتقد أن «الموجود» يتسم بالاتساق والوحدة فهو يرى أيضا أنه فريد لا مثيل له؛ أي إنه لا يوجد منه إلا شيء واحد، ولذلك قال مثلا: «إن الموجود يتسم بالكمال والتمام وانعدام المثيل.» ولأنه على ذلك الحال من الكمال (لأسباب أكثر تعقيدا قمت بحذفها ) ينهي بارمنيدس الجزء الخاص ب «طريق الحقيقة» بتشبيه غامض لذلك الشيء الواحد الموجود الفريد بالكرة، التي كان ينظر إليها اليونانيون على أنها الشكل الذي تتحقق فيه سمات الكمال. ويتميز هذا الشيء - كما يقول بارمنيدس - بأنه «متساو في بعده عن المركز من جميع الاتجاهات» وبهذا فنحن الآن نعلم الحقيقة أو بالأحرى حقيقة بارمنيدس التي لا تصدق؛ فليس ثمة ميلاد ولا موت ولا تغير ولا حركة ولا تنوع، فليس هناك سوى شيء واحد سرمدي لا يتحرك يتسم بالكمال وعدم القابلية للانقسام ويشبه الفلك. •••
من أهم سمات هذا الفكر أنه يتميز بالاتساق الذاتي؛ فبارمنيدس يعود مرارا وتكرارا لفكرة استحالة التفكير في شيء غير موجود، وهذا هو مصدر روعته. وانطلاقا من هذه الفكرة ينسج بارمنيدس شبكة عنكبوتية تمكنه من اصطياد أفكار التغيير والحركة والميلاد والموت والتنوع والنقص والتهامها جميعا، ولكنه لم يسلم من الخطأ الشديد في بعض الأمور التي علق عليها أرسطو قائلا: «رغم أن هذه الأفكار تبدو وكأنها تتبع نهجا منطقيا فالإيمان بصحتها يجعلنا على حافة الجنون إذا وضعنا في اعتبارنا الحقائق المعروفة.»
ولا تتناقض أفكار بارمنيدس مع المنطق السليم فحسب بل مع بعضها البعض وبطريقة جلية واضحة للعيان؛ فهو دائم الإنكار للأشياء، ومن ذلك على سبيل المثال أنه ينكر وجود الحركة أو الميلاد أو الموت، وهذا في حد ذاته يعد حديثا عن أشياء غير موجودة وتفكيرا فيها، وهذا وفقا لفكره وفلسفته ضرب من ضروب المستحيل. ومن الغريب أن تنكر كل هذا في حين أنك تتجنب الحديث عن الأفكار السلبية.
ولكن هذا الاعتراض لا ينفذ إلى صلب الموضوع؛ إذ إنه يبرهن على أنه ثمة خطأ فيما يقوله بارمنيدس - وهو أمر قد أدركناه على أية حال - ولكنه لا يحدد هذا الخطأ أو سببه، فنحن نحتاج إلى تشريح ما بعد الوفاة، لا مجرد شهادة وفاة. ولحسن حظنا، ليس علينا أن نتكلف عناء البحث الطويل حتى نصل إلى بغيتنا ونتعرف على مصدر الخطأ؛ فالخطأ ينبع من فكرته الأولى التي تقول إنه لا يمكننا الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه، فنحن بكل وضوح يمكننا أن نفعل ذلك مهما حاول بارمنيدس أن يخالفنا؛ فعلى سبيل المثال يمكننا أن نقول إن حيوانا خرافيا كالحصان وحيد القرن لا يوجد في أي مكان، وإن كريستوفر كولومبوس ليس على قيد الحياة الآن، وإن الطبشور ليس كالجبن، وإنني لا أمتلك أي رصيد في المصرف، والعديد من الأشياء الأخرى التي يعد الحديث عنها حديثا عن أشياء غير موجودة. وإذا كان هذا صحيحا - أي إذا أمكننا أن نتحدث عن أمور غير موجودة ونفكر فيها - فسيكون لنا أن ننكر النتائج التي توصل إليها بارمنيدس معتمدا على استنتاجاته الغريبة.
ولو كان بارمنيدس بين أظهرنا لما كان تحليلنا هذا ليقنعه، ولقال إن الناس يتوهمون قدرتهم على التفكير في أشياء غير موجودة والحديث عنها على خلاف الحقيقة؛ فهو يعتقد أن كل ما نفعله عند الحديث عن أشياء غير موجودة أو التفكير فيها ليس سوى «هراء لا طائل منه»، فكما تقول إلهته:
يجب أن تمسك بزمام فكرك وألا تدعه يتطرق إلى هذه الأمور، كما يتعين ألا تدع عادة الحديث عن هذه الأمور التي تمخضت عن كثير من التجارب تدفعك إلى ولوج هذا الطريق؛ فتجد نفسك تنظر إلى هراء لا طائل منه أو تسمع أو تتحدث عنه، ودع عقلك يحكم على كلماتي التي أثارت كثيرا من الجدل.
في هذه الفقرة تطلب الإلهة من الإنسان ألا يفكر إلا فيما يخبره به عقله، وأن ينظر في حديثها بعين الاستقصاء والعقل، وأن ينسى ما يمليه عليه المنطق السليم، وحينها سيرى الحقيقة جلية واضحة وضوح الشمس في كبد السماء.
كان من السهل علينا أن نفهم هذه النصيحة إذا أسهبت الإلهة في حديثها إلى بارمنيدس وأسهب هو في إيضاحها لنا؛ فأجزاء القصيدة التي تتناول تفسير فكرة استحالة الحديث عن شيء غير موجود والتفكير فيه معقدة ومبهمة وربما ليست كاملة، بالإضافة إلى أن بارمنيدس لم يكن من الشعراء المتمكنين؛ فكثيرا ما نجده يتعثر في إنشاء التفعيلة السداسية. بل وربما لو ناقش فكرته وعرض مبدأه هذا في قالب نثري مباشر لعجز كذلك عن تفسير ولعه الزائد بهذه الفكرة، للدرجة التي جعلت من الصعب أن يحاول شخص آخر فهمه وتفسيره من بعده. (ولعل ملك لويس كارول يزعم أنه ليس ثمة من هو أمهر من بارمنيدس أو أذكى منه). وعلى كل فما زال من الممكن أن نعيد بناء جزء من القصة حيث إن بارمنيدس لم يرتكب خطأ ساذجا فحسب في حديثه عما يمكن للمرء أن يفكر فيه ويتحدث عنه وما لا يمكن أن يفعل معه ذلك، بل على العكس يبدو أنه ارتكب خطأ ينم عن مهارة عالية.
لقد توصل بارمنيدس إلى أن عملية التفكير تتضمن اتصالا مباشرا مع الشيء الذي يفكر المرء فيه، وشبه عملية التفكير باللمس رغم عدم تصريحه بذلك، فكما يستحيل لمس شيء غير موجود فإن التفكير فيه أو الحديث عنه أمر مستحيل كذلك؛ فالتفكير في شيء غير موجود أشبه بمحاولة الإمساك بشبح، وهذا يوضح السبب وراء حذفه الأفكار السلبية مثل «اللاشيء» و«غير الموجود» مما قدمه من تفاسير للعالم.
ولعل مكمن المهارة في هذه الفكرة القائلة إن العقل يجب أن يكون على اتصال بما يفكر فيه هو أنها كانت جزءا من الإجابة على سؤال لم يشغل بال أحد قبله، ألا وهو: كيف للكلمات والأفكار داخل عقلك أن تصف الأشياء الموجودة في العالم الخارجي؟ أو بطريقة أخرى: كيف يتصل اللغة والفكر مع العالم الخارجي؟ والإجابة الوحيدة التي توصل لها بارمنيدس في هذا الشأن هي أن العقل لا بد له أن يتصل بالعالم الخارجي بطريقة ما، وإن كان هذا لا يفسر الأمور بوضوح ولكنه بداية لا بأس بها.
لا نستطيع الآن أن نفهم القضية بشكل أعمق من بارمنيدس، ولكن لا يزال هناك العديد من الأسئلة حول الفكر والمعنى لم نعثر لها على إجابات حتى الآن، وهي الأسئلة التي تشغل بال علماء النفس وعلماء اللغة النظريين والفلاسفة وعلماء الإدراك. ومنذ عهد بارمنيدس والسؤال الذي يؤرقهم جميعا هو معرفة كنه عملية التواصل بين العقل والعالم الخارجي والذي يفرز لنا الفكر واللغة. لقد صب كثير من الفلاسفة جم تركيزهم على هذه الأسئلة منذ مطلع القرن الماضي، وحمل كثير من إجاباتهم الأولى صبغة من فكر بارمنيدس، ولكن لم يذهب أحد منهم بعيدا رغم ذلك ويدعي أنه عند شروعك في الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه فإنك تقول هراء لا طائل منه. ويبدو أن هذه الفكرة لم يؤمن بها سوى بارمنيدس وتلاميذه.
كان أفلاطون هو أول من حاول أن يفكك شبكة بارمنيدس المعقدة بالاستفسار عما كان بارمنيدس يعنيه بفكرة «الحديث عن شيء غير موجود»، وأوضح أفلاطون العديد من الطرق المختلفة لاستخدام وصف «غير موجود»، وبين أن وضع هذه الحالات جميعا في سلة واحدة كما فعل بارمنيدس فعل فيه ما فيه من عدم النضج، وبين كذلك أنه حال إماطة لثام الغموض عن مفهومي «الموجود» و«غير الموجود» ستتلاشى أسباب الحيرة والتخبط عند الحديث عن «غير الموجود»، وسيكون من السهل أن ندرك أن استخدام مصطلحات سلبية أو إنكار الأشياء يختلف تمام الاختلاف عن التفوه بهراء لا طائل منه. ولم يقدم أفلاطون تصورا شاملا لعلاج هذه القضية، إلا أنه كان دافعا كافيا لتلميذه أرسطو أن يرفض فكر بارمنيدس وينحيه جانبا في قوله: «إن زعمه أن الحديث عن «الموجود» لا يكون إلا من طريق واحد لهو قول مغلوط وزائف؛ لأنه يمكن الحديث عنه بأشكال عدة.»
لكن قبل أن نحذف بارمنيدس من قاموس الفلاسفة بسبب ما قدمه من شعر رديء، ولعجزه حتى عن فهم لغته الأصلية، يجب أن نضع في اعتبارنا شيئا مهما وهو أن أدوات التحليل النحوي التي استعملها أفلاطون لتفسير مفهوم «الحديث عن شيء غير موجود» كانت قد استحدثها للتو الرحالة من المعلمين السفسطائيين الذين تجمعوا في أثينا في العصر الذي عاش فيه سقراط. ولم تكن هذه المصطلحات اللغوية شائعة في ريعان شباب بارمنيدس، ولعله لم يفكر فيها بشكل منهجي قط . ولعل أفلاطون وأرسطو لم يخطر بباليهما أن يفكرا في استخدام هذه المصطلحات أيضا لولا أن دفعتهما إلى ذلك كتابات بارمنيدس ومن سبقوه ، والتي تتميز بالغموض والتعقيد. ولم يكن بارمنيدس هو وحده من عجز عن إدراك بعض الحقائق حول اللغة والتي نعدها الآن واضحة بل تافهة. وفي الدفوعات التي قدمها بارمنيدس تجدر الإشارة إلى أن فكرة إيجاد وجه شبه بين التفكير واللمس التي يبدو أنها أعجبته ربما كانت مستعصية على الفهم في زمانه أكثر من الآن، فالفعل
noein
المستخدم في «طريق الحقيقة» والذي يعني «يفكر»، يحمل دلالات ومعاني مختلفة عما يحمله الفعل «يفكر» الذي نستخدمه الآن؛ فهو يعني كذلك إدراك حقيقة الأشياء في العالم عن طريق الحواس عادة؛ ولذلك فمعناه يكاد أحيانا يفوق ما يحمله الفعل «يدرك» من معان. وفي الواقع، قال أرسطو ذات مرة إن الناس في عصر بارمنيدس ومن قبله كانوا ينظرون إلى عملية الفهم بوصفها عملية جسدية مثل الإدراك. •••
وقد حلل أفلاطون فقرة «طريق الحقيقة» بلا رحمة ولا هوادة إلا أنه أعلى من شأن بارمنيدس وأظهر له كل تبجيل وتقدير واحترام. ففي إحدى محاوراته قال أفلاطون على لسان بطله الأثير سقراط: «إن ثمة شخصا أكن له احتراما يفوق الجميع، إنه بارمنيدس الذي أراه كما يقول هوميروس شخصا «وقورا مهيبا». لقد قابلته ذات مرة وأنا في مقتبل عمري بينما كان هو قد طعن في السن وألفيت فيه نظرة عميقة لا تتسم إلا بالجلال والنبل.» وقد كان لبارمنيدس كبير الأثر في تكوين أفلاطون؛ فمن أهم الأفكار التي أخذها أفلاطون من بارمنيدس هي أن كل شيء يتصف بالحقيقة المطلقة لا بد أن يكون ثابتا لا يتغير وخالدا لا يفنى وبالتأكيد ليس بمخلوق، رغم أن الحجج التي ساقها أفلاطون لا علاقة لها بما يدعيه من استحالة «التفكير في شيء غير موجود.» وكذلك اقتبس أفلاطون فكرة بارمنيدس حول التفريق بين العقل والحواس بالإضافة إلى الفكرة الفيثاغورية (والأورفية الخالصة) التي تقول إن الفكر يحظى بمنزلة أعلى وأرقى من الحواس. وكما رأينا، فقد دعم الفيثاغوريون هذا الفكر العقلاني، ولكن بارمنيدس كان هو أول من طبقه عمليا في فلسفته.
أقام أفلاطون بناء على فكرة التفريق بين العقل والحواس نظرية تقول إن العالم مقسم إلى جزأين: أحدهما خالد لا يفنى أدركناه من خلال العقل، والآخر متغير متبدل أدركناه من خلال الحواس. وعلى العكس من بارمنيدس، كان أفلاطون مستعدا لقبول فكرة أن العالم الأدنى منزلة ومكانة والذي نراه ونسمعه ونلمسه هو عالم واقعي ولكن بدرجة أقل، ولكنه رفض هذه الفكرة واصفا إياها بأنها محض تخريف وأوهام، وما كان ليقول إننا ندرك هذا العالم من خلال الحواس، بل إن الحواس وحدها تخدعنا وتجعلنا نصدق هذا الكلام. وثمة فرق آخر بين الرجلين، وهو أن أفلاطون رغم اعتقاده أن العالم الأرفع منزلة ومكانة يتسم بالخلود وعدم التغير، كان يعتقد أنه يتضمن عدة أشياء على خلاف بارمنيدس الذي ادعى أن الحقيقة المطلقة «واحدة» تتكون من أشكال أو أفكار صافية ثابتة (سنتعرض لها بالتفصيل عند الحديث عن أفلاطون نفسه)؛ وبهذا نجد أن أفلاطون اقتبس جزءا من الصورة التي قدمها بارمنيدس عن العالم وضرب صفحا عن الأجزاء الأخرى. وقد راقت لأفلاطون فكرة وجود حقيقة مطلقة لم تولد ولا تتغير ولا تفنى، ولكن يبدو أن هذه الفكرة لم تكن كافية له، كما أنه لم يقتنع بأسباب بارمنيدس في الإيمان بأن العالم الواقعي لا يوجد؛ ولذلك حاول أن يثبت وجوده أيضا.
ولم يكن أفلاطون أول من ناقش فلسفة بارمنيدس؛ فقد قام أربعة من كبار الفلاسفة قبل أفلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد بمحاولة لإرجاع الفكرة المعهودة عن العالم إلى سابق عهدها، وإن احتفظوا رغم ذلك بشطر من فكر بارمنيدس. على سبيل المثال قال إمبيدوكليس (حوالي 495-435ق.م.) إن العالم يتكون من عناصر أربعة هي النار والهواء والماء والتراب، وكلها تتمتع بالخلود والثبات تماما مثل فكرة الحقيقة المطلقة الواحدة لدى بارمنيدس. ورغم أن كل عنصر من هذه العناصر لا يغير من خصائصه ولا يدخل إلى عالم الوجود ولا يفنى، كان إمبيدوكليس يرى أن هذه العناصر يمكن أن تتحرك وأن تتحد مع بعضها لتكون لنا الظواهر اليومية التي نراها. وقد أقر أناكساجوراس (حوالي 500-428ق.م.) بفكرة أن المواد الأساسية لا تنشأ ولا تفنى ، ولكن بدلا من الإيمان بوجود أربعة عناصر فقط مثل إمبيدوكليس رأى أن كل المواد الطبيعية سرمدية لا تتبدل ولا تتغير، وأن الأشياء العادية تتكون من خليط من هذه المواد غير التي لا تفنى. وكما يرى إمبيدوكليس، يتكون العالم من مجموعة من العناصر تتسم هي نفسها بالخلود وعدم التغير.
وكان الشكل الأخير والأكثر تأثيرا في هذه القائمة هو «النظرية الذرية». لقد قدم كل من ليوكيبوس (حوالي 460-390ق.م.) وديموقريطس (حوالي 460-357ق.م.) نظرية تتحدث عن «ذرات» متحركة ومتناهية الصغر تتمتع بالصفات التي عزاها بارمنيدس إلى الحقيقة المطلقة الواحدة من خلود وثبات، وتختلف فيما بينها من حيث الشكل والموقع في الفضاء، وجميع الأشياء الأخرى التي نراها في الكون يمكن تفسيرها على أساس هذه الذرات؛ حيث إن جميع المواد والأشياء الطبيعية بما في ذلك الإنسان والحيوان تتكون من ذرات تسبح في الفراغ (فضاء خاو) حتى تصطدم بذرات أخرى لتكون الأشجار أو الإنسان أو كتلا من الفضة وهكذا. وهذا العالم العامر بالحركة والضوضاء يبعد كثيرا عن فكرة العالم الذي تخيله بارمنيدس؛ فهو يحتوي على حركة وتنوع وكذلك فراغ في بعض أجزائه. •••
لقد عرضنا الآن بعض المحاولات التي قام بها خلفاء بارمنيدس لمسايرة فكره، ولكن كيف ساير بارمنيدس نفسه؟ لقد وضع نفسه في موضع المستحيل. فإذا كان هناك شيء واحد فقط كما يعتقد إذن فكيف يمكن أن يميز نفسه عنه؟ ووفقا لما قدمه من حجج، إما أن يكون هو نفسه زائفا أو خياليا مثل العالم البدهي المتغير الذي رفضه أو أن يكون مماثلا للعالم الثابت غير المتحول الذي ليس فيه إلا حقيقة واحدة. وإذا ما نحينا هذا الاختيار الذي ليس به سوى السخافات جانبا، فكيف للإنسان أن يتصرف في مثل هذا العالم؟ والحق أن لا فائدة ترجى من القيام بذلك؛ لأن التغير والحركة ضروب من المستحيل. ولنأخذ على سبيل المثال مشكلة ميليسيوس التلميذ الوفي لبارمنيدس. لم يكن ميليسيوس فيلسوفا لبعض الوقت فحسب، بل كان أميرا لأسطول ساموس الذي حقق النصر في إحدى المعارك الشهيرة على الأسطول الأثيني عام 441ق.م. فقد تلقى كل أفكار معلمه وآمن بها، ولكن ماذا كان عليه أن يفعل في رأيه؟ فالسفن لا يمكن أن تتحرك، وهو كذلك لا يمكن أن يتحرك؛ ومن ثم فالمعارك لا يمكن أن تقع، هذا بالإضافة إلى أنه لن يوجد من يحاربه.
وليس بوسعنا إلا الظن أن بارمنيدس وميليسيوس قد اعتبرا الحياة العادية ضربا من الأوهام، أو على الأقل لغزا مبهما يمكن للمرء أن يلهو به كيفما شاء، ورغم أنهما لم يعلنا هذا صراحة فمن الصعب أن نظن فيهما غير ذلك؛ فكلاهما عاش حياة طبيعية ولذلك فشلا في التصرف؛ أو بالأحرى لم يتصرفا من الأساس وفقا لمعتقداتهما الفلسفية الظاهرة.
وربما لم يشغلا نفسيهما أصلا باختبار أفكارهما ومعتقداتهما بتطبيقها على متطلبات حياتهما اليومية. لا يوجد ما يدعونا للاعتقاد بذلك، ولا يحمل الجزء الذي يحمل اسم «طريق التجلي» - وهو الجزء الثاني من قصيدة بارمنيدس الذي فسرت فيه الإلهة المعتقدات الخاطئة لدى الإنسان - شيئا مختلفا. في الواقع، هذه الأجزاء لا تزيد الأمر إلا إبهاما وغموضا. وقد قال بلوتارخ (حوالي 46-120م) إن بارمنيدس في الجزء الذي يحمل العنوان «طريق التجلي» «أخبرنا الكثير عن الأرض والسموات والشمس والقمر وسرد كيف نشأ الإنسان ...» ولكنه لم يفسر لنا كيف يمكن لهذه الرواية أن تتسق مع ما ورد في «طريق الحقيقة» الذي رأى العالم كله شيئا واحدا وأنه ليس ثمة شيء جديد ينشأ في الوجود.
لكن رغم أن الجزء الخاص ب «طريق التجلي» لا يفصح عن آراء بارمنيدس الخاصة؛ إلا أنه لا يعتبر محض تسجيل تاريخي لما قاله الناس في هذا الشأن فحسب، بل إنه سجل أصلي كتب على طريقة علماء الطبيعة وإن كان أشد تعقيدا في بعض المواطن، قالت الإلهة إنها ألفته «لئلا يتخطاك تفكير أي إنسان آخر.» ويوضح هذا أن بارمنيدس ضمن جزء «طريق الحقيقة» في قصيدته ليثبت أنه يمسك بناصية الفلسفة التقليدية؛ فقد استغل عادة حديث ربات الشعر بالحق والباطل كما في هسيود في محاولة منه لإثبات قدرته على ابتكار تفسير طبيعي للعالم من حوله وإثبات أن أي شخص يمكنه فعل ذلك وأنه يفوق أغلبهم في هذا الشأن.
ورغم ذلك فلم يتمكن أي شخص من كتابة «طريق الحقيقة» مثلما كتبه بارمنيدس، الذي تعد كتابته إنجازا رائعا في هذا المكان وذلك الزمان. وقد تكون حجج بارمنيدس المجردة تجاوزت كل الحدود ولكنها حقا ظاهرة فريدة من نوعها، فمن خلال المحاولة التي قام بها بارمنيدس باستخراج مجموعة من الأفكار من مبدأ واحد، وهي فكرة تجنب الحديث عن «شيء غير موجود» وعلى نحو يتبع المنطق والحجة القوية، كان بارمنيدس أول من ابتدع استخدام التحليل النظامي للاستنتاج بعيدا عن علم الرياضيات، وقد ابتدع كذلك طريقة التفكير التي تنتهج محاورة طويلة تدور حول المبادئ العامة للوصول إلى استنتاجات صادمة عن العالم ومعرفة الإنسان به. وهناك العديد من الفلاسفة الذين يعتقدون كذلك أن العالم ليس كما يبدو لنا، ولكن بارمنيدس تميز عنهم باستخدام البرهان المفصل لإثبات وجهة نظره واكتشاف الخصائص الحقيقية للواقع. وقد سار آخرون على الدرب نفسه الذي شقه بارمنيدس، ورأينا نماذج لهؤلاء على مدار التاريخ. ونجد أهم هذه النماذج في كتابات هيجل ومن اتبعوه. ففي محاضراته عن تاريخ الفلسفة قال هيجل: «إن بارمنيدس قد استهل الفلسفة وسار فيها بشكل صحيح.» وربما قصد بذلك أن بارمنيدس كان المفكر الأول الذي امتلك من الحكمة ما أهله لأن يسبق هيجل.
أما باقي حديث هيجل عن بارمنيدس فيكتنفه الغموض، ولكن يبدو أن أكثر ما أعجبه هو فكرة أن «الشيء العابر لا حقيقة له» وهو ما يعني تقريبا أن أي شيء يتغير لا يمكن أن يكون حقيقيا. وهذه في الواقع هي فكرة بارمنيدس الرئيسة التي يمكن صياغتها بحيث تبدو وكأنها فكرة دينية أو صوفية، رغم أن استخدامه للجدل المنطقي يبعده كثيرا عن التقليديين والرومانسيين من الصوفيين. (وقد أسهب نيتشه في كتابته عن طريق بارمنيدس البارد ... المليء بالأفكار المجردة المذهلة.) ولا ريب أن هناك تشابها كبيرا بين مفهوم بارمنيدس عن الحقيقة المطلقة كشيء واحد لا يحده الزمن ولا يصيبه تغير ولا تبديل، ومفهوم زينوفان عن الإله الأحد الصمد والذي لم يكن مألوفا لدى الإغريق. ورغم ذلك فلا فائدة ترجى من التفكير فيما إذا كان بارمنيدس قد تأثر بزينوفان أم أن التوافق بينهما محض صدفة لا أكثر كما يرى نيتشه. كما أن الرؤية القائلة إن ثمة عالما سماويا يقع فوق عالمنا المضطرب والتي نجدها عند كل من زينوفان في شعره وبارمنيدس في حججه، لا يمكن أن ننسبها لأي منهما دون الآخر.
ورغم أصالة الاستدلال المنطقي لدى بارمنيدس وأهميته التاريخية فلا يمكننا إغفال أنه كان ينطوي على شكل من أشكال العبثية. أوليس من السخرية أن يختلق حججا وهو مرتاح على أريكته - أو من الأجسام السيارة في السماء كما في حالة بارمنيدس - تتناقض بكل بساطة مع ما يمكن أن ندركه بالطرق المباشرة والوسائل التي يعول عليها؟ وما الفائدة من السعي لإثبات أن شيئا واحدا فقط يمثل الوجود في حين أنك عندما تنظر حولك تجد أن ذلك هراء لا طائل منه؟
ورغم ذلك فلا يجب أن نجعل بداية بارمنيدس غير المقنعة تلقي بظلالها على هذه المشروعات الفكرية، فحتى لو كانت تتناقض صراحة مع ما يعتقد الناس أنه المنطق السليم في هذا الوقت فإن الحجج المنطقية المجردة يمكن أن تكشف عن حقائق مهمة؛ ذلك أن «المنطق السليم» أحيانا ما يخطئ ودائما ما يعتريه النقصان. ومن أفضل المحاولات التي قام بها بارمنيدس، وربما المحاولة الوحيدة التي يمكن أن نقتفي أثرها، هي تلك التي نجدها في أعمال تلميذه زينون وهي موضوعنا التالي.
الفصل الخامس
طرق المفارقة: زينون
لم يحتج العالم ألفين وخمسمائة عام حتى يدرك عبثية ما توصل إليه بارمنيدس من استنتاجات أوردها في قصيدته «طريق الحقيقة»؛ فقد انجلى هذا الأمر في عصره ولكنه لم يردع تلميذه زينون عن التمسك بآراء معلمه؛ فظل زينون (الذي ولد في حوالي عام 490ق.م.) مقتنعا بأفكار بارمنيدس لأنه اعتقد أن بمقدوره أن يقلب الطاولة على الآراء المنافسة التي تتحدث عن «المنطق السليم».
وثمة رواية عن زينون توضح لنا كيف حاول زينون فعل ذلك؛ إذ يروي لنا أفلاطون كيف أن بارمنيدس وزينون هجرا بلدتهما إيليا قاصدين أثينا ابتغاء حضور مهرجان «باناثينا الرياضي العظيم» الذي يقام كل أربعة أعوام وتكون فيه عروض للموسيقى والشعر والرياضة ويخصص لإلهة أثينا. وبينما هما هناك فإذا بهما يلتقيان بسقراط الذي كان صغيرا آنذاك، فقرأ عليه زينون رسالة كان قد كتبها، فسأله سقراط عن الكتاب ومضمونه، فأجاب زينون بأنه «كتاب يدافع فيه عن بارمنيدس» ضد من يسخرون منه وأنه يرد عليهم فيه مستخدما منطقهم نفسه، وختم حديثه بقوله إن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع. وكانت عدته في ذلك مجموعة من المفارقات غاية في البراعة والحذاقة في محاولة منه للتشكيك في رؤى المنطق السليم بتوضيح أن مثل هذه الرؤى قد تقود إلى نتائج غير مقبولة، وكان غرضه من ذلك هو إعلاء شأن بارمنيدس على الأقل بتوضيح أن آراء معارضيه ليست بأفضل منه حالا.
ولنأخذ على سبيل المثال إحدى مفارقات زينون الفاضحة عن الحركة. لنفترض جدلا أن الحركة ممكنة فعلا كما يقول المنطق السليم وعلى عكس ما يرى بارمنيدس، ولنفترض كذلك على سبيل الإيضاح أن العداء السريع أخيل ينوي أن يشترك في سباق للجري خلال مهرجان باناثينا الرياضي العظيم، ولكن زينون يقول لأخيل إنه قبل أن يصل إلى نقطة النهاية يتعين عليه أولا أن يمر بمنتصف الطريق، وقبل أن يصل إلى منتصف الطريق لا بد له أن يقطع مسافة ربع الطريق، ولكي يقطع هذه المسافة أيضا لا بد له أن يقطع مسافة ثمن الطريق، فبدأ القلق ينتاب أخيل لأن عملية التفكير هذه قد تستمر دون نهاية؛ وبذلك أقنعه زينون أنه لا يمكنه أن يقطع أية مسافة على الإطلاق لأن هذا يقتضي منه قطع نصف المسافة ثم ربعها ثم ثمنها إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم فلا يمكن للسباق أن يبدأ أبدا. ويلمح زينون إلى أن هذه هي حالة الارتباك التي تنتاب المرء حين يفكر في الحركة؛ ولذلك انتهى زينون إلى أنه من الأفضل الاعتراف بصحة قول بارمنيدس بعدم حركة الأشياء.
وثمة ألغاز كثيرة على هذه الشاكلة . ولم يتبق من مفارقات زينون سوى تسع مفارقات: أربع منها تتحدث عن الحركة، وثلاث عن فكرة «التعددية» التي تشير إلى وجود العديد من الأشياء بدلا من شيء واحد فقط كما يقول بارمنيدس، وواحدة للرد على فكرة الفضاء، وأخرى توضح أن الحواس لا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها. وقد يكون هناك المزيد من هذه المفارقات، فزينون كان حاذقا في ابتكار هذه الألغاز واستخدامها في مناظراته. ويذكر بلوتارخ في السيرة الذاتية التي كتبها عن رجل الدولة والخطيب الأثيني بريكليس أنه «كان يوما ما تلميذا لزينون الإيلي وأنه قد تعلم منه مجموعة من المفارقات لتفنيد آراء معارضيه للدرجة التي تجعلهم يصابون بالحزن والكدر.»
ولكن أرسطو الذي كان يمتلك في جعبته إجابة لكل شيء تقريبا لم تجلب عليه مفارقات زينون لا حزنا ولا كدرا، فقد اعتقد أنه بإمكانه أن يتملص منها رغم أن بعض محاولاته قد باءت بالفشل، ولكنه اعترف بأن زينون هو «مبتكر الجدل». ويعرف أرسطو «الجدل» بأنه طريقة الوصول إلى الحقيقة التي اتبعها سقراط في محاورات أفلاطون الأولى؛ فقد كان سقراط يحب محاورة الناس وسؤالهم عن آرائهم ليتوصل إلى نتائج ما كانوا ليفكروا فيها إلا بفضل أسئلته الثاقبة، وبذلك فقد كان يتمكن بالتدريج من تقويض الأساس الذي بنوا عليه آراءهم وجعلهم يعيدون النظر في الأمور بشكل أعمق ليصلوا إلى إجابة للأسئلة التي بين أيديهم. ويبدو أن سقراط قد أخذ هذه الطريقة من أسلوب زينون التمحيصي؛ ففي المفارقة السابق ذكرها انطلق زينون من رؤية المنطق السليم التي تقول إن الحركة ممكنة (وتحديدا الحركة التي نحتاجها لخوض سباق)، ثم أوضح تدريجيا كيف أن هذه الفكرة قد تقودنا إلى كثير من المشكلات. ويبدو أن زينون كان متخصصا في الحجج التي تدحض آراء خصومه في الحال بينما برع سقراط في إضعاف آراء خصومه ببطء حتى يدحضها تماما، ثم يعطيهم انطباعا بأن هذا لم يكن إلا لمصلحتهم، وإن كان كلاهما قد استخدم الأسلوب السلبي المتمثل في استنتاج النتائج غير المرغوب فيها مما يقوله الآخرون أو مما يعتقدون فيه.
وقد رأى أفلاطون محقا أن أسلوب الجدل الذي استخدمه سقراط كان أسلوبا إيجابيا في نهاية المطاف؛ إذ كان يعد أحد المتطلبات الأساسية للمعرفة، كما أن الغرض منه لم يكن الجدل وتفنيد حجج الآخرين بقدر ما كان محاولة لتصحيح أي خطأ في طريق الحصول على الحكمة، وقد كان سقراط نفسه ينظر لأسلوبه على هذا النحو أيضا.
ولكن يبدو أن أهداف زينون لم تكن على القدر نفسه من السمو والرقي، فلم تكن لديه أية نوايا بناءة على خلاف سقراط، ولم تكن لديه سوى رغبة في الدفاع عن العوار الشديد الذي شاب كثيرا من أفكار معلمه بارمنيدس؛ ولذلك ينظر إلى زينون نظرة سلبية باعتباره سببا لكثير من المشكلات والخلافات وإن كان بارعا، ولكن التاريخ أنصفه ليس بكشف الغطاء عن جوانب الخير في حياته أو بإثبات صحة النتائج التي توصل إليها، ولكن باكتشاف جانب دائم الاستفزاز والاستثارة في مفارقاته. كما كتب الفيلسوف وعالم الرياضيات ألفريد وايتهيد عام 1932 ميلادية قائلا: «إن محض الإقبال على تفنيد مفارقاته على مدار كل قرن هو دليل على النجاح الباهر الذي حققه زينون ... فلم يدرس أحد فلسفة زينون دون أن يحاول تفنيدها، ورغم ذلك يرى الفلاسفة في كل قرن أن آراءه ما زالت تستحق التفنيد.» •••
لقد كتب لمفارقات زينون - خاصة تلك التي تحدث فيها عن الحركة - أن تعمر أطول من المفارقات الأخرى التي ذاعت في عهد ما قبل سقراط؛ فقد ناقشها علماء الرياضيات وعلماء الطبيعة والفلاسفة بالتفصيل، وتناولوها بالذكر منذ أن كتبت على يديه حتى يومنا هذا. وقد نفخ برتراند راسل في هذه المفارقات روح حياة في أوائل هذا القرن لم تبلغ أرذل عمرها حتى الآن، بل إنها زحفت إلى مجالات أخرى حيث اتسع استخدامها ليشمل تحليل بعض الأعمال الأدبية بدءا من رواية (الحرب والسلام) لتولستوي (التي استخدمت فيها هذه المفارقات؛ لإقامة علاقة تشبيهية ضعيفة بين إدراك الحركة وفهم التاريخ) ووصولا إلى مسرحية هزلية من أدب القرن العشرين (استخدمت فيها إحدى مفارقات زينون المعقدة لإضفاء جو من المرح على أحداث المسرحية).
ولا تثير هذه المفارقات إعجابنا حتى الآن فحسب، بل يقال إن تأثيرها لا يزال فعالا حتى الآن، وإن ثمة دروسا علينا أن نتعلمها منها. وينطوي هذا الادعاء المثير للإعجاب على شيء من الحقيقة وإن كان مضللا إلى حد ما. إن مفارقات زينون تدين بالفضل في البقاء حتى الآن إلى حقيقة أننا لا ندرك كنهها بالتحديد، فنحن نعتمد في الحديث عن أشهر مفارقاته على التلخيصات المقتضبة الغامضة وربما غير الدقيقة التي قدمها لها أرسطو، وهذا يعطي مساحة كبيرة للنزاع، وهو ما يعني كذلك أن المعلقين على فلسفته يمكنهم أن يتلاعبوا بالتفسيرات ويعيدوا تفسيرها وفقا لرؤيتهم، بل ربما يعزون بعضا من أفكارهم إلى زينون وينسبونه إليه في نصوصه المفقودة. كما أن كثيرا من هذه المفارقات يتضمن حديثا عن اللانهاية بطريقة أو بأخرى. وبما أن هناك الكثير مما يمكن أن نقوله عن هذه المفارقات فهناك الكثير أيضا مما يمكن أن نقوله عن فكرة اللانهاية (بل إن هذا أصح وأقوى). ويميل الفلاسفة والعلماء من مختلف العصور إلى استخدام مفارقات زينون كمشجب يعلقون عليه أفكارهم التي تتناول اللانهاية، منها على سبيل المثال إمكانية تقسيم المكان والمادة ومفاهيم الوقت والحركة. أما وقد دفع زينون المفكرين إلى اقتحام عالم اللانهاية المحموم بالمشكلات فقد فتح طاقة من جهنم أخذت تقض مضجع عالم مثل نيوتن بعد أكثر من ألفي عام، بل لا تزال هذه المفارقات يستشهد بها في النزاعات المعاصرة بين علماء الفيزياء.
ويبرز هنا أحد الجوانب الإيجابية في مفارقات زينون؛ فقد تخطت مجالها لتفتح آفاقا أوسع للحديث بدلا من التقيد بما ورد فيها. ويمكننا أن نأخذ على سبيل المثال سباق أخيل وأن نفسره على النحو التالي: لا شك أن أخيل إذا أراد أن يجتاز أية مسافة فعليه أولا أن يجتاز نصفها، وهكذا إلى ما لا نهاية ، وهذا يعني أن هناك، بمعنى ما، عددا لانهائيا من المسافات التي عليه اجتيازها. إلا أن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنه لا بد له أن يجتاز كل المسافات في الوقت عينه، بل يعني أنه متى اجتاز مسافة منها انتقل إلى الأخرى. وهنا يكمن الخطأ. وقد يساعدنا هنا أحد التشبيهات التي ساقها أحد المعلقين المعاصرين، فإذا كان لدينا بيضة يمكننا أن نقسمها إلى عدد غير محدود من الأجزاء فإن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنك إذا أردت أن تأكلها فعليك أن تتناول هذه الأجزاء واحدا تلو الآخر، فإذا كان يجب عليك أن تفعل ذلك فعليك إذن أن تمتلك سرعة لانهائية في التهام أجزاء البيض، وإلا فستظل تتناول إفطارك حتى قيام الساعة. ولحسن الحظ ليس عليك هذا ولا ذاك، فما دام بإمكانك أن تتناول عددا لانهائيا من أجزاء البيضة الصغيرة في قضمات معدودات حيث تخلصك كل قضمة من عدد لانهائي من هذه القطع، يمكنك كذلك أن تقطع عددا لانهائيا من المسافات في خطوات قليلة؛ إذ إن كل خطوة سوف تجتاز بك عددا غير محدود من المسافات الصغيرة. وتكفي هذه النقطة لدحض مفارقة السباق السابق ذكرها، ولكنها رغم ذلك تضع علامات استفهام أخرى، فكيف يمكن لطريق سباق بمسافة 100 متر مثلا أن يحتوي على عدد لانهائي من المسافات؟ ولماذا لا تجعله هذه المسافات طريقا طويلا لا نهاية له؟ وإذا كان للبيضة عدد لانهائي من الأجزاء فلماذا لا يجعلها هذا بيضة كبيرة بحجم لا نهاية له؟
لقد سأل زينون نفسه هذا السؤال في موضع إحدى مفارقاته، وكانت الإجابة أنه عندما تقسم البيضة أو يقسم الطريق إلى نصفين، ويقسم النصفان إلى نصفين آخرين، وهكذا إلى ما لا نهاية؛ فإن أجزاء البيضة أو الطريق تصغر أكثر وأكثر كلما ازداد تقسيمهما وكذلك إلى ما لا نهاية. (ويقول علماء الرياضيات إن هذه السلسلة من التقسيمات والتصغير يمكن أن تقترب من حد معين ولكنها لا تصل إليه أبدا.) ولم يكن زينون في الظاهر على علم بهذه الحقيقة، إلا أن عدم وجود حد نهائي لتقسيم الأجزاء - ومن ثم تصغيرها - يعني أن ثمة إمكانية كذلك للإضافة إليها إلى حد لانهائي. ومن ثم فلا تناقض في المفارقة التي تقول إن البيضة متوسطة الحجم تحتوي على عدد لانهائي من الأجزاء، وإن طريق السباق البالغ طوله 100 متر يحتوي هو الآخر على عدد لانهائي من المسافات.
والقارئ الذي لا يزال في حيرة من أمره بسبب هذه الألغاز التي لا تنتهي يمكنه أن يلتمس السلوى في حقيقة أنه ليس أول من يتملكه هذا الشعور؛ إذ إن فكرة وجود سلسلة من التقسيمات اللانهائية لم تشرح بشكل واف حتى القرن التاسع عشر. ففي هذا العصر كان نيوتن ولايبنتس قد أحرزا بعض التقدم فيما يتعلق بنوعية مشابهة من هذه الأسئلة باستخدام علم حساب التفاضل والتكامل الذي وضعاه. وعلى الرغم من أن هذا العلم قد أعطى فرصة لبعض العلماء لإجراء العديد من الحسابات عن الحركة والتغير التي كان من المستحيل إجراؤها في الماضي؛ فقد ظل الكثير من الأفكار فيه ملتبسا على الناس حتى تناوله بالشرح والتفسير العلماء ديديكايند وفايشتراس وكانتور وغيرهم من علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر. أما فكرة نيوتن المشوهة حول الكميات متناهية الصغر - وهي إحدى خصائص علم حساب التفاضل والتكامل التي لم يكن نيوتن نفسه راضيا عنها - فقد هاجمها الفيلسوف بيشوب بيركلي الذي عاش في القرن الثامن عشر بالإضافة إلى نفر آخر من العلماء. وقد تحدث بيركلي عن الكميات متناهية الصغر ساخرا فقال: «إن الكميات متناهية الصغر إنما هي بقايا الكميات الهالكة.» وقد احتاج الأمر إلى عبقرية كانتور وآخرين حتى يتخلصوا من هذه البقايا، فلا داعي إذن أن يشعر المرء بالحرج إذا عرقلته هذه البقايا.
وثمة مفارقة أخرى من مفارقات زينون حول الحركة تبتعد عن الحقيقة الرياضية ولكنها على القدر نفسه من البراعة والحذاقة. وتهدف هذه المفارقة إلى توضيح أن السهم المنطلق في الهواء يكون في الحقيقة في حالة من الثبات لا يتحرك؛ حيث إنك لو رصدته في كل لحظة من لحظات طيرانه لوجدته يشغل حيزا من الفضاء يتماثل معه من حيث الحجم، فمثلا السهم المتحرك الذي يبلغ طوله 12 بوصة يشغل سلسلة من المساحات طول كل منها 12 بوصة. ويبدو أن زينون يقصد هنا أن السهم يكون دائما في حالة من السكون في مساحة طولها 12 بوصة. ولنا أن ننظر إلى الأمر بطريقة أخرى عندما نسأل: «متى تحديدا يكون السهم في حالة الحركة؟» فإذا فكرنا في حركة طيرانه المزعومة فسنجد أن السهم الآن في مكان ما ثم بعد ذلك ينتقل إلى مكان آخر، وخلال انتقاله من مكان لمكان لا بد وأن يشغل مساحة بين هذين المكانين؛ ولذلك يبدو في حالة دائمة من السكون بشكل أو بآخر. إذن متى يتحرك من مكان لآخر؟ من الواضح أنه ليس ثمة وقت يتحرك فيه.
ويبدو أن زينون قد وضع الحركة المتدفقة للسهم في قالب من الجمود حين رصدها على شكل صور فوتوغرافية متناولا كل لحظة من لحظات حركته على حدة، وهذا في حد ذاته لا يخرج عن جادة الصواب ولكن الحقيقة التي أغفلها هي أن الحركة تتكون في الأساس من سلسلة من مواضع السكون، وخطأ زينون يكمن في توصله لاستنتاجه الذي يقول إنه ليس هناك أي شيء في حالة حركة من هذه المقدمات. ونحن حين نقول إن شيئا ما في حالة من الحركة؛ فهذا يعني أنه يشغل أماكن متعاقبة مختلفة وفي أوقات متعاقبة؛ ولذلك فزينون كان على حق عندما أنكر أن يكون السهم في حالة من الحركة في لحظة معينة، ليس لأن السهم كان في حالة من السكون في هذه اللحظة، بل لأن التفريق بين الحركة والسكون أمر لا فائدة منه عند رصده في لحظات مستقلة، بل عند رصده خلال فترة ممتدة من الوقت. ومن ثم فإذا كان السهم في مكان واحد طيلة الوقت فإنه في حالة سكون، أما إذا وجد في أماكن مختلفة فإنه يكون قد تحرك. وهذا هو المعنى المقصود بالحركة لا أكثر.
ويعرف هذا التفسير بنظرية الحركة الاستاتيكية، ودون قصد تقدم مفارقة سهم زينون سببا قويا لقبولها. وثمة مفارقة أخرى لزينون لن نناقشها في هذا المقام، وهي تظهر دون قصد حقيقة أن حركة شيء ما لا يمكن رصدها إلا من خلال مقارنتها بحركة أشياء أخرى؛ أي لا يمكن أن نقول إن الأشياء تتحرك في ذاتها، وإنما فقط عند مقارنتها بغيرها من الأشياء، وبذلك فإن مفارقات زينون بدلا من أن تنبذ فكرة الحركة من الأساس - وهو ما كان من أهداف زينون المعلنة - فإنها تسوي بين الفكرتين بتوجيهنا إلى فهم أكثر دقة لمفهوم الحركة. •••
ونحن الآن بصدد التعليق على ما حققه زينون من إنجازات. لقد رأينا كيف أثارت مفارقاته العديد من الأسئلة التي حيرت الكثير من مفكري عصره، بل وكثيرا ممن جاءوا بعده بزمن بعيد؛ حيث لم يتمكنوا من تقديم إجابات شافية لها. وكما هو الحال مع بارمنيدس، يمكننا أن نزعم بالنيابة عن زينون أن أحد الأسباب التي تجعلنا نفهم مفارقاته التي تحدث فيها عن طريق السباق على سبيل المثال أو تعريف الحركة، هو أن الألغاز التي ساقها قادت المفكرين من بعده إلى تنقيح أفكارهم ليتمكنوا من التعامل معها. فالأفكار تتطور مع الوقت، ووجود مثل هذه المشكلات التي تثيرها مفارقات زينون هو أكبر عامل مساعد في تطور مثل هذه الأفكار.
ويبدو أن زينون قد شط بعيدا وغالى في حماسه لاصطياد الألغاز والحجج، وهو ما أدى به إلى خلط الحابل بالنابل. ألم يكن من الأفضل لزينون أن يقول إن طبيعة الحركة وفكرة اللانهاية تحتاجان لمزيد من البحث بدلا من إنكار حركة الأشياء بالكلية؟ وبإدراكنا الحالي للأمور يمكننا أن نقول إن الإجابة هي نعم؛ فقد ذهب زينون بعيدا في أفكاره، وهو ما جذب الانتباه إليه على الأقل. ولكن علينا أيضا أن ندرك كم تأخرنا في إصدار هذا الحكم عليه؛ فقد ثبت أنه من الممكن تطوير الأفكار التي تدور حول الحركة وقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية وإعادة بنائها لنأخذ اعتراضاته بعين الاعتبار، ولكن لم يكن زينون نفسه ليعلم كيفية القيام بهذا الأمر؛ فقد رأى أن أفكار الحركة وقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية محض حديث أجوف لا طائل من ورائه.
وتعرض مفارقات زينون بوضوح كم المعرفة التي قد يحصل عليها المرء من التأملات النظرية؛ فهي تستجلي الأفكار وتستثيرها، وهو أمر مهم لتقدم المعرفة؛ إذ إن الحجج المجردة والتأمل في المفاهيم يلعبان دورا كبيرا في اكتشاف الحقائق عن العالم أكثر مما قد يظنه المرء للوهلة الأولى، فحقيقة أن العلماء يقومون فقط بتسجيل ملاحظاتهم وجمع الحقائق أثناء تجولهم هي اعتقاد خاطئ ويعكس صورة مغلوطة عن مهمتهم الأساسية، فهم يسعون كذلك إلى التوصل إلى طرق لوصف ما يلاحظونه ويحاولون صياغة الحقائق التي توصلوا إليها في صورة نظريات تفسيرية متقنة ويتأملون في الأدلة التي جمعوها. ويمكننا القول إنهم يقومون بإعادة بناء أفكارنا ومعتقداتنا، وهو ما تستخدم من أجله مفارقات زينون وغيره من المفكرين، فيمكن وصف ما تقدمه هذه الحجج بالنقد المفهومي. وهذا النقد لا يمكن وصفه على أية حال بأنه المجال الوحيد الذي يدور في فلكه من يسمون أنفسهم فلاسفة؛ فهو ليس حكرا على أحد بعينه. لا يهمنا من أي مصدر استقى زينون أفكاره ومفارقاته، ولا يهمنا كذلك ما إذا كانت تتناقض مع المنطق السليم الذي نعرفه اليوم ما دامت تعمل على تحفيزنا، وأننا نجد فيها من الدروس ما يمكن الاستفادة منه.
إن التأثير الأكبر لأفكار بارمنيدس وزينون هو إثارة الاهتمام ببعض أعمال مفكري القرن الخامس أمثال إمبيدوكليس وأناكساجوراس وليوكيبوس وديموقريطس (ولا سيما الأخيرين)؛ إذ يمثل هؤلاء الرجال المرحلة النهائية في فكر ما قبل سقراط، تلك الفترة المتوسطة التي شهدت محاولات التسلل خلسة للعودة إلى جنة التساؤل والبحث في الطبيعيات والتي شغلت المفكرين قبل عهد بارمنيدس. ويعد «تحكيم العقل» الذي توصي به إلهة بارمنيدس النصيحة الأفضل ما دامت لا تؤخذ على أنها محض توصية لتجاهل الأدلة، بل باعتبارها نصيحة للتفكير في هذه الأدلة بعقلانية والاستفادة منها. وربما يكون هذا هو ما فهمه الآخرون من مفكري ما قبل سقراط من حديث الإلهة. وكما سأوضح فيما بعد، فقد تخطى اهتمام هؤلاء المفكرين المتنوعين دورهم كورثة متمردين على بارمنيدس وزينون .
الفصل السادس
الحب والصراع: إمبيدوكليس
ابتكر إمبيدوكليس الأكراجاسي (تعرف أكراجاس الآن ب «أجريجنتو» وتقع جنوب صقلية) نظرية حول المادة كانت من البساطة والإقناع بمكان جعل الجميع يؤمنون بالعديد من جوانبها حتى عصر النهضة. والحق أن تبني أرسطو هذه النظرية قد ساعد كثيرا على انتشارها بعد إدخال بعض التعديلات عليها. وفي ظل دعم أرسطو لها، بقيت هذه النظرية سائدة بين أعمال التراث القديم حتى القرن الثامن عشر الميلادي، حيث خضعت لنقد متنور على يد علماء الكيمياء من أمثال بويل. وتقوم النظرية على أن جميع الأشياء تتكون من أربعة عناصر هي التراب والهواء والنار والماء وليس لأيها أفضلية على الآخر، ولكنها تتحد بكميات مختلفة في الأشياء المختلفة. ولنضرب مثالا على إحدى وصفتي إمبيدوكليس اللتين قدمهما من أجل البقاء؛ فالعظام تتكون من جزأين من الماء وجزأين من التراب وأربعة أجزاء من النار. وهذه الوصفة التي ذكرها إمبيدوكليس تغرينا بتقديم وصفة شخصية لإمبيدوكليس نفسه، فهو عالم أولي في جزأين منه، وواعظ فيثاغوري في جزأين آخرين، وصانع أعاجيب في جزء آخر، ولا يخلو من عجرفة هرقليطس ولو شيئا يسيرا.
وقد شبه البعض إمبيدوكليس بفاوستوس؛ ذلك أنه زعم أن المعرفة التي اكتسبها جعلته شبيها بالآلهة ومكنته من ممارسة السحر، فأصبح يحيي الموتى ويتحكم في الطقس (أو «العناصر» كما نسميها أحيانا). وهذا يذكرنا بكلمات ملاك الشر التي قالها ل «دكتور فاوستوس» شخصية كريستوفر مارلو الشهيرة حين قال له:
امض يا فاوستوس في ذاك الفن الشهير،
الذي يحوي كنوز الطبيعة بين دفتيه.
وكن في الأرض كجوبيتر في السماء؛
رب هذه العناصر ومصرفها.
بل إن الأسطورة ذكرت أن نهاية إمبيدوكليس كانت مثل نهاية فاوستوس تقريبا، فيقال إنه بعد أن تناول عشاءه مع بعض أتباعه قفز إلى داخل نيران بركان إتنا واختفى، تماما كما جرت الشياطين فاوستوس إلى نيران الجحيم في منتصف الليل. وقد بقيت هذه القصة وعاشت بفضل ديوجينيس لارتيوس وميلتون وماثيو أرنولد. لكن الحقيقة أن إمبيدوكليس توفي خلال نفيه بعيدا عن صقلية لأسباب سياسية وربما في مدينة بيلوبونيز . وما كان غنيا بالأحداث الغريبة حقا إنما هو حياته لا موته.
إمبيدوكليس.
ولد إمبيدوكليس حوالي عام 492ق.م. لأبوين شهيرين وكان ذا مظهر مميز؛ فقد كان يرتدي ثوبا أرجوانيا بحزام ذهبي وحذاء برونزيا وإكليل غار. ويبدو أن هذه الأزياء قد حققت هدفها المنشود حيث يقول:
كنت أسير وسط حفاوة الجميع مكللا بالتيجان والزهور، وكنت كلما دخلت مدينة ومررت على أهلها رجالا ونساء ألقى الترحيب والتكريم، وسار الآلاف منهم خلفي ...
واعترف إمبيدوكليس قبل هذا الحديث المفعم بالفخر والإعجاب مباشرة أنه «إله خالد ولم يعد إنسانا يموت ويفنى» وأن هؤلاء الذين لا يعرفون قدر تعاليمه ليسوا سوى «حمقى!» وقد تنتابنا الدهشة إذا أدركنا أن نشاطه السياسي في مدينة أكراجاس كرسه للدفاع المستميت عن فكرة إقامة الديمقراطية وتحقيقها في وجه نظام الحكم الاستبدادي، وهو الأمر الذي حدا بمن يحمل له الجميل من المواطنين أن يعرض منصب الملكية عليه اعترافا منهم بجهوده الناجحة في المطالبة بالمساواة. والحق أن كتاباته كانت متوافقة مع سياساته وإن بدت شخصيته مخالفة لذلك؛ فقد كتب بكل حماس عن ذلك العصر الذهبي الذي نعم فيه البشر جميعا بالعيش سويا، كما أن تعاليمه ومواعظه تقول إن الناس جميعا - وليس إمبيدوكليس ذو الحظ العظيم وحده - يستطيعون أن يستعيدوا هذه الحالة الإلهية التي كانوا عليها؛ ولذلك فقد كان من دعاة مذهب المساواة الروحانية. وقد غالى إمبيدوكليس في هذا الشأن كثيرا حتى قال إن جميع المخلوقات الحية بينها تشابه روحاني؛ فقد كان يؤمن بما آمن به الفيثاغوريون من أن الأرواح تفارق الجسد بعد الموت ويمكن أن تتناسخ مرة أخرى في أشكال النباتات أو الحيوانات أو البشر، حتى قال عن نفسه ذات مرة إنه كان «صبيا وفتاة ثم شجيرة وطائرا ثم سمكة من الأسماك المهاجرة.»
ولكن كيف لهذا الهذيان الفيثاغوري أن يتناسب مع النظرية الكيميائية الجدية التي أكسبته مكانته في التاريخ؟ كما كان الحال لدى فيثاغورس نجد ثمة ارتباطا بين أنشطة إمبيدوكليس العلمية وآرائه الدينية، حيث يرى الفيثاغوريون أن ثمة اتصالا بين الأمور الروحانية ومعرفة الطبيعة، وأنهم توصلوا إليه من خلال مفهوم «التأمل» لديهم، وهو عبارة عن تأمل سامي يعمل على تنقية الروح، ولكن هذا الاتصال يأخذ شكلا مباشرا بصورة أكبر عند إمبيدوكليس؛ فالأفكار الأورفية أو الفيثاغورية عن الروح وخلاصها والتي يتناولها إمبيدوكليس في قصيدة له بعنوان «سبل النقاء» أو بالأحرى في جزء منها يمكن اعتبارها تطبيقا للأفكار البشرية في قصيدته «العلمية» (أو ربما كانت جزءا من القصيدة نفسها) التي تسمى «عن الطبيعة». تمثل الدراما الإنسانية فصلا واحدا من المسرحية التي تؤديها العناصر في الكون، وطاقم التمثيل هو نفسه الموجود في قصيدتي «سبل النقاء» و«عن الطبيعة»؛ ولذلك فإن قوة الحب التي تقوم بجذب العناصر الكيميائية بعضها لبعض لتتجمع وتلتحم هي ذاتها القوة التي يشعر بها الناس في قلوبهم والتي تفسر سبب الانجذاب الجنسي، أما قوة الصراع، التي تقوم بإبعاد العناصر بعضها عن بعض، فهي المسئولة عن الانهيار الروحي للإنسان. •••
ولم يتبق من أعمال إمبيدوكليس سوى نحو 450 بيتا متفرقا من الشعر لم تضمها هاتان القصيدتان، وإنما وردت في طيات كتابات أخرى لكتاب آخرين. وما تبقى من كتاباته يفوق بكثير ما تبقى من كتابات أي مفكر آخر في ذلك العصر ويعكس كيف كانت كتاباته من أكثر الكتابات المستشهد بها آنذاك. وقد كان إمبيدوكليس آخر الفلاسفة اليونانيين الذين كتبوا بالشعر، وربما كان أمهرهم في قرض الشعر حيث سماه أرسطو «أبو الخطابة»، وكتاباته أسهل في فهمها من كتابات بارمنيدس.
ويتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها ولكنه صاغها بطريقة أفضل فقال: «إن جميع الأشياء الهالكة لا تولد ولا تفنى بالموت، بل بخلط الأشياء وتبديلها، والإنسان هو من أطلق على الأشياء المختلطة اسم الميلاد.» ويعتبر هذا حلا وسطا بين بارمنيدس والمنطق السليم، فإمبيدوكليس على استعداد «للالتزام بالعرف» والحديث عن الميلاد والموت، ما دمنا نتحدث في إطار فكرته عن أن الميلاد أو النشوء هو عملية تكوين شيء من خلال خلط المواد الموجودة سابقا، وأن الموت أو الفناء لا يعني إلا تفكيك هذه العناصر وإعادة تجميعها لتكوين شيء آخر، وهذه العناصر في حد ذاتها ليست مخلوقة ولا يصيبها الفناء؛ وبهذا فإن بارمنيدس كان محقا إلى حد ما. ويتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس كذلك على أن ليس في الوجود ما يسمى فراغا، ولكن قلما نسمع شيئا عن استحالة الحركة أو أن ليس هناك إلا شيء واحد. وبشكل عام يبدو أن إمبيدوكليس تجاهل هذه الأجزاء غير المناسبة في مذهب بارمنيدس كما فعل مع مفارقات زينون الداعمة لها.
ويشير حديث إمبيدوكليس عن «الاختلاط والتبادل» إلى دمج العناصر الأربعة، وهو يشبه الطريقة التي تخلط بها الطبيعة العناصر لكي تشكل الأشياء الطبيعية بالطريقة التي يخلط بها الرسام ألوانه فيقول:
إن الناس ... يمتلكون بين أيديهم الكثير من الألوان والأصباغ ويقومون بخلطها في تناغم وانسجام ويصيغون بها أشكالا تحاكي جميع الموجودات، فيصنعون الأشجار والرجال والنساء والوحوش والطيور والأسماك والآلهة الخالدة، ويضفون عليها هالة من الجلال.
ولا تشير العناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس من تراب وهواء ونار وماء - التي هي بمنزلة الألوان التي تشكل منها العالم الواقعي - إلى ما نعنيه اليوم بهذه الكلمات؛ فالهواء تشكلت منه جميع الغازات، والماء تشكلت منه جميع السوائل، والمعدن يعد من السوائل لأنه يذوب ويتحد مع عناصر أخرى، بل إنه أعطى كل عنصر اسم أحد الآلهة (وأحيانا اسمين)، ولم يكن هذا من قبيل الضرورة الشعرية وحسب؛ فبما أن العناصر خالدة ولا تفنى؛ فجدير بها أن تصبح مثل الآلهة في علم اللاهوت الذي لم يكن يضع حدودا ولا قيودا في ذلك الوقت. والشيء نفسه يسري على القوتين الأساسيتين لديه وهما الحب والصراع اللذين يعطيهما أسماء آلهة في بعض الأحيان؛ فالحب يجذب العناصر بعضها لبعض ويجمع بينها، في حين أن الصراع ينفرها ويبعدها عن بعضها. وتضع هذه الحرب الدائرة أوزارها في صورة العالم المتغير الذي نراه.
ويرى إمبيدوكليس أنه في وقت من الأوقات ساد الحب كل العالم واجتمعت كل العناصر في شكل إلهي واحد (ربما يكون مشابها للشكل الأشبه بالكرة لدى بارمنيدس)، ولكن شوكة الصراع أخذت تقوى وبدأت تفرق بين العناصر، فرد الحب هذا العدوان الغاشم واستطاع توحيد العالم بما فيه من جبال وبحار ونجوم وغير ذلك. وفي عالمنا المعاصر ما زال الحب والصراع في منافسة شرسة حولنا مثل معركة الأسد مع الحصان وحيد القرن في رواية لويس كارول التي يتقاتلان فيها على التاج، فينجح الحب في تجميع بعض العناصر مكونا بها أحد المخلوقات ثم يأتي الصراع ليفككها ويحولها إلى رماد، وهكذا.
ويوما ما سيكتب الانتصار للصراع (ولكن ليس للأبد) وتعود جميع الأشياء إلى سيرتها الأولى ذرات من عناصر، ولكن الحب سيشن هجوما مضادا رهيبا ويجمع العناصر كلها في شكل آخر ضخم لتبدأ المعركة بينهما من جديد. ويشبه الأمر إلى حد كبير حديثنا عن «الانفجار العظيم» و«الانسحاق الشديد» في علم الكونيات المعاصر. فكما يقول الحكماء اليوم إن المادة والطاقة كلتيهما كانتا مضغوطتين بشكل كلي في مكان واحد ثم انفجرتا وتبعثرتا في «انفجار عظيم». وإذا كان الحال كذلك فسيلي ذلك في المستقبل البعيد حركة انعكاسية تسمى «الانسحاق الشديد» وسيتجمع فيها جميع الأشياء ويلتصق بعضها ببعض في نقطة واحدة بفعل قوة الجاذبية. وهذه الفكرة تعادل فكرة انتصار الحب لدى إمبيدوكليس؛ ولذلك فيمكننا أن نعتبر تفسير إمبيدوكليس للكون خليطا من فيزياء ستيفن هوكنج والروايات الرومانسية لباربرا كارتلاند.
ويبدو جزء من قصة إمبيدوكليس بشكل يثير الشك مشابها لبعض التفاسير القديمة والتوقعات العجيبة للتفاسير الحديثة. وقد رأينا من قبل كيف استفاد الملطيون من «المتضادات» الأربع - الساخن والبارد والرطب والجاف - والتي تشبه كثيرا العناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس. أما الصراع لدى إمبيدوكليس فمثله كمثل الحرب لدى هرقليطس، وربما يشبه فكرة «الانفصال» لدى أناكسيماندر. إذن ما مدى أصالة أفكار هذا الذي نصب نفسه إلها؟ هل حقا أن إمبيدوكليس بما قدمه من أفكار أساسية لم يضف إضافة عظيمة للفلسفة والفكر مثل هرقليطس وبارمنيدس؟ قد يكون هذا هو السبب وراء سهولة ضم نظريته عن العناصر الأربعة إلى الحكم التقليدية أكثر من أي من نظرياتهم. أما مكمن عبقريته في هذه النظرية فهو التفاصيل التي أوردها للشروح والملاحظات التي يدونها لا سيما في علم الأحياء كما سنرى، وتهذيبه لأفكار سابقيه عن المواد والقوى. ورغم تأرجحها بين الإحكام والسطحية فقد قدمت هذه النظرية لنا الكثير.
ولنضرب مثالا على ذلك؛ فالشيء الأهم في عناصر إمبيدوكليس يتمثل في أنها جميعا متساوية لا يوجد ما يميز أيا منها عن الآخر، فلم يسبق أحدها باقي العناصر في الوجود ولا يعتبر أيها أصل العالم. وليس ثمة شيء جوهري لدى إمبيدوكليس؛ ولذلك فليس عليه تفسير كيفية تكوين العديد من الأشياء المختلفة الموجودة حولنا. أما ما تناوله بتفسير وتوضيح أكثر من سابقيه فهو أنه يجب تفسير التنوع اللانهائي للحياة والمادة بالإشارة إلى الكميات القليلة من المواد النقية التي تحتويها الأشياء، والتي لا يمكن اختزالها في أي شيء آخر. ومع توصل علماء الكيمياء في القرن السابع عشر إلى أن العناصر الأربعة ليست كافية للقيام بهذه الوظيفة (وقت كتابة هذه السطور تم التعرف على 115 عنصرا) وأن عناصر إمبيدوكليس الأربعة لم تكن نقية بأي حال من الأحوال ظلوا على قرب منه أكثر من أي من الفلاسفة اليونانيين السابقين. أما فيما يتعلق بالحب والصراع، فرغم روعة اسميهما فإنهما يظلان الأقرب من أفكار الفلاسفة الآخرين إلى مفهوم القوى المذكور في الفيزياء القديمة. وكانت العناصر المادية قبل إمبيدوكليس هي المنوط بها تكوين العالم، ولم يكن هناك تفريق واضح بين الأشياء المادية والقوى التي تعمل عليها، أما نظرية الحب والصراع عند إمبيدوكليس فتصور صراعا بين قوتين منفصلتين مثل قوة الجاذبية أو القوة المغناطيسية الكهربية المعروفة لنا اليوم.
لو قال إمبيدوكليس إن الحب هو الذي يؤلف بين العناصر واكتفى بذلك؛ لكنا قد محوناه من سجلات الفلاسفة ونحيناه جانبا باعتباره أحد الرومانسيين الذين حاولوا أن يتنبئوا ببعض العلوم الحديثة، وانتقلنا لشخص آخر أكثر ثقافة وعلما، ولكنه لم يترك الحبل على الغارب ولم يدع الأمر على هذا النحو، فقد جسد إمبيدوكليس دور الحب والصراع في تكوين العالم في صورة عمليات طبيعية معتادة، باذلا في ذلك جهدا مضنيا ليصفه ويخرجه بشكل متسق ومتناسق. وكما كان الحال مع جميع المفكرين اليونانيين، لم تعد هذه التفسيرات أن تكون محض ملاحظات واستقراء يختلط بالخيال، ويخضع هذا الاستقراء للتجربة ليس عن طريق اختباره اختبارا مصطنعا، ولكن بالاستخدام المقنع لأدوات الإقناع من استعارات وتمثيلات عملية.
وعلى هذا يشبه إمبيدوكليس دور الحب في تكوين أول المخلوقات بصناعة الفخار التي يجري فيها تجميع كتل التراب وبلها بالماء ثم تشكل وتترك في الشمس المحرقة لتجف. كما استخدم كذلك تشبيه الماء والدقيق في صنع الخبز؛ ذلك أن جفاف العظام وظهورها باللون الأبيض إثر خبزها في درجة حرارة عالية جدا قد جعل إمبيدوكليس يقول إن العظام تتكون من أربعة أجزاء من النار من مجموع ثمانية أجزاء. (وربما نتساءل لماذا لم يحاول ذات مرة أن يتحقق من هذه الوصفة بصنع العظام. ربما اعتقد أنه أمر مستحيل، بل وينطوي على شيء من الدنس أن يقوم باستدعاء الشمس المحرقة بنفسه). ويقول إنه بصفة عامة نتجت الأشياء الطبيعية بفعل التصليب الذي تسببه الشمس المحرقة على الأرض والماء. ولا تدهشنا كثيرا الأهمية التي يوليها لفعل الشمس المحرقة على عنصر التراب إذا علمنا أنه عاش تحت شمس صقلية الحارقة. كما تساعدنا حقيقة كونه من صقلية على تفسير فكرته الأخرى المحيرة التي تقول إن الأجسام الصلبة ربما تكونت من تسخين المياه والتراب، كما هو الحال مع فكرته التي تقول إن الصخور تكونت من الماء، وهي بلا شك فكرة لا أساس لها من الصحة حيث كانت البلورات الملحية تستخرج في صقلية في ذلك الوقت من البحر عن طريق التبخر لأغراض تجارية، فربما استنبط إمبيدوكليس من ذلك أن الصخور يمكن أن تتكون من الماء. وكذلك كانت الحمم المتدفقة من بركان إتنا تقذف صخورا، وبما أن الحمم سائلة فقد رأى إمبيدوكليس أنها تعتبر ماء. ولو كان إمبيدوكليس من سكان الإسكيمو لا صقلية لتغيرت النتائج التي توصل إليها عن العمليات الطبيعية الأساسية، فربما أولى اهتماما أكبر على سبيل المثال إلى الطريقة التي تذيب بها الشمس الأجسام الصلبة إلى سوائل مثلا إذا رأى تمثالا من الجليد يتحول لبركة ماء.
قدم إمبيدوكليس تفسيرات أكثر تقدما بخصوص الكائنات الحية، فمثلا لاحظ أن الصفات المتباينة بشكل واضح للكائنات الحية يمكن أن تكون لها الوظيفة نفسها وأن تؤدي أعمالا متشابهة، وهو أحد المبادئ الأساسية في علم الأحياء؛ ومن ثم فهو يصف الزيتون على شجرة الزيتون بأنه بيض الشجرة، وأن الشعر والريش والقشور هي الشيء نفسه. أما أكثر تفسيراته البيولوجية تفصيلا عن البقاء هو تفسيره لعمليات التنفس عند الإنسان والحيوان؛ إذ يرى أن انتظام حركة التنفس يترتب على حركة الدم في ثقوب صغيرة موجودة في الأنابيب حاملة الدم في مؤخرة فتحات الأنف، وهذه الحركة تمتص الهواء لداخل الأنف، كما أن الثقوب كبيرة بالشكل الذي يسمح بدخول الهواء ولا يسمح بهروب الدم (ولذلك يفترض أن الهواء أفضل من الدم). ثم يستفيض في شرح هذا المبدأ الميكانيكي استفاضة تنم عن مهارة وذكاء بتشبيهه جهازا بسيطا وشائعا في ذلك الوقت لحمل المياه يعتمد على فكرة الفراغ. وهذه النظرية وإن كانت بعيدة عن الهدف إلا أنها ليست غريبة على شخص كان يعتبر نفسه ذات يوم شجيرة.
اقترب إمبيدوكليس من لب القضية الجوهرية في علم الأحياء؛ حيث قال إن جميع المخلوقات تدين بالفضل فيما تحمله من صفات مفيدة ونافعة إلى حقيقة أنه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات، وأن الكائنات الغريبة والمشوهة فشلت في البقاء لأنها لم تكن لائقة لذلك، وأنه لم يتبق سوى المخلوقات التي كانت لائقة بالبقاء لكي تتكاثر وتملأ العالم. وينطوي هذا التفسير على تفصيلات خيالية تليق بعالم الأساطير التقليدي (فيقول: لقد كان في هذه المرحلة العديد من الأوجه بلا رقاب، وكانت الأذرع تهيم بلا أكتاف تلتحم بها، وكانت العيون تضرب في الأرض وحيدة بحثا عن جباه). ولكن يبدو أنه تفهم شيئا من عمل الانتخاب الطبيعي قبل أن يقدم داروين ووالاس أدلة ملموسة على النظرية بما يقرب من 2300 عام. وتقول نظرية أرسطو في هذا الشأن: «إن معظم أعضاء الحيوانات تكونت بمحض الصدفة» بعد أن زج بها بشكل عشوائي في المعركة الدائرة بين الحب والصراع، وعندما أثبتت هذه الأعضاء جدواها فإن المخلوقات التي أسعفها الحظ بأن تكون لها مثل هذه الأعضاء «تمكنت من البقاء على قيد الحياة ونظمت بشكل تلقائي في شكل لائق، في حين أن المخلوقات الأخرى التي نمت على نحو مشوه قد اندثرت أو آخذة في الاندثار.» وكما يقول داروين معلقا على هذه الفقرة: «يمكن أن نتعقب نظرية الانتخاب الطبيعي من هنا فصاعدا.»
وقد ذكر أرسطو هذه القصة الغيبية عن إمبيدوكليس لكي يفندها، فلم يكن ليقبل تفسيرا للطبيعة يقوم على الصدفة وينكر وجود أية غاية منها أو هدف لها، فأرسطو يعتقد - وكذلك اعتقد أفلاطون من قبله - أن الطبيعة مصممة بشكل من ورائه مقصد ولا يمكن تفسيرها بطريقة ميكانيكية بحتة. وقد انتصر أرسطو وأفلاطون في هذه المعركة، في حين ظل تفسير إمبيدوكليس للتكيف البيولوجي غير معترف به حتى ظهور داروين. ورغم أن أرسطو رحب بفكرة إمبيدوكليس عن العناصر الأربعة فإنه وجه سهام نقده إلى كل ما كتبه إمبيدوكليس غير ذلك، حتى قال ذات مرة إن إمبيدوكليس «لم يكن لديه ما يكتبه.»
ومن أهم الأدوات التي استخدمها إمبيدوكليس في تفسيراته الميكانيكية نظريته حول المسام والدفقات. فقد رأى أن جميع المواد تتخللها مسام وفتحات متفاوتة الأحجام وأن هذه الفتحات تقوم بقذف جزئيات متناهية الصغر، وتقوم المواد بتبادل هذه الدفقات بصورة مستمرة وانتقائية، كما أن بعض المسام تتسع لنوع معين من الجزيئات بينما تتسع مسام أخرى لأنواع أخرى وهكذا. وقد استخدم إمبيدوكليس هذه الآلية لتفسير كيفية اتحاد العناصر واندماجها، ولماذا تندمج بعض العناصر ولا تندمج عناصر أخرى، مثل اختلاط الماء بالخمر وعدم اختلاطه بالزيت. وقد استخدم إمبيدوكليس هذه الآلية لتفسير جميع الظواهر بما في ذلك الظواهر المغناطيسية وظاهرة التحلل (قائلا إن الأشياء تفنى عندما تقذف أكثر مما تمتص). وتجلت حنكته عندما استخدم هذه الآلية لتفسير ظاهرة الإدراك حيث قال إن كل حاسة لها مسامها الخاصة وتسمح بدخول ما يناسبها من جزيئات؛ فعلى سبيل المثال «تعتبر الألوان نوعا من التدفق الصادر عن الأشكال، وهو تدفق مساو للبصر ويمكن إدراكه من خلاله»، كما هو الحال مع أفلاطون الذي قال إن الشم والتذوق والسمع يمكن تفسيرها بطرق مشابهة.
وثمة فكرتان مميزتان في رؤية إمبيدوكليس عن الإدراك، إحداهما تدخل في إطار نظرية عامة عن طبيعة الإدراك؛ فهناك مثلا الأطروحة الميكانيكية غير الناضجة التي تقول إن الإدراك يحدث من خلال الاتصال المادي بين الحواس والأشياء الخارجية من خلال الدفقات المقذوفة بينها، والأخرى عبارة عن مبدأ عام يكتنفه مزيد من الغموض يقول: «يعرف الشيء بمثله.» وهذه المقولة جزء من حكمة يونانية قديمة تتحدث عن الفكرة الغامضة التي تقول إن الأشياء تجذب أمثالها. فعلى سبيل المثال، يقال إننا نرى الأشياء اللامعة لأن المادة التي صنعت منها أعيننا لامعة. وقد كانت هذه الفكرة مقبولة لدى القدماء، لكنها ليست كذلك بالنسبة للعقل الحديث.
وإذا كان التفسير القائم على المسام والدفقات يعتبر محاولة لوصف طريقة عمل العين والأذن والأنف من الناحية الفسيولوجية؛ فإن فكرة أن الشيء يعرف بمثله إنما هي محاولة متعثرة للوصول إلى شيء بخصوص الطبيعة العامة للوعي، فإمبيدوكليس يرى أن الإدراك والتفكير شكلان من أشكال الانجذاب بين الإنسان والطبيعة؛ إذ يمكننا أن نرى الأشياء وندركها لأننا خلقنا منها، وبالمثل توجد قوى الحب والصراع داخل الإنسان؛ ولذلك فهو يستطيع إدراك تجلياتها في الطبيعة، ولكن للأسف طغى الصراع على حياة الإنسان - أو كذلك اعتقد إمبيدوكليس - وما يحياه الإنسان من حياة تعج بالمشكلات يعكس هذه الحقيقة. وتمهد هذه العاطفة لدخول الأفكار الأورفية والفيثاغورية إلى ما ينظمه من شعر ديني أطلق عليه «سبل النقاء». •••
وربما فهم المستمعون قصيدة إمبيدوكليس «سبل النقاء» على أنها إشارة إلى شعائر التطهير، بمعناها الحرفي والمجازي، التي كانت ضرورية لهؤلاء الذين أساءوا للآلهة أو خالفوا بعض الأوامر المقدسة. ويتحدث هذا الجزء من كتاباته عن الأشكال الأخلاقية للحب والصراع، ويصف كيف تمكن الصراع من فصل الإنسان عن طبيعته السماوية بإغرائه بارتكاب الخطيئة، وترتب على ذلك أن طرد الإنسان من النعمة السماوية فقال:
ظل الإنسان ثلاثين ألف عام يتيه بعيدا عن المكان المبارك حيث تشكل خلال هذا الوقت على شاكلة جميع الأشياء الفانية متقلبا في ألوان الشقاء، وظلت قوى الريح تطارده في أواسط البحار ثم تقذف به أمواج البحار إلى تراب اليابسة، ثم تلقيه الأرض تحت أشعة الشمس الحارقة ثم تعيده الشمس إلى دوامات الريح القوية ، فظل في هذا الشقاء تتقاذفه الأشياء الفانية ولا تقبله. وهذا هو حالي الذي أعيش فيه الآن؛ فأنا منفي عن رحاب الآلهة وهائم على وجهي لأنني وثقت يوما في الصراع الجامح.
ويرى هسيود أنه يمكن طرد أحد آلهة جبل أولمبوس لمدة معينة إذا أساء التصرف، فقال: «ويطرد من زمرة الآلهة الخالدة لمدة تسعة أعوام ولن يعود إلى مجالسهم أو يحتفل بأعيادهم، ولكنه في العام العاشر يعود إلى الآلهة الخالدة ليعيش في بيت أولمبوس.» وقد اعتنق إمبيدوكليس تلك الفكرة التي وجدها في علم الأساطير التقليدي بالإضافة إلى بعض العناصر الأخرى من الديانة الأورفية وبعض الطوائف الدينية الأخرى التي يكتنفها الغموض؛ ولذلك فإن عقاب الإثم لا يقتصر على النفي ولكن يتضمن العديد من عمليات التناسخ، وكذلك لا يقتصر هذا العقاب على آلهة جبل أولمبوس الآثمين فحسب، بل يشمل كل إنسان مشى على ظهر الأرض؛ فكل إنسان كان له قبس من النور الإلهي، ولذلك «فهو يستحق النفي وأن يهيم في الأرض على وجهه دون هدف.» ويبدو أن الخطيئة التي جلبت على الإنسان هذا القدر المشئوم بأن يولد حقيرا صاغرا هي التضحية بالحيوانات والأكل من لحومها، فقال في ذلك: «وا حسرتاه! ليتني قضي علي في هذا اليوم قبل أن ارتكب هذا الفعل الشنيع وآكل من اللحم.» ووفقا للمعتقد الفيثاغوري، فإن التكفير عن هذا الذنب يقتضي أن يتحول الإنسان إلى إنسان نباتي لا يأكل اللحم.
ويكمن المغزى الرئيس من قصته في ضرورة أن تقوم حياة الإنسان على مبدأ الحب لا الصراع. وهو يتحدث عن عصر ذهبي كانت الأرواح فيه تعيش في هناء «قبل أن يكسوها اللحم الغريب» عقابا لها، فقال في ذلك: «لم يكن بين أظهرهم إله حرب ليعبد، بل كان الحب هو الملكة المتوجة فوق رءوسهم.» وقال أيضا: «لقد كانت جل المخلوقات وديعة طوع بنان الإنسان، فكانت الوحوش والطيور في علاقة صداقة رائعة معه.» ولكن قتل الحيوانات أو التضحية بها من أجل الطعام كان أمرا خاطئا على ما يبدو؛ لأن الإنسان يجب أن يعيش معها ومع كل ما حوله في سلام.
ويشبه هبوط الإنسان من الفردوس ليزج به بين العناصر والمخلوقات الأخرى في سلسلة إعادة البعث والإحياء ما حدث من تفكك لإمبراطورية الحب القديمة، عندما دمر الصراع الكرة الكونية وقام بفصل العناصر عن بعضها. وكما أن العناصر ستتجمع يوما ما بفضل قوة الحب؛ فإن الأرواح التي تكسوها أنواع مختلفة من اللحم الآن ستعود كذلك إلى سيرتها الإلهية الأولى، فهي تشق طريقها عبر سلسلة من عمليات التناسخ، وفي ذلك قال:
ولكنها في النهاية تأتي بين أظهر الناس على الأرض في صورة أنبياء وشعراء وأطباء وأمراء، ثم ينالون من الجلال والعظمة ما ناله الآلهة قبلهم، فيتقاسمون مع الخالدين شرابهم ومأكلهم ومسكنهم دون ذلك الجزء الإنساني المليء بالأسى والحزن والنصب.
وقد كان إمبيدوكليس حقا ذلك النبي والشاعر والطبيب، كما كان يعامله الجميع كأمير محبوب. بيد أن الطب - أو على الأقل علم وظائف الأعضاء التقليدي - كان محل اهتمامه العملي الأكبر مثلما كانت الرياضيات هي الشغل الشاغل للفيثاغوريين. لقد غالى الفيثاغوريون في تعظيم علم الرياضيات حتى اعتبروا دراسته من أهم الوسائل التي تجلب لهم الخلاص، ويبدو أن إمبيدوكليس قد عظم علم الطب ورفعه إلى هذه المكانة؛ فقد كان الطب على الأقل يستحوذ على إعجاب العامة أكثر من الهندسة.
وكان إمبيدوكليس أول من ينسب إليه الفضل في إنشاء واحدة من مدارس الطب الثلاثة؛ ألا وهي المدرسة «التجريبية»، لعرض أسلوبه في اكتساب المعرفة عن طريق الملاحظة الدقيقة. وقد كان بعيدا كل البعد عن فكرة بارمنيدس التي ترى أن الحواس لا تجر علينا إلا الوهم والخداع، أما إمبيدوكليس فقد حث جمهوره قائلا:
هلموا وكرسوا كل طاقاتكم لملاحظة كيف يبدو كل شيء واضحا جليا، فلا تولوا البصر الثقة الكاملة دون السمع، ولا تعطوا السمع أفضلية على اللسان، ولا تسحبوا الثقة عن أي من الأعضاء الأخرى، فكل منها يشق طريقا للفهم والإدراك، ولكن حاولوا أن تفهموا كل شيء بوضوح.
ورغم كل الإعجاب الذي أبداه إمبيدوكليس لبارمنيدس فقد رفض فكرة الاعتماد على العقل فحسب بوصفه الطريق الوحيد للحقيقة ورفض «سحب الثقة» من الحواس. وسنعرض في موضوعنا التالي لأناكساجوراس الذي نشأ في كلازومني واشترك مع إمبيدوكليس في رغبته في فهم كل ظواهر الطبيعة بدلا من رفضها. ولم يحمل أناكساجوراس أيا من صفات الأنبياء والشعراء التي حملها إمبيدوكليس؛ فقد كان كالملطيين باحثا في الطبيعة يتميز بالصفاء والبساطة؛ مما جعل الأفكار الغامضة عن التناسخ في أشكال الشجيرات والوحوش والأسماك والطيور تتلاشى تماما.
الفصل السابع
العقل والمادة: أناكساجوراس
ولد أناكساجوراس (حوالي 500-428ق.م.) في مدينة كلازومني بالقرب من مدينة سميرنا، ولكن لحسن حظه لم يبق هناك؛ فهو الذي حمل فلسفة الطبعانية الأيونية غربا حيث أثينا. وعندما وصل إلى أثينا عام 460ق.م. كان سقراط حينها لا يزال صبيا ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد، ويبدو أن المدينة لم تعرف أي فيلسوف أو رجل علم حتى ذلك الوقت. وقد تحمله سكان أثينا قرابة ثلاثين عاما، وأطلقوا عليه اسما يشوبه التهكم إذ سموه «عقل»، وكانوا يلهون بتداول النوادر عن فكاهاته الساخرة وبعده عن أرض الواقع، ولكنهم لم يكونوا ليتساهلوا معه أكثر من ذلك، فاتهموه في النهاية بالفسق ففر نحو المشرق حتى وصل إلى لامبسكس بعد أن ترك أثرا عميقا في نفوس أهل أثينا.
وتتمثل جريمته المعلنة رسميا في أنه كان يعتقد بأن الأجرام السماوية ليست آلهة تستحق العبادة بل أحجار ملتهبة يجب تجنبها، إلا أن العديد من الكتاب القدامى قالوا إن السبب الحقيقي في مقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بريكليس؛ إذ وجد أعداؤه في أناكساجوراس ببعده عن الواقعية هدفا أسهل لهم. ويبدو هذا التفسير معقولا؛ فقد طالت تلك الاتهامات غيره من أصدقاء بريكليس، وشاعت في أثينا المحاكمات ذات الدوافع السياسية بتهمة البدع الدينية بنهاية القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن تلك المحاكمات لم تكن لتؤدي أغراضها السياسية لو لم تثر الهرطقة والكفر بالغيبيات استياء متأصلا بين أهالي أثينا، أو على الأقل في نفوس بعضهم.
وقد جاء ذكر أناكساجوراس في رواية أفلاطون عن محاكمة سقراط بتهمة الفسق بعد نحو ثلاثين عاما، حيث توجه سقراط إلى أحد متهميه وهو رجل يدعى ميليتوس، وسأله عما إذا كان الاتهام الموجه إليه هو «أني لا أؤمن بأن الشمس والقمر آلهة، في حين أن معظم الناس يؤمنون بذلك.» فأكد ميليتوس كلامه قائلا: «إنه فعلا لا يؤمن بذلك أيها السادة المحلفون؛ فهو يقول إن الشمس قطعة من الحجارة والقمر كتلة من التراب.» وقد أتاح هذا الرد الفرصة لسقراط ليمزح قليلا على حساب ميليتوس فقال: «عزيزي ميليتوس! هل تتخيل أنك تحاكم أناكساجوراس؟ ألهذا الحد تستهين بهؤلاء السادة حتى تظن أنهم جهلاء فلا يعرفون أن كتابات أناكساجوراس الكلازومني مفعمة بنظريات مثل هذه؟»
لا شك أن أناكساجوراس كان مهتما بالفلك اهتماما بالغا ولكن بصبغة أيونية. وقد قيل إنه تنبأ بسقوط نيزك وسقط فعلا على مدينة إيجوسبوتامي في تراقيا عام 467ق.م. صحيح أن هذه القصة أبعد عن المنطق حتى من قصة نبوءة طاليس بالكسوف منذ أكثر من قرن قبله، إلا أن هذه القصة ذات مغزى؛ فربما تكون قصة سقوط صخرة من السماء قد أكدت فكرة أناكساجوراس عن ماهية النجوم. ولا بأس بذلك التخمين عن الأجرام السماوية في أيونيا بفكرها الحر، أما في أثينا المتحفظة فمن الواضح أنه لم يكن مقبولا.
كان أناكساجوراس معارضا للخرافات بشتى أشكالها وليس للخرافات المتعلقة بالنجوم فحسب. وقد روى بلوتارخ في كتابه «حياة بريكليس» قصة إحضار رأس خروف بقرن واحد إلى بريكليس وكان به نتوء في منتصف رأسه، وادعى أحد العرافين - ويدعى لامبون - أن وجود مثل هذا الشيء الغريب على أرض بريكليس يعني أن بريكليس سيصبح قائد أثينا (وهو ما حدث بالفعل). أما أناكساجوراس - كما تروي القصة - فأمر ببساطة بتشريح رأس الخروف، وأوضح أن القرن الوحيد نما على تلك الشاكلة لأن مخ الخروف كان مشوها. ويشير بلوتارخ إلى وجهة نظر أناكساجوراس القائلة إنه لم يكن هناك داع للبحث عن معنى وراء هذا الحدث ما دامت تلك الحقيقة الفسيولوجية قد اكتشفت.
ويبدو أن بريكليس قد أفاد كثيرا من صحبة مستشار شكاك ومحب للاستطلاع مثل أناكساجوراس؛ فقد ألمح بلوتارخ إلى إن بريكليس «تشبع بما يسمى بالفلسفة العليا والتدبر الرفيع» إثر ارتباطه بأناكساجوراس قائلا: «فسمى به أناكساجوراس فوق الخرافات» التي لطالما «أصابت هؤلاء الذين يجهلون أسباب ... الأشياء، فأصبحوا مهووسين بفكرة التدخل الإلهي ...» كما يعزو بلوتارخ جل وقار بريكليس وروح الدعابة التي يتمتع بها لتعرضه لفلسفة أناكساجوراس. كذلك قال سقراط إن فلسفة أناكساجوراس هي سبب مهارة بريكليس في الجدل والبلاغة. لكن مهما كانت الآثار الطيبة التي تركتها رؤية أناكساجوراس للعالم على بريكليس لم يكن سقراط ليأخذها كاملة؛ فقد رأى أنها علمية ضيقة الأفق تهتم كثيرا بالأسباب الميكانيكية للأشياء وتهمل معناها وغرضها.
كان رفض سقراط لرؤية أناكساجوراس نقطة تحول في تاريخ الفلسفة، ويقال أحيانا إنه بيت القصيد الذي تحول فيه الموضوع من دراسة تأملية في الطبيعة إلى دراسة معنوية جادة للإنسان، وهذا ما قاله شيشرون بعد قرابة ثلاثة قرون:
منذ قديم الأزل وحتى عهد سقراط تناولت الفلسفة الحركات والأرقام، وتساءلت عن الأشياء من أين أتت وهل عادت أم لا، كما بحثت الفلسفة بشغف في حجم النجوم والمسافات التي تفصلها ومساراتها وكل الظواهر السماوية الأخرى. أما سقراط فهو أول من أتى بالفلسفة من السماء ووضعها في ميادين الإنسان ... وأكرهها على طرح أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر.
في هذا الحديث بعض من الصحة ولكن ليس الكثير، فليس صحيحا أن الفلسفة كانت مقصورة على المسائل العلمية حتى مجيء سقراط؛ إذ إن كثيرا من الفلاسفة مثل فيثاغورس وهرقليطس طرحوا «أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر» قبل سقراط بوقت طويل. وقد كانت أحكامهم الغامضة التي توصلوا إليها في ظل القرن السادس أقل تعقيدا مما قاله سقراط، إلا أنه كانت هناك محاولات أكثر حذقا وحجاجا لتناول مسألة الأخلاقيات في عهد سقراط بأثينا، ولم تكن هذه المحاولات ناتجة عن تأثيره (انظر نهاية الفصل الثامن). وظلت الفلسفة تتناول موضوعات الفلك وغيرها من المسائل العلمية لوقت طويل في أثينا وكل بقعة أخرى في بلاد اليونان لوقت طويل بعد أن أتى بها سقراط من السماء إلى الأرض.
ويرجع عدم اكتراث سقراط بالجانب العلمي من الفلسفة جزئيا إلى أنه وجد ذلك الجانب مثيرا للجدل والخلاف؛ حتى إنه لم يستطع أن يقرر أية مدرسة يتبع من بين المدارس المتخاصمة في ذلك المجال، لكن السبب الرئيس في ذلك هو أنه كان أكثر اهتماما بالإنسان وسلوكه في وقت لم يكن لدى العلم ما يقوله عنهما إلا القليل. كما أن سقراط وأفلاطون وجدا مشكلة أخرى تتعلق بفلاسفة من طراز أناكساجوراس؛ فالفلسفة العلمية التي ناديا بها لم تستفد بدور السبب والغرض في الطبيعة إلا قليلا. ولا نعرف رأي سقراط في هذا المذهب، لكن أفلاطون قال إنه كان يتبنى ذلك الرأي. وكان سقراط يود سماع تفسيرات للطبيعة تحاكي عمل وظائف العقل الذكية، فكان يريد تفسيرا لسلوكيات الطبيعة يشبهه بسلوكيات الإنسان ويشرح ما يقوم به من عمليات في ضوء الأهداف التي كان يسعى إلى تحقيقها.
ويقول أفلاطون إن هذا هو سبب انجذاب سقراط في بادئ الأمر لما سمعه من أناكساجوراس؛ فقد ألمح أناكساجوراس إلى أن ثمة «عقلا» يتحكم في العالم بأسره وفي كل العمليات الطبيعية، ولكن سرعان ما خاب ظن سقراط في هذه الفكرة لأن أناكساجوراس لم يستفد منها حق الاستفادة فقال:
عندما كنت صغيرا كنت شغوفا بالعلوم الطبيعية؛ إذ ظننت أنه سيكون أمرا رائعا أن يعرف المرء الأسباب التي تؤدي إلى وجود الأشياء واستمرارها في الوجود وانقطاعها عنه، وتساءلت: هل صحيح أن المخلوقات تتكاثر عن طريق الاختمار بفعل الحرارة والبرودة كما يقول البعض؟ وهل نفكر بفعل الدماء التي تجري بداخلنا أم بفعل أبخرة النيران المشتعلة داخلنا؟ في النهاية توصلت إلى أنني على وجه الخصوص لست مؤهلا لمثل تلك التساؤلات. لقد حيرتني تلك التأملات حتى إني لم تعد لدي المعرفة التي ظننت أني أعرفها ...
وذات مرة سمعت أحدهم يقرأ من كتاب قال إنه لأناكساجوراس، وأكد أن العقل هو المتحكم في النظام، وهو مسبب كل شيء. وسررت بهذا التفسير، وبدا لي منطقيا أن يكون العقل هو مسبب كل شيء، وبدأت أتأمل أن لو كان الأمر كذلك فإن العقل ينظم كل شيء كيفما يلائمه. ومن ثم إذا أردنا أن نعرف سبب حدوث أي شيء أو توقفه أو استمراره يجب أن نتبين أفضل حال لذلك الشيء ...
وقد دفعتني تلك التأملات إلى الاعتقاد أني قد وجدت في أناكساجوراس مرجعية أطمئن لها حول المسببات، وافترضت أنه سيشرع في إخبارنا ما إذا كانت الأرض مسطحة أم كروية، ثم سيسهب في شرح سبب ذلك وضرورته المنطقية بأن يشرح لنا كيف أن ذلك هو أفضل حال وما هي أسبابه. ولم يخطر ببالي أبدا أن يقدم الرجل الذي أكد أن ما تبدو عليه الأشياء من نظام إنما هو نتيجة عمل العقل أي تفسير آخر لها، غير أنها في أنسب حال لها ... (يقول سقراط إنه اشترى بعد ذلك نسخة من أعمال أناكساجوراس.) ... وعندما شرعت في القراءة اكتشفت أن ذلك الرجل لم يستفد من العقل ولم ينسب له أي علة (أي تفسير) لنظام العالم، بل أخذ يقدم أسبابا مثل الهواء والأثير والماء وغيرها من السخافات.
بعبارة أخرى، لم يقدم أناكساجوراس شيئا جديدا. وسأعود لاحقا للحديث عن أهمية تفسير الأشياء بالرجوع إلى العقل وبحث «الحال الأنسب للأشياء». وقد قاد أفلاطون - ويليه أرسطو - ذلك الاتجاه، وعلى مر 2000 عام توارى خلفهما التفكير العلمي ذو الطراز المادي الميكانيكي الذي صاغه أناكساجوراس وعلماء الطبيعة من قبله. وبعد ذلك عاد علم العلم المادي يرفرف فوق سارية الحياة، وازدهر في عهد جاليليو ونيوتن، ولكنه قبل أن يخبو مؤقتا وراء أفلاطون وأرسطو كان قد بلغ أوج مجده في العالم القديم على يد من يدعون «الذريين»، مثل ليوكيبوس وديموقريطس، الذين يعدون في بعض الأوجه من زمرة مفكري القرن السابع عشر، بيد أنهم جاءوا سابقين لزمانهم.
نشأ تفسير أناكساجوراس للطبيعة في ظل فكر بارمنيدس، شأنه في ذلك شأن الذريين من بعده وإمبيدوكليس من قبله، فكان عليه أن يجد سبيلا لإعادة ترتيب العالم المادي المتغير الذي هاجمه بارمنيدس. ورغم أن أناكساجوراس لم يذكر عن العقل ما يرضي أفلاطون فقد ذكر عن المادة الكثير، وذلك ما أعطاه مكانته في ذاكرة تاريخ الفلسفة وليس هجومه على الخرافات . •••
لقد انطلق أناكساجوراس من النقطة نفسها التي انطلق منها إمبيدوكليس، لكنه انتهى في نقطة مخالفة تماما. فإذا كان إمبيدوكليس قد ضاعف «الحقيقة الواحدة» السرمدية غير القابلة للانهيار لدى بارمنيدس وأتى ب «العناصر الأربعة» الخالدة غير القابلة للانهيار، فإن أناكساجوراس كان يطمح إلى مضاعفة عالم ما وراء الطبيعة بطموح أكبر من ذلك؛ فقال إن كل المواد خالدة وغير مخلوقة وغير قابلة للانهيار. ويمكننا تبين مصدر هذه الفكرة إذا نظرنا في التساؤل الغريب الذي اعتراه: «كيف للشعر أن ينشأ من غير الشعر ...؟»
يشير أناكساجوراس في هذا السؤال إلى أن الطعام الذي نأكله ويبدو (في المجمل) أنه لا يحتوي على أي شعر فيه يتحول إلى أجسامنا النامية، التي تحتوي على شعر. إذن فالشعر ينشأ من غير الشعر. ولكن لماذا تحير أناكساجوراس من ذلك؟ يرجع ذلك كما قال أحد أتباع بارمنيدس إلى استحالة نشوء الشيء من العدم أو من شيء مغاير، فدفعه ذلك إلى محاولة تفسير كل الحالات الظاهرة للأشياء التي تأتي إلى الوجود مثل نمو الشعر. وكان إمبيدوكليس قد حاول في نظريته عن العناصر الأربعة تفسير تلك التغيرات قائلا إنها تتمثل في إعادة ترتيب للعناصر؛ فمثلا بترتيب الماء والتراب والنار كما ينبغي تحصل على العظام. ومن ثم فليس هناك أي شيء جديد ينشأ عندما تنمو العظام لأنها ليست إلا نتاج إحدى طرق الترتيب المتعددة التي يمكن لمكونات العالم الموجودة مسبقا أن تترتب عليها. ولكن أناكساجوراس لم ينجذب إلى تلك الفكرة فطرح نظريته المتطرفة.
وتتمثل فكرة أناكساجوراس الجوهرية في أن كل مادة تحتوي على كميات صغيرة من الكثير من المواد الأخرى. وتقدم هذه الفكرة حلا لمشكلة تحول الشيء إلى شيء آخر؛ لأنها تقول إن المادة «الجديدة» كانت موجودة في المادة القديمة طوال الوقت، إذن فليس هناك جديد فيما نشأ. ومن ثم فعندما يغذينا الطعام الذي نتناوله ويتحول إلى شعر أو عظام أو غير ذلك؛ فهذا لأنه يحتوي على الشعر من البداية. ويبدو أن أناكساجوراس رأى أن أي شيء يمكن أن يتحول إلى أي شيء آخر (ربما من خلال مراحل وسيطة عدة)؛ ولذا قال إن كل مادة تحتوي على كميات من الكثير من المواد الأخرى بل من كل المواد الأخرى. ولذلك فما نسميه خبزا يحتوي أيضا على اللحم والماء والتراب والدقيق والذهب وكل شيء آخر لكن بكميات صغيرة؛ حتى إننا لا نرى إلا المادة السائدة وهي مادة الخبز. ويصف أرسطو هذه الفكرة (التي يعارضها) قائلا:
تبدو الأشياء ... مختلفة عن بعضها وتحمل مسميات مختلفة وفقا لما يزيد عدده فيسود بين خليط مكوناتها اللانهائية؛ فليس ثمة ... ما هو بأكمله أسود أو أبيض أو حلو أو عظم أو لحم، وإنما يكتسب الشيء طبيعته مما يغلب بين مكوناته.
كان ذلك حلا يستند إلى الخيال - إذا استخدمنا أخف الألفاظ - مما يسر على الفيلسوف الروماني لوكريتيوس (حوالي 98-55ق.م.) أن يسخر منه في قصيدته «عن طبيعة الأشياء»، فزعم أنه وفقا لنظرية أناكساجوراس «ينبغي أن يظهر على حبات الذرة عند طحنها تحت حجر الرحى علامات وجود الدم أو غيره من المواد التي تغذي أجسادنا.» ورأى لوكريتيوس أن ذلك استنتاج عبثي، ولكنه لو واجه أناكساجوراس بهذا الاستنتاج لقدم أناكساجوراس ردا جاهزا له ولقال إن الذرة بالفعل تحتوي على الدم، ولكن لا يبدو لنا أنها تدمى لأن حجر الرحى لا يستطيع أن يطحنها بما يكفي لنرى جزيئات الدم الصغيرة رأي العين. ولا يكفي النظر للذرة لمعرفة بواطنها الحقيقية.
لقد رأى أناكساجوراس إذن أن الحواس لا تقدم ما يكفي من المعلومات الدقيقة عن العالم. وفي إشارة إلى الكميات غير المرئية الموجودة في الخبز والماء على سبيل المثال، قال أناكساجوراس إن تلك المواد تحتوي على «أجزاء لا يدركها إلا العقل.» أي إن الحجج العقلية لا الحواس هي التي ترشدنا إلى أن الخبز لا بد وأن يحتوي على كميات صغيرة من الأشياء الأخرى. وتشير هذه الحجة إلى أنه لا توجد طريقة أخرى لتفسير تحول الخبز إلى مواد أخرى في أجسادنا ليغذينا. وفي هذا الإطار اتبع أناكساجوراس الفرضية التي قدستها إلهة بارمنيدس والتي تنادي ب «تحكيم العقل» وعدم الانسياق وراء ما ندركه بحواسنا والانخداع به. ولكن أناكساجوراس كان أقل تطرفا وتشددا من بارمنيدس؛ فلم يعمد إلى تحكيم العقل بتجاهل الشواهد تماما، وإنما بمحاولة فهمها فهما معقولا، وأعرب عن ذلك في عبارة غامضة قال فيها: «ما الظواهر إلا لمحة من الغموض والإبهام.» أي إن الحواس ترسم لنا خطوطا ضبابية لفهم العالم فيأتي العقل ليوضحها لنا ويركز عليها.
وزعم أناكساجوراس أن المادة حتما يمكن تقسيمها تقسيما لا نهاية له، فمهما طحنت قطعة من الذهب مثلا (والذهب يعني لأناكساجوراس جزءا من مادة يغلب الذهب على معظمها) فإن كل جزيء منها سيحتوي على جزيئات أصغر من الذهب، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وإلا لأمكن إبادة قطعة الذهب بطحنها إلى قطع صغيرة جدا حتى لا يبقى منها شيء. أما أناكساجوراس وغيره من أتباع بارمنيدس الجدد فلم يستسيغوا قط فكرة الإبادة المطلقة، وقد قال في ذلك: ليس هناك «أصغر صورة» لما هو صغير، ولكن هناك دائما «صورة أصغر» (لأنه يستحيل لشيء موجود أن يفنى بتقطيعه).
لقد رأى أناكساجوراس إذن أن العالم متخم بما يشبه عددا لانهائيا من الصناديق الصينية متدرجة الحجم، يحوي كل منها الآخر بداخله. لكن كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ لقد فسر إمبيدوكليس طريقة ترتيب الأشياء في الكون باستحضار قوى الحب والصراع المستخدمة في فلسفته، والتي جعلت العناصر الأربعة الأصلية تلتحم وتنفصل بالتبادل حتى أخذت الأشكال المتنوعة والمتغيرة التي نراها اليوم. أما أناكساجوراس فقد استحضر قوة أقل حيوية ولكنها تنم عن اختيار أبعد من حيث الخيال ألا وهي قوة العقل، فقال إنه في البداية كانت هناك كتلة جامدة وغير متمايزة من الأشياء تتكون من كل المواد بعضها مع بعض، ثم بطريقة ما بدأ العقل في تحريك الأشياء فقال:
وقد بدأت تدور في محيط صغير، لكنها صارت الآن تدور في محيط أكبر، وستدور بعد ذلك في محيط أكبر منه ... وكل ما كتب له الوجود ... رتبه العقل، حتى دوران النجوم والشمس والقمر وكذا الهواء والأثير اللذان ينفصلان الآن، وقد تسبب ذلك الدوران في هذا الفصل، فينفصل الغزير عن القليل والساخن عن البارد والفاتح عن الداكن والجاف عن الرطب.
قد يبدو بعض ذلك مألوفا حيث استعار أناكساجوراس أفكار الملطيين عن فصل السمات المتضادة وطورها من ناحيتين أساسيتين؛ أولاهما: أنه أتى بفكرة جديدة بأن كل أنواع المواد كانت موجودة في المزيج الأصلي رغبة منه في التوفيق مع مبدأ بارمنيدس القائل إنه لا يمكن لشيء أن ينشأ عن شيء آخر، والأخرى: أنه أتي بقوة خارجية في صورة العقل لتفسير الحركة. ومن الواضح أن أناكساجوراس قد خالف بارمنيدس في الاعتقاد باستحالة الحركة، إلا أن هجوم بارمنيدس حيره حتى شعر بالحاجة لإيجاد تفسير لها، ولم يستطع أن يقبل الحركة كأمر مسلم به كما فعل الملطيون.
والحق أن تفسيره للحركة لم يأت بشيء ذي جدوى، فكل ما فعله هو أن وجه بنانه نحو هذا «العقل» الغامض واتهمه بالتسبب في كل هذا. ولكن لماذا اختار العقل بالذات لهذا الدور؟ غالبا ستكون الإجابة على هذا السؤال كما يلي: يقول أناكساجوراس في مناسبة أخرى إن العقل لم يدفع الدوران الأولي للمواد البدائية وحسب، بل إنه لا يزال يتحكم في كل الكائنات الحية، هذا بالإضافة إلى حقيقة أن كل قطعة من أية مادة تحتوي على كل أنواع المواد الأخرى، وقد قال في ذلك: «هناك بعض الأشياء (ويقصد بها الكائنات الحية) لديها عقل كذلك.» والفارق الوحيد بين الكائنات الحية وغير الحية بالنسبة للإغريق هو أن الكائنات الحية تستطيع أن تحرك نفسها بنفسها؛ ومن ثم يفترض أن أناكساجوراس استنتج أن العقل هو الذي يمكنها من ذلك (وربما تتمتع النباتات بعقول بدائية تمكنها من النمو). وبذلك لم يتبق إلا خطوة بسيطة للوصول إلى الاستنتاج بأن العقل هو الذي بث الحياة في الكون في بدايته وحركه، كما هو الحال مع الكائنات الحية التي لا يزال يبث الحياة فيها.
لقد تحدث أناكساجوراس عن عقله باعتباره كيانا «يملك المعرفة الكاملة عن كل شيء ويمتلك أعظم القوى» وعلى أنه شيء «لانهائي ومستقل وواحد قائم بذاته» ومنفصل عن المادة العادية، وهذا يسول للمرء أن يستنتج أننا نقف أخيرا أمام فيلسوف إغريقي نجح في التخلص من المادية الفظة وبالتالي يستحق أن ننسب له الرؤية «الثنائية» للعالم التي ترى الواقع منقسما إلى عالمين: أحدهما هو عالم العقل المعنوي الذي يميزه الذكاء، والآخر هو عالم المادة الصلبة العجماء. إلا أن هذا الاستنتاج سابق لأوانه؛ فالحقيقة هي أن أناكساجوراس نظر للعقل باعتباره شكلا مميزا من أشكال المادة وليس كيانا منفصلا عنها تماما، فوصفه بصفات مادية قائلا إنه مادة رقيقة ونقية، وإنه يشغل حيزا وليس بمعدوم المادية تماما. إذن فرغم أن أناكساجوراس كان يصارع ضد قيود المادية الفظة فلم يكن ليتجنبها تماما.
أوضح سقراط لاحقا أنه بعد ظهور العقل على عجالة لدى مولد الكون سرعان ما اختفى من المشهد؛ مما خيب أمله، فيبدو أنه لم يعد للعقل دور نحو المواد غير الحية بعد أن بدأ دورانها الأولي، وسرعان ما طغت الأسباب المجردة الطبيعية على ساحة التفسيرات فلم يذكر أناكساجوراس سوى تلك الأسباب عند تفسيره لتطور الكون بعد أن بدأ الدوران، فقيل إن النجوم عبارة عن أحجار قذفها دوران الأرض وأصبحت مضيئة بفعل الحرارة الناتجة عن سرعة حركتها. وهكذا أخذ أناكساجوراس يفسر ما بوسعه من ظواهر طبيعية بذلك الأسلوب الميكانيكي مستندا إلى قوة الطرد المركزي وقوة الاندفاع نحو المركز والمبدأ الإغريقي القديم القائل بانجذاب المتماثلين. وبذلك اقتصر دور العقل على إلقاء الكرة في الملعب الكوني، وحال انطلاق تلك الكرة تنطلق المواد سريعا وحدها في طريقها الصاخب النابض بالحياة.
ومن حسن حظ أناكساجوراس أنه نحى العقل جانبا، فهذا ما نجاه من التراجع إلى مرتبة «علماء اللاهوت» القدامى بقصصهم عن أهواء الآلهة التي لا يمكن التنبؤ بها، كما أن تفسيره لأغلب عمليات الكون من خلال قوى مجردة وطبيعية أعاده إلى زمرة علماء الفيزياء المعاصرين فأصبح أحد أوائل علماء الفيزياء.
ومن ضمن الأشياء التي تفكر فيها أناكساجوراس الطقس وبعض جوانب علم الأحياء والإدراك بالإضافة إلى علوم الكون والفلك وغيرها من الأمور. ويبدو أنه أدرك أن القمر يأتي بضوئه من الشمس وأن ظل الأرض هو المتسبب في خسوف القمر. ونرى في كل ذلك أثر تراث الملطيين، إلا أن أناكساجوراس - على عكس طاليس - لم يكن رجلا عمليا؛ حيث ولد ثريا ثم تخلى عن أملاكه ليركز في الفلسفة، ولم يبد أي اهتمام بالسياسة أو المال. وتروي إحدى القصص أن طبعه الرواقي الذي لا يلقي بالا للأمور الدنيوية طال أبناءه أنفسهم حتى قيل إنه عندما وصلته أنباء موت أبنائه قال: «أعلم أن أبنائي قد ولدوا ليموتوا.» وبالمثل عندما وبخه شخص (ربما من أهل أثينا وكان يود لو أن أناكساجوراس بقي في كلازومني) قائلا: «ألا يهمك بلدك الأم؟» أجاب: «بل يهمني بلدي الأب كثيرا.» وأشار إلى السماء.
الفصل الثامن
من يضحك أخيرا: ديموقريطس
كانت النظرية الذرية هي آخر النظريات الإغريقية وأبرزها في أعقاب بارمنيدس. ويبدو أن مخترعها هو ليوكيبوس الذي لا نعرف فعليا عنه شيئا، ثم طورها ديموقريطس (حوالي 460-370ق.م.) الذي يبدو أنه يكاد يعرف كل شيء أو على الأقل ظن أنه يعرف كل شيء. ويصف المؤرخ ديوجين ليرتيوس ديموقريطس كما لو كان مزيجا من شيرلوك هولمز والعراف الدلفي: فعندما تذوق كمية من اللبن يقال إنه استنتج أن هذا اللبن جاء من أنثى معز سوداء اللون وقد أنجبت للتو أول صغارها. ولا تقل هذه القصة عجبا عن قصة تأخيره موته بمحض إرادته بعد أن تجاوز سن المائة عن طريق استنشاق رائحة خبز طازج. وبعدما قبضت روحه في آخر المطاف ظل ديموقريطس معروفا بين الناس باسم «الفيلسوف الضاحك»؛ غالبا لأنه كان يهزأ من حماقة البشرية. ولا يخطر ببال من يقرأ ما تبقى من كتاباته أنه كان شخصا مرحا يسخر من الحياة. فجدية كتاباته تجعل من المستحيل علينا تصوره وهو يضحك على أي شيء. فإنه يقول مثلا: «إياك أن تشك في أحد، ولكن كن ماكرا وتجنب الخطر.» ويقول أيضا: «إن التوبة من عمل السيئات واقتراف الذنوب والآثام هي النعمة التي تنقذ الحياة.» وكذلك يقول: «من يحافظ على نظام سلوكه يحافظ على نظام حياته.»
بالنظر للأمر من منظورنا الحالي ، يتضح أن التفسير الأوقع للقب «الفيلسوف الضاحك» هو أن ديموقريطس كانت له الضحكة الأخيرة. فعلى مر 2400 عام تفصلنا عنه قبعت مبادئ ديموقريطس تحت وطأة رفض أفلاطون وأرسطو والكنيسة لها، ثم ابتسم له الحظ مع الثورة العلمية في القرن السابع عشر، وظل مبتسما له منذ ذلك الحين، في حين ضرب بالنظريات الفيزيائية لأفلاطون وأرسطو عرض الحائط؛ فالتصور الحديث للعالم يشبه أفكار ديموقريطس وأتباعه أكثر من أفكار أي من غيره من الإغريق. وسيتضح فيما يلي أن بعض الأفكار المنسوبة لجاليليو (1564-1642م) والتي بدت ثورية ليست إلا إعادة صياغة لما قاله ديموقريطس. بل وما يزيدنا انبهارا أن سلسلة التأثير تمتد من الذريين القدامى حتى انتصار النظرية الذرية الحديثة للمادة في القرن التاسع عشر. لا ريب أن جاليليو والذريين المعاصرين سعوا جاهدين إلى اختبار استنتاجاتهم وإثباتها بينما كان ديموقريطس ببساطة يؤلفها ثم من حسن طالعه يتضح أنها استنتاجات صحيحة. ولكن تبقى النظرية الذرية القديمة هي الإنجاز الذي توج الفلسفة الإغريقية قبل عصر أفلاطون.
وأغرب ما في الأمر أن هذه الفلسفة التي تبدو علمية في ظاهرها قد نشأت مباشرة من آراء بارمنيدس المظلمة وغير المعقولة؛ فبتعديل بسيط لأفكار بارمنيدس تحولت الكينونة الواحدة الثابتة والساكنة لديه إلى الذرات الغزيرة والحيوية لدى ديموقريطس. ولكن كيف حدث ذلك؟ هذا ما سنجيب عنه بعد قليل.
ورغم نجاح النظرية الذرية في بلوغ القرن السابع عشر وما يليه، فقد عانت الأمرين لتصل إليه. فقد كرس أرسطو جهدا عظيما ليثبت أن النظرية الذرية ليست إلا هراء في معظمها، أما أفلاطون فنفر من هذه النظرية حتى يبدو أنه لم يتقبل حتى ذكر ديموقريطس، ناهيك عن تفنيد آرائه. ويقال إن أفلاطون أراد لكل كتب ديموقريطس أن تحرق، لكن ذلك كان أمرا شاقا لأن كتابات ديموقريطس وحده تفوق كتابات كل من سبقوه مجتمعين. ولسوء الحظ كان لأفلاطون ما أراد على أية حال لأن معظم كتابات ديموقريطس ضاعت إثر الإهمال. وقد انتهز المفكرون المسيحيون الأوائل كل فرصة سانحة لإدانة النظرية الذرية وإثناء الناس عن دراستها، ولم يكن وجه عداوتهم هو أن النظرية الذرية تزعم أن كل المواد تتكون من جزيئات لا يمكن تقسيمها في حين أن المسيح وأنبياء العهد القديم لم يذكروا قولا في ذلك. فقد مقت المسيحيون الأوائل النظرية الذرية لسببين رئيسين؛ أولهما: أنها حاولت تفسير كل شيء في إطار ميكانيكي دون الإشارة إلى قدرة الرب (التي يراها الذريون إسهابا لا قيمة له)، والآخر: أنها زعمت أن لا حياة بعد الموت؛ ذلك أن كل الأشياء بما فيها الأرواح والآلهة - إذا كان لأي منها وجود من الأساس - ما هي إلا تشكيلة مؤقتة من الذرات ستذوب عائدة إلى الفوضى في النهاية.
كما عانت النظرية الذرية من أصحاب السوء؛ فقد أيدها وطورها أبيقور (341-270ق.م.) الذي اشتهر بتقديس المتع الحسية والشره مما أساء إلى سمعتها بين أولي الألباب. بل والأسوأ من ذلك هو أن أفضل نسخة للنظرية الذرية وأشدها تأثيرا هي النسخة المطروحة في قصيدة لوكريتيوس «عن طبيعة الأشياء» التي تناهض الدين صراحة، فيقول لوكريتيوس بكل وضوح إن قصيدته تهدف إلى تحرير الإنسان من الخرافات ومن رهبة الموت وطغيان الكهنة:
عندما زحفت حياة الإنسان مكرهة تثقل ظهرها الخرافات التي تطل برأسها من السموات العلى وتقترب من الهالكين بوجه بشع، كان رجل اليونان هو أول من تجرأ برفع العين في عينها وأول من وقف أمامها وجها لوجه؛ ذلك أن أساطير الآلهة لا تخيفه، ولا تخمده الصواعق ولا يثني عزمه زئير السماء المرعب، بل إنها استنهضت الشجاعة فيه حتى كان أول الراغبين في اقتحام عالم الطبيعة وكشف النقاب عن أسراره.
و«رجل اليونان» البطل الذي يقصده لوكريتيوس هو أبيقور، إلا أن الحقيقة أن أول من اقتحم عالم الطبيعة هما ديموقريطس وليوكيبوس تحت اسم النظرية الذرية. •••
قال ديموقريطس ذات مرة إنه يفضل أن يتوصل إلى تفسير واحد حقيقي عن أن يتوج ملكا على بلاد فارس. وقد حمله فضوله بعيدا عن وطنه فذهب به إلى بلاد بابل ومصر وفارس وربما إلى الهند وإثيوبيا. وقد أنتج بخبرته الواسعة واهتماماته المتنوعة ما يقرب من خمسين رسالة عن موضوعات مختلفة مثل المغناطيسية والزراعة والموسيقى والرسم وعلم وظائف الأعضاء، وربما تحدثت إحدى رسائله عن كيفية القتال بالدروع، بالإضافة إلى كتبه في موضوعات فلسفية بحتة. وقد كان شغوفا بعلم الأحياء، ولكن لم يتبق مما كتبه فيه إلا القليل، وكذلك الحال مع معظم الموضوعات التي تكلم فيها. ويتبقى بين أيدينا 299 قطعة مفهرسة من كتابات ديموقريطس؛ أي أكثر مما تبقى من كتابات أي فيلسوف قبل أفلاطون، إلا أن معظمها من كتاباته عن الأخلاق، وبعضها كلمات منفردة قيل إنه كان يستخدمها. ومع ذلك فإن ما بقي وخاصة مما كتبه لاحقا عن النقد يكفي ليبين الخطوط العريضة للنظرية الذرية.
إن أول من وضع هذه الخطوط العريضة وفقا لما قاله أرسطو هو ليوكيبوس. وقد ولد ليوكيبوس حوالي عام 460ق.م. إما في مدينة إيليا أو في ملطية، وكلتاهما من أغزر منابع الفلسفة. وتقريبا ولد ديموقريطس في العام نفسه في مدينة أبديرة، وهي مدينة أيونية على شاطئ تراقيا كان يضرب بها المثل لغباء أهلها. ودرس ديموقريطس مع ليوكيبوس وحمل الفكرة التي خلدت ذكر ليوكيبوس وهي أن عددا لانهائيا من الذرات الصغيرة يندفع حول مساحة خالية (تسمى «الفراغ») حتى تصطدم الذرات ويلتصق بعضها ببعض فتشكل كل الأشياء التي نعرفها في العالم سواء الحية أو غير الحية. ويقول أحد المعلقين اللاحقين عن ذلك:
هذه الذرات تتحرك في الفضاء اللانهائي منفصلة عن بعضها ومختلفة في الشكل والحجم والمكان والترتيب، ثم تسبق إحداها الأخرى فتصطدم، ويساق بعضها إلى أي اتجاه عشوائي بينما يلتحم بعضها الآخر وفقا للاتفاق في الشكل والحجم والمكان والترتيب وتبقى كذلك؛ ومن ثم تتشكل في صورة أجسام مركبة.
ديموقريطس.
لقد اشتقت كلمة
atom (ذرة) من
atomos
بمعنى «لا يمكن قطعه»، وقد قال ديموقريطس وليوكيبوس إن الذرات صلبة جدا ولا يمكن تقسيمها أو تدميرها. وتموت الأشياء العادية أو تتفكك عندما تتناثر الذرات المكونة لها. ولذلك فإن النظرية الذرية التي نجدها عند إمبيدوكليس وأناكساجوراس تحاول تفسير التغيير والدمار اللذين اعتبرهما بارمنيدس من ضروب المستحيل، وذلك عن طريق طرح حل وسط. وتقول الحلول الوسط الثلاثة إن الأشياء العادية المتغيرة تتكون من مكونات لا تتغير في حد ذاتها ولكن قد يتغير تركيبها عندما تجتمع أو تتفرق، وهذه الأشياء التي أعيد تركيبها هي التي تنتج لنا العالم المتغير الذي نراه.
أما القوة التي تجمع الذرات معا فهي المبدأ الإغريقي القديم القائل إن المتماثلات تنجذب لبعضها. وفي ذلك يقول ديموقريطس: «تجتمع المخلوقات مع نوعها ... الحمام مع الحمام والكركي مع الكركي ... إلخ، والشيء نفسه يحدث مع الجماد، وهو ما نراه في تجمع الحبوب في المنخل والحصى على الشاطئ.» وتميل الذرات متشابهة الشكل إلى الالتصاق ببعضها، بل إن بعضها لديها خطافات صغيرة لتتعلق بها. وقد حاول ديموقريطس تفسير أقصى ما يمكنه من السمات التي نراها للأشياء العادية من حيث أشكال ذراتها المختلفة وأحجامها وتركيبها، فالأشياء حلوة الطعم تتكون من ذرات مستديرة وكبيرة، أما الأشياء حادة المذاق فتتكون من ذرات صغيرة ومدببة وغير مستديرة (ومن ثم وصفها ب «الحادة»)، والأشياء المالحة تتكون من ذرات كبيرة مدببة ومقوسة أضلاعها متساوية، أما الأشياء المرة فتتكون من ذرات مستديرة وناعمة لكن غير منتظمة، وتتكون الأشياء الزيتية من ذرات ملساء مستديرة وصغيرة (ومن ثم تشبه حبات الرمان التي تنزلق بسهولة واحدة تلو الأخرى، ويفترض أن هذا ما اعتقد ديموقريطس أنه يفسر لزوجة الزيت).
وبناء على نظرية ديموقريطس فإننا نتعرض لسيل من هذه المكونات الدقيقة طوال الوقت، فبما أن كل شيء لا بد له أن يتكون من ذرات تتحرك؛ فإن الإدراك في حد ذاته يفسر على أنه نتيجة خروج أعداد صغيرة من الذرات من الأشياء ودخولها أجسامنا من خلال الحواس. أما ما يحدث داخل الجسم عند إدراك الشيء فيظل غامضا لا يدرك كنهه. ويقال إن العقل هو مجموعة من الذرات الكروية تقبع في مكان ما بالجسم، أما التفكير فهو يتمثل في حركة ذرات العقل إذا ما هاجت بسبب التعرض لسيل الذرات المندفع. وقد استعار ديموقريطس في تفسيراته للظواهر الأكبر مثل الجو تفسيرات عصره المعهودة، فمثلا قال إن الرعد يحدث نتيجة توليفة غير منتظمة من الذرات مما يدفع السحابة التي تحملها للأسفل.
لقد أخذ ديموقريطس كل الأفكار التقليدية التي تناسبه وعدل فيها بالقدر اللازم ليتسنى له إدخال الذرات في الصورة؛ ولذلك فإن أقوى ما تتميز به النظرية الفيزيائية للذريين هو فكرة الذرات في حد ذاتها وإصرارهم على تفسير الطبيعة بأسرها، بل وإدراك الإنسان للطبيعة على أسس اقتصادية بحتة. وبإصرار ديموقريطس على أن حجم الذرات وشكلها وترتيبها هو كل ما يجب تناوله في التفسيرات الحقيقية نجح في الذهاب إلى ما هو أعمق وأبعد مما وصل إليه إمبيدوكليس وأناكساجوراس، حتى إن لم يحقق نجاحا هائلا. لقد رضي إمبيدوكليس وأناكساجوراس بالتوقف عن التعمق في نظرياتهما حال التوصل لتفسير السمات أو الأشياء المعتادة بطريقة أو بأخرى (بطريقة «عناصر» التراب والهواء والنار والماء لدى إمبيدوكليس، وطريقة الكميات الضئيلة من كل المواد العادية لدى أناكساجوراس).
ولكن من أين أتت فكرة الذرات؟ وما دليل ديموقريطس على ما قاله عن أشكالها في الأشياء الحلوة أو المالحة مثلا؟ ليس ثمة ما يشير إلى إجرائه تجارب على تلك الأفكار أو فحصها. وربما استرعت فكرة الجزيئات الدقيقة انتباه ديموقريطس أثناء تأمله للغبار الطائر؛ فقد قارن الذرات ذات مرة ب «ذلك الهباء الذي نراه محلقا في الهواء في أشعة الشمس عبر النافذة.» أما عن أشكال الذرات فيبدو تفسيره مقبولا لدى أصحاب المنطق السليم غير المتعلمين إذا ما تدبروه بحدسهم. وبعد مرور أكثر من 2000 عام وفي أواخر القرن السابع عشر كتب أحد الكيميائيين الفرنسيين في أحد الكتب الدراسية قائلا:
إن أفضل وسيلة لتفسير الطبيعة الخفية للأشياء هي أن نصف أجزاءها بأشكال تتماشى مع كل تأثيراتها، فلا أحد ينكر أن حموضة السوائل تتمثل في جزيئات مدببة، وكل التجارب تؤكد ذلك، فحالما تتذوقها تشعر بوخز في لسانك كذلك الذي تسببه بعض المواد حين تقطع إلى أسنان دقيقة.
لم يكن لدى ذلك الكيميائي أي دليل على ما قال أكثر مما كان لدى ديموقريطس، كل ما في الأمر أن هذا هو ما بدا له أنه التفسير الصحيح.
ويبدو أن السبب الرئيس الذي قاد ليوكيبوس وديموقريطس للذرة لم يكن دليلا أو برهانا وإنما مفارقات زينون بالأساس؛ فقد توصلا إلى استنتاج أن المشكلة في مفارقات زينون أو في بعضها على الأقل هي أنه افترض أن الأشياء المادية يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية. لقد افترض زينون بالفعل أنه إذا كانت المواد المعتادة موجودة فإنه يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية، ثم قال إن هذه الفكرة قد أدت في النهاية إلى نتائج عبثية، وهذا أحد أسباب إنكاره لعالم المنطق السليم. أما ليوكيبوس وديموقريطس فقد اعتقدا أن إمكانية تقسيم الأشياء إلى ما لا نهاية قد تكون هي نقطة الضعف في المفارقات، فزينون لم يقدم أي دليل عليها على أية حال بل افترضها فقط؛ ومن هنا انطلقت كل مفارقاته. وإذا افترضنا بدلا من ذلك أن المادة لا يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية؛ أي إن هناك ما يمثل أصغر مقياس للمادة والذي يستحيل تجزئته أو تقسيمه، عندها سيتوقف مسار فكر زينون، أو على الأقل هذا ما اعتقده ديموقريطس وليوكيبوس، وبناء على ذلك طرحا الذرة على أنها أصغر مقياس للمادة.
وهكذا بعد أن فند الذريون نظرية زينون جاء الدور على بارمنيدس. كان أحد اعتراضات بارمنيدس على فكرة الحركة هو أنها تحتاج إلى مساحة خالية، وإلا فلن يكون هناك متسع يتحرك فيه أي شيء. وبما أن المساحة الخالية عبارة عن «لا شيء» يرى بارمنيدس أنها مستحيلة الوجود، وإذا كانت المساحة الخالية مستحيلة فالحركة مستحيلة كذلك. وقد اختلف الذريون مع بارمنيدس في الرأي دون أن يوضحوا وجه اعتراضهم على دحضه للمساحة الخالية، فقالوا إنه يمكن أن يوجد ما يسمى ب «الفراغ»، وحال إيجاد ذلك الفراغ تهرع إليه الذرات المتحركة. كانت هذه هي حججهم إجمالا. فإذا قبلنا بوجود الفضاء فلا بد أن نقبل فكرة وجود أشياء كثيرة وليس الكينونة الواحدة فقط كما هو الحال لدى بارمنيدس؛ ذلك أن ثمة مساحة خالية توجد بين الأشياء المختلفة وتفصلها عن بعضها، ولكن لا توجد مساحة خالية داخل الذرات نفسها؛ ذلك أنه لو وجدت مثل تلك المساحة لما كانت الذرات صلبة ولصار ممكنا تقسيمها إلى أجزاء أصغر في حين أنها اصطلاحا تنفرد بعكس ذلك. وبما أن هذه الذرات لا تتكون من أجزاء فهي ليست عرضة للتغير أو التحلل؛ ولذلك فهي خالدة.
وهكذا بإزالة هذا الترس من عجلة بارمنيدس (أي دحض زعمه استحالة وجود المساحة الخالية) حول الذريون هذه العجلة لخدمة أغراضهم. وبصرف النظر عن حقيقة أن الذرات تتحرك وأن هناك الكثير منها، تتشابه الذرة لدى ديموقريطس والكينونة الواحدة الغامضة لدى بارمنيدس كثيرا؛ فكلاهما خالد للأبد ولا يتغير أبدا ولا يتكون من أجزاء ولا يحتوي على مساحة خالية داخله. بل وفي الواقع يبدو أن مليسوس، وهو أحد أتباع بارمنيدس، قد تنبأ نبوءة غامضة باحتمالية مرور آراء أستاذه بمثل ذلك التطور، وقال ذات مرة إنه إذا كانت هناك أشياء كثيرة فسيتضح للعيان أن كلا منها يشبه الكينونة الواحدة لدى بارمنيدس.
تجمع النظرية الذرية بين قليل من سمات الفيثاغورية وكثير من خصائص فلسفة بارمنيدس، فكل شيء في عالم فيثاغورس مبني من مجموعات من «وحدات» يزعم أنها بطريقة ما حقيقية أكثر من أي شيء آخر. ويرى الفيثاغوريون أن هذه الوحدات تتكون من أرقام، أما لدى ديموقريطس وليوكيبوس فهي أجسام مادية صلبة. ولم يرد في شروح النظرية الذرية القديمة ذكر أية أرقام أو حتى الرغبة في قياس أية كميات (لكن يفترض أن ديموقريطس قد كتب نحو عشرة كتب في موضوعات حسابية)، وهذا هو ما يرسم الخط الفاصل بين النظرية الذرية قديما وحديثا، ولم يزدهر ذلك المذهب في صورة مشروع علمي ناضج إلا عندما طور علماء الكيمياء والفيزياء طرقا معقدة لقياس الظواهر المادية.
ومع ذلك إذا لم يكن ممكنا في زمن ديموقريطس تحديد سمات الذرات المذكورة في نظريته؛ فإنه من الأهمية بمكان أن نذكر أن هذه الذرات يمكن قياسها بدقة من الناحية النظرية، وهي المادة الصحيحة التي ينبغي على الرياضيات والفيزياء تناولها. لقد تحركت الذرات وكان لها أحجام وأماكن وأوزان وأشكال هندسية، وكان هذا أهم الحقائق عنها. ومن المؤكد أن السمات الأساسية للذرات لا تتضمن أيا من السمات التي تصاحب حواس الإنسان على وجه الخصوص كاللون أو الرائحة أو الطعم. ويرى ديموقريطس أن ألوان الأشياء العادية ونكهاتها ليست صفات موضوعية يتصف بها العالم الخارجي، وإنما يبدو أنها حالات لجسم الإنسان تنتج عن تدفق الذرات إليه. ولذلك عندما يقول مثلا إن ذرات الأشياء ذات المذاق الحلو مستديرة وكبيرة فهو لا يعني أنها حلوة في حد ذاتها ولكن استدارتها وكبر حجمها يسببان لنا الإحساس بالحلاوة.
وما دفعه إلى قول ذلك هو حقيقة أن الأحاسيس تختلف من شخص لآخر، حتى ولو لم يختلف الشيء المدرك. ويقول أرسطو: «إن الشيء نفسه يبدو حلوا لدى البعض ومرا لدى البعض الآخر، بل لا يشعر الفرد بالشيء بالطريقة نفسها طوال الوقت.» ويصيغ ديموقريطس ذلك قائلا: «جرى العرف بأن يعد الشيء حلوا أو مرا أو ساخنا أو باردا أو بلون معين، ولكن الحقيقة أن هذا الشيء ليس إلا ذرات وفضاء.»
بعبارة أخرى، يمكننا القول إن ما تخبرنا به حواسنا عن الحرارة أو الطعم أو اللون أو غير ذلك كله مسائل ذاتية بحتة، وقد جرى العرف على أننا ننسب تلك الصفات للأشياء المادية نفسها وغالبا ما نتفق حول الصفات الموجودة في هذه الأشياء. والحقيقة أنه لا يوجد في تلك الأشياء سوى مجموعات من الذرات تسبح في الفضاء بأحجامها وأوزانها وما إلى ذلك. وهذا يذكرنا ببارمنيدس مرة أخرى؛ إذ قال إن الألوان وغيرها من الأشياء التي يؤمن بها الناس لأنهم بسذاجة يثقون في حواسهم ليست إلا «أسماء». وقد اتفق ديموقريطس مع بارمنيدس في عدم الثقة في الحواس، إلا أنه لم يتبعه إلى حد التغاضي عنها تماما. وقد ميز ديموقريطس بين المعرفة المكتسبة من خلال الفكر (أو العقل) والمعرفة المكتسبة من خلال الحواس فقال:
ويقر صراحة بأن «للمعرفة هيئتين: الهيئة الأصلية والهيئة الزائفة. أما الهيئة الزائفة فهي التي ينتمي إليها كل من البصر والسمع والشم والتذوق واللمس، وأما الهيئة الأخرى فهي أصلية ومتمايزة عن الهيئة الزائفة.» ثم استطرد قائلا: «ومتى عجزت المعرفة الزائفة عن رؤية ما هو صغير جدا أو سماعه أو شمه أو تذوقه أو إدراكه بلمسه، يضطر المرء للجوء إلى أداة أخرى أكثر دقة.» ولذلك فالعقل هو المعيار (الذي نميز به الحقيقة من الزيف).
يرى الذريون أنه يمكن الاعتماد على الحواس «الزائفة» للتأكد من وجود عالم من الأشياء المعتادة المتحركة، وقد أخطأ بارمنيدس بإنكاره لهذا العالم، إلا أن العقل وحده يمتلك من الثقة والقوة ما يمكنه من كشف الحقائق الأعمق عن الأشياء ألا وهي أنها في أصلها تتكون من ذرات معدومة الألوان. وقد توصل العقل إلى هذه الحقيقة بالتفكر في الحجج التي ساقها الآخرون مثل زينون وبارمنيدس وتقييمها والبناء عليها.
وتتشابه الصورة التي نتجت عن كل ذلك مع الصورة التي رسمها جاليليو تشابها مذهلا، فيقول جاليليو في فقرة يستشهد غالبا بالصورة العلمية التي ترسمها للعالم والتي يفترض أنها صورة جديدة:
كلما أدركت أي شيء ... أو أية مادة، شعرت في الحال بالحاجة للتفكر فيها ... بأي شكل من الأشكال هي؟ وهل هي كبيرة أم صغيرة؟ وفي أي مكان توجد وفي أي وقت؟ وهل هي في حالة حركة أم في حالة سكون؟ وهل تتلامس مع أي جسد آخر أم لا؟ وهل تتكون من رقم واحد أم من أرقام قليلة أم كثيرة؟ ... لكن ذهني لا يشعر بضرورة إدراج مصاحبات أخرى كأن يكون لونها أبيض أو أحمر وطعمها حلوا أو مرا وصوتها مزعجا أو صامتا ورائحتها زكية أو منفرة. يحتاج العقل أو الخيال لإرشاد من الحواس وإلا فغالبا ما سيعجز بدونها عن التوصل لمثل تلك الصفات. ومن ثم أظن أن المذاقات والروائح والألوان وغيرها ليست سوى أسماء عند الحديث عن الأشياء التي ننسبها إليها، وأنها لا تقبع إلا في إدراكنا، فإذا أبعدنا الكائن الحي زالت كل تلك الصفات وفنيت.
كان ديموقريطس سيوافق تماما على كل هذا (ما لم يمل إلى اعتباره سرقة أدبية). وأخيرا في القرن السابع عشر آن الأوان لتلك الفكرة أن ترى النور إذ قام روبرت بويل (1627-1691م) - وهو أحد علماء الفيزياء والكيمياء الأيرلنديين الذين تبنوا فكر «الفلسفة الذرية بعد أن أصلحها وطهرها من أوهام مخترعيها الأوائل وشططهم» - بوصف المادة من خلال ما سماه بالصفات «الأساسية» و«الثانوية» للأشياء. أما الصفات الأساسية فهي الحجم والشكل والترتيب والقوام والصلابة وحركة الجزيئات؛ فهذه هي الصفات التي يحتاجها العالم ليفسر أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة. ولذلك حاول بويل أن يفسر الحرارة والالتحام والسيولة والصلابة واللون وغير ذلك من الصفات في إطار الصفات الأولية لديه، وحقق في ذلك نجاحا كبيرا فاق ما حققه ديموقريطس. ثم طور الفيلسوف جون لوك (1632-1704م) على هذا الأساس نظرية مفصلة بعيدة الأثر بين فيها خمس صفات أساسية وهي: الحجم والشكل والعدد والصلابة والحالة من حيث الحركة أو السكون، وقال كذلك إن الصفات الثانوية الحسية مثل اللون أو الرائحة «ليست بصفات في الأشياء ذاتها وإنما قوى تخلق فينا أحاسيس متنوعة من خلال الصفات الأساسية.» ولا تزال العلوم الحديثة تحتفظ بفكرة مجموعة الصفات الأساسية القابلة للقياس بدقة والتي يمكن من خلالها تفسير كل شيء (رغم أن قائمة هذه الصفات اليوم تختلف عن قائمتي بويل ولوك). أما مع جاليليو فلا يمكننا أن نتأكد بسرعة من أن الصفات الحسية كالألوان «محض أسماء» تنعدم في حالة غياب من يدركها. ولا يزال الناس مختلفين حول إذا ما كان ذلك قولا مضللا.
ثمة شيء واحد اختلف فيه علماء عصرنا مع ديموقريطس - كما اختلف فيه معه من قبل جاليليو وبويل ولوك - وهو أن الحواس «الزائفة» لا تلعب دورا حقيقيا في التعرف على العالم. فعلى العكس تماما، تدخل الحواس بدرجة كبيرة أو صغيرة في تجميع الأدلة واختبارها في كل النظريات الفيزيائية المحترمة. ولتجنب المبالغة في التشبيه بين أفكار الفيزياء الحديثة وأفكار ديموقريطس حري بنا أن نذكر إلى أي مدى حملت الأدلة التجريبية النظرية الذرية الحديثة بعيدا عن معتنقيها القدماء. إن الذرات التي هي موضع دراستنا في العصر الحديث ليست هي ذاتها الذرات التي تحدث عنها ليوكيبوس وديموقريطس رغم أنها من نسلها. أولا الذرة الحديثة ليست خالدة أو غير قابلة للتدمير أو صلبة أو غير قابلة للانقسام، بل إنها تتكون بفعل العمليات الطبيعية، وتتحلل وتتكون في معظمها من مساحة خالية (فهي مجموعات ضخمة من الإلكترونات تحيط بنواة صغيرة وغليظة) ويمكن «شطرها» وإعادتها إلى مكوناتها. وقد خلت كتابات ديموقريطس من أية إشارة لمعظم أهم الصفات والقوى المستخدمة لوصف سلوك الذرات؛ فهو مثلا لم يعرف شيئا عن الشحنات الكهربية التي يتناقض سلوكها تماما مع ما توقعه الإغريق القدماء، مما يزيد الأمر سوءا؛ ففي عالم الكهرومغناطيسية المتماثلان لا ينجذبان بل يتنافران.
وقد تطول قائمة الاختلافات بين المذهب القديم والحديث ولكنها قد تخدع أيضا، وعلى المرء إذن أن يحذر من الانخداع باختلافات زائفة ناتجة عن مصادفة في استخدام المصطلحات. على سبيل المثال، دأب مؤرخو العلوم على الإشارة إلى أن الذرة لدى ليوكيبوس وديموقريطس تتميز اصطلاحا بأنها لا تقبل الانشطار بينما يعلم الجميع الآن أن ما نسميه «ذرة» قد انشطرت ولم تعد تمثل العنصر الأساسي المكون للمادة، فقد أصبح لدينا بدلا منها جزيئات أساسية أصغر حجما تنقسم إلى فئتين: الكوارك واللبتون، ولكن ذلك فيه ضلال كبير ولا يثبت أن الفكرة الرئيسة لدى الذريين القدامى خاطئة. فعندما اتضح أن ما نسميه ب «الذرة» ليس في النهاية هو المكون الرئيس للمواد، لم يعكس هذا سوى استعجال علماء الفيزياء في العصر الحديث بتسمية تلك الجزيئات باسم «الذرة». لقد أطلق علماء القرن التاسع عشر اسم «الذرة» على الجزيئات التي درسوها لأنهم اعتقدوا خطأ (كما اتضح بعد ذلك) أن تلك الجزيئات لا تقبل الانشطار. ولا يمكن دحض نظرية ليوكيبوس وديموقريطس عن النظرية الذرية ما لم يثبت أنه ليس ثمة جسيمات أساسية لا تقبل الانشطار أيا كان اسمها، وهو أمر لا يزال قيد البحث. إلا أن أهمية هذا الأمر تصير غير ذات صلة يوما بعد يوم. فقد عفى الزمن على فكرة الجسيم في الفيزياء الحديثة؛ فلم يعد له مكان فيها. وقد أصبحت الجسيمات أقرب صلة بالقوى والمجالات، وفي بعض الأحيان لم تعد تمثل أكثر من محض وسيلة للتعبير. وقد قيل في أحد التفسيرات المعاصرة : «تمثل الجسيمات الأساسية بأنواعها المختلفة حزما من الطاقة وقوة دافعة لأنواع المجالات المتوافقة معها.» •••
وتتضح الحداثة غير الناضجة لدى ليوكيبوس وديموقريطس عند النظر في رؤيتهما للكون ككل ومكانة الإنسان فيه، وليس في تفاصيل ما قالاه عن التراكيب الدقيقة للمادة. لقد رأيا كونا شاسعا متجردا غير محدود يختلف تماما عن الكون الدافئ والإنساني الذي صوره أفلاطون وأرسطو وأورثاه على مر السبعة عشر قرنا الأولى من الحقبة المسيحية. وقد كان على الذريين أن يفسروا قيام النظام والحياة من الذرات الفوضوية المتدافعة فطرحوا تصورا لكون لانهائي يقبل العقل أن يتصور قيام كل أنواع العوالم فيه لشدة اتساعه فقالوا:
هناك عوالم بلا شمس ولا قمر، وهناك عوالم يكبر الشمس والقمر فيها عن الشمس والقمر في عالمنا، وهناك من العوالم ما فيه العديد من الشموس والأقمار. وتختلف الفترات الزمنية بين كل عالم وآخر، حتى إن هناك أجزاء تحفل بالكثير من العوالم، وأجزاء لا تضم إلا القليل. وبعض العوالم لا تزال تنمو، وبعضها بلغ ذروته، وبعضها آخذ في الصغر. وتدمر تلك العوالم عند اصطدام بعضها ببعض. وهناك من العوالم ما لا كائن حيا فيه ولا نبات ولا رطوبة.
وبناء على هذا ما عالمنا إلا واحد من عدة احتمالات أتت به الظروف المناسبة لقيام الحياة (وكلمة «عالم» هنا تعني تقريبا كوكبا أو مجموعة كواكب)؛ ذلك أن الذرات كما قال عنها لوكريتيوس:
قد اعتادت منذ الأزل وحتى يومنا هذا الحركة والالتقاء بشتى الطرق وتجربة كل التركيبات وأي شيء يمكنها صنعه من تجمعها معا؛ ولهذا حدث أن تلك الذرات إثر انتشارها بالخارج على مر الزمن ومحاولتها أن تتجمع وتتحرك بشتى الطرق قد التقت في النهاية، وهذا هو ما صنع بدايات الأشياء الضخمة كالأرض والبحر والسماء وخروج أجيال من الكائنات الحية.
قارن ذلك بكلمات ذكرت في كتاب علمي حديث وهو «الجين الأناني» لريتشارد دوكينز الذي يبدؤه بإقرار شديد الشبه بما قاله لوكريتيوس فيقول: «لا حاجة لنا بعد اليوم إلى اللجوء إلى الخرافات كلما واجهتنا أسئلة معقدة مثل: هل للحياة معنى ؟ وما سبب وجودنا؟» ثم يصف كيف أن العلوم «تبين لنا كيف يمكن أن تتحول البساطة إلى تعقيد، وكيف أمكن للذرات غير المنتظمة أن تتجمع في أنماط أشد تعقيدا حتى انتهى بها المطاف إلى تكوين البشر»، ومن ثم «فلا حاجة بنا إلى التفكير في التصميم أو الغاية أو التوجه. وإذا ما استقرت مجموعة من الذرات ... في نمط ثابت فإنها ستنزع إلى البقاء على هذا الحال.»
وهكذا كسا العلم الحديث عظام ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس لحما، فهو يقدم سريعا تفاصيل تحول الفوضى الذرية إلى نظام وحياة تحولا طبيعيا بدون بارئ؛ مما يحقق لهم آمالهم. وقد أمسك داروين بأكبر خيط في لغز الحياة عندما قدم تفسيره من خلال نظرية التطور والانتخاب الطبيعي التي رأينا مبادئها الأولية في توقعات إمبيدوكليس المبهمة. فلا عجب إذن من أن رواية الذريين عن خلق الإنسان لاقت الرفض والارتياب اللذين لاقاهما داروين بعد ذلك في القرن التاسع عشر؛ فقد قال عنهم أحد المسيحيين المتحيرين في القرن الرابع عشر إنهم يعتقدون أن البشر «نشئوا من الأرض مثل الدود، بلا خالق ولا سبب.»
ولم يكتف ديموقريطس في قصته بما سماه تنيسون في قصيدة له عن لوكريتيوس «تلك البدايات العمياء التي جعلت مني رجلا»، بل طفق يقدم تفسيرا عن تطور الثقافة البشرية ونظرية عن سعادة البشر ونظاما متكاملا للأخلاقيات. ويقول في ذلك إن البشر الأوائل كانوا يتصارعون وحدهم من أجل البقاء في عالم عدواني، ثم بدءوا يتعاونون في مواجهة عدوهم المشترك من الوحوش الضارية، ثم سرعان ما هذبوا أصوات الخوار التي كانوا يصدرونها وبدءوا يتواصلون من خلال الاتفاق على معان لتقابل أوضح الأصوات التي يصدرونها. وبمرور الوقت علمتهم التجارب تحسين معيشتهم من خلال الإيواء إلى الكهوف وتخزين الطعام. ثم تعلموا الكثير بمحاكاة الكائنات الأخرى؛ ولذلك يقول ديموقريطس إن الإنسان تتلمذ على أيدي الحيوانات في أهم شئونه، فمثلا تعلم الغزل والرتق أول ما تعلمه من العناكب، وحاكى البلابل في غنائها، وأتى ببناء البيوت من طائر السنونو. إلا أن أغلى ملكات الإنسان هي ذكاؤه الطبيعي الذي يمكنه من تعلم نظام العالم عن طريق الخبرة. إذن اتضح في النهاية أن المعرفة «الزائفة» التي تقدمها لنا الحواس من الأهمية بمكان.
وحالما انتهى الإنسان من تعلم ما يكفيه لتلبية احتياجاته الضرورية بانتظام، استطاع حينها أن يلتفت إلى الهوايات في روية وأولها الموسيقى، كما استطاع أن يكرس نفسه للبحث عن السعادة. والسعادة عند ديموقريطس هي نتاج الاعتدال والاتزان وغياب الرغبات المشتتة التي تسعى إلى ما لا يمكن الحصول عليه أو إلى ما هو زائل. فإذا اهتز العقل أو الروح بفعل تلك المشاعر المزعجة فقدت ذراته نظامها واستقرارها. وتعكس هذه الفكرة الآراء التقليدية للطب الإغريقي التي تقول إن الصحة الجسدية هي عبارة عن توازن في عناصر الجسم. وبما أن العقل يتكون من ذرات مادية كالجسد كما يقول ديموقريطس فإن الصحة العقلية والسعادة تستلزمان مكونات الصحة الجسدية نفسها، ولا بد لها من الاتزان وغياب الإزعاج الناتج عن الصراع.
ولكي يكون المجتمع صحيا فهو يحتاج إلى المكونات نفسها من استقرار واعتدال ونظام. وتعتبر الحضارة - التي تعني المدينة لدى ديموقريطس - نتاجا إنسانيا محفوفا بالمخاطر يمكن أن ينزلق بسهولة إلى الهمجية مرة أخرى، فإذا ما اختل التناغم والانضباط اللذان تعتمد عليهما الحضارة فسرعان ما ستختفي الفنون والفلسفة بل والسعادة نفسها. ومن الواضح أن ديموقريطس قد أخذ تلك المخاطر على محمل الجد؛ فقد نادى بتطبيق حكم الإعدام على كل من يهدد بزعزعة استقرار المدينة، فالمجتمع لن يواصل ازدهاره إلا بتوريث الحكمة والسلوكيات المسئولة للأجيال القادمة بعناية فائقة. ويتناول الكثير من الأجزاء المتبقية من كتابات ديموقريطس مسألة التعليم؛ إذ اعتبرها مسئولية ثقيلة فكتب قائلا إن أسوأ شيء في الوجود هو التهاون في تعليم الصغار. ولا أحد يعرف إذا ما كان لديموقريطس أبناء أم لا. وأغلب الظن أنه لم يكن له أبناء، وإذا كان له أبناء فلا بد وأنه ندم على ذلك لاحقا؛ إذ نجده يقول:
أظن أن المرء الذي يريد أطفالا خير له أن يأخذ أحد أبناء أصدقائه، عندها يمكنه أن يختار الطفل على الشاكلة التي يريدها، ومن ثم يمكنه أن يختار ما يهواه عقله من بين الكثير، أما إذا أنجب المرء أطفاله بنفسه فسيواجه عدة مخاطر؛ إذ عليه أن يعيش مع من أتى به أيا كان.
بالنظر إلى إصراره الشديد على ترسيخ الفضيلة في أذهان الناس ونفوسهم لا بد وأنه كان يحاول أن يتعايش مع نفسه. ولم تكن القيم التي أراد أن يعلمها للناس كالعدالة والرضا بالنصيب والحكمة بقيم ثورية، بل كانت تعكس المثل التي كانت سائدة في عصره بعد أن عدلها لتتضمن التفسير الذري للعقل. إن أبرز ما ابتكره ديموقريطس في وعظه هو أنه حث رفقاءه على اتباع السلوك القويم لا إرضاء للآلهة أو لضمان حياة يرضون بها في الآخرة، وإنما لأن تلك الفضائل مهدت الطريق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه ليصل الإنسان للسعادة على الأرض؛ أي إن اتباع الفضائل مصلحة ذاتية. وقد طور أبيقور ولوكريتيوس لاحقا تلك الأخلاقيات التي لا تمت إلى الدين بصلة، وهو ما شق على المسيحيين الأوائل.
لقد تسببت فكرة اتباع أخلاقيات من صنع الإنسان في إثارة بعض الأسئلة المقلقة بين المفكرين من معاصري ديموقريطس. فكيف يمكن للمرء أن يمنع مصلحة الذات الحكيمة من التدني إلى الأنانية اللاأخلاقية؟ تخيل موقف شخص يملك من القوة ما يكفيه لأن يفعل ما يريد ويفلت من العقاب، ومن ثم لن يغرم من تجاهل القواعد الأخلاقية المتفق عليها. وإذا لم يبلغ إثم ذلك الرجل حد القضاء على استقرار المدينة وجعله ذلك السلوك راضيا عن نفسه فعلى أي أساس سيدينه ديموقريطس؟
لقد احتدمت مناقشة تلك الأسئلة في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد لدى حركة فكرية بأثينا تدعى السفسطائية. وقد كان أفلاطون مؤخرا شديد الهجوم على السفسطائيين ووصفهم بأنهم كانوا محتالين ساخرين يلوون فن الحجاج العقلي. ولم يكن أفلاطون الوحيد الذي قام بذلك، بل نجحت تلك الدعاية السلبية؛ حتى إن كلمة «سفسطة» أصبحت تستخدم هي وأشباهها بمعنى المنطق المضلل أو المراوغة أو التلاعب بالألفاظ. وكان هذا هو المعنى الذي يقصده دزرائيلي عندما وصف أحد خصومه السياسيين ويدعى جلادستون ب «خطيب سفسطائي أثملته غزارة إسهابه في الكلام.»
وبغض النظر عن حقيقة جلادستون فإن السفسطائيين الأصليين يستحقون ذكرا أفضل من ذلك. ومن أبرز آثارهم أنهم أثروا الحياة الفكرية في أثينا وقادوها نحو ما نعرفه اليوم باسم علوم الإنسانيات. وبينما قام بعض من ذكرناهم آنفا من الفلاسفة بتغيير التفكر في الطبيعة إلى بحث عن تفسيرات عقلانية، قام أصحاب العقول الفلسفية من السفسطائيين بالتفكير في الصراع بين الطبيعة والتقاليد أو القوانين التي وضعها الإنسان. وثمة عدة جوانب لذلك النزاع بين التقاليد والطبيعة؛ فقد توصل السفسطائيون إلى فكرة مشوقة عن المطالب المتناقضة لغرائز الإنسان الأنانية من ناحية ومتطلبات العدالة من الناحية الأخرى، وعن المشكلات التي طرأت على فكرة ديموقريطس حول مسألة المعرفة الموضوعية والتي تقول إن جل ما يدعي الإنسان معرفته ما هو إلا مسألة تقاليد وأعراف. فلنسترجع مقولة ديموقريطس في النظرية الذرية: «جرى العرف بأن يعد الشيء حلوا أو مرا أو ساخنا أو باردا أو بلون معين، ولكن الحقيقة أن هذا الشيء ليس إلا ذرات وفراغا.» أما أبرز السفسطائيين فلم يكونوا ليقولوا بذلك، فقد توصلوا إلى استنتاج مختلف عن مدى المعرفة، ولكنهم كانوا سيدركون جيدا المشكلة التي يعاني منها ديموقريطس؛ ألا وهي التناقض بين الحقيقة الموضوعية والإدراك الذاتي.
يكاد ديموقريطس ينتمي إلى عالم السفسطائيين ولكن ليس بشكل كلي، وما يفصله عنهم ليس الزمن؛ فقد كان السفسطائيون يدرسون علومهم عندما كان ديموقريطس في سنوات عمره الأولى، إنما فرقهما اختلاف المصالح المهنية والفكرية. ورغم أن أفكار ديموقريطس قد اتجهت إلى الكثير من القضايا التي تناولوها بالبحث - بل إنه تناول بالفعل بعض أفكارهم في كتاباته - فقد سلك طريقا غير طريقهم.
الفصل التاسع
وهبت رياح المتاعب: السفسطائيون
عاش «السفسطائيون» في أثينا في النصف الثاني من القرن الخامس وشغلوا مناصب سفراء ومعلمين خصوصيين ومستشاري علاقات عامة ومحاضرين وممثلي مسرح وكاتبي خطابات وفلاسفة وخطباء ليليين وأطباء نفسيين في آن واحد، أو العديد من هذه المناصب في معظم الحالات على الأقل. ولمعرفة كيف يمكن لشخص - فضلا عن طبقة من الناس - أن يجمع كل هذه الوظائف ويقوم بكل هذه الأدوار، لا بد من الابتعاد عن الخلافات الفلسفية والنظر إلى مدينة أثينا وسكانها.
بحلول منتصف القرن الخامس تحول ما كان تحالفا مفككا بين الولايات الإغريقية ضد الفرس إلى إمبراطورية مركزها مدينة أثينا، ويرجع الفضل في ذلك إلى أسطول أثينا، وهو ما جعلها إمبراطورية غنية. وكانت الولايات الأخرى الأعضاء في الحلف يدفعون لها الجزية. وقد أنفق جزء من هذه الأموال على أشياء لا تزال باقية حتى يومنا هذا بما فيها معبد البارثينون. وكان الدافع وراء تشييد معظم هذه الصروح هو تشجيع بريكليس حاكم أثينا الذي جاء ذكره بالفعل ضمن رفاق أناكساجوراس من المفكرين حيث قال: «ما أعظم تلك المعالم والتماثيل التي تركناها في إمبراطوريتنا! سيتعجب اللاحقون من صنيعنا كما يتعجب أبناء هذا الجيل منه.» هذا ما أصاب بريكليس في توقعه في خطابه الذي ألقاه في ذكرى المحاربين الأبطال في المدينة.
وفي الخطاب نفسه أثنى بريكليس على الحياة في أثينا التي فسرت - بجانب ثراء المدينة - ظهور السفسطائيين قائلا:
إن دستورنا يوصف بالديمقراطي لأن السلطة ليست في يد أقلية وإنما في يد الناس جميعا. وعندما يتعلق الأمر بتسوية النزاعات الخاصة فالكل أمام القانون سواء، وعندما يتعلق الأمر بتفضيل شخص على آخر في المناصب العامة فلا يهم الانتماء إلى طبقة معينة بل قدرات الفرد نفسه.
وكانت أهم تلك القدرات على الإطلاق هي القدرة على الكلام ومجادلة النخب السياسية أو هيئات المحلفين وإقناعها. وتكمن قوة بريكليس بشكل كبير في قدرته على التأثير في المجموعة التي أمامه وضمها إلى صفه. ويستمر في كيل المديح والإشادة قائلا:
إننا أهل أثينا نبني قراراتنا على أساس وتخطيط أو نخضعها للمناقشة؛ لأننا لا نؤمن بعدم التوافق بين الأقوال والأفعال، فما أسوأ الاندفاع إلى عمل شيء قبل مناقشة عواقبه بشكل سليم!
لقد أحب أهل أثينا الحجج القوية، بل وأحبوا الرديئة منها أيضا إذا كان الجدال مسليا. كما اشتهروا أيضا بالمشاكسة، وأحيانا كانوا يجعلون من أنفسهم مادة للمزاح للغرض نفسه . وفي مسرحية هزلية لأرسطوفان يقود أحد التلاميذ فلاحا يدعى ستربسيادس داخل مدرسته ويريه التجهيزات العلمية فيها ويدور الحوار كما يلي:
التلميذ :
ولدينا هنا خريطة للعالم. هذه أثينا.
ستربسيادس :
دعك من هذا، فأنا لا أصدقك. أين هيئة المحلفين؟
لقد أعجب ستربسيادس بهذه المدرسة؛ لأنه أراد لابنه أن يتقن فن الكلام حتى يرد على دائنيه في المحاكم بعد إفلاسه. ولم يهتم المحتالون فحسب بالتمرن على الجدال، فكيف كان لمواطن أن يستغل الفرص التي تقدمها الديمقراطية إن لم يولد خطيبا مفوها؟ ولم يكن نظام التعليم التقليدي وقتها وسيلة لتحقيق ذلك، فكان الفتية في أثينا يتعلمون القراءة والكتابة والموسيقى، ويمارسون الرياضة والتمرينات البدنية، وربما يتعلمون بعض الرياضيات وقدرا كبيرا من الشعر الملحمي. وكانوا يبدءون تعليمهم في سن السابعة وينتهون غالبا في الرابعة عشرة. أما الفتيات فكن يتعلمن بعض الأعمال اليدوية فقط. ولم يكن غريبا أن يطالب بمستوى أعلى من التعليم من يطيقون تحمل نفقاته. وكان السفسطائيون هم الذين قدموا من جميع أنحاء اليونان للوفاء بالحاجة إلى تهذيب النفس فكريا.
وكان من الطبيعي أن ينجذب أي من متحدثي اللغة اليونانية من ذوي العلم والموهبة إلى أثينا. ولو لم يكن هذا الرجل مواطنا من أهل أثينا لما تمكن من المجادلة على الملأ، وما حقق أهدافه بتلك الطريقة، ولكن كان يمكنه أن يكسب قدرا لا بأس به من المال وأن يتمتع بكرم الضيافة من خلال تدريب أهل أثينا على المجادلة وتعليم أولادهم، وتسليتهم وتثقيفهم في ولائمهم والترفيه عنهم في حفلاتهم وإسداء النصح لهم. وكان من أوائل من قدموا إلى أثينا وحصلوا المال بالاشتغال بالتدريس هو بروتاجوراس الذي عاصر أناكساجوراس وإمبيدوكليس وأصبح صديقا لبريكليس، وقد ظهر باسمه أو شخصه في كثير من محاورات أفلاطون. وكان بروتاجوراس قد جاء في الأساس إلى أثينا سفيرا لبلدته أبديرة، كما جاء سفسطائيون مشهورون آخرون سفراء أيضا، ومن ضمنهم جورجياس الليونتيني في صقلية وهيبياس الإيلي.
وقبل ظهور هؤلاء الرجال كانت كلمة سفسطائي تطلق على جميع أنواع الحكماء. ومن الغريب أنه حتى بعد هذا الوقت استمر بعض كتاب القرن الرابع في استخدام الكلمة للإشارة إلى كل الفلاسفة السابقين حتى طاليس، ولكن في زمانهم اقتصرت الكلمة بصورة رئيسة على الذين يعلمون الناس مقابل المال، وخاصة من عرضوا تدريس المهارات البلاغية والسياسية وكيفية التفوق في المجادلات الأخلاقية والقانونية (وهذا ما سنقصده بكلمة «سفسطائي» فيما بعد). وفي إحدى محاورات أفلاطون، يتوجه سقراط - وهو الراوي - بالسؤال إلى بروتاجوراس عما يقترحه بالتحديد لتعليمه لأحد التلاميذ المرتقبين، فيجيب بروتاجوراس:
أعلمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية لكي يحسن إدارة بيته، وأعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوة حقيقية في المدينة كمتكلم ورجل أفعال.
ويرد سقراط: هل أفهم من كلامك أنك تقصد فن السياسة والوعد بتربية مواطنين صالحين؟
فقال: إن هذا تحديدا ما أفعله.
يقدم أفلاطون هنا صورة بروتاجوراس ببساطة مبالغ فيها، فرغم أن أفلاطون يظهر احترامه للسفسطائيين الأشهر؛ فهو يختلف مع كل معتقداتهم تقريبا، وعارض على وجه التحديد فكرة أنه من المقبول أو حتى من الممكن دفع المال مقابل تعليم قيم وفضائل مثل المواطن الصالح أو السياسي الماهر. ولهذا كان ادعاء السفسطائيين تعليم النجاح العملي هو ما ركز عليه أفلاطون هجومه. وفي الحقيقة كان هذا بعيدا كل البعد عن أن يكون جل منهجهم، فمن بين المواد التي كانوا يدرسونها: قواعد اللغة ونظرياتها، والبلاغة، والنقد الأدبي، والموسيقى، والقانون، والدين، والأخلاق، والسياسة، وأصل الإنسان والمجتمع، والرياضيات، وبعض العلوم الطبيعية. وبين أنفسهم قدموا منهجا متكاملا للتعليم العالي، فبدءوا يحلون كناشرين للحكمة محل الشعراء التقليديين وشعراء القصائد الملحمية والفلاسفة ذوي الأطوار الغريبة الذين عملوا دون أجر مثل أناكساجوراس.
ولا ريب أن بعض السفسطائيين تخصصوا في بعض المواد بينما قدم البعض الآخر تدريبا شاملا. فقد كتب بروتاجوراس مثلا رسالة عن طبيعة الآلهة، يقال إنها قرئت على الملأ لأول مرة في بيت الكاتب التراجيدي يوريبيديس. ومن المؤكد أنه اهتم بالقانون والحكومة حيث إن بريكليس قد أوكل إليه سن القوانين لمدينة جديدة في جنوب إيطاليا. ويقال إن بروتاجوراس وبريكليس استغرقا يوما كاملا في مناقشة مشكلة قانونية تتعلق بتحديد الجاني في حوادث القتل الخطأ في منافسات رمي الرمح. كما كان بروتاجوراس يفسر معاني القصائد، وقد درس اللغة وألف فيها حتى إنه يوصف أحيانا بالنحوي الأول (إذ كانت الفوارق اللغوية التي قدمها مفيدة لأفلاطون الذي أضاف إليها ليدحض آراء بارمنيدس المعقدة بخصوص اللاشيء). وبالنسبة للموضوعات الأقل ارتباطا بالفلسفة ظهر بروتاجوراس في محاورات أفلاطون وهو يناقش قضايا أخلاقية مختلفة ويناقش طبيعة المعرفة، كما كتب بروتاجوراس أيضا مقالا عن الحقيقة يتضمن المقولة الشهيرة والغامضة التي تقول إن الإنسان مقياس كل شيء، وسنناقش هذه الفكرة لاحقا.
كل هذا يجعل بروتاجوراس رجلا موسوعيا باهرا، وقد كان كذلك حقا حتى إنه كتب مقالا عن المصارعة. ولكن ما وصل إليه لا يقارن بسفسطائي أصغر منه سنا هو هيبياس؛ فقد كان هيبياس من الناحية العملية مستعدا لتدريس أي شيء، ولم تقف مواهبه عند التدريس فحسب، بل روى أفلاطون أن هيبياس قد تباهى بأنه عندما ظهر في الألعاب التي كانت تقام على جبل أولمبوس ليلقي بعض قصائده، وقد صنع نعليه وعباءته وسترته وحزامه وخاتمه بنفسه، إضافة إلى فرشاة وقارورة زيت كانتا بحوزته. وفي ظهوره العلني الذي ادعى أنه جمع منه مالا كثيرا كان هيبياس مستعدا لإلقاء خطب محضرة وتلقي الأسئلة من كل الحاضرين. وحينما لم يكن يصنع ملابسه أو حليه كان يجمع تاريخ الرياضيات والفلسفة، كما كان يكتب بعض المسرحيات، إلا أن أفلاطون سخر منه وما ذلك عليه بجديد. ولم يكن تعليم هيبياس عميقا بقدر ما كان موسوعيا متعدد المجالات، ويبدو أنه لم يقدم إسهامات كبيرة في أي من العلوم المتعددة التي درسها، ربما باستثناء اكتشاف أحد المنحنيات الهامة في الهندسة. ولم يقر التاريخ بما أقره هيبياس من تقييم لنفسه والذي نقله أفلاطون على لسانه قائلا: «لم أجد قط رجلا يتفوق علي في أي شيء.»
كان أنتيفون أحد السفسطائيين الأكثر تواضعا من هيبياس، وكانت كلماته أحيانا مفعمة بالتشاؤم؛ فها هو ذا يقول: «إن الحياة كلها مدعاة للشكوى، فليس فيها ما هو مميز أو عظيم أو نبيل، فكل شيء تافه وواهن وزائل ومحزن.» وقد كتب أيضا: «وما الحياة إلا يوم واحد، لا تلبث إلا لهذا اليوم الذي ما إن نر فيه النور حتى ننقل أمانتنا إلى الجيل القادم.» أما أهم كتاباته الباقية فقد تحدثت عن الأخلاق وتحديدا ماهية العدالة، وهذا من المرجح ما كان يدرسه على وجه الخصوص. كما عرض أيضا المزيد من السلع الأساسية للبيع، وكان مهتما على وجه الخصوص بالأحلام وتفسيرها، ويبدو أنه قدم نوعا من خدمات العلاج النفسي.
كان جورجياس من بين السفسطائيين الأكثر تخصصا؛ إذ كان خطيبا مشهورا وألف عدة كتيبات عن البلاغة. وضمن أشياء أخرى ألف جورجياس عددا من الخطب التي أعدت لتدرس وتقارن كنماذج للجدل الإقناعي، وكانت أطولهن هي الخطبة القوية في الدفاع عن هيلين الطروادية. وقد ركز أفلاطون جل الهجوم الذي شنه على السفسطائيين على هذا الجانب؛ حيث ادعى أنهم لم يهتموا بالحقيقة في جدالهم بل بتعليم تلاميذهم خدع الفوز بالجدال. ولم يكن يعني السفسطائيين ما إذا كنت عادلا أو صاحب حجة قوية؛ فالسفسطائيون سيعلمونك كل أنواع الحيل التي تجدي في أية منافسة كلامية. وقد اقتفى أرسطو أشهر تلاميذ أفلاطون أثر أستاذه، وواصل هجومه على السفسطائيين قائلا: «إن مهنة السفسطائي هي الوصول إلى صورة للحكمة دون الحقيقة، والسفسطائي رجل يكسب المال من الحكمة الظاهرية غير الحقيقية.» •••
إن النقد الذي وجهه أفلاطون وأنصاره إلى السفسطائيين التصق بهم، كما سيشهد أي قاموس تعرف فيه السفسطائية بعد ذلك. فهل كان ذلك النقد مستحقا؟ ولماذا وجه إليهم؟ ليس صحيحا أن منتقدي السفسطائية رأوا أن الجدال والإقناع لا يجب تنميتهما كمهارات أو تدريسهما على الإطلاق. وقد كتب أرسطو نفسه أقوى المقالات تأثيرا عن البلاغة، وذكر فيها ما تعلمه من جورجياس فقال: «حيث أوصى جورجياس بمواجهة جد الخصم بالهزل وهزله بالجد، وهو ما أصاب فيه.» ولم يكن أفلاطون وأرسطو يعتقدان أنه من المنافي للأخلاق تعليم التلاميذ رؤية كلا الجانبين من الجدال - وهي تهمة كثيرا ما وجهت للسفسطائيين وكأنها قمة الوضاعة - حيث قال أرسطو ذات مرة:
يجب أن نكون قادرين على استخدام وسائل الإقناع ... في كلا الاتجاهين، ليس لكي نتمكن من الإقناع بشكل عملي على كلا الطرفين (فلا يجب ألا نقنع الناس بما هو باطل) ولكن لكي نرى الحقائق بوضوح، وحتى نتمكن من دحض حجج من يجادلون بالباطل.
ولم يكن صحيحا أيضا أن أفلاطون وأرسطو قالا إن كبار السفسطائيين كانوا بلا مبدأ ولم تكن لهم أية قيمة، بل كان معظمهم يعامل باحترام يصل إلى حد الإشادة عندما يأتي ذكره. ولكن الحقيقة المثيرة هي أن «الفاسدين» من السفسطائيين أيا من كانوا دائما ما بدوا كمحتالين مندسين بلا اسم، إلا أنهم لم يتعرضوا لنقد أفلاطون اللاذع لشخصهم إلا نادرا؛ ذلك أن دوافع أفلاطون للنقد والهجوم كانت عميقة بحيث يصعب التعبير عنها بوضوح أو مواجهة أي من كبار السفسطائيين بها صراحة.
ثمة عوامل أخرى كانت تقف وراء هذا النقد قد يكون من ضمنها العجرفة؛ فقد كان أفلاطون أحد النبلاء وكان (على عكس تابعه بريكليس النبيل) متشككا في فضائل الديمقراطية، وربما عارض مبادئ السفسطائية المنادية بالمساواة والتي تقول إن كل إنسان يمكن أن يتعلم الحكمة وأن يتحلى بالفضيلة وأن يعد لأداء دور معين في الحكومة إذا كان لديه المال اللازم لاستئجار معلم سفسطائي فحسب. وذكر أحد رفاق سقراط أنه شبه السفسطائيين بالعاهرات لأنهم مستعدون لبيع خدماتهم لمن يدفع ثمنها. ولكن كان هناك دافع شخصي أشد ألما لدى أفلاطون، فلقد ألف معظم أعماله (وربما كلها) بعد محاكمة بطله سقراط عام 399ق.م. وإعدامه، وهي المأساة التي يحمل أفلاطون السفسطائيين المسئولية غير المباشرة عنها. وكان أفلاطون يرى أن الجرائم التي اتهم سقراط بها - وخاصة الادعاء بأنه أفسد عقول الشباب؛ لأنه «جعل الحجة الأضعف تغلب الحجة الأقوى وكان يعلم الآخرين أن يحذوا حذوه» - ناتجة عن سمعة بعض السفسطائيين. وكان كبير متهمي سقراط ديمقراطيا يدعى أنيتوس، وقد زعم أفلاطون أنه كان يكن الكراهية والبغضاء للسفسطائيين، رغم أنه لم يكن يعرف من هم بالتحديد. وفي إحدى المحاورات التي كتبت في الأوقات السعيدة قبل المحاكمة يروي أفلاطون حوارا وديا بين أنيتوس وسقراط، وكان أنيتوس قد وجه نقدا عنيفا لسفسطائيين لم يسمهم، وكان هذا نص الحوار:
سقراط :
هل تسبب أي من السفسطائيين لك في أي أذى؟ وإلا فما سبب انتقادك لهم؟
أنيتوس :
يا إلهي، لا! لم أحتك في حياتي بأي منهم، كما لم أسمع أن أحدا من أهلي قد احتك بهم.
سقراط :
إذن ليس لك أية تجربة مع أي منهم على الإطلاق؟
أنيتوس :
ولا أريد ذلك أبدا.
لم يكن الرجل العادي في أثينا ليملك الوقت الكافي ليفرق جيدا بين أساليب المشهور سقراط وأساليب غيره من المفكرين، بل كان يسمع عن سقراط أنه داهية يجلس طوال اليوم ليناقش الشباب الذين أرادوا أن يتعلموا منه، ومن ثم كان سقراط يبدو سفسطائيا وحسب في نظر الرجل العادي. وكما رأى أفلاطون؛ فإن الاتهام الذي كان يتعين على سكان أثينا أن يوجهوه إلى السفسطائيين الفاسدين قد أضر سقراط بالخطأ مثل الرمح القاتل الذي تحدث عنه بريكليس وبروتاجوراس.
ولا ريب أن الكثير من سكان أثينا قد خلطوا بين جميع أنواع المفكرين؛ ولذلك كان يوريبيديس يعتبر أحيانا سفسطائيا لأن مسرحياته كانت حديثة الطابع بشكل مزعج (فقد قدم أحيانا العبيد كنبلاء والأبطال أدنى من أن يوصفوا بالفضيلة). وقد انتشرت شائعة أن سقراط ساعد يوريبيديس في كتابة هذه المسرحيات ربما بسبب ما شاع عن غرابة كلا الرجلين. وقد ظهر سقراط نفسه في مسرحية أرسطوفان «الغيوم» التي عرضت أول مرة في أثينا عام 423ق.م. كسفسطائي أحمق فاسق فاسد الأخلاق، كما ظهر أيضا في عدة مسرحيات هزلية ضاعت الآن ربما على القدر نفسه من البذاءة (يرد في أحد أجزائها الباقية: إنني أبغض سقراط ذاك الفقير الثرثار). وفي رواية أفلاطون لمحاكمة سقراط بعد عدة أعوام، يشير سقراط بحزن إلى الفكرة الخاطئة الشائعة لدى الناس عنه فيقول: «لقد رأيتم سقراط بأنفسكم في مسرحية أرسطوفان وهو يمشي وكأنه في دوار مدعيا أنه يمشي على الهواء ويتفوه بكثير من الهراء.» ويقول أيضا: «سأحاول في الوقت القليل المتبقي لدي أن أخلص أذهانكم من الانطباع الخاطئ الذي تكون عني على مدار أعوام عديدة.»
ولم يشغل أرسطوفان جمهوره بالفروق الدقيقة بين العلماء الأوائل والسفسطائيين، بين سقراط والمخادعين ذوي الأخلاق الفاسدة؛ إذن لأفسد الدعابات التي كانت هادفة في عيون معظم أهل أثينا. كان من يطرح أية تساؤلات علمية بخصوص الطبيعة يعتبر مخلا بتعاليم الدين الموروثة، وبهذا يخل بالقيم الأخلاقية التقليدية. وكذلك اعتبر من يتساءل عن الأخلاقيات التقليدية مخلا بتعاليم الدين الموروثة، واتهم بالحديث بكثير من الهراء حول صواعق البرق والذرات. وقد كان هذا حال المفكرين جميعا فاستحقوا ما أصابهم. ففي مسرحية «الغيوم»، احترق «مصنع المنطق» الخاص بسقراط عن آخره على يد مواطن غاضب (وهو ستربسيادس الفلاح المثقل بالديون والمذكور آنفا). وفي الحياة الواقعية وبعد أربعة وعشرين عاما، أدين سقراط وحكم عليه بالإعدام من أناس كانوا من المحتمل ضمن جمهور مسرحية «الغيوم».
وحتى لو لم يكن هؤلاء بالسوء نفسه الذي يتسم به السفسطائيون في «مصنع المنطق» الذي ابتدعه أرسطوفان، فمن المحتم أنه كان هناك بعض الشخصيات السيئة بين السفسطائيين الحقيقيين. وحتى أجل المعلمين لا يمكن أن يسأل عن أفعال تلاميذه؛ فقد أصبح أحد الشباب الذين سعوا إلى مرافقة سقراط على الأقل طاغية وسفاحا بعد ذلك. وعبثا قال سقراط: «لم أشجع أبدا أي عمل مناف للعدالة يصدر من أي شخص بما في ذلك من يعتبرهم بعض الناس تلاميذي بدافع من الحسد.» وفي ظل عدم سيطرة السفسطائيين على زملائهم أو أتباعهم كان عملهم خطيرا وقد يؤثر على سمعتهم. وقد كان أفلاطون مدركا لتلك المشكلات فقال:
عندما يبدأ الشباب في اكتساب حس المجادلة يسيئون استخدامه وكأنه نوع من الرياضة، ويستخدمونه باستمرار من أجل الجدل. وعندما يتغلبون على الآخرين ويغلبهم الآخرون فسرعان ما يفقدون ثقتهم فيما كانوا يؤمنون به وتكون النتيجة تشويه سمعتهم وسمعة الفلسفة ككل.
ولإنقاذ سمعة الفلسفة بشكل عام وسقراط بشكل خاص، كان على أفلاطون أن يفصل بين سقراط والحركة السفسطائية، وهو ما فعله بالفعل بتعظيم الفروق بينهما. لقد كان سقراط رجلا فاضلا بينما كان السفسطائيون قوما فاسدة أخلاقهم أو على الأقل يسببون الضرر ويجلبون الأذى أينما حلوا، وكان سقراط يسعى وراء التساؤلات الفكرية الحقيقية على عكس السفسطائيين الذين اختلف سعيهم عن ذلك كثيرا. كان أفلاطون يقر أن بعض السفسطائيين مثل بروتاجوراس وجورجياس كانوا صادقين إلا أنه قال إنهم أيضا قد ضلوا الطريق في بعض الجوانب، وإن مذهبه كان في مجمله سيئا. لقد نجح أفلاطون في عرض نقاط الضعف في بعض ما قالوا إلا أنه أغلق عينيه عن نقاط القوة لديهم وعن أن كبار السفسطائيين كانوا يبحثون عن الحقيقة كما كان هو نفسه يبحث عنها، كل ما في الأمر أنهم كانوا يبحثون عنها في مكان آخر. •••
وكما يمكن أن يتوقع المرء من وضعهم المهني، كان للعديد من السفسطائيين مذهب علمي في المسائل العقلية أكثر من المفكرين الآخرين؛ فلم يكن لديهم ما يكفي من الوقت لما اعتبروه نظريات وتأملات عبقرية ولكن غير مقنعة وغير مثمرة. فمن يمكنه تحديد ما إذا كان العالم كتلة من المياه أم حشدا من الأرقام أم جسما تكون من اندلاع حريق أم مزيجا من العناصر أم عاصفة من الذرات؟ لم تكن أي من هذه النظريات أقوى بصورة قاطعة من نظيراتها، ولم يحدث الاختيار بينها أي فارق في الحياة اليومية. ألم ينكر العديد من الفلاسفة وجود الحياة اليومية نفسها؟ ومن كان يمكنه أن يصدق حجج بارمنيدس التي ساقها ليثبت أنه لا شيء يتغير بينما يثبت كل حدث في كل يوم عكس ذلك؟ ولم تكن فلسفة النظرية الذرية بأفضل منها حالا؛ لأنها أيضا ألغت عالم الخبرات اليومية بوصفه حجابا قبيحا يواري الحقيقة الجوهرية ل «الذرات والفراغ».
بالنسبة للعقل السفسطائي يبدو أن ثمة خللا حدث في مجال التعليم؛ فقد بدا العقل والجدل واللغة كأنها سرقت، وبدا أن المنطق السليم قد ضاع خلسة. وهناك مقالة عبقرية لجورجياس تقول إن اللغز يتنكر في صورة جدال، ويمكن اعتبارها محاولة لتوضيح سخافة الأمر برمته؛ فهي تدعي إثبات ثلاثة أشياء؛ أولها: أنه لا شيء كائن على الإطلاق، وثانيها: أنه حتى إن وجد شيء فمن المستحيل فهم طبيعته ، وآخرها: أنه حتى إذا أمكن فهم طبيعته فمن المستحيل مشاركة ذلك مع الآخرين.
وربما كان جورجياس نفسه سيتحير أمام لغزه ولو شيئا يسيرا، وإن لم يتحير، فحري به أن يفعل. لم يكن ليستطيع تحديد المغالطات في اللغز على وجه الدقة، حيث إن المفردات النقدية في ذلك الوقت لم تكن معقدة بدرجة تكفي للقيام بذلك، ولكنه بالتأكيد لم يقبل هذا الشذوذ المنطقي على عواهنه. وربما أراد أن يحرج به أي فيلسوف ينقصه من الحكمة ما يجعله ينكر العالم اليومي، وذلك ببيان أن هذه الأفكار قد تفاقمت سريعا، أو ربما أراد أن يبين أن ما يدعى «الحقيقة» يمكن لأي خطيب ماهر مثله أن يضعفها حتى ولو بدت مؤكدة، أو ربما كان يسلي به نفسه وجمهوره؛ إذ كان الإغريق يحبون الألغاز الكلامية. وأيا كان الغرض فالمحصلة واحدة؛ فقد كان اللغز تذكيرا بأن هناك ما يثير الشك في الطريقة التي كان يتحدث بها الفلاسفة ويجادلون بخصوص الحقيقة المطلقة. ومن الممكن أن يتحول حديثهم هذا إلى فيض جارف من السخافات.
ولا نحتاج إلى استقصاء تعقيدات لغز جورجياس، كما أن إدراكه الذاتي المنمق لا قيمة له. ففي الجزء الثالث من اللغز الذي يتحدث عن المشاركة مع الآخرين، عقد جورجياس مقارنة بين «الكلام» وبين «ما يوجد حولنا». لقد أدرك الفجوة الكبيرة بينهما، كما أدرك قدرة اللغة على صياغة نظرة الإنسان للعالم. وقد كتب في موضع آخر أن «تأثير الكلام على بناء الروح يشبه تأثير المخدرات على حالة الجسد»، وأضاف أن «الإقناع عند امتزاجه بالكلام يمكن أن يخلف أي انطباع تريده على الروح.» وكما يرى جورجياس وبعض السفسطائيين الآخرين، استخدم العديد من قدماء الفلاسفة اللغة لخلق صورة غير مجدية وغير صحيحة عن العالم، وما نهدف إليه الآن هو خلق صور مجدية بدلا منها.
كان هدف هؤلاء السفسطائيين هو الوصول إلى فلسفة تشمل خبرات الحياة اليومية، إلا أن هذا الهدف وضعهم وجها لوجه مع أفلاطون في ساحة الفلسفة. فكما رأينا، كانت نظرة أفلاطون للمعرفة حبلى بكثير من شعائر الديانة الأورفية والفيثاغورية. وبالنسبة له ولأسلافه من المفكرين كانت مهمة الفلسفة أن تفتح الطريق إلى ما وراء عالم الحياة اليومية لتنقية حقائق العقل. أما السفسطائيون فقد أرادوا السير في الاتجاه المعاكس؛ فبالنسبة لهم كان الهدف إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها الفوضوية كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة. ولكن الأفعال تختلف عن الأقوال، فما هي التجربة التي تصلح أن تكون وسيلة الوصول إلى الحياة المنشودة؟ فالعالم يمثل رؤى متصارعة تختلف باختلاف البشر. إن الإدراك المتباين هو المشكلة التي حاول ديموقريطس أن يقف لها على حل حينما رفض الأحكام الذاتية عن الحلو والمر والساخن والبارد وغير ذلك لأنها محض اعتقادات، وقدم بديلا موضوعيا لها وهو «الذرات والفراغ». أما بروتاجوراس فقد قدم الحل للمشكلة نيابة عن السفسطائيين في صورة فكرة مختلفة وصادمة؛ إذ تمسك بالذاتية بدلا من رفضها، فما أدركه هو حقيقة بالنسبة لي وما تدركه أنت هو حقيقة بالنسبة لك، فقال إنه لا توجد حقيقة واحدة للعالم المادي ولكن ذلك لا يعني أنه لا توجد حقيقة له على الإطلاق، بل على العكس فهناك كم من الحقائق لكل شيء في الوجود لأن ما يدركه كل فرد هو حقيقة بالنسبة له. وهذا ما قصده بروتاجوراس عندما قال مقولته المشهورة: «إن الإنسان مقياس كل شيء.»
يعرف هذا النوع من وجهات النظر بالنسبية؛ لأنها تقول إن الحقيقة نسبية في نظر كل مؤمن بها كما تعني حاليا أن الحقيقة نسبية في نظر كل مجموعة ممن يؤمنون بها. إنها وسيلة لإعادة المعرفة إلى الناس. وبدلا من أن تكون الحقيقة خفية يصعب اكتشافها فهي متناثرة في كل مكان مثل طعام المن من السماء يحصل كل إنسان على قدر منه. ويبدو أن بروتاجوراس هو أول من وضع مفهوم النسبية الذي نوقش بالتفصيل فيما بين بعض السفسطائيين وخصومهم وعلى رأسهم أفلاطون، ومنذ ذلك الوقت ظهر لها العديد من الصيغ. ويعزى كثير من الزخم للنسبية الحديثة إلى كانط (1724-1824م) وهو ما لم يكن ليسعد به كانط نفسه؛ فقد آمن كانط بوجود حقائق مطلقة وثابتة ، ولكنه فتح الباب دون قصد أمام النسبية بسبب الطريقة التي فسر بها تلك الحقائق، حيث قال إن الخصائص المتعددة لصورة العالم في أذهاننا يفرضها العقل البشري، وبما أن كل العقول البشرية متماثلة في جوانب مهمة فإن تلك الحقائق متماثلة بالنسبة للجميع. وتبنى العديد من المفكرين بعد كانط فكرته أن الحقيقة تتحدد جزئيا عن طريق العقل البشري، ولكنهم رفضوا افتراضه القائل بأن كل العقول متماثلة؛ فكانت النتيجة ازدهار النسبية؛ إذ إن كل الصور المرسومة للعالم تعكس الأدوات المفاهيمية التي استخدمها أصحابها، إلا أن أيا من هذه الصور ليست أصح من أختها.
وتظهر النسبية نفسها في صور وأشكال عدة، بعضها أوسع نطاقا من الآخر، فيرى بعض الناس أن القيم الأخلاقية نسبية بحيث يعتمد الصواب والخطأ على المجتمع أو الحقبة محل النقاش، بينما يؤمن آخرون أن النسبية لا تنطبق على القيم الأخلاقية، بل على النظريات العلمية أو ربما كل «الحقائق». وبشكل عام تظهر قيود التفكير النسبي في هذا العصر في كتابات علم الإنسان وعلم الاجتماع والنقد الأدبي أكثر من كتابات الفلاسفة. وبينما تبدو المعرفة الموجودة بتنوع المعتقدات والعادات الإنسانية مشجعة على التعاطف مع النسبية، يميل الفلاسفة إلى الحذر من الالتباس والمفارقات التي تكمن وراء العديد من صورها. لنأخذ على سبيل المثال النسبية الأخلاقية، حيث تقول إحدى نسخها المباشرة إنه من الخطأ انتقاد قيم الثقافات الأخرى؛ لأن كل ما تؤمن به كل ثقافة هو الصواب بالنسبة لها. ولكن هذه الأطروحة المسالمة المتسامحة تناقض نفسها في الحقيقة. فما هي المعايير الأخلاقية التي تقضي بأنه من «الخطأ» انتقاد قيم الآخرين؟ فإذا كانت إحدى الثقافات ترى أنها أفضل أخلاقيا من الثقافات الأخرى فالنسبية الأخلاقية ذاتها تستلزم أنه من الصواب أن تنتقد هذه الثقافة نظيراتها .
تميل النسبية بكل أشكالها إلى الإخفاق حينما تطبق على نفسها، كما أن بها العديد من الصعوبات والنقاط الغامضة. ولقد أثار سقراط بعض المشكلات المتعلقة بالنسبية في إحدى محاورات أفلاطون، وتدعى «ثياتيتوس»، والتي نوقشت فيها آراء بروتاجوراس وجرى تحليلها ثم رفضها في النهاية. في بداية المحاورة اقتبس سقراط جملة بروتاجوراس التي تقول إن الإنسان مقياس كل شيء، ثم شرع في تفسيرها بأنها تعني أن أي شيء «أرى حقيقته كما يبدو لي أنا وترى أنت حقيقته كما يبدو لك أنت.»
ويضرب سقراط بالرياح مثلا يدلل به على صحة ما يقول فقال: «أحيانا عندما تهب هذه الرياح يشعر أحدنا ببرد خفيف بينما لا يشعر الآخر بذلك، أو يشعر أحدنا ببرد خفيف ويشعر الآخر ببرد قارس.» وفي هذه الحالة يمكن القول إن حال أحد الرجلين (القائل إن الرياح باردة) يختلف عن حال الآخر. وقال ديموقريطس إنه بما أن الرياح تبدو باردة وغير باردة في آن واحد فلا محيص من أن الرياح ذاتها غير ذلك تماما. أما بروتاجوراس فاستنتج من المظاهر المتناقضة أن الرياح باردة وغير باردة معا، فكل إنسان هو السلطة المطلقة (أو «المقياس») للحكم على الأشياء التي تبدو له؛ ولذلك فما يقوله عنها صحيح.
ولكن عند القول إن الأشياء في حقيقتها تطابق ما تظهر به لشخص ما، فقد انحرف بروتاجوراس كثيرا عن جادة الصواب؛ لأن ذلك يتضمن أنه ما من إدراك خاطئ. وهذه أطروحة غير معقولة؛ ولذلك شن عليها سقراط هجوما ضاريا.
سقراط :
يبقى السؤال حول الأحلام والاضطرابات وبخاصة الجنون، وجل الأخطاء التي يعتقد أنها تنتج عنه في النظر أو السمع أو غير ذلك من الخطأ في الإدراك؛ ففي تلك الحالات يكون إدراكنا خاطئا بالتأكيد، ويكون ما يبدو لأي إنسان أبعد ما يكون عن الحقيقة، بل إن هذا الإدراك ليس صحيحا على الإطلاق.
بروتاجوراس :
هذا صحيح تماما يا سقراط.
سقراط :
إذن ماذا يتبقى من حجة لمن يؤمن أن ما يظهر لكل إنسان صحيح بالنسبة له؟
بروتاجوراس : ... في الحقيقة لا أستطيع إنكار أن المجانين والحالمين يؤمنون بما هو باطل عندما يتخيل المجانين أنهم آلهة، ويعتقد الحالمون أن لهم أجنحة يطيرون بها في منامهم.
وعندما شعر سقراط أن خصمه بدأ يضعف زاد من الضغط عليه، فحتى وإن اعتبر بروتاجوراس المجانين والحالمين حالة خاصة - فضلا عن حالات الإدراك الخاطئ التي تقل في الأهمية - فبماذا يرد بروتاجوراس على الاعتراض الذي يقول إنه إذا كانت النسبية حقيقة فهذا يلغي وظيفته؟ وكما يقول سقراط في مناسبة أخرى:
إذا كان بروتاجوراس محقا في أن حقيقة الأشياء هي ما تظهر عليه لكل إنسان، فكيف يكون أحدنا حكيما والآخر أحمق؟ وإذا كان ما يظهر لكل إنسان هو صحيح بالنسبة له فلا رجل أكثر حكمة من الآخر.
بعبارة أخرى، كيف يمكن لبروتاجوراس أن يعلم الحكمة إذا لم تكن موجودة من الأساس؟
أراد سقراط أن ينصف بروتاجوراس فبين له كيف يرد على هذا الاعتراض. وتقودنا هذه الإجابة إلى قلب الفكر والممارسات السفسطائية. يتصور سقراط أن بروتاجوراس يجيب بأن السفسطائي الحكيم لا يعرض تعليم التلاميذ أية معتقدات أصح بأي شكل من معتقداتهم؛ إذ إن ذلك سيكون مستحيلا إذا صحت النظرية النسبية، بل عليه أن يعلمهم معتقدات أنفع لهم وأجدى. فمثل السفسطائي كمثل الطبيب يعالج عقول الناس بدلا من بطونهم، ويعلم الآخرين كيف يفعلون ذلك أيضا، فمن الأجدى والأنفع أن يتبنى المرء أفكارا بعينها، وهذا ما يقدمه السفسطائيون.
وفي نهاية القرن التاسع عشر حاول مجموعة من الفلاسفة الأمريكيين - أطلقوا على أنفسهم اسم البرجماتيين - أن يطوروا فكرة أن الشيء المهم في المعتقدات هو فائدتها العامة ودورها في الحياة. وأوضح البرجماتي الكبير ويليام جيمس (شقيق هنري جيمس) هذه الفكرة بشكل يذكرنا بما قاله سقراط على لسان بروتاجوراس. ورغم أن جيمس لم يتوصل إلى أن الحقيقة نسبية فقد رأى أن أفضل طريقة لتحديدها تبنى على المنفعة بالمعنى العام لها، فقال في ذلك:
إن كل شيء يثبت أنه صالح في ظل المعتقدات السائدة في عالمنا هو شيء حقيقي، فكما أن هناك أطعمة معينة لا تناسب حاسة التذوق لدينا فحسب، وإنما تفيد أسناننا وبطوننا وأنسجتنا، فهناك كذلك أفكار لا يمكن التفكير فيها واستخدامها لدعم ما يروق لنا من الأفكار الأخرى فحسب، بل يمكننا كذلك الانتفاع بها في الكفاح العملي في الحياة. وإذا كان ثمة حياة أفضل ينبغي أن نسعى إلى تحقيقها، وإذا كانت هناك فكرة تساعد على ذلك إذا اعتنقناها؛ فمن الأفضل لنا أن نؤمن بهذه الفكرة إلا إذا تعارض الإيمان بها بالمصادفة مع منافع أخرى أكبر وأكثر حيوية.
إن المعتقدات التي يبدو هذا التفسير البرجماتي مناسبا لها - ولو في الظاهر على الأقل - هي المعتقدات التي تتعلق بالأمور العملية الخاصة بالبشر كالسياسة والأخلاق. ويستمر سقراط في إيضاح كيف يمكن لبروتاجوراس أن يدافع عن نفسه في هذا الموضوع فيقول:
إن الخطباء الحكماء والشرفاء في المجتمع يستبدلون الآراء السليمة (بمعنى «الصحية» أو «النافعة») بالآراء الخاطئة لما هو صحيح؛ فأنا أومن أن كافة الممارسات التي تبدو صحيحة وقابلة للتطبيق في دولة ما تعتبر صحيحة بالنسبة لهذه الدولة طالما تمسكت بها، أما عندما تصبح هذه الممارسات خاطئة في حالة معينة فإن الرجل الحكيم يستبدل بها ممارسات أخرى سليمة. وبالمبدأ نفسه يتصف السفسطائي، بما له من قدرة بالأسلوب نفسه على إرشاد تلاميذه إلى الطريق الذي يتعين عليهم اتباعه، بالحكمة ويستحق أجرا مناسبا عليهم عندما ينتهي من تعليمهم. وبهذه الطريقة يكون كلا الأمرين صحيحا؛ فهناك من هم أكثر حكمة ممن سواهم، وكذلك ليس ثمة رجل أحمق في تفكيره. وهذه الاعتبارات تنقذ عقيدتي من الانهيار.
ويجب على السفسطائي أن يوظف قدراته البلاغية ليجعل الرؤية النافعة أو «الصالحة» مقبولة في المجتمع بوصفها الرؤية الصحيحة أو العادلة؛ ولذا يبدو في هذه النسخة من عقيدة بروتاجوراس أن النسبية تنطبق على بعض الأشياء دون غيرها، فهي تنطبق على العدالة والشرعية الأخلاقية؛ (إذ إن «كافة الممارسات التي تبدو صحيحة وقابلة للتطبيق في دولة ما تعتبر صحيحة بالنسبة لهذه الدولة») ولكن ليس على ما هو نافع ومفيد في جوهره، (فأحيانا ما تكون آراء المجتمع «غير صالحة له»). ويمكن تشبيه الأمر هنا بالمريض وطعامه؛ فكل إنسان على صواب فيما يخص مذاق طعامه بالنسبة له، ولكن إحساسه قد يكون مع ذلك «خاطئا» بمعنى أنه قد يكون هذا الطعام أفضل له إن كان مختلفا. وعلى أية حال هذا ما تصور سقراط أن بروتاجوراس يقوله.
لاحظ كيف تبدل موضوع النسبية تدريجيا من الفرد إلى «الدولة»، فلم يعد الأمر يتعلق بما يراه كل فرد في العدالة صحيحا بالنسبة له، بل بما تظنه كل دولة أو مجتمع صحيحا بالنسبة لتلك الدولة أو ذلك المجتمع. إن الجماعات وليس الأفراد هي ما لا تخطئ في ممارساتها الأخلاقية والسياسية ما دامت تتمسك بها. ويثير هذا التحول مزيدا من المشكلات المزمنة في النسبية، فكم عدد الأفراد الضروريين لتكوين مجتمع كبير يصلح لحماية النسبية؟ وإلى أي مدى ينبغي لهم أن يتفقوا فيما بينهم ليصيروا مجتمعا موحدا؟ وماذا إذا لم يتفق فرد واحد فقط أو قليل من الأفراد مع رأي البقية؟ وهل يجب اتهام هؤلاء المنشقين بسوء فهم فلسفي إذا قالوا إن الأغلبية خاطئة فيما يخص الخير والشر كما تقول النظرية النسبية، أم أنهم يعدون مجتمعا صغيرا يستحق نصيبا من الحقيقة المؤكدة في ظل إعادة التوزيع السخي للنتاج الفكري في ظل النسبية؟
والواقع أن معظم الناس لا يتخذون موقفا نسبيا تماما في الخلافات حول العدالة والقيم الأخلاقية فضلا عن مواضيع أخرى يفترض أن تنطبق النسبية عليها، وإن التزموا بالنسبية فلن يكون هناك خلافات حقيقية. وتعتبر هذه الحقيقة ذاتها مشكلة في النسبية كما سيبين سقراط؛ فهو يوضح أن العديد من الناس بمن فيهم هو نفسه لا يتفقون على أن كل إنسان أو مجتمع هو مقياس كل شيء. ويرى كثير من الناس أن هناك بالفعل حقائق صحيحة بالنسبة لكل شخص، وطبقا للنسبية ذاتها يعتبر اعتقادهم صحيحا لأن النسبية تقول إن أحدا لا يخطئ فيما يؤمن به (ربما باستثناء المعتقدات المتعلقة بما هو نافع). وبناء عليه فإن النسبية لا تكون في أحسن الأحوال صحيحة إلا لمن يؤمن بها، فهي ربما تكون صحيحة بالنسبة لبروتاجوراس ولكن ليس بالنسبة لسقراط، ولكن لا يمكن لبروتاجوراس أن يقول إن سقراط أخطأ برفضها. وإذا كان رأي الأغلبية هو معيار الحقيقة؛ فعلى بروتاجوراس نفسه أن يقر بخطأ عقيدته لأن معظم الناس يختلفون معها. وبمساعدة سقراط وضع بروتاجوراس نفسه في موقف لا يحسد عليه.
ومع ذلك يجب ألا ننسى أن هذا محض خيال؛ فبروتاجوراس الحقيقي قد مات قبل كتابة محاورة أفلاطون «ثياتيتوس» بوقت طويل، ولا أحد يمكنه التأكد من كيفية رده على هذه الانتقادات، فضلا عن أننا نتناول حركة فكرية كانت نشطة في يوم من الأيام، ولا يمكن أن تخمد أو تختفي فقط لأن شخصا آخر كان يستطيع القضاء عليها بالوسائل المنطقية، فربما كان بروتاجوراس - في مواجهة حجج سقراط الداحضة - سيجد غايته في لغز جورجياس. ألم يبين هذا - بقدر معرفة الناس آنذاك - أن الفيلسوف البارع يمكنه دحض أي شيء إن أراد ذلك؟ فمن الأفضل تجاهل هذه الحجج الداحضة إذن ومتابعة الطريق.
كانت فكرة بروتاجوراس القائلة إن الإنسان هو مقياس كل شيء - إضافة إلى كل أفكار البرجماتيين والنسبيين المستمدة من السفسطائيين - استجابة عملية لمشكلات عملية. لقد زاد إدراك الإغريق لتنوع المعتقدات والعادات الأخلاقية، وهو أمر كان السفسطائيون معتادين عليه نتيجة الترحال المستمر. وقد نتج عن هذا التنوع الأخلاقي مشكلة المظاهر المتناقضة كالتي تحدث عنها ديموقريطس وبروتاجوراس والمتعلقة بالحس والإدراك، فكما قد يجد شخص ما الرياح باردة بشكل غير مستحب ويجدها الآخر منعشة، قد يرى الإغريقي أن فكرة إحراق الموتى فكرة نبيلة بينما يراها بعض الأجانب فكرة بغيضة من الناحية الأخلاقية. ويذكر المؤرخ هيرودوت بعد أن لاحظ هذا التضارب في الأخلاق أنه «إن سأل أحدهم الناس جميعا عن أفضل العادات من بين المتاح للجميع، لاختارت كل أمة - بعد التفكير - عاداتها؛ لأن الجميع على اقتناع تام أن عاداته هي الأفضل على الإطلاق.» وأضف إلى هذا أنه ما من شيء أكثر حكمة وعقلانية من القول أن لا أمة في الحقيقة تمتلك «التقاليد الأفضل على الإطلاق» ولكن المعقول أن «تقاليد كل أمة هي الأفضل بالنسبة لها.»
وقد أثار هذا الأمر تساؤلا مهما بحث فيه السفسطائيون، فكيف يمكن أن تتباين القيم الأخلاقية والسياسية في المقام الأول؟ وقد أجاب السفسطائيون بالاستشهاد ببعض الاختلاف بين الطبيعة والتقاليد البشرية؛ فالتقاليد والممارسات والمعتقدات الأخلاقية البشرية لم تملها الطبيعة (ولا الآلهة التي تعد جزءا من الطبيعة) بل تطورت بشكل مستقل تبعا للظروف وما كان مناسبا لكل مجتمع. وهكذا قدم السفسطائيون تفسيرا لنشأة المجتمع كذلك الذي قدمه ديموقريطس، والذي يقول إن الأنظمة القانونية والأخلاقية ظهرت للحفاظ على الحضارة. وقد قبل أفراد المجتمع قواعد هذه الأنظمة بوصفها عقدا اجتماعيا ملزما، ويعود بالنفع على الجميع، وهي من النوع الذي تحدث عنه لوك وروسو فيما بعد في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكما قال أنيفتون - أحد كبار السفسطائيين: «إن القوانين البشرية عرضية ولكن قوانين الطبيعة حتمية، وقد وضعت القوانين البشرية بالاتفاق وليس عن طريق الطبيعة.»
ويرى السفسطائيون أن القوانين البشرية المقبولة طوعا تختلف اختلافا كليا عن قوانين الطبيعة الحتمية، إلا أن جل هذه القوانين تختلف في الواقع عن بعضها. وأحيانا ما تتعارض متطلبات الطبيعة مع القوانين البشرية. وقد شط أنتيفون بخياله بعيدا عندما قال: «معظم الأشياء العادلة من الناحية القانونية معادية للطبيعة.» كما قال أيضا إنه إذا اتبع الإنسان ما تمليه الطبيعة عليه فسيفعل ما يمكنه من النجاح وما فيه أكبر قدر من النفع. وإذا كان الإنسان سيفلت بفعلته فهذا شيء يرغب الفرد فيه ومن ثم ترغب فيه الطبيعة، إلا أن القانون يسعى غالبا إلى تقييد المصلحة الشخصية في سبيل مصلحة المجتمع ككل. وبهذه الطريقة أو بطريقة أخرى «تسبب التقاليد - التي تعتبر الطاغية البشري - الضرر للطبيعة» كما يقول هيبياس السفسطائي في إحدى محاورات أفلاطون.
ويوضح أنتيفون أنه حتى إذا كان الإنسان فاضلا ولا يجور على حق غيره؛ فإن الالتزام بالقوانين قد يضر بمصلحته الشخصية. فمثلا إذا ظلم رجل رجلا آخر يلجأ المظلوم إلى القانون بدلا من الانتقام ومعالجة الأمر بطريقة غير قانونية، وقد لا يعاقب المخطئ أبدا، وحتى لو عوقب فسيحدث ما يلي:
إذا أحيلت الواقعة للمحاكمة فلن يكون للمجني عليه أية أفضلية على الجاني؛ إذ عليه أن يقنع القضاة بدفوعاته أنه تضرر حتى يقتص لنفسه. وقد ينكر الجاني هذا الاتهام لأنه يمكنه الدفاع عن نفسه، ولديه الفرصة نفسها في أن يقنع القضاة أن المجني عليه هو من ارتكب المخالفة؛ وبذلك لا يكون النصر حليفا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل.
وهذه الجملة الأخيرة هي لب فلسفة السفسطائيين؛ ففكرة أن «النصر لا يكون حليفا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل» ليست بالضرورة دعوة سوداوية أو فاسدة للغش في النزاعات كما اعتقد أفلاطون وغيره من أعداء السفسطائية، بل يمكن اعتبارها إعلانا لحقيقة الأمور في المحاكم. وبما أن النصر يذهب فعلا إلى من يقدر على الإقناع (أو يوظف غيره لذلك)؛ فإن مهارات السفسطائيين يمكن أن تكون قوة في سبيل الخير والعدالة والحقيقة، وعندما تستخدم هذه القوة بشكل مسئول يمكن أن تعالج العيوب الموجودة في أي نظام قانوني. ومهما كانت رؤيتنا لفكرة السفسطائيين أن حسن الخلق محض تقليد إنساني، فلا يمكن إنكار أن إجراءات العدالة كما تطبق فعليا في أي مجتمع لا تصل إلى الكمال.
ويستطيع السفسطائي أن يوظف مهاراته ليدافع عن بريء أو يحاكم المذنب والعكس صحيح، كما يمكنه أيضا أن يساعد المجتمع على تحسين مفاهيمه بتنقيتها ونقدها. ولا ريب أن بعض السفسطائيين استخدموا قدراتهم بما ينافي الأخلاق، ولكن المبالغ الضئيلة التي حصلوا عليها ما كانت لتحتكر لهم الشر؛ فقد تخصصوا في الجدل الأخلاقي والسياسي إن لم يحتكروه، ويحسب لهم أنهم لم يستمتعوا بالفوز بالقضايا وتعليم الآخرين كيفية الفوز بها فحسب، بل تكلموا عن الأسس الأخلاقية كذلك.
وغالبا ما كانت أفكارهم هدامة؛ فقد خلفت الأسئلة التي طرحوها حول التعارض بين الطبيعة والتقاليد أفكارا سيئة وصادمة. فهل العدالة موجودة لحماية الضعفاء فحسب؟ وهل للقوي أن يتجاهلها إن استطاع؟ وهذا السؤال دائما ما طرحه أفلاطون. وإذا ظن بعض المحافظين من أهل أثينا أن السفسطائيين قد أخرجوا الثعابين من جحورها فقد أصابوا، ولكن إخراجها كان حتميا، فإذا لم تطرح السؤال على الأقل فلن تصل إلى الجواب. وقد أخذ أفلاطون بعد ذلك على عاتقه بناء الأخلاق على ما اعتقد أنه أساس متين؛ وذلك عن طريق السعي إلى المواءمة بين أفكار الطبيعة والتقاليد كما سنرى. وربما ما كان أفلاطون ليتحمل عناء القيام بذلك إن لم يزعجه السفسطائيون، كما أقر أفلاطون كذلك بأن أفضل السفسطائيين لم ينشروا الأفكار الهدامة بقدر ما أثاروا مخاوف كانت موجودة بالفعل لدى الناس بخصوص النظرية التقليدية للأخلاق. لقد كان واضحا في أعمال هسيود - التي كانت لب العملية التعليمية بجانب أعمال هوميروس - أنه في الوقت الذي كانت النظرية التقليدية للأخلاق ترتكز على طاعة الرغبات المفترضة للآلهة، اعتمدت هذه النظرية في الحقيقة على نوع من المصلحة الشخصية؛ فالمخطئون سيعذبون لأن زيوس يضمن عقابهم، ولكن إن لم يتمكن زيوس من فرض الأخلاق بتلك الطريقة وعاش المخطئون من ثم في نعيم؛ فلا فائدة ترجى من التحلي بالفضيلة. وكما يقول هسيود:
عين زيوس ترى كل شيء وتفهم،
وعندما يريد يرمي ولا تخيب رميته.
ما أعدل المدينة بداخله!
ولكني لن أكون عادلا ولن يكون ابني عادلا،
بين الأشرار لأنه من الشر أن تكون أمينا بين الفجار،
وأفوض أمري إلى زيوس أن يخلصني من العثار.
كانت الثقة بزيوس أساسا واهيا للفضيلة، فكان من الصواب أن أعاد السفسطائيون دراسة مفهوم العدالة المعروف بشكل كامل.
لقد شجع أسلوب السفسطائيين في التعليم التفتح العقلي المتسم بالشك الذي أزعج بعض الناس وأثار السخرية العدائية لدى أرسطوفان. فبممارسة فن الجدال وتدريسه اشتغل السفسطائيون حتما بالبحث في الأسباب التي تدعم القضايا المختلفة أو تدحضها، بما فيها القضايا الأخلاقية والسياسية وحتى الدينية. وحالما استل أتباع المذهب العقلي سيوفهم لم يكن أي معتقد تقليدي غير راسخ في عالم السفسطائيين ليصمد أمامهم، وهذا ما آخى بين السفسطائيين والفلاسفة الطبيعيين الأوائل، رغم أن الفريق الأول تجاهل التأملات غير المجدية للفريق الثاني. وكان كلا الفريقين من أتباع المذهب الطبيعي التشكيكي؛ إذ كانوا يميلون لرفض التفسيرات والمعتقدات الأسطورية التي لم تكن لتلقى قبولا فيما سبق إلا على أساس من عادات أو تقاليد أو دين. لقد نظر علماء الطبيعة بارتياب إلى محاولات تفسير العالم وما يحويه من آلهة، وبدلا من ذلك سعوا إلى الوقوف على أسباب طبيعية لتفسير ظاهرة وجود الأشياء كما تبدو. وكان السفسطائيون يساورهم الشك بالشكل ذاته عن علاقة ذلك بالدين، والذي كان من الصعب مناقشته من الناحية العقلية. وقد قال بروتاجوراس: «فيما يخص الآلهة لا أستطيع أن أعرف إن كانوا موجودين أم لا، ولا أن أعرف هيئتهم؛ لأن العوامل التي تمنع ذلك كثيرة منها غموض الموضوع وقصر الحياة البشرية.» وأراد السفسطائيون معرفة الأسباب التي يمكن الوقوف عليها فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية، واتبعوا في ذلك المذهب الطبيعي.
إن ما كان يسر السفسطائيين من الناحية العقلية دائما ما كان يزعج آخرين، خاصة إذا كان هناك من أهل الجدل العباقرة من يقدم الحجج مثل جورجياس. ولا بد أنه كان من المربك أن تجد أحد تجار السلاح المثقفين مثل جورجياس يقف بعتبة دارك. ولم يكن من الغريب أن يقاوم الناس السفسطائيين بالضحك في مسرحية «الغيوم»، ولا أن يقدم أرسطوفان سقراط بوصفه بطلا سفسطائيا؛ إذ كان سقراط أشهر المجادلين في أثينا. لقد قدم أرسطوفان صورة غير منصفة لسقراط، ولكن أثناء الدفاع عن سقراط قدم أفلاطون صورة غير منصفة كذلك عن السفسطائيين. وبعد تناول السفسطائيين الحقيقيين آن لنا أن نتحدث عن سقراط الحقيقي.
الجزء الثاني
الفصل العاشر
شهيد الفلسفة: سقراط
والسقراطيات
سقراط هو قديس الفلسفة وشهيدها؛ فلم يكن أي من الفلاسفة الكبار مهتما بالحياة المستقيمة التي تغلفها التقوى بقدر ما كان سقراط مهووسا بها. وكحال العديد من الشهداء اختار سقراط ألا يحاول إنقاذ حياته حينما كان ذلك ممكنا عن طريق تغيير أساليبه. ووفقا لرواية أفلاطون الذي عاش في الفترة نفسها؛ فإن سقراط قال للقضاة في محاكمته: «إنكم مخطئون في ظنكم أن الإنسان ذا القيمة العالية عليه أن يقضي حياته في حساب احتمالات الحياة والموت؛ فليس على الإنسان أن يضع في اعتباره إلا شيئا واحدا عند قيامه بأي عمل وهو ما إذا كان هذا العمل صوابا أم خطأ.» ولكن على عكس الكثير من القديسين كان سقراط يتمتع بروح الدعابة والفكاهة، وكان هذا يظهر في صورة ظرف ومزاح تارة وفي صورة سخرية حافلة بالمعاني تارة أخرى. وعلى عكس القديسين في كل الأديان، لم يكن إيمان سقراط في الاعتماد على الوحي أو الأمل الأعمى، وإنما في التفرغ للمنطق الجدلي، ولم يكن ليستجيب لأقل من ذلك.
وقد روى أصدقاء سقراط قصصا عن مدى غرابته؛ ففي إحدى الليالي بعد العشاء - كما في أحد أحاديث أفلاطون - حكى أحد الفتيان، وكان قد قضى خدمته العسكرية مع سقراط، موقفا له فقال:
واجه سقراط مشكلة تتعلق بشروق الشمس في أحد الأيام وظل واقفا مستغرقا في تفكيره، ولما لم يصل إلى حل ظل واقفا يفكر وقد رفض الاستسلام. ومر الوقت، وبحلول منتصف النهار أخذ الجنود يتناقلون بينهم قصة وقوف سقراط في مكانه يفكر منذ مطلع الفجر، وفي النهاية قبل أن يسدل الظلام ستاره أخرج بعض الأيونيين فرشهم بعد العشاء ليروا ما إذا كان سيبقى طوال الليل، وقد ظل واقفا حتى نشر الصباح ضياءه، وعندما طلعت الشمس تلا صلواته لها وذهب.
وعلى الرغم من استغلاله وقت فراغه بهذا الشكل، روت جميع المصادر أن سقراط كان له سجل عسكري مشرف.
وفي الطريق إلى حفل العشاء الذي رويت فيه القصة السابقة، وصف صديق آخر كيف «وقع سقراط في نوبة من التفكير المجرد وبدأ يتلكأ في مشيته»، وبعدها انسل إلى عتبة أحد الجيران ليستمر في تفكيره، فقال الراوي: «إنها عادة متأصلة فيه أن يذهب بعيدا ويقف أينما كان.» ولم تتضمن عاداته المنتظمة الأخرى أن يغتسل، فحتى أقرب أصدقائه أقروا أنهم لم يعتادوا رؤيته مغتسلا وقد ارتدى نعليه. لقد كان رث الثياب أشعث، ولم يكن أبدا من أصحاب المال ولم يهتم من أين سيحصل على وجبته القادمة. وقد أقر سقراط أمام المحكمة قائلا: «لم أعش يوما حياة عادية هادئة، ولم أهتم يوما بما يهتم به معظم الناس؛ كجمع المال، وامتلاك منزل مريح، والحصول على رتبة عسكرية أو مكانة مدنية مرموقة، وجميع الأنشطة الأخرى التي يقوم بها الناس في مدينتنا.» ولكن سقراط لم ير أن أيا من زخارف الحياة الناجحة بشكل تقليدي كان سيئا في ذاته، كما لم يكن هو نفسه زاهدا بالمعنى المعروف للكلمة، فلم يدع يوما إلى التقشف (ويقول أصدقاؤه إنه قد يزيد عليهم كثيرا في شرب الخمر، وإن كان لم يره أحد ثملا قط)، كما لم يدع شخصا قط أن يحيا حياة بسيطة مثله. ولأنه قوي الاحتمال منشغل الذهن فقد كان لا يعير اهتمامه لأشياء مثل الملبس والطعام والمال.
سقراط.
لقد كان سقراط منشغلا معظم الوقت بمحاورة الآخرين وليس بالتأمل وحده فحسب. ويبدو أن مناقشاته كانت محتدمة وشديدة مثل نوباته التجردية الانفرادية. وقد قال أحد القادة المعروفين كان على معرفة بسقراط:
إذا دخل أي من المقربين من سقراط في محادثة معه، كان عرضة لأن يستدرج إلى جدال، وأيا كان الموضوع الذي سيختاره فسيستمر سقراط في مجادلته حتى يكتشف أخيرا أن عليه أن يقدم تقريرا عن حياته الماضية والحاضرة، وإذا وقع في الشرك فلن يتركه سقراط حتى يمحصه بشكل كامل.
لقد كان سقراط فقيرا، ولم يرتبط اسمه بأي من الإنجازات التقليدية، وكانت نشأته متواضعة؛ إذ كان أبوه عامل بناء وكانت أمه قابلة. ويشهد لقدرات سقراط الاستثنائية في المحاورة أنه التحق بركب الطبقات العليا في المجتمع الأثيني. وقد شبه ألسيبيادس الذي روى قصة سهر سقراط حتى الصباح في المعسكر حديث سقراط بموسيقى مارسياس إله الأنهار «الذي لم يكن عليه إلا أن يضع الناي على شفتيه ليسحر الناس»، وقد قال كذلك لسقراط: «إن الفرق بينك وبين مارسياس أنك تستطيع الحصول على النتيجة نفسها دون الحاجة إلى أية آلة على الإطلاق، بل إلى بعض الكلمات البسيطة وليس الشعر حتى.» وقال كذلك:
بالحديث عن نفسي أيها السادة، لو لم أخش أن تقولوا إنني غلبت؛ لأقسمت بصدق على الأثر غير العادي لكلماته في نفسي، فعندما أسمع حديثه يخلبني نوع من الغضب المقدس ... وتبلغ نفسي التراقي، وتنهمر الدموع من عيني. ولست وحدي من يحدث معه ذلك بل ثمة كثيرون كذلك ...
وغالبا ما يتركني مارسياس في اليوم الثاني في حالة أشعر فيها أني ببساطة لا أستطيع أن أعيش كما في السابق. لقد جعلني أعترف أنه بينما أقضي وقتي في السياسة فإني أتجاهل الأشياء التي تصطرع بداخلي.
لقد «غلب» ألسيبيادس الصغير بالفعل في هذه المرحلة من العشاء؛ لذا فلا شك أنه كان منبهرا. إنها حقيقة بالغة أن الجميع كانوا يبدون انبهارا أثناء حديثهم عن سقراط سواء كان ذلك ألسيبيادس وهو يتغنى بمدحه أو أعداءه وهم يهذون أمامه.
وقد أراد ألسيبيادس أيضا أن يحبه سقراط؛ فقد كان مألوفا بين فلاسفة أثينا والفتية أن يكون فيهم مسحة من رغبة مثلية وخاصة فيمن حول أفلاطون. وكان أي رجل كبير يعلم الحكمة للولدان وهو سعيد مستبشر متأثرا بوسامة شبابهم وجاذبيته. ولكن أفلاطون وسقراط كليهما انتقدا المثلية الجنسية؛ فقد شعر ألسيبيادس بالخزي في البداية عندما رفض سقراط التجاوب مع رغباته الجسدية. وكما أوضح سقراط بلباقة وقتها فقد صد محاولات ألسيبيادس لأسباب أخلاقية وليس لعدم انجذابه إليه. لقد اشتهر ألسيبيادس بالوسامة الكبيرة وعرف سقراط بدمامة وجهه، ولكن الجمال الذي رآه ألسيبيادس في سقراط هو جمال داخلي فقال: «لقد سحر قلبي أو عقلي أو ما شئت أن تسميه بفلسفة سقراط التي تتشبث بأي عقل صغير وموهوب، تصل إليه كما تتشبث الأفعى بفريستها.»
لقد سخر سقراط من دمامة وجهه واستطاع أن يقدم شيئا أكثر من محض شبه جدي حتى من موضوع هزلي كهذا. وقد تحداه أحد أصدقائه يدعى كريتوبيولوس في «مسابقة جمال» يحاول فيها كل رجل أن يقنع نموذجا لهيئة حكام أنه أجمل من نظيره، وقد بدأ سقراط المنافسة قائلا:
سقراط :
الخطوة الأولى إذن في دعواي هي استدعاؤكم إلى جلسة الاستماع التمهيدية، برجاء التفضل بالجواب على أسئلتي: هل تؤمنون أن الجمال لا يوجد إلا في الإنسان؟ أم أنه موجود في أشياء أخرى؟
كريتوبيولوس :
أرى في الحقيقة أن الجمال يمكن أن يوجد أيضا في الفرس وفي الثور أو أي من الكائنات غير الحية، وأعلم أنه بشكل عام يمكن أن يكون الدرع أو السيف أو الرمح جميلا.
سقراط :
وكيف لهذه الأشياء أن تكون جميلة وهي غير متشابهة على الإطلاق؟
كريتوبيولوس :
ولم لا؟ إنها جميلة وجيدة إذا ما أحسن صنعها للأغراض التي نمتلكها لأجلها، أو إذا ما كانت مهيأة بطبيعتها لتلبية احتياجاتنا.
سقراط :
هل تعلم لم نحتاج الأعين؟
كريتوبيولوس :
لنرى بها بالطبع.
سقراط :
في هذه الحالة سيبدو بلا جدال أن عيني أحسن من عينيك.
كريتوبيولوس :
وكيف ذاك؟
سقراط :
لأنه بينما لا تنظر عيناك إلا إلى الأمام؛ فإن عيني وهما جاحظتان هكذا تريان ما على الجوانب أيضا.
كريتوبيولوس :
هل تعني أن السلطعون مهيأ بصريا بشكل أفضل من باقي الكائنات؟
سقراط :
بالتأكيد.
كريتوبيولوس :
حسنا، لنتجاوز ذلك. ولكن أي الأنفين أجمل: أنفك أم أنفي؟
سقراط :
أظنه أنفي؛ بما أن العناية الإلهية جعلت لنا أنوفا لنشم بها، ولأن منخريك يتجهان لأسفل بينما منخراي واسعان ومتجهان لأعلى فأستطيع أن ألتقط جميع الروائح من جميع الجهات.
كريتوبيولوس :
ولكن كيف تعتبر الأنف الأفطس أجمل من الأنف المستقيم؟
سقراط :
لأنه لا يشكل حائلا بين العينين بل يسمح لهما برؤية ما تريدان بلا عوائق، بينما الأنف المرتفع يفصل كل عين عن الأخرى كالجدار يفصل بين شيئين.
كريتوبيولوس :
أما بخصوص الفم، فأنا في تلك النقطة مغلوب؛ لأنه إذا خلق لقضم الطعام فستستطيع أن تقضم قدرا من الطعام أكبر مما أستطيع. ألا تعتقد أيضا أن قبلتك أكثر رقة لأن لديك شفتين سميكتين؟
سقراط :
طبقا لما قلت سيبدو أن لدي فما أقبح من فم الحمار.
كريتوبيولوس :
لم أعد أطيق مجادلتك، دعهم يوزعوا أوراق التصويت.
بالطبع خسر سقراط التحدي؛ فقد علم أنه لا يمكن أن يوصف بحسن الهيئة، وكان الأمر كله محض مزاح. ولم يكن هذا النقاش (المأخوذ من محاورة لأحد المعجبين الآخرين وهو زينوفون) ليبكي ألسيبيادس إلا ضاحكا، كما لا يظهر النقاش سقراط وهو في قمة تعقيده، بل على العكس من ذلك تماما فهذا سقراط المبتدئ. ولكن اللافت أن هذا المزاح يظهر فيه الكثير من شخصية سقراط الذي يراه الناس في المناقشات الفلسفية الأعمق والأشهر التي رواها أفلاطون في محاوراته.
في البداية نتناول أسلوب الاستجواب المميز لسقراط، فبدلا من تقديم أطروحته يترك سقراط منافسه ليفعل ذلك وعندها يستنبط النتائج. وكعادة سقراط تبدأ المناقشة بطلب تعريف مبين لما تجري مناقشته، وهو الجمال في هذه الحالة. ويبتلع كريتوبيولوس الطعم ويقدم تعريفه قائلا «(الأشياء) جميلة وجيدة إذا ما أحسن صنعها للأغراض التي نمتلكها لأجلها أو إذا ما كانت مهيأة بطبيعتها لتلبية احتياجاتنا.» وعندئذ يسحب سقراط خيط الموضوع تجاهه فلا يجد أية صعوبة في إثبات أنه إذا كان هذا هو الجمال فهو نفسه جميل، فحيلة سقراط في لعبة الجدل هي تفنيد ادعاءات الآخرين.
وتوضح تلك المنافسة أيضا سخرية سقراط المركبة؛ فهو يعلم أنه دميم الوجه ويعلم أن تعريف كريتوبيولوس للجمال خاطئ ولكنه يتابع المناقشة وكأن أيا من هاتين الحقيقتين لم يكن، فهو يبدو سعيدا بتبني هذا التعريف وتوظيفه لإثبات أنه في الحقيقة حسن الهيئة. ولا يحاول سقراط استغلال كلمات كريتوبيولوس للفوز بمسابقة الجمال بطريقة غير نزيهة فحسب، بل لا يحاول الفوز جديا بالمنافسة على الإطلاق. وبينما ادعى سقراط المنافسة فقد كان في الحقيقة يفعل شيئا آخر، فبتبنيه تعريف كريتوبيولوس بمهارة يثبت سقراط أنه لم يصل إلى المستوى الأدنى من تعريف الجمال؛ فلا يمكن تعريف الجمال بالملاءمة أو المنفعة وحدهما؛ لأن ذلك يعني أن ملامح سقراط جميلة والجميع يعرف أنها ليست كذلك، وبذلك فإن سقراط في تظاهره بإقناع كريتوبيولوس بجماله كان في الحقيقة يثبت النتيجة السلبية التي تعني أن الجمال لا يمكن أن يكون كما عرفه كريتوبيولوس.
لقد أنكر سقراط مرارا معرفته أي شيء عن الجمال أو الفضيلة أو العدل أو أيا كان ما يناقش، وقد كان هذا الجهل المعلن علامته المميزة. وكما كان ادعاؤه الماكر بأنه جميل كان ذلك الإنكار ساخرا إلى حد ما رغم أنه كان لغرض أهم. وبينما كان سقراط دائم الادعاء أنه ليس لديه ما يدرسه؛ فقد بدت أنشطته أنشطة تدريسية بشكل كبير، حتى إنه كان يستدعى أمام المحاكم بصفته معلما ذا تأثير خبيث. وسنتناول الآن محاكمة سقراط ودفاعه عن نفسه الذي يبين سبب عدم اشتهاره في بعض أوساط أهل أثينا المحافظين واشتهاره في أوساط من أتى بعده من الفلاسفة. •••
جرت محاكمة سقراط عام 399ق.م. عندما كان في السبعين من عمره تقريبا، وكان متهما برفض الاعتراف بالآلهة الرسمية للدولة وبالدعوة لآلهة جديدة على دينها وبإفساد الشباب فيها. وكانت هناك خلفية سياسية قوية للقضية، ولكن ذلك لا يعني أن التهم كانت زائفة وأن المحاكمة كانت سياسية في حقيقتها؛ فقد تداخلت السياسة والدين والتعليم في الأمر. ومهما اختلفت الآراء فلا بد من الاعتراف أن سقراط كان ينطق بالأشياء الخاطئة في التوقيت غير المناسب.
في عام 404ق.م. - أي قبل المحاكمة بخمسة أعوام - انتهت الحرب التي دارت رحاها على مدار سبعة وعشرين عاما بين أثينا وإسبرطة بهزيمة أثينا، وسقطت الديمقراطية في أثينا وحل محلها مجموعة من الرجال عينتهم إسبرطة أطلق عليهم لاحقا اسم «الطغاة الثلاثين». ولتكوين سمعة لهم بين الناس قتل «الطغاة» نفرا كثيرا من الناس لدرجة أنهم لم يستمروا إلا لعام واحد، رغم أنه لم تستعد الديمقراطية بشكل كامل حتى عام 401ق.م. ومن الواضح أن الديمقراطيين كانوا لا يزالون يشعرون أنهم مزعزعون نسبيا عام 399ق.م. وكانت هناك أسباب عديدة تشعرهم بعدم الارتياح لوجود سقراط في المدينة.
لقد تورط اثنان من رفاق سقراط السابقين في الطغيان: أولهما هو كريتياس قائد الطغاة الثلاثين، وكان على وجه الخصوص متعطشا للدماء، والآخر هو كارميدس أحد ممثليهم (وكان كلا الرجلين بالمصادفة من أقارب أفلاطون). كما تبين أن ألسيبيادس كان عائقا في طريقهم، وحيث إنه كان أرستقراطيا عنيدا ومتعجرفا فقد اتهم بأداء تعاويذ وأعمال مدنسة ارتكبت حينما كان «مغلوبا». وقد سمع ألسيبيادس بهذه الاتهامات أثناء وجوده في حملة عسكرية في صقلية، وبدلا من أن يرجع ليواجهها انشق وحارب في صفوف جيش إسبرطة، إلا أن أيا من أفعال هؤلاء الرجال لم يرق لمعلمهم السابق سقراط.
ولكن في عام 403ق.م. أعلن عفو سياسي عام؛ ولذلك لم يكن من الممكن توجيه اتهامات سياسية صريحة لسقراط حتى لو أراد الجميع ذلك. هذا بجانب وجود أسباب أكبر تدفع للقلق من تأثير الرجل. وأثناء الحرب الطويلة مع إسبرطة زاد قلق سكان أثينا من الجبهة الداخلية؛ فقد ساد شعور بأن المفكرين يضعفون المجتمع الأثيني بتقويض قيمه ومبادئه التقليدية. وقد كان من الممكن أن يكون مصدر الشكوك التي أثيرت هو رجل أسر الشباب العاطلين وفتنهم بتساؤلاته عن العدل. ولم يساعد تقديم سقراط في صورة معلم متلعثم ومذعن وخاضع في مسرحية لأرسطوفان عرضت في أثينا قبل أربعة وعشرين عاما في تحسين الأوضاع. وأيا كانت حقيقة الشائعات التي تقول إن سقراط قد كفر بالآلهة التقليدية - ويبدو أنه كان ينكر التهمة ولكن بشكل غير مقنع - فلم يكن هناك شك أن سقراط كان له مذهب غير مألوف في اللاهوت. وقد أعطت الطريقة التي تحدث بها عما سماه «دايمنيون» - وهو «الروح الحارسة» أو «علامة إلهية» شخصية - مبررا للقلق بشأن «الدعوة إلى آلهة جديدة» حسب الاتهام الذي وجه إليه. وقد كان هذا بمنزلة خطيئة بشعة في حق الديمقراطية المترنحة. فالدولة وحدها لها الحق في تحديد الشيء المناسب للتقديس، كما كان لها إجراءاتها الخاصة في الاعتراف رسميا بالآلهة وكل من كان يتجاهل ذلك كان بالتبعية يتحدى شرعية الدولة الديمقراطية. لقد كان كل هذا بانتظار سقراط عندما وقف أمام خمسمائة من مواطني أثينا ليحاكموه.
كان أفلاطون حاضرا في المحاكمة، ومن المرجح أن دفاع سقراط (أو «مرافعة الدفاع») التي كتبها أفلاطون بعد بضعة أعوام هي أول أعماله. وثمة غير سبب يدفعنا للاعتقاد بأن أفلاطون بذل في هذا العمل مجهودا أكبر مما بذل في غيره لإظهار حقيقة سقراط، رغم أنه لم يحاول بالضرورة أن يسترجع ألفاظه بدقة؛ لذلك سنعتمد على ما ورد عن أفلاطون (كما فعلنا في معظم المعلومات عن سقراط حتى الآن). ليس هناك بديل، فلا يوجد في تاريخ الفلسفة كله تقريبا غير سقراط الموجود في «الدفاع» لأفلاطون.
من الناحية القانونية كانت مرافعة سقراط رديئة؛ فقد بدأ بقوله إنه لا يجيد الحديث ولا يمتلك مهاراته، وهذه حيلة بلاغية معتادة، ولكن في هذه الحالة علينا أن نوافقه القول إذا كان هدفه من الخطاب أن يبرئ نفسه. كما أن كل ما قاله لدفع الاتهامات الرسمية الموجهة إليه إما غير ذي صلة بها أو غير مقنع؛ فقد انشغل بخصوص الاتهامات الدينية على سبيل المثال بالسخرية من المدعي حيث عمل على استفزازه، حتى ناقض نفسه بقوله إن سقراط ملحد لا يؤمن بأي إله على الإطلاق، ثم يتساءل سقراط عندها كيف يكون في هذه الحالة متهما بالدعوة لآلهة جديدة؟ أما بالنسبة للاتهام بإفساد الشباب فأعطى سقراط جوابا ملتفا غير مقنع بأنه لم يفعل أيا من ذلك عن عمد لأن هذا ضد مصالحه، فإفساده أي شخص كما يقول سيؤذيه وإذا آذيت شخصا فسيحاول أن يرد بالأذى؛ لذا فمن غير الممكن أن يخاطر بذلك. ولكن هذا لم يكن ليقنع أحدا.
كان سقراط يعلم أن القضاة الذين مثل أمامهم كانوا متحاملين عليه بسبب تشهير أرسطوفان به، فشرع في تصحيح هذه الانطباعات الخاطئة؛ فقال إنه لا يشتغل بالتدريس من أجل المال كما يفعل «السفسطائيون» المحترفون الذين لم يميز أرسطوفان بينه وبينهم. ويبدو هذا صحيحا؛ فهو لم يفرض قط أية رسوم، ولكنه كان يغني ليكسب قوت يومه، وكان يقبل استضافته في صفقة ضمنية مقابل محاوراته التثقيفية، ولم يشتغل على ما يبدو بأي عمل آخر؛ ولذلك لم تكن الطريقة التي يكسب بها قوت يومه مختلفة كثيرا عن السفسطائيين، وكلتا الطريقتين لا تعتبران موضع شبهة في يومنا هذا. كما حاول سقراط أيضا دفع الافتراء بأنه كان يعلم الناس كيف يحتالون للفوز في المجادلات عندما يكونون على خطأ. وبعيدا عن ذلك كما قال، لم يكن يعلم ما يكفي ليعلم أي شيء لأي شخص.
لقد كان هذا هو الموضوع الرئيس ل «مرافعة الدفاع» والتي تعد دفاعا عاما عن أسلوب حياته أكثر من كونها تفنيدا للاتهامات الرسمية الموجهة إليه ودحضا لها. ويكمن أهم ما في هذا الدفاع في ادعاء سقراط أنه استفاد من أهل أثينا بإخضاعهم لاستجواباته الفلسفية ولكنهم لم يدركوا ذلك فسخطوا عليه؛ وهذا ما أدى إلى محاكمته في النهاية.
ويقول سقراط إنه كان ينفذ رغبة الآلهة حينما كان يتجول ويجادل الناس. وفي مرة ذهب صديق له إلى عراف دلفي وسأله إذا كان هناك رجل أكثر حكمة من سقراط. وجاء الجواب بالنفي، وهو ما وضع سقراط في حيرة شديدة - أو كذلك قال - لأنه طالما اعتقد أنه ليس بحكيم على الإطلاق، وعن ذلك قال: «بعد أن شعرت بالحيرة تجاه هذا الأمر لبعض الوقت قررت أخيرا وبعد رفض شديد أن أتأكد من صحة هذا الكلام.» وقد فعل ذلك باستجواب كل من عرف الحكمة أو المعرفة المتخصصة، ولكن آماله دائما ما كانت تخيب لأنه - على ما كان يبدو - لم يكن هناك من تستطيع حكمته المزعومة مواجهة استفساراته؛ إذ كان قادرا دائما على تفنيد جهود الآخرين في إثبات نظرياتهم، وذلك عادة بإلقاء الضوء على بعض النتائج غير المرغوبة وغير المتوقعة لآرائهم. كما استجوب سقراط الشعراء ولكنهم فشلوا حتى في شرح قصائدهم بشكل يرضيه. وقد قال في إحدى المواجهات:
لقد فكرت مليا وأنا في طريقي ووجدت أني أكثر حكمة من هذا الرجل. ومن الوارد جدا أن أيا منا لا يملك من المعرفة ما يستعرضه، ولكنه يعتقد أنه يعرف شيئا هو في الحقيقة لا يعرفه، بينما أدرك أنا أني جاهل تماما. عامة يبدو أنني أكثر منه حكمة على الأقل في أنني لا أعتقد أني أعرف ما لا أعرفه في الحقيقة.
وعندها خطر بباله ما قد يكون العرف قد عناه، فيقول:
متى نجحت في إثبات خطأ ادعاء أحدهم الحكمة في موضوع معين ظن المتفرجون أنني أعرف كل شيء عن هذا الموضوع، ولكن حقيقة الأمر بكل تأكيد أيها السادة هي أن الحكمة الحقيقية للرب وحده، وأن هذا العراف هو وسيلته التي يخبرنا من خلالها أن المعرفة البشرية قليلة القيمة، أو إن شئت فقل لا قيمة لها. ويبدو لي أن العراف لا يشير حرفيا إلى سقراط ولكنه ذكر اسمي كمثال، وكأنه يقول لنا إن أكثركم حكمة أيها الناس هو من أدرك أنه لا قيمة له فيما يتعلق بالحكمة كما أدرك سقراط ذلك.
بعبارة أخرى فإن حكمة سقراط الغالبة مكمنها أنه وحده من يدرك ضآلة معرفته، ولكن بالطبع هناك ما هو أكثر من إدراك ذلك وحسب كما اعترف في مواضع أخرى في محاورات أفلاطون. ومع ادعائه «أن المجادلات لا تبدأ من عندي أبدا، بل دائما ما تبدأ من عند من أتحاور معه»، فهو يعترف أن لديه «تفوقا طفيفا بامتلاكه مهارة استخلاص تفسير للموضوع من حكمة شخص آخر ومواجهة حكمته بمعاملة لائقة»، فهو يصف نفسه عن جدارة بأنه مثل قابلة فكرية تخرج تساؤلاتها أفكار الآخرين إلى النور. ولكن مهارة الشرح والمجادلة هذه التي يمتلكها سقراط بوفرة ليست شكلا من أشكال الحكمة الحقيقية بالنسبة لسقراط؛ فالحكمة الحقيقية هي المعرفة الكاملة فيما يخص القضايا الأخلاقية وسبل المعيشة. وعندما يدعي سقراط الجهل فإنه يعني الجهل بأسس الأخلاق، وهو لا يدافع عن أي نوع عام من الشك بشأن الحقائق اليومية، فهمه الوحيد هو التأثير الأخلاقي، وهو لا يستطيع بضمير راض أن يتخلى عن مهمته في دعم هذا التأثير في الآخرين، وفي ذلك يقول:
لو قلت إن هذا سيكون عصيانا للرب وإن هذا هو سبب أني «لا يمكنني الاعتراض على ما أقوم به أنا» لما صدق أحد أني جاد. ولو قلت لك إن أفضل شيء يمكن أن يفعله الإنسان هو ألا يترك يوما يمر دون مناقشة الخير وسائر الموضوعات الأخرى التي تسمعني أناقشها وأبحث فيها في نفسي وفي نفوس الآخرين، وإن الحياة بدون هذا النوع من البحث لا تستحق أن يحياها المرء؛ لأصبحت أقل ميلا لتصديقي، ولكن هذه هي الحقيقة.
ويمكن لإشارات سقراط الورعة لحكمة الرب (وهو أحيانا ما يتحدث عن إله واحد وأحيانا عن آلهة متعددة) أن يخفي موقفه غير التقليدي من اللاهوت. فعندما يقول إن الحكمة للرب وحده يبدو أنه يعني ذلك بشكل مجازي تماما كما يهز المرء كتفيه قائلا: «الرب أعلم.» فانظر كيف يفسر «كلام» الرب محاولا استنتاج ملاحظات عن «حكمته». وقد كان عراف دلفي رسولا صادقا للرب كأي رسول آخر أرسله الرب في ذلك الزمان، ولكن سقراط لم يقبل ما قاله بل أخذ «يتحقق من صحته». ويقول سقراط في غير موضع: «إنني دائما لا أقبل نصيحة أي من أصدقائي إلا إذا بينت النتائج أنها خير طريق يقدمه العقل.» ويبدو أنه اتبع النهج نفسه مع نصيحة الرب؛ فلدى معرفته بالإعلان الإلهي أنه لا أحد أكثر حكمة من سقراط، رفض سقراط التسليم بهذا الأمر وأخذه على عواهنه حتى يتأكد بنفسه من إمكانية إيجاد معنى حقيقي فيه.
ويبدو أن سقراط كان يتحدث بشكل ملتف عند الإشارة إلى مهمته على أنها مقدسة؛ لأن عراف دلفي لم يخبره صراحة بأن يقدم على التفلسف، رغم أنه ذكر في أحد المواضع أن مهمة المجادلة والتساؤل التي أخذها على عاتقه كانت «طاعة لأوامر الرب التي نزلت عن طريق العراف، ومن خلال الرؤى وكل وسيلة أخرى فرضت بها الإرادة الإلهية فروضا على الإنسان»، ولكنه حين يتابع بقوله إن هذا كلام صادق «يسهل التثبت منه» يتضمن تحققه من صحة هذا الكلام محاولة إثبات أن مهمته جيدة من الناحية الأخلاقية. فهو لا يقدم أي دليل على أن الرب قد كلفه بذلك، وعلى الأرجح أنه وصل إلى لب الموضوع حينما قال: «أريدكم أن تعتبروا مغامراتي رحلة هدفها إثبات صدق العراف مرة وللأبد.» وقد كان ضميره وذكاؤه هما ما دفعاه لاستجواب من يظنون في أنفسهم الحكمة. ولقد كان بإمكانه الادعاء أن ذلك «يخدم قضية الرب»؛ لأن مثل هذه الأعمال تسهم في تأكيد إعلان العراف أنه ما من أحد أكثر حكمة من سقراط، ولكن كلام الرب له بريقه الذي يسهم في إظهار هدف سقراط الأخلاقي السامي وكسب تأييد مستمعيه؛ فقد كان دافعه الأساسي للتفلسف ببساطة هو أنه رأى أن هذا هو الصواب.
وقد ذكر سقراط أنه تأثر في أفعاله بما سماه روحه الحارسة، أو صوت لازمه طوال طفولته. ويبدو أن هذا كان يمثل فكره اللاهوتي الصابئ أو «الآلهة الجديدة» المشار إليها في الاتهامات الموجهة إليه. ومرة أخرى يتعامل سقراط مع نصيحة الروح الحارسة على أنها نصيحة يجب اقتناع العقل بها قبل أن تنفذ، كمشورة الأصدقاء أو كلمات عراف دلفي. ومن الواضح أن صوت الروح الحارسة هو ما يمكن أن نطلق عليه صوت الضمير الواعي، وعنه يقول سقراط: «عندما أسمعه أجده يثنيني عما أفكر في عمله ولا يشجعني عليه أبدا.»
ويقول سقراط إن الروح الحارسة قد حذرته من أي اشتغال بالسياسة؛ لأنه لو صنع من نفسه شخصية عامة لكان قتل قبل أن يعمل الكثير من الأعمال الصالحة. وهذا سبب اختياره أن يخدم الناس سرا فيقول:
لقد قضيت كل عمري محاولا إقناعكم صغارا وكبارا ألا تجعلوا همكم الأول وشغلكم الشاغل أجسادكم وممتلكاتكم وإنما تحقيق أقصى فائدة للروح، وأقول لكم إن الثروة لا تجلب الخير ولكن الخير هو ما يجلب الثروة وكل نعمة أخرى للفرد والدولة على السواء.
ويبدو أن أسلوب الإقناع هذا كان حادا في بعض الأوقات، فسقراط يقصد ضمنيا أن سكان أثينا يجب أن «يشعروا بالخزي والخجل من انشغالهم بجمع أكبر قدر ممكن من المال وببناء السمعة الحسنة والشرف والانصراف عن الانشغال بالحقيقة وبكمال الروح.» ولا بد أنه قد أزعجهم أثناء محاكمته بقوله إنه كان يقدم لأهل أثينا «أعظم خدمة ممكنة» بإظهار أخطائهم لهم. وقد كان هذا في مرحلة من إجراءات المحاكمة عندما صوت بإدانته وطلب منه أن يجادل بشأن العقوبة المناسبة لمواجهة طلب الادعاء بالحكم عليه بالإعدام. وكالمعتاد تعامل سقراط مع هذه المسئولية بسخرية، فيقول إنه يستحق مكافأة بدلا من العقوبة نظير الخدمة التي قدمها لسكان أثينا، ويقترح أن تكون مكافأته وجبات مجانية مدى الحياة على نفقة الدولة، وكان هذا امتيازا يمنح للفائزين بالألعاب الأولمبية وما شابهها، فيقول إنه يستحق هذا الامتياز أكثر منهم لأن «هؤلاء يقدمون صورة للنجاح بينما أقدم أنا الحقيقة.» وينهي سقراط هذا الجزء من حديثه باقتراح غرامة بديلة، يتكفل بها أفلاطون والأصدقاء الآخرون الذين عرضوا أن يتحملوها عنه. ولكن صبر أهل أثينا كان قد نفد بالفعل؛ فقد صوتوا على إعدامه بأغلبية أكبر من تلك التي أدانته. وهذا يعني أن بعض من رأوه بريئا في البداية قد استفزتهم وقاحته لدرجة أنهم غيروا رأيهم أو قرروا التخلص منه بأي حال.
وتذكر إحدى الروايات أنه بينما كان سقراط يغادر المحكمة، صاح أحد المعجبين المخلصين والأغبياء معا يدعى أبولودورس أن أصعب شيء عليه أن يحكم على سقراط بالإعدام ظلما، فرد عليه سقراط محاولا التخفيف عنه: «ماذا؟ وهل تريد أن يحكم علي بالموت عدلا؟»
أما بخصوص احتمالية الموت نفسها فقد قال إنه رجل طاعن في السن قريب من الموت على أية حال، وإنه قد عاش حياة صالحة ومجدية. وقال أيضا:
إن الخوف من الموت هو صورة أخرى من اعتقاد الإنسان أنه حكيم في حين أنه ليس كذلك ... فلا أحد يعلم ما إذا كان الموت هو النعمة الكبرى التي يحصل عليها الإنسان، ولكن الناس يرهبونه وكأنهم على يقين أنه هو الشر الأعظم، وهذا الجهل الذي يدفع صاحبه للاعتقاد بمعرفة ما لا يعرف يجب أن يكون محل استنكار ... وإذا ادعيت أني أكثر حكمة من جاري في أي جانب؛ فهذه الحكمة هي أنني ليس لدي أية معرفة حقيقية بما بعد الموت وأنني مدرك مع ذلك أني ليس لدي تلك المعرفة.
وأضاف أنه إذا كانت هناك حياة بعد الموت فسيكون لديه فرصة لمقابلة «أبطال الأيام الخوالي الذين لقوا حتفهم بمحاكمات غير عادلة ومقارنة حظي بحظهم، وسيكون هذا ممتعا.» •••
ورغم حديث سقراط عن الجهل وإصراره على أنه كان محض قابلة تولد أفكار الآخرين؛ فقد كان لديه معتقدات قوية خاصة به، ولكن لسوء الحظ لم يدونها قط. وكان أحد هذه المعتقدات هو أن الفلسفة هي نشاط أساسي وتعاوني، فهي مادة دسمة في المناقشات بين جماعات صغيرة من الناس يجادل بعضهم بعضا ليصل كل منهم إلى الحقيقة بنفسه. ولا يمكن استرجاع روح اللهو هذه تماما في محاضرة أو في رسالة. وهذا هو سبب اختيار أفلاطون وزينوفون (والعديد من معاصريهم الذين ضاعت أعمالهم) أن يقدموا أفكار سقراط في صورة محاورات؛ فقد كان الحوار حرفته، وهو ما تركه لنا من بعده.
ثمة أربعة شهود رئيسين على أفكار سقراط العميقة: أفلاطون، وزينوفون، وأرسطوفان، وأرسطو. ولم يكن حال أي من هؤلاء كما يتمنى أي مؤرخ. كان أفلاطون أكثر من تحدث عن أفكار سقراط، ولكنه بوصفه مرشدا موضوعيا لسقراط فقد عابه أنه كان يجل سقراط لدرجة العبادة ؛ لذلك فمن المرجح أنه قد بالغ فيما رأى أنه أحسن صفاته. فبخلاف أنه على مدار أربعين عاما تقريبا من التفكير والتدريس تغيرت فيها أفكاره كثيرا؛ فقد اعترف أفلاطون بالفضل لسقراط في استخدامه كناطق بلسانه. لقد كان أفلاطون يرى سقراط حكيما متفوقا؛ لذلك كان يقدم أي شيء يرى فيه الحكمة على لسان سقراط. وقد وصف أفلاطون (أو أحد الرفقاء المقربين الآخرين) محاوراته بأنها «أحد أعمال سقراط التي نقحت وجددت.» وهذه مشكلة مركبة؛ إذ لم يكتف سقراط في محاورات أفلاطون بالحديث عن أفلاطون بدلا من الحديث عن نفسه، ولكنه جعله أيضا يقول أشياء مختلفة وقعت في المراحل المختلفة من حياة أفلاطون الأدبية.
وماذا عن الشهود الثلاثة الآخرين؟ لقد كانت عيوب زينوفون (430-355ق.م.) مختلفة تماما؛ فلم يكن فيلسوفا بشكل واضح - على عكس أفلاطون - ليكون مرشدا إلى سقراط. ليس من العيب أن يكون زينوفون قائدا عسكريا تقاعد وأصبح أحد كبار المزارعين، ولكنه ربما لا يكون خير حافظ للأثر الدال على أحد فلاسفة العالم العظام؛ فقد كان يستخدم شخصية سقراط ليقدم نصائحه الخاصة عن الزراعة والفنون العسكرية، كما أنه يصوره على أنه شخص طيع لين العريكة فيقول: «لقد كانت كل سلوكياته الشخصية قانونية ونافعة؛ فقد التزم الطاعة الصارمة للسلطة العامة في كل ما تفرضه القوانين في كل من الحياة المدنية والخدمة العسكرية، حتى إنه كان نموذجا للانضباط والالتزام يحتذي به الجميع.» وقد أشار أحد الباحثين الرواد في مجال الفلسفة القديمة بشكل مفهوم إلى زينوفون بأنه «منافق متجهم وعجوز.» لكن إحقاقا للحق وإنصافا لزينوفون يجب القول إنه ما من أحد أعجب بشخص غريب الأطوار مثل سقراط كما أعجب به زينوفون، يمكن أن يكون عبوس الوجه متجهما. ولكن زينوفون لم يكن هو سقراط نفسه، وربما لم يستطع إدراك غرابة شخصيته وما كان يرمي إليه. وإذا كان زينوفون قد فعل ما بوسعه ليظهر سقراط بمظهر الرجل المحترم والملتزم فإن الكاتب المسرحي أرسطوفان (حوالي 448-380ق.م.) لم يدخر جهدا ليفعل العكس؛ فسقراط عنده هو مهرج خدعته أسئلة مثل: من أية ناحية تخرج البعوضة ريحها؟ ويتضح عجز أرسطو عن وصف سقراط ببساطة في قوله: «لقد ولد متأخرا خمسة عشر عاما.»
ولكن أرسطو هو من يعرف حقائق مهمة، فرغم أنه لم يسمع آراء سقراط بشكل مباشر فقد درس في أكاديمية أفلاطون لما يقرب من عشرين عاما، وحصل على فرصة كبيرة ليسمع آراء أفلاطون من أفلاطون نفسه؛ لذلك فقد كان في موضع يسمح بالفصل بين آراء الرجلين. وتساعد شهادة أرسطو بشكل كبير على حذف آراء أفلاطون من محاوراته ورؤية ما تبقى لسقراط. كما أن أرسطو كان أقل تبجيلا لسقراط من أفلاطون؛ ولذلك نجح في تبني نهج أكثر حيادية في تعاليمه.
لقد اتضح أن اختلاف المصادر الرئيسة الأربعة لسقراط ميزة وليس عيبا؛ فهو يعني زيادة احتمال صدق ما هو مشترك بين الروايات المختلفة. وكلما عرفنا المزيد عن كل من الأربعة وما كان يسعى إليه كل منهم؛ سهل تجاهل تحاملاته وانحرافاته ورؤية سقراط الحقيقي وراءها. وبتتبع تلك الحقائق استطاع الباحثون المعاصرون تجميع كثير من فلسفة الرجل الذي أدمن الجدال حتى الموت حرفيا.
ومن السهل تدارس آراء سقراط في ضوء علاقتها بآراء أفلاطون؛ فالتأريخ التقريبي لمحاورات أفلاطون إضافة إلى بعض المعلومات عن حياته يجعل من الممكن تتبع خطوات رحلته الفكرية التي بدأها بصحبة سقراط وأنهاها بعيدا عنه. في البداية قيد أفلاطون نفسه بإعادة إنتاج محاورات أستاذه الموقر. وبعد ذلك أضيفت تدريجيا بعض التعليقات الفيثاغورية والصوفية إلى أفكار سقراط. وظل أفلاطون يتأثر بشكل متزايد بالفيثاغوريين الإيطاليين. وأخيرا وصل أفلاطون إلى مرحلة استعان فيها بشخصية سقراط عند شرح جميع الموضوعات.
لقد تمحورت المناقشات الجدية بخصوص سقراط الحقيقي فقط حول الطريقة التي يجب أن يعيش بها الإنسان حياته، واهتمت بالفضائل التي ساد العرف أنها خمس: الشجاعة، والاعتدال، والتقوى، والحكمة، والعدل. وكانت مهمة سقراط حث الناس على تهذيب أرواحهم بمحاولة فهم هذه الصفات واكتسابها، وكانت هذه المهمة كفيلة بإبقاء سقراط مشغولا، ولكن أفلاطون كان أشد طموحا بالنيابة عن أستاذه، فكتب العديد من المحاورات التي لا تهتم بالأخلاق على الإطلاق، ولكنها اتخذت سقراط متحدثا رئيسا فيها؛ فكتاب أفلاطون «الجمهورية» على سبيل المثال يبدأ بمناقشة العدل، ولكن ينتهي بتناول كل ما أثار اهتمام أفلاطون.
وحتى عندما أعلن سقراط الحقيقي أنه لا يعلم شيئا، ظل أفلاطون مندفعا في الغالب وأثنى عليه بآراء واثقة؛ فمثلا اعتقد سقراط أن ما يحدث بعد الموت هو سؤال مفتوح للبحث، ولكن في محاورة «فيدون» التي توهم بنقل كلمات سقراط الأخيرة قبل تناوله سم الشوكران في سجنه، جعله أفلاطون يقدم سلسلة كاملة من الأدلة على فساد الروح.
لقد بدا أن أفلاطون لم يكن لديه كثير من الشكوك بشأن ما يحدث بعد الموت. لقد اعتقد أن الروح منفصلة عن الجسد وأنها موجودة قبل الولادة وأنها ستبقى بالتأكيد لما بعد الموت. ونتيجة تأثره بفيثاغورس والفيثاغوريين اعتقد أفلاطون أنه بينما ترتبط الروح بجسد مادي أثناء الحياة، فهي تعيش حياة دونية مدنسة تحتاج أن «تنقى» منها، وأن «تحرر من قيود الجسد.» ووفقا لما ذكره أفلاطون في هذه المحاورة؛ فإن ما يرجوه الرجل الصالح بعد الموت هو إعادة الاتحاد أو على الأقل المشاركة مع الأسمى من أشكال الوجود المعنوية الأخرى والتي يطلق عليها «الأشكال المقدسة»، وعلى الفيلسوف بخاصة أن يعتبر حياته كلها استعدادا للعتق السعيد عند الموت. وكما رأينا فقد عاش سقراط حياة مثقلة فقيرة غير تقليدية وكانت غير دنيوية بالتأكيد. أما أفلاطون فقد آمن بالحياة الأخرى بشكل إيجابي وهو أمر مختلف تماما (ولقد عاش في الحقيقة حياة مريحة في مجملها حتى تخلص من قيود جسده الممتلئ).
لقد سعى سقراط إلى الفضائل لأنه أحس أنه ملزم بذلك فورا دون تسويف؛ فالحياة الدنيوية تفرض واجباتها الخاصة وتمن بنعمها الخاصة، وهي ببساطة ليست استعدادا لشيء آخر . وقد كانت دوافع أفلاطون أقل استقامة لأنه وضع نصب عينيه شيئا أبعد. وكان المعتقد المشترك بين الرجلين هو أن السعي إلى الخير لم يكن محض أفعال معينة ولكنه عمل عقلي أيضا، ولكن كلا منهما رأى هذا العمل بشكل مختلف؛ فقد اعتقد سقراط أن فهم الفضائل شرط واجب للحصول عليها، فلا يستطيع المرء أن يكون فاضلا بحق إلا بمعرفته ما هي الفضائل، والوسيلة الوحيدة للحصول على هذه المعرفة هي دراسة الآراء المتعلقة بالفضائل المختلفة، وهذا ما دفع سقراط إلى أن يسأل الناس ويجادلهم. أما أفلاطون فقد آمن بهذا البحث الجدلي ولكنه فسره أيضا بأنه شيء روحي تقريبا. وبينما رأى سقراط أن البحث عن تعريفات الفضائل هو وسيلة إلى غاية معينة هي ممارسة الفضيلة، رأى أفلاطون أن البحث هو غاية في حد ذاته؛ فالبحث عن التعريف بالنسبة لأفلاطون كان سعيا وراء الصورة المثالية الأبدية الثابتة لما يخضع للمناقشة، والتأمل في هذه المثل هو قمة الصلاح. وهذا ما رأى أن أسئلة سقراط قد بلغته، وما كان ينبغي أن تسعى إليه.
والفلسفة بالنسبة لأفلاطون هي السلم لهذا العالم السامي من المثل، ولكن ليس كل شخص بقادر على صعوده؛ فدرجاته العلى محفوظة لمن يتمتعون بمهارة الحجاج الجدلي، وهم صفوة مثل واضعي الأديان أو الفيثاغوريين الذين اطلعوا على أسرار أستاذهم. أما سقراط فقد تبنى مذهبا يميل إلى المساواة بين المعرفة والفضيلة؛ فالحياة التي لم تخضع للاختبار - كما قال في مرافعة دفاعه الشهيرة - لا تستحق أن تعاش، وهذا ليس أمرا مقضيا قصد من خلاله إدانة الجميع عدا قلة مختارة؛ فكل فرد لديه القدرة على تمحيص حياته وأفكاره وأن يعيش حياة ذات قيمة. وكان سقراط يسعد بسؤال أي شخص - من صناع الأحذية وحتى الملوك - ومجادلته، وكان هذا كل ما تعنيه الفلسفة بالنسبة له. ولم يجد أية أهمية تذكر لمثل أفلاطون أو المهارات النادرة اللازمة لاكتشافها.
وكان من بين الأشياء التي قادت أفلاطون إلى المثل الغامضة ولعه بالرياضيات، وهذا مظهر آخر من مظاهر تأثره بفيثاغورس والفيثاغوريين، وتلك إحدى نقاط اختلافه عن سقراط. وقد ورد أن أبواب أكاديمية أفلاطون كتب عليها أنه «لا يقبل الجاهلون بالهندسة هنا.» وشكا أرسطو من أن «الرياضيات أضحت كل الفلسفة» بالنسبة لأتباع أفلاطون، وهي مبالغة فظة ولكنها هادفة. فما جذب أفلاطون في الأشياء التي تتعامل معها الهندسة مثل الأعداد والمثلثات، هو أنها مثالية وأبدية وثابتة ومستقلة بشكل ممتع عن الأشياء المرئية على وجه الأرض، فلا أحد يستطيع أن يرى الرقم أربعة أو يلمسه؛ لذا فهو موجود في عالم من نوع آخر وفقا لأفلاطون. كما أن الخطوط والمثلثات وغيرها من الأشياء التي تظهر في الإثباتات الرياضية لا يمكن إيجادها هي الأخرى فيما هو مادي، فلا تتعدى بعض الخطوط والمثلثات المادية كونها تقريبا لنظائرها الرياضية المثالية؛ فالخط المثالي على سبيل المثال ليس له سمك على عكس أي خط مرئي أو حافة جسم مادي. وقد استنتج أفلاطون أنه بناء على إعجاز علم الرياضيات، فإن أنواعا أخرى من المعرفة يجب أن تقتفي أثرها وأن تهتم بالأشياء المثالية والمعنوية أيضا. وهذه الأشياء التي تختص بها المعرفة هي المثل.
لقد استخدم أفلاطون في إحدى محاوراته مثالا هندسيا ليبرهن على أن معرفة المثل - والتي تعني جميع أصناف المعرفة المهمة بالنسبة له - تكتسب قبل الولادة؛ فحقائق العقل البحت - مثل قوانين الرياضيات - لا تكتشف من جديد، وإنما تسترجع بعناء من حياة سابقة عاشت فيها الروح بلا جسد واستطاعت أن تواجه هذه المثل مباشرة؛ ولذلك فإن الإنسان لا يتعلم هذه الحقائق بالمعنى الحرفي على الإطلاق بل يجتهد في تذكرها. وعندما تنفخ الروح في الجسد فإن المعرفة التي تمتعت بها في السابق تضيع من الذاكرة مثلما كتب وردزورث في قصيدته «إرهاصات الخلود» أن «ولادتنا ما هي إلا غفلة ونسيان.» ولم يكن وردزورث يفكر في الهندسة على وجه الخصوص ولكنه أعجب بالفكرة العامة. ولتوضيح هذه النظرية جعل أفلاطون «سقراط» يستخرج بعض المعلومات الهندسية البدهية من عبد غير متعلم، وهذا لتأكيد الفكرة الأفلاطونية التي تقول إن المعرفة تسترجع من حياة سابقة، ولبيان أن تدريس سقراط كان مثل التوليد كما ادعى سقراط نفسه.
كانت المشكلة التي وضعها «سقراط» للعبد هي تحديد أضلاع مربع معلوم المساحة؛ فبدأ برسم مربع يبلغ طول أضلاعه قدمين ومساحته من ثم ستكون أربعة أقدام مربعة، ثم سأله عن طول الأضلاع إذا أصبحت المساحة ثمانية أقدام مربعة. في البداية استنتج العبد خطأ أن الأضلاع يجب أن يكون طولها ضعف ما كان عليه في المربع الأصلي؛ أي أن يكون طولها أربعة أقدام. وبرسم آخر يوضح «سقراط» سريعا أن الإجابة خاطئة بالتأكيد؛ لأنه في تلك الحالة ستكون مساحة هذا المربع ستة عشر قدما مربعة بدلا من ثمانية. لقد تفاجأ العبد بأنه لا يمتلك من المعرفة ما ظن أنه يعرفه. ويشير «سقراط» إلى أنه في هذه المرحلة «قدمنا مساعدة ما لهذا العبد في إيجاد الإجابة الصحيحة؛ فهو لا يجهلها الآن فحسب بل سيكون سعيدا إذا بحث عنها.» وبعد ذلك بمساعدة رسومات أخرى وبطرح الأسئلة الصحيحة بخصوصها دفع سقراط العبد تدريجيا إلى اكتشاف الإجابة بنفسه؛ فطول أضلاع المثلث الذي تبلغ مساحته ضعف مساحة المثلث الأصلي سيساوي طول ضلع المثلث القطري في المربع الأصلي، وهذا ما يتلخص من ثم في نظرية فيثاغورس الشهيرة. ولكن لأن سقراط لم يخبر العبد بذلك قط فقد كان العبد «يعرفها» بالضرورة.
ولا يبرهن هذا الموقف البسيط بالقطع على نظرية التذكر لدى أفلاطون كما اعترف أفلاطون نفسه. ولكن الرواية توضح نظرية مختلفة لسقراط حول المعرفة وكيفية نقلها؛ فأسئلة سقراط للعبد كانت إرشادية (وقد ساعدت الرسومات أيضا)، ولكن مع ذلك صحيح أن العبد توصل إلى الإجابة بنفسه فلم يقدم إليه الجواب ببساطة، كما يمكن إخبار الفرد بمساحة فناء ما أو باسم عاصمة اليونان. لقد أدرك العبد شيئا من خلال قدراته العقلية الخاصة؛ وبذلك يستطيع سقراط بسهولة أن يدعي كعادته أنه لم يقدم أية معلومات بنفسه، ولكنه مثل القابلة يستخرج المعلومات من الآخرين. وثمة شيء آخر، فكما قال سقراط إنه لكي يعرف العبد هذه المعلومة الرياضية بشكل جيد فلا يكفي أن يتناول المثال مرة واحدة فقط فيقول:
إن آراء العبد التي تكونت حديثا مشوشة مثل الحلم، ولكن إذا طرحت عليه الأسئلة ذاتها في عدة مواقف وبطرق مختلفة؛ فستجده في النهاية يمتلك معلومات دقيقة عن هذا الموضوع مثل أي شخص آخر ...
ولا تأتي هذه المعلومات بالتلقين ولكن بالاستجواب، وسيسترجعها العبد بنفسه.
وهناك حاجة ملحة إلى تكرار استجوابات سقراط. بعبارة أخرى ، ما يحتاجه العبد هو المعاملة ذاتها التي قدمها سقراط الحقيقي إلى أهل أثينا الجاحدين. وكما يقول سقراط في «الدفاع» لو أن أحدا ادعى الصلاح «لسألته واختبرته.» لذلك ففي قصته الخيالية عن التذكر الذي عاونه عليه، يقدم أفلاطون توضيحا لما كان يفعله سقراط عندما ادعى مساعدة الآخرين على إبداء آرائهم، وكأن سقراط كان يثبت بعض المعرفة الموجودة بالفعل.
ما أجمل كل هذه الحقائق عن مثال أفلاطون عن المثلثات والمربعات التي أحبها؛ فليس من الصعب تصديق أن المستجوب الموهوب يمكنه أن يعلم تلميذه حقيقة رياضية دون أن يذكرها له صراحة، وسيدرك ذلك من كان له معلم جيد يوما. ولكن ماذا عن مسائل العدالة والقيم الأخرى التي اهتم بها سقراط الحقيقي؟ فالأخلاق أصعب في التناول من الرياضيات، فمن جهة لا يبدو أن لديها براهين لتقدمها؛ لذا فمن المفترض أن الاشتغال بتعلم الأخلاق مختلف تماما عن الاشتغال بتعلم الرياضيات.
لقد علم سقراط ذلك؛ فلم يتوهم القدرة على الإثبات الحاسم لأية معتقدات أخلاقية، بل على العكس فقد كان يصر دائما على التشكيك الذي اكتنف استفساراته، فمثلا قبل الشروع في الدفاع عن أطروحة ما، يعترف: «إنني أحيانا أكون مع الرأي المضاد؛ لأن أفكاري بخصوصه شديدة الاتساع، وهي حالة يسببها الجهل بوضوح.» ويقول لمحاوره إنه لا ريب في أنه أخطأ في تبني هذه الأطروحة الآن، ولكن دعنا نتابع الحجاج حيثما يقودنا فربما تتمكن من إرشادي إلى الصواب. وعندما قال سقراط سلفا في تلك المحاورة: «أنا مليء بالعيوب ودائما ما أخطئ في فهم الأشياء بطريقة أو بأخرى.» فهو يتواضع بعض الشيء ولكنه يدرك تماما أنه لا يملك براهين قاطعة على غرار البراهين الرياضية فيما يخص الفضائل.
هل وصل سقراط إلى شيء إذن؟ هل نجح فعلا في تقديم أية معرفة بالفضائل؟ من ناحية ما نعم؛ فهو يقدم - وإن كان بشكل غير مباشر - العديد من الآراء الصريحة وغير التقليدية بعض الشيء حول الفضيلة والتي تشكل في مجملها نظرية للحياة البشرية. أما بخصوص ما إذا كان قد نجح في إقناع مستمعيه بنظريته فالإجابة عامة بالنفي، ولكنه لا يستهدف إقناعهم على أية حال؛ لأنه ليس متأكدا تماما من صحة نظريته، إضافة إلى أن على الناس أن يجدوا طريقهم الخاص إلى الحقيقة حول هذه المسائل. إن ما يهدف سقراط لفعله هو إخضاع بعض الآراء حول الفضيلة للتجربة، وهذا ينطبق على كل من آرائه وآراء من يحاورهم. ثم تتحول هذه التجربة إلى محاكمة بالإشكال الجدلي، حيث يجب التشكيك في تعريفات العديد من المسائل أو تفسيراتها؛ ومن ثم أيضا حلها، وأيا ما يتجاوز هذا الاستجواب يجري قبوله مؤقتا. إن النتائج التي تحققها هذه الطريقة لا تصل إلى كثير من مظاهر الحكمة الحقيقية، ولكنها مع ذلك تبقى أفضل الطرق المتاحة، فتلك الاستفسارات تقود إلى نوع من المعرفة؛ لذلك فإن إنكار سقراط الصريح لمعرفته أي شيء فيه مفارقة جزئية.
إن معظم الاستقصاءات التي تعود في أصلها إلى سقراط في محاورات أفلاطون تنتهي دون الوصول إلى استنتاج نهائي؛ فهو يسعى بشراهة للبحث مثلا عن ماهية العدالة، ويظل يجادل لبعض الوقت ثم يعود إلى منزله خالي الوفاض، ولكن ليس تماما؛ فالمحاورات عادة ما تنجح على الأقل في كشف شيء مهم في طريقها، فمثلا في إحدى محاورات أفلاطون الأولى يستجوب سقراط رجلا يدعى يوثيفرو حول طبيعة التقوى أو القدسية. ورغم أن سقراط لم ينجح في تعريف التقوى بدقة فقد تمكن من توضيح شيء مثير عما لا تمثله.
يتقابل الرجلان خارج قاعة المحكمة حيث يقاضي يوثيفرو أباه لتسببه غير المتعمد (ولكن ربما بشكل يدينه) في مقتل عبد قتل بدوره عبدا آخر. وعقدت الدهشة لسان سقراط عندما علم أن يوثيفرو يريد أن يستمر في تلك القضية. ويصر يوثيفرو على أنه يعلم ما يفعله، رغم أن عائلته تراه ابنا عاقا لمقاضاته والده بوصفه قاتلا، فعائلته تجهل ما هو مقدس بينما يمتلك هو «معرفة دقيقة بكل ما هو كذلك»؛ ولذلك فليس لديه شك في صواب ما يفعل. ويتعجب سقراط مما لدى يوثيفرو من حكمة واثقة، ويطلب منه أن يشاركه تلك الحكمة ويخبره ما هي القدسية. في البداية يجيب يوثيفرو بأن القدسية هي ما تحبه الآلهة، ولكن سقراط يأخذه إلى فكرة أنه ما دامت الآلهة تختلف عن بعضها اختلافا كثيرا؛ فمن المفترض أنها لا تحب الشيء نفسه أو تبيحه دائما، وهذا يعني أن إباحة الإله لشيء ما أو منعه إياه لا يمكن أن يكون معيارا لما هو مقدس؛ إذ قد يبيحه أحد الآلهة ولا يبيحه الآخر، وفي تلك الحالة لا يمكن أن يكون الفرد حكيما بخصوص قدسية هذا الشيء. ولذلك يعدل سقراط ويوثيفرو التعريف المقترح ليصبح كل ما تتفق الآلهة في إباحته. ولكن يخطر ببال سقراط هذا السؤال: «هل يعد المقدس مقدسا لأن الآلهة أباحته؟ أم أن الآلهة أباحته لأنه مقدس؟» وهذا سؤال ممتاز لدرجة أن يوثيفرو لم يفهمه في البداية، وأصبح السؤال هكذا: «هل يعد ما أباحته الآلهة مقدسا لمجرد أنهم أباحوه؟ أم أنهم ملتزمون بإباحة أشياء معينة فقط وهي الأشياء المقدسة في ذاتها بغض النظر عن إباحة الآلهة لها؟» لسوء الحظ لم يملك أفلاطون من المفردات اللغوية ما يمكنه من توضيح الفارق؛ ولذلك فعندما يحاول سقراط أن يشرحه يتعثر كلامه بأمور نحوية ليست ذات صلة وليست في مجملها ملزمة. ولكن يبدو أن سقراط قد أماط اللثام عن معضلة تتمثل في العلاقة بين الدين والأخلاق. فإذا طرحنا السؤال نفسه حول ما يعد صوابا من الناحية الأخلاقية بدلا مما هو مقدس، فسنواجه خيارا كاشفا يقول إما أن الصواب لا يمكن وصفه ببساطة بأنه ما تريده الآلهة، أو أن الأمر مجرد حشو للقول إن الآلهة صالحة ومحقة، وفي هذه الحالة سيكون الثناء على الآلهة مجرد عبادة للقوة. وكما يقول لايبنتس في بداية القرن الثامن عشر (حينما كانت الآلهة قد تقلصت إلى إله واحد):
إن الذين يؤمنون أن الرب قد خلق الخير والشر اعتباطا لا منطق فيه، إنما يجردون الرب من صفة الخيرية؛ إذ لا سبب يجعل العبد يحمده ويثني عليه على ما يفعله إذا كان يستطيع فعل شيء مختلف تماما بدرجة الإتقان نفسها.
لم يطور سقراط - الذي في محاورات أفلاطون - الجدل إلى هذه المرحلة، ولكن يبدو أنه قد رأى أن القيم الأخلاقية لا يمكن اشتقاقها ببساطة من اعتبارات ما تحبه الآلهة؛ لأن ذلك يجرد الآلهة (أو الرب) من أية سلطة أخلاقية. ويبدو أن يوثيفرو قد اقتنع، رغم أنه تراجع بعدها وهرع إلى قاعة المحكمة دون أن يستسلم لمنطق سقراط. وهكذا نجح سقراط في إحراز تقدم مهم حتى لو لم يحسم المسألة محل النقاش.
ولكن ما زال هناك شيء غير مقنع فيما يهدف إليه سقراط في المحاورات المماثلة، فهل لاستجوابه أو حتى أي نوع من الاجتهاد العقلي أن يحصل الفوائد التي يزعمها؟ فرغم أنه لا يزعم محاولة الوصول إلى الحقيقة الكاملة للفضيلة، ورغم أننا نتفق أنه نجح مع ذلك في إحراز تقدم فكري؛ فمن الصعب معرفة كيف يكون لمناقشاته القوة التي ينسبها إليها. وتكمن المشكلة في اعتقاده أن مناقشة الفضيلة تؤدي بالفرد فعلا إلى أن يصبح إنسانا أفضل. وهذا ليس عرضا جانبيا بل هو الفكرة ذاتها التي يستحضرها سقراط لتبرير إخضاعه الآخرين لمحاوراته التجريبية، وهو يعتقد أن هذا في مصلحتهم، ليس لأن تلك المناقشات مهمة في ذاتها، ولكن لأن إجراءها هو السبيل الوحيد إلى الفضيلة الشخصية. ويبدو هذا غير مقبول على أقل تقدير؛ فمعرفة أن مبدأ ما صواب أمر بينما التصرف وفق هذا المبدأ أمر مختلف تماما. أولا يستطيع أي شخص أن يعرف كل شيء عن الفضيلة من خلال مناقشة سقراط ثم يتركه ويتحول إلى الشر؟ وكما رأينا يبدو أن كريتياس وكارميدس وربما ألسبيادس قد فعلوا هذا تماما.
وقد شن أرسطو هجوما متكررا على سقراط في هذه السطور قائلا: «لا ينبغي أن يقتصر تساؤلنا على معرفة ما هي الفضيلة، بل يجب أن يشمل هذا التساؤل كيفية تحقيقها.» واتهم سقراط بالفشل في التفرقة بين الأسئلة التطبيقية والأسئلة النظرية فيقول:
لقد اعتقد أن الفضائل جميعا نوع من أنواع المعرفة بحيث تأتي معرفة العدالة والتحلي بصفة العدل معا؛ لذلك فهو يتساءل عن ماهية العدالة بدلا من أسبابها ومصادرها. ويصلح هذا المذهب فيما يتعلق بالمعرفة النظرية؛ ذلك أنه ليس ثمة أي شيء آخر في علم الفلك أو الفيزياء أو الهندسة سوى التأمل في طبيعة الأشياء؛ فهذا هو مجال بحث هذه العلوم، ولكن هدف العلوم التطبيقية مختلف؛ لأننا لا نود معرفة ما هي الشجاعة بل كيف تكون شجاعا، ولا ما هي العدالة بل كيف تكون عادلا، تماما كما نود أن نكون أصحاء بدلا من أن نعرف ما هي الصحة.
كان لدى سقراط رد على ذلك، وربما كان رده سيسير على النحو التالي: «لقد ظلمتني؛ فالسبب في فشل كريتياس وكارميدس وغيرهم من التلاميذ المثيرين للمشكلات في أن يتحلوا بالفضيلة ببساطة هو أنهم لم يتعلموا ما يكفي عنها. ولو أننا استكملنا مناقشاتنا لتحلى هؤلاء بالعدل واتصفوا به. وهكذا بينما أتفق أننا لا نريد معرفة كنه الفضيلة فحسب بل نريد أن نكون أنفسنا فاضلين؛ فإن ما أقصده هو أنه إذا عرفنا ما هي الفضيلة فستأتي الفضيلة تبعا لذلك من تلقاء نفسها. وكما أقول دائما فأنا لا أعرف ما هي الفضيلة؛ لذا فإني لا أستطيع أن أتحلى بها في نفسي ناهيك عن الآخرين. وهذا بالضبط ما يوجب علينا الاستمرار في البحث عن الفضيلة.»
الفكرة الرئيسة في هذا الرد مقبولة؛ ولا يمكننا القول بدحض ادعاء سقراط بخصوص ما يمكن أن تنجزه أساليبه وتفنيده؛ إذ لم يوضع هذا الادعاء موضع الاختبار أساسا لأنه لم يكتشف بعد ماهية الفضيلة. ولكن مع ذلك، لماذا يجب أن يصدقه من يسمعه يقول إن المعرفة الكاملة للفضيلة إذا ما نجحنا في الوصول إليها تؤدي إلى سلوك فاضل؟ يبدو هذا افتراضا غير معقول عندما نفكر كيف أن الناس غالبا ما يملكون إرادة ضعيفة وتعيبهم الأنانية وقصر النظر؛ فكثيرا ما يرى الناس خطأ شيء ما من الناحية الأخلاقية، ولكنهم مع ذلك يقدمون عليه، فما يدفعنا للاعتقاد أن الوضع سيختلف إذا ما عرفوا المزيد؟
اعتقد أرسطو أن سقراط كان يملك صورة مبالغا في بساطتها عن النفسية الإنسانية فقال: «إنه يتخلص من الجزء غير العقلاني من الروح ؛ ومن ثم فهو يتخلص أيضا من العاطفة والشخصية.» لقد نظر سقراط إلى الأفعال والعاطفة الإنسانية من منظور منطقي أو عقلاني بشكل كبير متجاهلا الدوافع واللاعقلانية المتعمدة فيقول: «لا أحد يتصرف عكس ما يؤمن أنه الأفضل، وما يتصرف الناس هكذا إلا بدافع من جهل.» وهذا يفسر الاهتمام المبالغ فيه الذي منحه سقراط للتساؤلات حول الفضيلة، فإذا ما كان السبب الوحيد لعجز الناس عن فعل الأفضل أيا كان هو جهلهم، فالعلاج إذن للانحراف الأخلاقي هو المزيد من المعرفة.
يبدو أفلاطون لأول مرة في هذه النقطة أكثر واقعية من سقراط؛ فقد أدرك الجزء غير العقلاني من الروح ورأى أنه في صراع دائم مع الجزء العقلاني. (وفي الأوقات التي بدا فيها أكثر تأثرا بفيثاغورس ومذهبه وصف أفلاطون ذلك الصراع بأنه صراع بين الروح والجسد)؛ ولذلك لم يكن تحقيق الفضيلة بالنسبة لأفلاطون تحصيل المعرفة فحسب ولكن تشجيع سلوك معين. وفي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها في كتابه «الجمهورية» تضمن الأمر تدريبا ونظاما دقيقين للشباب، ومتابعة قريبة لبيئتهم الأولى بل لنوع الموسيقى التي كانوا يستمعون إليها ونوع الحكايات التي سمح لهم بالاستماع إليها.
ومن الواضح أن سقراط نفسه لم يكن في حاجة لمثل هذا التدريب؛ فقد كان منضبطا من جميع النواحي بشكل فائق، وكان أستاذا للتحكم في النفس بطريقة عقلانية. وربما كانت هذه هي المشكلة؛ فقد يفسر ذلك لم علق آمالا عريضة على الآخرين بشكل يستحيل معه تحقيقها، ولم افترض أنهم لو علموا فقط ماهية العدالة لتحلوا بالعدل فورا. وقد قيل عن سقراط إن «قوة شخصيته هي موطن ضعف فلسفته.» وهذه صياغة أنيقة، ولكن أفكار سقراط كان فيها من الترابط والوضوح أكثر مما يبدو. بيد أنه يجب القول إن تفسيره العقلاني بشكل غير مقبول للنفس البشرية لم يكن المشكلة الوحيدة على أية حال، فحتى لو كان ثمة حكيم يناهزه انضباطا والتزاما، وولد بشكل ما دون الجزء غير العقلاني من روحه؛ فمن الصعب تصور كيف سيجعله هذا شخصا صالحا من الناحية الأخلاقية. أفلا يمكن أن يكون هناك شخص على القدر نفسه من عقلانية سقراط ويتصف بالحكمة التي كان يسعى إليها، ومع ذلك فهو خبيث مثل شيطان ميلتون الذي تبنى الشر على علم بقوله: «فلتكن أيها الشر خيري؟» وعلى عكس ما يقول سقراط الذي قال (وفقا لرواية أرسطو): «لا أحد يختار الشر وهو يعلم.» ولم يتجاهل سقراط التهور والاندفاع واللاعقلانية بشكل جيد فحسب بل أعلن أن الانحراف الأخلاقي المتعمد مستحيل ببساطة. ويبدو أنه لم يقابل قط إنسانا شريرا فضلا عن ملاك شرير.
هل كان سقراط ساذجا إذن؟ لقد كتب نيتشه عن «السذاجة واليقين الإلهيين في أسلوب حياة سقراط»، ولكن يبدو أن ما كان يقصده هو التركز الحاد في رؤية سقراط وليس مجرد براءة حمقاء. لقد ظل نيتشه يفكر مليا في عادة سقراط في التعبير عن نفسه بعبارات تبدو ساذجة، واستنتج أن ذلك كان في الحقيقة «حكمة مليئة بالمزاح». وقد أدرك نيتشه أنه من المهم وضع الظروف التي أجرى فيها سقراط مناقشاته في الاعتبار. وتعتمد معظم الآراء المتناقضة التي قد تنسب إلى سقراط على أشياء قالها لشخص ما أو أشياء اتفق معها لغرض مميز وفي سياق مميز؛ فقد سعى للتدريس عن طريق الإغاظة والتملق والاستفزاز، وأنكر أنه درس من الأساس. وقد حاول إماطة اللثام عن حقيقة الأشياء بتجريب أفكار عدة على مستمعيه ببراعة، ولم تكن الحيل العقلية جزءا ولو صغيرا من هذه الأفكار. وقد كتب جالن - وهو طبيب وفيلسوف عاش في القرن الثاني الميلادي - يقول: «إن هذا كان بمنزلة ربة الشعر لدى سقراط التي تمكنه من المزج بين الجد وقليل من الهزل.»
ولا يمكن تبرير الجوانب غير المعقولة في آرائه بالقول إنه لم يكن يعنيها؛ فهذا قد يحسن من صورة المنطق السليم الدنيوي لدى سقراط، ولكن على حساب استبعاد كل ما قاله تقريبا. ومع ذلك يمكن تفسير ما يقوله سقراط بشكل أفضل عند وضع مشروعاته التعليمية غير التقليدية في الاعتبار. وسنقوم الآن بتجميع أجزاء نظرية الحياة الإنسانية التي جاءت في تصريحات سقراط الساذجة وغير المعقولة. والنتيجة هي مجموعة من الأفكار التي ثبت أنها مثمرة جدا على أقل تقدير، ليس في تهذيب بعض مستمعيه المباشرين فحسب، بل في تحفيز قدر كبير من فلسفة الأخلاق فيما بعد. •••
تبدأ نظرية سقراط بالروح وتنتهي عندها، وهو يقول في «الدفاع» إن أهم شيء في الحياة هو النظر إلى رفاهيتها، ويقول في مواضع أخرى إن الروح هي ما «تشوهها الأعمال الطالحة وتفيدها الأعمال الصالحة.» وهو لا يعني أعمال الآخرين بل أعمال المرء نفسه، فالأعمال الصالحة تعود بالنفع على الروح، والأعمال الطالحة تعود بالضرر عليها والأذى لها. وبما أن الروح تحظى بأكبر قدر من الأهمية فإن أنواع الضرر الأخرى ليست على القدر نفسه من الأهمية. فلا يمكن لشيء يفعله الناس ضدك أن يضيع المنفعة التي حققتها لنفسك بأعمالك الصالحة. ويستتبع ذلك أن الفاسدين لا يضرون إلا أنفسهم في النهاية فيقول: «لا شيء يضر الرجل الصالح في حياته أو بعد مماته.»
ولذلك لم يتملك سقراط الخوف من المحكمة التي مثل أمامها، فهو لم يكن لينحني لسلوك مخز كي يحصل على البراءة لأن «الصعوبة لا تكمن في الفرار من الموت، بل في الفرار من الأعمال الخاطئة وهو ما يتجاوز فرار الأقدام بكثير.» وترجع صعوبة الامتناع عن الشر في أحد أسبابها إلى أنه إذا حاول شخص أن يؤذيك فمن المغري في الغالب أن تحاول الانتقام منه، ولكن بما أنه من الخطأ أن تفعل شرا أو تقترف إثما - وهو ما قد يضر روحك مهما كان عذرك - يقول سقراط إنه يجب ألا ترد الإساءة بالإساءة.
ويتعارض هذا مع الأعراف الأخلاقية الإغريقية التي تعتبر إيذاء الأعداء مقبولا، رغم أن ذلك لا يشمل الأصدقاء وبخاصة العائلة. ولكن القيم الأخلاقية الصارمة لسقراط تزيل تلك الفروق بين الناس وتقدم منظومة أخلاقية كونية بديلة. ومما يلفت النظر فيها هو أنها تفعل ذلك بمراعاة المصلحة الشخصية لا مشاعر الإيثار التي تعد عادة الدافع الرئيس وراء السلوك الأخلاقي؛ فالعمل الصالح يشبه الاهتمام بالجزء الأهم من النفس وهو الروح. ولا يشبه هذا الأمر الأنانية المعتادة لأن السبيل الوحيد لتحقيق تلك المنفعة للنفس هو التحلي بالعدل وممارسة الفضائل الأخرى أيضا، ولا يمكن تحقيقها بتقديم المصالح الشخصية على مصالح الآخرين، بل بجعل تطوير النفس أخلاقيا فوق كل الدوافع الأخرى. وكذلك لا تعتمد هذه الأخلاق غير التقليدية على انتظار مكافأة سماوية أو الخوف من عقاب؛ فثمار الفضيلة تجنى في الحال تقريبا لأن «العيش الصالح يكافئ العيش بشرف» و«(الرجل) الصالح يسعد والطالح يشقى.» ويرى سقراط أن السعادة والفضيلة مترابطتان؛ ولذا فإن مصلحة أهلها أن يتحلوا بالأخلاق الحسنة.
من الصعب فهم هذا الجزء بالتحديد؛ حيث إنه من الحقائق غير المنصفة في الحياة أن الأشرار ينعمون أحيانا، وهو ما يحد من بريق فكرة سقراط، ولكن سقراط يرى أن العناية الناجحة بالروح تجلب جميع أنواع الخير التي قد لا تبدو واضحة في البداية. ويرى سقراط كذلك أن ثمة روابط غير متوقعة بين بعض الأعمال الصالحة في الحياة، وأن السعادة مسألة أعقد مما يظنها المرء في البداية؛ فقد يبدو أن الأشرار يتمتعون بكل أنواع الملذات ولكن في الحقيقة هناك ما لا يمكنهم التمتع به، وهذا له من الأهمية ما يكفي للشك في فكرة أن هؤلاء الناس يمكنهم أن يكونوا سعداء على الإطلاق. ويزعم أن المتع العقلية تندرج ضمن هذه الفئة، كما أن ثمة أنواعا أخرى من الرضا والارتياح التي لا يمكن الحصول عليها دون ممارسة الفضائل. ولنضرب مثالا بسيطا على ذلك: إذا لم يمارس المرء فضيلة الوسطية لما تمتع بالصحة، وربما يحرم نفسه من ملذات عديدة في المستقبل من أجل القليل الآن. لذا فبدون ممارسة الفضيلة لن يستطيع الإنسان أن يسعد على الإطلاق.
ويتضح أن الفضائل نفسها هي أحد جوانب الحياة الصالحة التي يرتبط بعضها ببعض بشكل رائع ومدهش. ويرى سقراط أنها تأتي دفعة واحدة أو لا تأتي على الإطلاق، فدائما ما تحاول محاوراته إظهار أن فضيلة معينة لا تعمل بشكل صحيح إلا بوجود فضيلة أخرى؛ فالشجاعة مثلا تتطلب الحكمة. وليس من الجيد أن تكون جريئا إذا كنت أحمق لأن الشجاعة المنشودة في تلك الحالة ستتضاءل إلى محض تهور. وكذلك تتشابك كل الفضائل الأخرى بطرق مماثلة، وتلعب إحداها دورا خاصا وهي فضيلة الحكمة؛ لأنه دون مقدار معين من الحكمة سيسيء الناس تقدير عواقب الأعمال حتى لا يتمكنوا من معرفة الصواب من الخطأ، وهو الشرط الأساسي للحياة الفاضلة. وبدون الحكمة لن يتمكنوا أيضا من أن يكونوا سعداء؛ ذلك أن المنفعة التي قد تؤدي إلى إسعاد الإنسان يمكن أن يساء استخدامها ومن ثم تؤدي إلى العكس. ولذلك يحتاج الإنسان للحكمة لكي يحقق المنفعة من وراء الأعمال الصالحة وأيضا ليتحلى بالفضيلة.
ويرى سقراط أن الرابط بين الفضيلة والحكمة شديد القوة؛ لدرجة أنه قد طابق بينهما بشكل ما. من المؤكد أنهما متداخلتان، كما يرى سقراط أنه إذا تحلى أي شخص بأي من الفضائل الأخرى فمن المؤكد أنه يتحلى بالحكمة لأنه إن لم يفعل فسيكون قد فشل في أن يكون فاضلا، أما إن كان يتحلى بفضيلة الحكمة فسيكون قد تحلى بالفضائل الأخرى كافة؛ ذلك أن هذه الحكمة ستمكنه من إدراك أنه لن يستطيع تحقيق السعادة دون ممارسة الفضائل الأخرى أيضا. وكما رأينا فقد اعتقد سقراط أن السلوك الأخلاقي يعود بالنفع على الروح، وأن الشخص الشرير يؤذي نفسه روحيا. وإن صح هذا فسيدرك من كان حكيما بحق هذه الحقيقة. وكل من يدرك هذه الحقيقة وكل من يقدر قيمة روحه كما يفعل كل رجل حكيم سيتجنب حينئذ الأعمال الطالحة. وهذا يوضح لماذا اعتقد سقراط أن أحدا لا يفعل الشر عن علم؛ لأنه عندما يرتكب الإنسان خطأ فإن التفسير الوحيد المعقول لذلك هو أنه لا يعلم أن أفعاله تلك تؤذي روحه؛ ومن ثم فهو يتصرف عن جهل. وبشكل عام فإن هذه الاعتبارات كانت تدعم فكرة سقراط التي تقول إنه إذا ساعدت محاوراته الناس في الوصول إلى الحكمة فسيكون هو قد ساعدهم في الوصول إلى الفضيلة أيضا.
وفي إحدى محاورات أفلاطون لخص سقراط جزءا كبيرا من نظريته عند إنهائه لمناقشته مع كاليكلس، وهو أحد النبلاء الصغار يوشك على دخول الحياة العامة قائلا:
من الضروري أن يكون الرجل المعتدل صاحب العقل السليم يا كاليكلس صالحا - كما أوضحنا أنه عادل وشجاع وتقي - ويجب على الرجل الصالح أن يتقن أي شيء يفعله، ومن يتقن عمله يعش سعيدا منعما، أما الشرير الذي يفسد عمله يصبح بالضرورة بائسا.
هل نجح سقراط فعلا في أن يثبت كل هذا؟ لقد أجفل مستمعوه كثيرا من القفزات المنطقية التي كان يقوم بها دون عناء؛ ولذلك ظلت أشياء كثيرة محل شك وبخاصة حديثه عن السعادة. وقد كان أرسطو محقا في اعتراضه على تلك النقطة حيث يقول: «إن الذين يقولون إن الضحية التي تتعرض للمعاناة، أو الإنسان الذي يتعرض للمحن يسعد إن كان صالحا سواء قصد ذلك أم لا؛ فكلامه هراء لا صحة فيه ولا طائل من ورائه.» وفي إحدى المرات علق أحد المستمعين لسقراط بنبرات مرتبكة بقوله: «إذا كنت جادا وكان ما تقوله صحيحا فمن المؤكد أن حياتنا نحن البشر الفانين مقلوبة رأسا على عقب.»
وهذا بالضبط هو ما أراد سقراط فعله: ألا وهو إعادة صياغة أفكار الناس عن الأخلاق. ومن الواضح أن هذا لم يكن بالأمر السهل؛ فلكي يتمكن من فعل ذلك بالمجادلة يجب أن تكون المناقشات مختلفة تمام الاختلاف عن المناقشات النظرية؛ لأن «ما يناقش ليس أمرا عاديا بل كيف يجب أن نعيش.» وسيكون من الضروري أحيانا استخدام قدر من المبالغة والتبسيط إذا ما كانت الفكرة الأخلاقية محل النقاش تفرض بالقوة، فعندما قال سقراط مثلا إن الرجل الصالح لا يمسه السوء، لم يقصد من ذلك أنه بمنأى عن العديد من الأشياء المكروهة، بل كان يحاول إقناع مستمعيه بأن تلك المحن أقل وطأة من إفساد الرجل روحه. وبالمثل عندما قال إن الإنسان الشرير بائس لم يكن يعني أنه لا يمر أحيانا بأيام سارة. لقد كان يعظ من يسمعونه حتى يقدروا قيمة الفضيلة بأوسع معانيها، وربما ليشفقوا على من لم يتمكن من الوصول إليها. وعندما قال إن الصلاح يجلب الثراء وكل النعم الأخرى، لم يكن يقصد أنه بتهذيب النفس يصبح الإنسان ثريا بشكل سريع. وفي هذا السياق الذي اهتم فيه بنفي أن الثروة تجلب الصلاح أكثر من اهتمامه بإقناع الناس بالعكس، رسم سقراط صورة لأفضل أنواع الحياة الإنسانية يسعى فيها الإنسان خلف كل ما هو صالح ويستمتع به على نحو كامل؛ بفضل ممارسة الحكمة العملية والفضائل الأخرى.
وليست هذه فعليا مجموعة عادية من المبادئ، بل إنها ليست مبادئ على الإطلاق. إن ما أطلق عليه نظرية سقراط عن الحياة الإنسانية لم يقدمه سقراط مباشرة بهذا الشكل؛ فهذه الأفكار هي الأفكار التي اعتمد عليها عند استجوابه للآخرين أو التي قاومت المحاكمة عن طريق الإشكاليات الجدلية. وكان الهدف النهائي الذي ربما لم يتحقق قط هو إنتاج نوع من المعرفة المتخصصة، كما المعرفة المتخصصة للحرفيين المهرة، رغم أنها لم تختص بصناعة الأحذية ولا بالمعادن ولكن بالحرفة الأم وهي العيش السليم.
ولا يجب النظر إلى ما انتهى إليه سقراط من المناقشات على أنه أكثر من مجرد خطوات متعثرة في سعيه إلى المعرفة الأخلاقية المتخصصة. وأحيانا ما انحرف سقراط عن الطريق كلما تملق سقراط إلى رفاق دربه أو حثهم على السعي بوخزاته الساخرة أو بتقديم حجة تجذبهم بشكل مشوق (أو على الأقل تدفعهم إلى التوقف والتفكير). وكانت النتيجة كما قال نيتشه هي حكمة مفعمة بالمزاح. ولأن ما حاول سقراط الوصول إليه كان نوعا من الحكمة يتميز بطابع أخلاقي؛ فقد اصطبغت محاوراته بالوعظ والمثالية ومخاطبة العاطفة الأخلاقية والمنطق والفطرة السليمة على حد سواء. ولهذا بدا أن تلك المحاورات - من وجهة النظر المجردة وباعتبارها محاولات للوصول إلى منطق خالص - تتضمن فجوات غير معقولة من النوع الذي لاحظه أرسطو.
ولم يقدم سقراط تصورا ملهما عن الحياة المثالية فحسب، بل إن أسلوب حديثه يزاوج بين الوعظ والمنطق، وهو السبب في اعتبار أسلوبه إضافة للفلسفة الجدلية وإثراء لها أكثر من الوعظ الديني؛ فكل ما يقوله يأتي في سياق جدلي حيث تطلب الأسباب وتختبر الاستنتاجات وتنقح التعريفات وتستنبط النتائج وتستبعد الفرضيات. وهذا هو المذهب الوحيد الذي فيه من الجدية ما يكفي للتعامل بإنصاف مع مسألة الحياة السليمة ؛ ولذلك يرى سقراط أن الوعظ المسئول يتعين تضمينه في جدال مدعوم بالبراهين. ولا يمكن للتلخيص المجرد لاستنتاجات سقراط المرحلية كذلك الذي عرضناه هنا أن يبين قوة مزجه بين المثالية والمنطق الواقعي؛ إذ إن هذا التلخيص بالضرورة يجعل أفكاره كسرب من الأسماك التي لفظها البحر على الشاطئ وتعاني للعودة إليه. لقد ترعرعت أفكاره أثناء سبحه في بحر الجدال، ولا يمكن النظر إليها الآن إلا في سياق محاورات أفلاطون الأولى. •••
لم يكن سقراط معلما يسهل اتباعه؛ ومن أهم أسباب ذلك أنه رفض بإصرار أن يكون معلما. ومع ذلك فليس من المدهش أن نجد بعض أصدقائه أرادوا بعد وفاته أن يستكملوا هذا العمل الصالح بشكل ما. وبما أنه كان ولا يزال من الصعب تحديد ما وصل إليه هذا العمل؛ فليس من المدهش أيضا أن نجد خلفاء سقراط المستقبليين وقد انتهى بهم الأمر بتبني قضايا مختلفة. كان أفلاطون أعظم من خلفه. أما البقية فكانوا مجموعة متنوعة، ولكن كان لثلاثة منهم تأثير ملحوظ بشكل أو آخر.
وقد صار اثنان ممن كانوا حاضرين وقت وفاة سقراط - وهم أنتيزينيس الأثيني وإقليدس الميجاري - فيما بعد مؤسسين لمدارس فكرية استمرت آثارها لعدة قرون تالية أو أبوين روحيين لها. ولم تستمر المدرسة التي أنشأها رفيق ثالث لسقراط وهو أرسطيبوس القوريني في ليبيا (حوالي 435-355ق.م.) بالشكل نفسه، ولكن ذلك لم يمثل خسارة كبيرة. وكان ما فعله أرسطيبوس وأتباعه بتعاليم سقراط شيئا من الأهمية بمكان كمثال على أن أتباع سقراط كانوا بسهولة يبالغون فيما تعلموه ويحرفونه.
أرسطيبوس.
لقد تفرغ القورينيون الذين اتبعوا أرسطيبوس للمتعة لكن بطريقة فلسفية غريبة. ففي ظل انبهار أرسطيبوس بالتحكم العقلاني في النفس لدى سقراط حول انضباطه إلى سعي مكرس لإشباع رغباته. وبينما لم يجد سقراط حرجا في الاستمتاع بملذات الحياة - شريطة ألا يتعارض ذلك مع سعيه إلى الفضيلة بالطبع - لم يجد أرسطيبوس داعيا لفعل ما سوى ذلك. وبعد وفاة سقراط أصبح أرسطيبوس مهرجا ملكيا رسميا لديونيسيوس الأول الحاكم المستبد لسرقوسة في صقلية الذي اشتهر بوفاته أثناء شربه الخمر احتفالا بفوزه بجائزة في مسابقة مسرحية.
وقد كان أساس سعي أرسطيبوس نحو المتعة الصاخبة أو ما سواها على ما يبدو صادقا، وكان اتباعا لمذهب سقراط في جزء منه. وكما هو الحال مع معظم أصحاب الفضيلة يحذر سقراط من أن يصبح الإنسان عبدا لرغباته. ويتفق أرسطيبوس مع هذا الكلام، ولكن تفسيره المبتدع له يعني فرض السلطة على هذه الرغبات بجعلها تعمل وقتا إضافيا لحسابه. وقد جعله هذا سعيدا، ولكن ما العيب في السعادة على أية حال؟ ألم يعد سقراط بالسعادة بوصفها حافزا على الفضيلة؟ فلا حرج في ذلك إذن.
لقد قدم سقراط تعريفا مغلوطا عن السعادة بأنها حالة من الإشباع الروحي يسببه العيش النبيل. هنا سعى أرسطيبوس للاختلاف بكل قوته؛ فحسب قوله فإن السعادة التي ينبغي للإنسان أن يسعى إليها هي المتعة الجسدية حيث اعتبر أن هذه المتعة هي المعيار الوحيد الصالح لمعرفة ما هو الصالح وما هو الطالح بشكل عام. ويبدو أنه اعتقد أنه لا يمكن الحصول على معرفة معينة بأي شيء سوى حواس الإنسان نفسه، وهي فكرة فلسفية دافع عنها الكثيرون في ذلك الوقت؛ لذلك فإن الإحساس باللذة - والذي كان بلا ريب شيئا جيدا بطريقة ما حتى إن لم يكن هناك سواه - ربما كان الشيء المنطقي بالنسبة للفيلسوف ليركز عليه في ظل عالم ملتبس.
ولذلك فقد كان السعي وراء الملذات أمرا جادا، وكانت وظيفة الفيلسوف أن يطوع رغباته وظروفه لمضاعفة إحساسه باللذة، وأن ينقل الحكمة من أسلوب العيش هذا إلى الآخرين (الذين وجب عليهم بطبيعة الحال أن يدفعوا مقابلا لتلك النصيحة القيمة). لقد تطلب الأمر ضبط النفس ليتمكن سقراط من إنجاز هذه المهمة بشكل صحيح، أو هكذا ظن أرسطيبوس، وكان من المهم ألا تصرفه مساعي الآخرين التي قد تلهي الإنسان عن المطلب العملي الواضح والوحيد في الحياة وهو المتعة. ولم تكن الرياضيات والعلوم مثلا ذواتي فائدة وكان ينبغي تجاهلهما. وهنا يمكن استرجاع مثال سقراط مرة أخرى بصعوبة. ألم يكن يبحث بلا انقطاع في كيفية الحياة السليمة على حساب كل القضايا الأخرى؟
كان سقراط ليستمتع بتعريف أرسطيبوس والقورينيين الآخرين كيف أنهم مخطئون، وكان ليرغب مثلا في معرفة ماذا حدث للعدالة والفضائل الأخرى التي دعا إليها. كما كان ليرفض كذلك أفكار الكلبيين رغم أنها كانت مثيرة للاهتمام. فعلى غرار القورينيين سرق أنتيزينيس (حوالي 445-360ق.م.) ومن تبعه من الكلبيين بعض الأفكار التي تلقوها من سقراط وأخرجوها من سياقها. وقد وصف أفلاطون ديوجين الكلبي، وهو أحد أتباع أنتيزينيس، بأنه «سقراطي فقد عقله.» ولكن الكلبيين حافظوا على ميراثهم من سقراط بشكل أفضل من أرسطيبوس، وكان مذهبهم بالفعل على النقيض تماما من الانغماس القوريني.
أنتيزينيس.
لقد رأى أنتيزينيس مثل أرسطيبوس أن قوة سقراط العقلية كانت ضرورية للسعي نحو السعادة؛ وهنا ينتهي الاتفاق بينه وبين أرسطيبوس حيث آمن أنتيزينيس أن السعادة لا توجد في إشباع الرغبات كما اعتقد القورينيون بل في فقدانها؛ فقد انبهر أنتيزينيس بعدم اكتراث سقراط بالثروة والنعيم، وحول هذا إلى فلسفة زاهدة ترحب بالفقر، فقد قال سقراط على أية حال إن الرجل الصالح لا يمسه سوء. وقد استنتج أنتيزينيس أنه ما دام الإنسان قد ظل صالحا فلا شيء يهم في الحياة بعد ذلك. ولا ريب أن هذا القول يتجاوز سقراط الذي لم ينكر أبدا أن امتلاك الثروة أو الأملاك إن وضعت في موضعها السليم خير من عدمه، فقد كان عدم اكتراثه الظاهر بهما - بخلاف شرود الذهن - نتيجة ثانوية للسعي الحثيث نحو الفضيلة وسلامة الروح.
وبينما كان سقراط على استعداد لتجاهل العادات والقيم التقليدية إذا تطلبت مبادئه ذلك، بدا أنتيزينيس وكأنه يسعى نحو اللاتقليدية في حد ذاتها، فإذا كان هناك ما ليس بعمل فاضل ولا شرير، فلا فرق إذا قام الإنسان بهذا العمل أو امتنع عنه. ويمكن تصور تلك الفكرة كإرشادات فعالة ليصبح الإنسان غريب الأطوار. فالرجل الحكيم بتحرره من الرغبة في التملك ومن السلوك المألوف، يمكنه أن يسير في الأرض مهاجما عادات المجتمع الحمقاء وأن يميز نفسه عموما. وكان أنتيزينيس يعزي نفسه بمعرفته أن القيم المألوفة لا تساوي شيئا ومختلفة تماما عن القيم الطبيعية للحياة السليمة. ولسوء الحظ لم يتضح قط ما هي القيم الطبيعية وما هي الفضيلة الحقيقية، فأنتيزينيس كان يجيد انتقاد ما لا يدخل في خصائصهما.
نزل ديوجين السينوبي (حوالي 400-325ق.م.) - وسينوب مدينة تقع على البحر الأسود - بأثينا وفتنته أفكار أنتيزينيس، ولكنه رأى أن أنتيزينيس لم يلتزم بالتعاليم التي وضعها بنفسه، ولم يكن ذلك بغريب. وقد أضاف ديوجين الكثير إلى أنتيزينيس بشكل رائع خاصة فيما يتعلق بغرابة الأطوار والعيش غير المألوف حيث ورد في إحدى الروايات المشهورة عن الفلاسفة الأوائل أن ديوجين عاش في حوض خزفي، وورد في رواية أخرى أنه ابتدع بين الكلبيين ممارسة الاستمناء باليد على الملأ. وسواء صح ذلك أم لا، تشير نتيجة تلك الروايات عن كلماته وأفعاله الحمقاء إلى الانطباع المربك الذي خلفه. وقد كان يستمتع بلقب «الكلب» وهو السبب في تسمية الكلبيين بهذا الاسم. لقد أطلق عليه هذا اللقب لأنه أراد حياة بسيطة فطرية وقحة كالحيوانات؛ لأنها الممثل بحق للقيم «الطبيعية.» لقد كان سليط اللسان وكان سريع الهجوم على من يختلف معهم، وهو الأمر الذي ربما ساهم في إطلاق هذا اللقب عليه. وقد كان معاديا لأفلاطون بالتحديد، وكان يحب تدبير المقالب الفكاهية له. وفي إحدى محاضرات أفلاطون لوح بدجاجة نتف ريشها ليقاطع باحتقار كلامه أثناء تقديمه لتعريف ما، وهو محاكاة دنيئة لحكمة سقراط «المفعمة بالمزاح».
ولم يكن زهد ديوجين المزعج في الحياة التقليدية كافيا ليكون هذا «السقراطي الذي فقد عقله» ناسكا زاهدا؛ فلم يكن يملك الوقت الكافي لذلك. لقد كان هناك أناس يجب إقناعهم وأمثلة يجب وضعها ووعظ يجب تقديمه ونصائح عملية يجب إسداؤها. ويبدو أن أنشطة ديوجين أكسبته شهرة واسعة. وقد قيل إن سكان أثينا تعاونوا فيما بينهم واشتروا حوضا جديدا له عندما انكسر حوضه. ويبدو أن صدقه وبساطة حياته قد حازا الإعجاب من بعيد، رغم أن تعاليمه كانت أكثر تشددا من أن تجذب أكثر من شرذمة قليلين من التابعين المخلصين أو أن يكون لها أي تأثير سياسي مباشر. لقد درس أن السعادة تكمن في إشباع الحاجات الأساسية فقط وفي ضبط النفس لكيلا ترغب في المزيد، ونبذ ما وراء ذلك مثل المال والرفاهية والحياة الأسرية التقليدية؛ لأنها لا تجعل الإنسان أفضل من الناحية الأخلاقية. كما كان ينبغي نبذ زخارف الحضارة المقيدة في المدينة من تحريم نكاح المحارم أو أكل لحم البشر وصولا إلى الزواج، إضافة إلى قيود المكانة الاجتماعية والدين التقليدي للسبب ذاته. أما المجتمع المثالي فهو المجتمع الحر الذي تعيش فيه كائنات تغلف البساطة حياتها، وتحقق اكتفاءها بنفسها، وتعمل عقلها في كل شيء، وتقيم كل أنواع العلاقات التي يوافق عليها جميع أطرافها دون التقيد بالمحظورات التقليدية.
كان الهدف من كثير مما قاله ديوجين أن يصدم الناس، فربما لم يعتد دائما انتهاك جل المحرمات التي أدانها، ولكنه أراد أن يحرك الناس ليختبروا حياتهم. وبمرور الزمن وبخاصة في القرنين الأولين من العهد المسيحي، جذبت الكلبية كل أنواع الشباب المتمرد ومحبي الحرية والمتسولين الرحالة، الذين كانوا مهتمين باستنكار كل شيء والسخرية من المجتمع أكثر من اهتمامهم بالفلسفة أو بالعمل الصالح. وقد أدى وجود هذا النوع من البشر بجانب الأدب الساخر والمتهكم الذي تأثر بهذا التيار إلى ظهور المصطلح الحديث «الكلبي». ولكن الكلبيين الأوائل رغم أنهم كانوا بوهيميين فقد رأوا أنهم معلمون للأخلاق، ويبدو أنهم يقدمون خدمات جليلة للبشرية؛ فقد تنازل قراطيس الطيبي (حوالي 365-285ق.م.) - على سبيل المثال - عن ثروته الكبيرة ليكون تلميذا لديوجين. وكان يتجول بين المنازل على أنه معالج أو قس ليقدم خدمات الإرشاد الأخلاقي التي لم تكن متوافرة للعامة من أية مصادر أخرى، وبخاصة مدارس البحث الفلسفي الصورية التي أسسها أفلاطون وأرسطو. وقد كانت هيباركيا أخت أحد تلاميذ قراطيس الطيبي تتوق إلى مشاركة قراطيس الطيبي في حياته غير التقليدية، ولكن كان عليها أن تهدد أبويها الثريين بالانتحار قبل أن يوافقا في النهاية على ما تريد، «فكانت تتجول رفقة زوجها ويمارسان الجنس على الملأ ويخرجان لتناول العشاء.»
كان إقليدس - آخر أتباع سقراط الذين سنتناولهم في هذا الفصل - مخلصا لأستاذه؛ لدرجة أنه قيل عنه إنه تنكر في شكل امرأة عندما منعت أثينا دخول أهل ميجارا إليها، وتسلل إلى المدينة في جنح الظلام ليصل إلى سقراط. ولم يشترك إقليدس مع سقراط في الاهتمام بحسن الأخلاق فحسب، بل بشغفه بالمجادلة أيضا. وبينما بدا سقراط مستعدا لاتباع أية سلسلة منطقية واعدة مهما كانت نتيجتها، اهتم إقليدس بالمجادلات المنطقية في حد ذاتها وبخاصة المتناقضة منها. وقد تحدث أحد الخصوم عن «إقليدس المجادل الذي ألهم أهل ميجارا حب المجادلة المستعر.»
وسواء أكان هذا الحب مستعرا أم لا، فقد أدى الفضول العقلي لأهل ميجارا إلى تقديمهم بعض أقوى الألغاز في المنطق واللغة. وقد نسب إلى يوبولايدس - وهو أحد تلاميذ إقليدس - العديد من تلك الألغاز، بما فيها أشهر الألغاز والمعروف ب «الكاذب»، وهو مفارقة جاءت في قول أحدهم: «هذه الجملة خاطئة.» وتكمن المشكلة في الحكم على جملة كهذه، فالحجج التي تتحدث عن صدقها تدور في دائرة مفرغة. فإن كانت الجملة خاطئة مثلا فقد أصاب المتحدث لأنها كانت مثلما قال، أما إذا كان صادقا فهذا يعني أن الجملة خاطئة لأنه حكم عليها بعدم الصدق، وهذا يستتبع أنه إذا كانت الجملة خاطئة فهذا يعني أنها صحيحة وإذا كانت صحيحة فهذا يعني أنها خاطئة. إن السخرية من هذا اللغز أسهل من حله إذ يقدر على الوقوف في وجه أي حل مقترح؛ ولذلك قد يشفق المرء على الشاعر فيليتاس الكوسي الذي يقال إنه انشغل بهذا اللغز بشدة حتى ساء حاله فأصبح نحيفا جدا حتى إنه وضع ثقلا من الرصاص في حذائه كي لا يكون في مهب الريح. وقد كانت المرثية على شاهد قبره كما يلي:
غريب أنا فيليتاس الكوسي،
ذاك «الكاذب» هو من قضى علي،
وسبب لي تلك الليالي الكئيبة.
من الصعب الاعتقاد بأن هذا اللغز عميق، ولكن كانت هناك محاولات لفهمه فهما عميقا. لقد أفرز لغز «الكاذب» قدرا كبيرا من البحث في طبيعة الحقيقة والمعنى اللغوي عن طريق علماء المنطق الرياضيين واللغويين الذين يتعاملون مع البنية الشكلية للغات المختلفة، ولكن يبدو أن ذلك لم يسبب أية خسائر أخرى. وكانت إحدى النتائج الثانوية للاهتمام بنوع الجمل ذات «المرجعية الذاتية» الموجودة في هذا اللغز - الجملة المتناقضة التي تتحدث عن نفسها - هي نظرية جودل، وهي إحدى أهم نتائج الرياضيات الحديثة التي تقول إن هناك حدودا معينة للبراهين الرياضية.
لقد حول تلاميذ إقليدس وأتباعه ميجارا إلى نسخة حية من «مصنع المنطق» المبالغ فيه بشكل هزلي، والمذكور في مسرحية أرسطوفان عن سقراط. وحقيقة أن عملهم بالنسبة للمتشككين لم يكن إلا «جدالا» من أجل الجدال - وقد كان بعضه كذلك بلا شك - تعيد إلى الأذهان كيف استقبل بعض مواطني أثينا ذوي القدرات العقلية الأقل محاورات سقراط المتواصلة عن الفضيلة. وكان أحد الأسباب وراء اعتقاد إقليدس أنها مهمته بوصفه فيلسوفا أن يستمر في الحديث عن حسن الخلق وأن يشترك في طرح الأسئلة المنطقية المبهمة؛ هو إعجابه برأي سقراط القائل إن المعرفة هي طريق الفضيلة. وربما لم يتناول سقراط نفسه المنطق ولكن إقليدس شعر أن هذا إحدى وسائل البحث عن الحكمة وبخاصة إذا فهم المرء عملية المجادلة؛ فمن المفترض أن يساعد ذلك في متابعة الاستجوابات السقراطية الفعالة. •••
لقد اجتمعت المدارس الفلسفية التي انحدرت من سقراط على فكرة أن الحكمة تؤدي إلى الفضيلة وأن الفضيلة تؤدي إلى السعادة. ومن الواضح أنهم اختلفوا في تفسير ما تعنيه السعادة (فكانت الانغماس في المتعة بالنسبة للقورينيين، والانضباط الزاهد بالنسبة للكلبيين)، ولكنهم اتفقوا على أن التفكير الفلسفي نوعا ما هو الطريق إليها، وأن الاشتغال به يؤدي إلى الحياة الصالحة. وقد كانت جل الآراء الأخلاقية لهؤلاء الفلاسفة ذات طابع يؤمن بالفردية نسبيا (شديد الفردية في حالة ديوجين)، ويمكن معرفة كيف أدت حياة سقراط غير المعتادة إلى هذا. ولكن في حالة الكلبيين على الأقل كان هناك اختلاف واضح مع سقراط حول روابط الالتزام الاجتماعي والإخلاص لقيم المدينة. لقد أكد الكلبيون على التناقض بين الحياة الفاضلة وبين حياة المدينة التي يولد الفرد أو يعيش فيها. وقد فعل سقراط ذلك أيضا من منظور معين لكنه لم يفعل ذلك من منظور آخر؛ فقد كان يقبل بالتأكيد أن الفرد يجب عليه أن يتبع ضميره وليس ما تمليه عليه المدينة حينما يتعارض ما تفرضه المدينة مع العدل، ولكنه سعى إلى تحسين الحياة في المدينة بدلا من هجرها بالكلية؛ فحث أهل أثينا على أن يعيشوا معا في ظل العدل وأن يحسنوا قوانينهم وسلوكياتهم عند الضرورة، لا أن يتخلوا عن مشروع الحضارة بكامله ويفقدوا احترامهم للقانون.
لقد أوضح سقراط أنه رغم وجوب عصيان القوانين إذا كانت ظالمة، فإنه يجب الخضوع للعقاب عند الوقوع تحت طائلتها، وهو ما فعله بالضبط عندما أدين رغم أن بعض أصدقائه قد وفروا له فرصة للهروب من السجن ومغادرة أثينا قبل إعدامه. وقد تناولت إحدى محاورات أفلاطون الأولى وتدعى «الكريتو» هذه الحادثة وعرضت أسباب رفض سقراط الهرب. وإضافة إلى إحساسه بالالتزام الأخلاقي تجاه السلطة الشرعية في المدينة وتجاه الإجراءات القانونية السليمة؛ فقد أحب سقراط أثينا ولم يرغب في العيش بمكان آخر. وتوضح بعض الأشياء التي نقلها أفلاطون على لسانه في محاوراته أن سقراط كانت لديه شكوك في الديمقراطية بوصفها صورة من صور الحكم، وهو ما أدى إلى وصفه أحيانا بعدو الديمقراطية. ولكن في الحقيقة كانت هذه شكوك أفلاطون، تماما كما شك في النهاية في كل أشكال الحكومة التي مر بها. لقد أظهر سقراط كل مظاهر الولاء والطاعة لدستور أثينا، ولطالما أشاد بالمدينة وبمؤسساتها، ويبدو أنه لم يغادرها قط إلا أثناء الخدمة العسكرية. أما بخصوص ما إذا كان مؤيدا لطريقتها في الديمقراطية فقد أكد سقراط على ذلك حين رفض الهرب منها. لقد كان ثمة العديد من الدول الأخرى غير الديمقراطية التي كان يمكنه الهجرة إليها. وربما كان من المحرج لخصومه في ذلك الوقت الذين ودوا أن يبعدوه بوصفه عدوا للديمقراطية أنه خاطر بحياته في ظل حكم الطغاة المعادين للديمقراطية برفضه الاشتراك في القبض على رجل بريء.
كان سقراط أكثر ديمقراطية مما يتحمله أهل أثينا. وقد كان هذا الجانب في شخصيته وفي تدريسه السبب في الفردية المفرطة لبعض من مقلديه. ومن الممكن القول إن موقفه تجاه الدين والأخلاق موقف ديمقراطي متشدد؛ فلا شيء مسلم به خاصة إن لم تفرضه سلطة ما تعتبر نفسها فوق المنطق الأخلاقي للناس، سواء أكانت سلطة افتراضية في صورة زيوس أو طاغية من طغاة البشر. وعلى كل إنسان أن يعرف بنفسه الصواب من الخطأ والصالح من الطالح، ولا محيص لأي إنسان من اختبار نفسه وحياته. ويجب أن تكون النتيجة المثالية لمثل هذه المناقشات بين المواطنين مجتمعا عادلا بقوانين عادلة يتوصل الإنسان إليها من خلال الاختبار الجماعي للنفس. وفي حلم سقراط الديمقراطي تؤدي القناعة الفردية إلى التوافق الجماعي، ليس في كل شيء بالطبع، ولكن على الأقل في الخطوط العريضة لكيفية العيش السليم.
لم يكن سقراط سياسيا؛ فقد رأى أنه لا يمكنه أداء دوره إلا عن طريق مجادلة الأفراد فردا فردا أو في جماعات صغيرة، وعن ذلك يقول: «أعرف كيف أصنع شاهدا واحدا على حقيقة ما أقول، وهو الرجل الذي أجادله، أما الآخرون فأتجاهلهم. كما أعرف كيف أحصل على تأييد رجل واحد ولكن في الجماعة لا أدخل حتى في المناقشة.» وعلى مر العصور أخذ تأييد سقراط يتزايد نتيجة احتفاظ محاورات أفلاطون بمجادلاته أو بمثال لها بعد أفول نجم أثينا وولائم العشاء فيها في القرن الخامس قبل الميلاد. وثمة شيء واحد قاله سقراط للقضاة في محاكمته يندر أن نجد في وقتنا الحاضر من يختلف معه وهو: «إذا حكمتم علي بالموت فلن تجدوا من يحل محلي بسهولة.»
الفصل الحادي عشر
جمهورية المنطق: أفلاطون
يحاول أفلاطون في منتصف رائعته «الجمهورية» وضع تعريف للفلسفة بشرح أصل كلمة «فيلوسوفيا» التي تعني «حب الحكمة»، لكن تعريفا كهذا يشوبه الغموض. لذا كان أول تعديل مطروح عليه هو الدفع بأن الفيلسوف هو ذلك الشخص الذي يحب صنوف الحكمة كلها لا بعضها. فهو «لا يجد غضاضة في الاطلاع على كل المعارف ويتصدى لمهمته بسرور ولا يملها.» لكن هذا التعريف لا يزال على قدر غير كاف من الدقة؛ لأنه يشمل أولئك الذين لا يحسنون تمييز الأشياء «ويرغبون فقط في خوض تجارب جديدة.» ويشمل هذا التعريف - على سبيل المثال - من «يتكالبون على احتفالات ديونيسيوس ولا يفوتون أحدها سواء أكانت في الحضر أو في الريف. فهل علينا إذن أن نصف هؤلاء وأمثالهم وكل المهتمين بالفنون الدنيا بأنهم فلاسفة؟» وهنا ترد شخصية سقراط - التي تنطق بلسان أفلاطون في تلك المحاورة - بالنفي. ورغم أن محبي الفنون البصرية والسمعية يشابهون الفلاسفة في بعض الأوجه؛ فالفلاسفة الحقيقيون هم من «افتتنوا بمشهد الحقيقة في ذاتها.» وهذا يعني أنهم لا يهتمون بالأشياء الحقيقية والجميلة فحسب، بل بالحقيقة والجمال في ذاتهما. ولتوضيح هذه الفكرة يقدم أفلاطون شرحا لنظريته عن المثل التي تقودنا إلى لب الأفلاطونية.
إن محبي الفنون البصرية والسمعية «تسرهم النغمات والألوان والأشكال الجميلة وكل صنوف الإبداع الفني، ولكن فكرهم لا يستطيع الاستمتاع بالجمال ذاته.» وأمثال هؤلاء - شأنهم في ذلك شأن السواد الأعظم من الناس - «يؤمنون بالأشياء الجميلة ولكن لا يؤمنون بالجمال في حد ذاته، ولا يمكنهم فهم من يحاول إرشادهم إلى معرفته.» ويقول أفلاطون إن غير الفلاسفة يعيشون في حالة أشبه بالحلم لأنهم يخلطون بين الأشباح المتحركة (أي الأشياء الجميلة) وبين الواقع (وهو الجمال عينه). والفلاسفة الحقيقيون هم من أفاقوا من هذا الحلم؛ فهم يدركون أن ثمة عالما مثاليا قوامه المثل تأتي منه النسخ غير المثالية أو الصور غير الأصيلة التي تتمثل أمامنا بعيدا عن العالم المادي وآرائنا الذاتية، ووظيفة الفيلسوف الحقيقي أن يستعمل البحث العقلي لفهم هذه الحقائق السامية والتركيز على المهم منها.
وأينما صادفت مصطلح «الأفلاطونية»، فغالبا ما يشار إلى مثل هذه الصورة عن الحقيقة السامية للوجود المادي. فعلى سبيل المثال، عندما يحاول علماء الرياضيات في زمننا الراهن وصف طبيعة الأشياء الرياضية (مثل الأعداد) أو بيان الحقائق الرياضية، فهم يستعينون بأفكار أفلاطون؛ ولذلك كتب روجر بنروز يقول:
أتصور أنه عندما يدرك العقل فكرة رياضية ما؛ فإنه يتصل بعالم المفاهيم الرياضية لدى أفلاطون. (ولنتذكر أنه طبقا للمنظور الأفلاطوني، فإن الأفكار الرياضية قائمة بذاتها، وموجودة في عالم أفلاطوني مثالي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق العقل.) وعندما «يدرك» أحدهم حقيقة رياضية ما ؛ فإن وعيه يدخل عالم الأفكار ويتصل به اتصالا مباشرا.
وبما أن بنروز يؤمن أن الحقائق الرياضية توجد في عالم أفلاطوني، وأن الرياضيات هي أساس كل المعرفة العلمية؛ فإنه يرى أن «طبيعة العالم الخارجي الفعلي لا يمكن في النهاية فهمها إلا عن طريق ... عالم أفلاطون المثالي الذي «يمكن الوصول إليه عن طريق العقل».»
ويرى كثير من الرياضيين المعاصرين أن ثمة مبالغة عظيمة في ذلك، ولكن في الوقت نفسه يدرك العديد منهم أن بعض أوجه الأفلاطونية تتمتع بقسط من الأهمية عند شرح معرفتنا بالرياضيات. وبالنسبة للتفكير المعاصر تحظى الأفلاطونية بقبول واسع عند تطبيقها على الرياضيات مقارنة بما سواها من مجالات. فالإيمان بالوجود المجرد للرقم ستة في «عالم أفلاطوني مثالي يمكن الوصول إليه عن طريق العقل» يختلف تماما عن الإيمان بالوجود المجرد للجمال السماوي. فإن اتبعنا ما قاله أفلاطون وسلمنا بوجود مثال للرقم ستة ومثال للمثلث متساوي الأضلاع، يصبح من الغريب أن نتصور أيضا وجود مثال للجمال ومثال للعدل، ومثال للطاولة، وآخر للكرسي، وربما مثال لخنازير غينيا أيضا. وإن كانت نظرية المثل الغريبة هذه هي الإجابة عن سؤال ما، فما هو ذاك السؤال يا ترى؟
لقد نشأت هذه النظرية لتلبية عدد من الحاجات، ولم يكن هناك سؤال محدد تسعى للإجابة عنه. ويبدو أنها خضعت للعديد من التغييرات طوال مشوار أفلاطون الفكري، ويعتقد البعض أنه تخلى عنها في النهاية. وتناقش أعماله الأخيرة ما ووجهت به هذه النظرية من اعتراضات، رغم أنه من غير الواضح مدى قدرة أفلاطون على الرد على تلك الاعتراضات، ولكن الفكرة الرئيسة ثابتة إلى حد كبير. ولقد تطرقنا لبعض الأمور التي قادته إلى وضع تلك النظرية من خلال تناولنا للمفكرين السابقين عليه، ومن خلال ما رأيناه من اهتمام أفلاطون بالرياضيات. ولعل رغبة أفلاطون في التوصل إلى مستوى عميق من الحقيقة الراسخة التي يمكن إدراكها بالتفكير العقلي تعكس انجذابه لأفكار بارمنيدس؛ إذ أمدته هذه الأفكار بإطار مناسب - فضلا عن أشياء أخرى - لمعتقداته الأورفية والفيثاغورية حول تطهير الروح عن طريق التأمل العقلي في حقيقة ما وراء العالم المادي الأدنى قيمة. فمن خلال أفكار هرقليطس - أو مما ذكره صديقه قراطيلوس عن هرقليطس - أتاه الباعث على التفكير بأن التغيرات المستمرة في العالم المادي تشكل عقبة في طريق المعرفة لا يمكن تجاوزها إلا بالاعتماد على شيء ثابت على غرار المثل. ويرى أفلاطون أن بدون المثل سيكون العالم على درجة من الفوضى يصعب معها فهمه. كما استقى أفلاطون بعض أفكاره من سقراط وبحثه عن تعريفات للمفاهيم الأخلاقية، حيث قال إن ثمة حقائق مجردة عن الأخلاق ينبغي للفلاسفة أن يجتهدوا في التوصل إليها وإماطة اللثام عنها؛ فقد جعل أفلاطون سقراط ينطق بأن «الأشياء لا تتفاوت بتفاوت الأشخاص» بل يجب أن يكون لها «جوهرها المناسب الثابت؛ فهي لا ترتبط بنا ولا تأثير لنا عليها، ولا تتغير تبعا لخيالنا ولكنها مستقلة.» وبعبارة أخرى: فإن تلك المثل تضع معايير ثابتة من جهة وتبين خطأ «نسبية» السفسطائيين من جهة أخرى.
ويتحدث أفلاطون بلغة تذكرنا ببارمنيدس في فقرة من محاورته «المأدبة» التي كانت على الأرجح أولى محاوراته التي تتناول المثل. وتأتي المحاورة في سياق مناقشة تجري بعد العشاء بين عدد من الأصدقاء بمن فيهم سقراط يتبادلون خلالها الأدوار في الحديث عن طبيعة الحب. وكان لب الحديث هو ما قاله سقراط عن الحب، وما ذكر أنه سمعه من كاهنة تدعى ديوتيما، التي يقول إنها علمته كل شيء يعرفه عن الحب. حاولت ديوتيما أن تبين أن السعي إلى الحب يجب أن يكون على عدة مراحل، يمكن اعتبار أن كل مرحلة منها تؤدي لتلك التي تليها حتى نصل إلى مرحلة تذوق الجمال ذاته.
يبدأ الأمر (كما ينقل سقراط عنها) بالإعجاب بجسد شخص بعينه. ونظرا لمواطن التشابه بين هذا الجسد وأجساد المتصفين بالجمال عموما، يجب على المحب أن «يجعل من نفسه محبا لكل جسد جميل، وأن يضبط عاطفته تجاه ذاك الجسد، وأن يعتبره غير ذي أهمية.» أما المرحلة التالية فهي إدراك أن «جمال الجسد لا يقارن بجمال الروح» بحيث يبدأ المحب بالتعلق بالأرواح أو الشخصيات الجميلة حتى وإن سكنت أجسادا قبيحة. وهذا النوع من الحب العفيف - الذي يطلق عليه أحيانا «الحب الأفلاطوني» في زماننا - «سيحفز في قلب المحب الميل إلى نوع من الخطاب يسعى من خلاله لخلق طبيعة نبيلة. ومن هنا يتجه إلى التأمل في جمال القوانين والمؤسسات.» وبعد ذلك يجب أن يركز المحب على العلوم بهدف الوصول إلى معرفة «الجمال الكامن في جميع أنواع المعرفة.» وخلال فترة وجيزة سيبدأ في فهم صورة بارمنيدس الكاملة عن الجمال ذاته حيث يقول:
والآن يا سقراط يلهم المحب رؤية روح الجمال ذاته الذي طالما اشتاق إليه. إنه جمال سرمدي لا يأتي ولا يذهب ولا يتفتح ولا يذبل؛ لأنه ثابت لكل شخص في كل زمان وفي كل مكان ومن كل طريق، وهو يتجلى لكل المتيمين على حد سواء بالصورة ذاتها.
ولن يتخذ هذا الجمال صورة الوجه أو الأيدي أو أي شيء مادي يدخل اللحم فيه، ولن يكون في هيئة كلمات أو معارف أو ما دون ذلك من أشياء توجد داخل كيان آخر مثل الكائن الحي أو الأرض أو السموات أو أي شيء خلا ما تمتع بصفة الوحدانية الأبدية؛ حيث يستقي منه كل ما هو جميل، ومهما زادت تلك الأشياء أو نقصت فلن يتغير ذلك المثال أو يتأثر بل سيبقى كلا لا يتجزأ.
لطالما استعان الأدب الغربي بتصور ديوتيما عن تسامي المحب إلى الجمال؛ فقد استعاره الفلاسفة الروحانيون والكتاب المسيحيون الأوائل مثل أوريجن والقديس أوجستين وعدد لا يحصى من شعراء الحب. ولعل ما اتصف به مثال الجمال من أبدية وسرمدية لا تتغير بتغير الزمان أو المكان يبين أن مثل أفلاطون مماثلة لفكرة الواحد لدى بارمنيدس، ولكنها ولدت من جديد وتضاعفت واقترنت بالعالم المادي. وبينما لم يكن هناك بالطبع إلا «واحد» أوحد لدى بارمنيدس، كان لدى أفلاطون مثل مختلفة لكل مصطلح أو مفهوم عام وليس «الجمال» وحده. وبينما كان العالم المادي المتغير مجرد وهم كما اعتبره بارمنيدس، كان هذا العالم بالنسبة لأفلاطون حقيقيا رغم دونيته من جوانب عدة.
يحمل العالم المادي دلائل على المثل السامية، وكل شيء في هذا العالم يشبه «المثال» الذي يحاكيه؛ فالرجل الصالح مثلا «يشبه» مثال الخير ومثال الرجل. وإن هذه العلاقة بين الأشياء المادية والمثل كما يرى أفلاطون هي ما يمنع العالم من أن يكون خليطا فوضويا، بل يجعله تركيبا مفهوما. وهذا يذكرنا بالنهر في مقولة هرقليطس الشهيرة: إذا كان النهر متغيرا دوما فكيف نتحدث عن نهر واحد بعينه، وكيف يمكننا معرفة أي حقيقة عنه؟ ولو أن كل شيء في العالم المادي في حالة متغيرة كما ادعى أفلاطون فكيف يمكننا التعرف على ماهية الأشياء؟ لقد تعرض أفلاطون لصدمة شديدة من أمواج هرقليطس الباردة المضطربة، ففر إلى شواطئ «المثل» الآمنة المستقرة؛ فقد رأى أن المعرفة الأصيلة لا يمكن الحصول عليها إلا مما هو ثابت حتى يتسنى لنا دراسته، والمثل هي الشيء الوحيد الذي يتصف بهذا الثبات.
ويزود الإدراك والمنطق السليم أصحابهما بمحض «آراء» قد تكون خاطئة؛ ذلك أن المرء يجب أن ينظر إلى المثل أيضا في بحثه عن المعرفة الأصيلة المؤكدة. ولكن كيف يمكن للإنسان القيام بذلك؟ إن ذلك يكون بالاستعانة بملكة العقل التي تكمل ما تعرضه الحواس. ومن الناحية العملية فإن ذلك أمر لا يشوبه غموض كما قد توحي الصورة الروحانية لديوتيما؛ فكل البشر يمكنهم القيام بذلك بدرجات متفاوتة فيما يتعلق ببعض المثل على الأقل، فأي رجل في الشارع أو على ضفة نهر قد يمتلك معرفة جيدة عن الأنهار لدرجة أنه قد يصيب في بيان ماهية النهر؛ أي إن بوسعه أن يقدم وصفا عاما لما تشترك فيه الأنهار جميعا، وهو بذلك لديه معرفة بمثال النهر. ومع ذلك فإن الكثير من المثل الأخرى تبدو أكثر تعقيدا وصعوبة كمثل العدالة والخير والجمال. ويتطلب إيجاد وصف صحيح لها أن تعمل ملكة العقل بلا توقف؛ فالمعرفة السليمة بهذه المثل لا يمكن الحصول عليها إلا بالحجاج؛ أي الجدال التعاوني المنطقي لتناول الأفكار وما تعلمه الإنسان بالملاحظة. وقد وصف أفلاطون عملية الحجاج ذات مرة بأنها تجري «عندما تقارن التعريفات والمشاهدات والانطباعات الحسية ببعضها ويفحصها القائمون على توظيف صيغ السؤال والجواب دون منافسة يحركها الحقد؛ فحينئذ ينشأ الفهم.» وعندما كان سقراط يصارع من أجل صياغة التعريفات كان بالتبعية، كما قال لأفلاطون، يبحث عن مثال لما يحاول تعريفه. (وكما رأينا في الفصل السابق اعتقد أفلاطون أن الناس يعرفون المثل قبل مولدهم، ولكن لأنهم ينسون كل شيء عندما يولدون يجب استخراج معرفتهم مرة أخرى باستخدام وسائل سقراط الحجاجية.)
ولمعرفة كيف يميط الحجاج اللثام عن المثل، نتناول أحد اختبارات سقراط النموذجية التي أجراها للتوصل لمعرفة مثال العدالة، التي تتجاوز في لغة أفلاطون المفاهيم القانونية الحديثة، حيث تعني بالنسبة له «فعل الشيء الصحيح». ويتناول سقراط فكرة مفادها أن رد الأمانة إلى أهلها نموذج للعدالة، وهذا مثال مباشر. ولكن يتساءل سقراط: ماذا إذا استودعك أحدهم سلاحا وتملكه الغضب في وقت لاحق، هل تعيده إليه؟ لا؛ لأنه من المحتمل أن يفقد صوابه ويؤذي الآخرين. ولذلك يكون رد الأمانات إلى أهلها فعلا سليما أحيانا، بينما يكون غير ذلك في أحيان أخرى. وهذا التنوع هو مثال على التقلب الذي تحدث عنه هرقليطس، وهو ما يجعل الإشارة إلى المثل الثابتة ضروريا بالنسبة لأفلاطون. فلا يمكن أن تتغير طبيعة العدالة من لحظة لأخرى بهذا الشكل؛ ولذلك لا يمكن أن يكون «رد الأمانات إلى أهلها» شكلا من أشكال العدالة. لذلك يتعين على سقراط أن يستمر في البحث حتى يصل إلى الشيء الصحيح على الدوام، ولا تقتصر صحته على حالات دون أخرى، وعندما يعثر عليه سيكون هذا هو المثال الثابت للعدالة.
هذا المقتطف من إحدى المجادلات التي جاءت في كتاب «الجمهورية» هو نموذج لمناقشة مطولة بشأن العدالة. فعندما نرى تطبيق نظرية المثل بهذا الشكل فإنها تفقد كثيرا من تأثيراتها الروحية. ولا يتطلب إدراك أحد المثل أكثر من مجرد البحث في مفهوم بعينه. وهذا بالفعل ما يئول الأمر إليه عندما يبحث أفلاطون في هذا المثال بدلا من الحديث عنه.
وسنقدم باختصار بيانا بالمناقشات والاستنتاجات المحورية الواردة في كتاب «الجمهورية». فقد استخدم أفلاطون هذه المحاورة ليؤكد على أفكار سقراط حول ما ينعم به الشخص العادل من سعادة، وما يحل بالظالم من شقاء. وتهدف المحاورة إلى سد بعض الفجوات في الموضوعات التي طرحها سقراط نفسه، وأن ترسم صورة لعلم النفس الإنساني وللمدينة الفاضلة التي تعد أشهر إبداعات أفلاطون (رغم أنه ما من أحد في زمننا هذا يرغب في العيش فيها). وبعد ذلك سنتناول محاورة أفلاطون «طيمايوس» التي تتضمن نظريته عن علم الكونيات. وقد ظلت هذه المحاورة عمليا بمثابة نص مقدس في العلوم الطبيعية لعدة قرون. وتقدم كلتا المحاورتين «الجمهورية» و«طيمايوس» حلول أفلاطون للمشكلة التي عرضها السفسطائيون حول العلاقة بين الإنسان بقوانينه وتقاليده التي تبدو تعسفية ومستبدة من جهة، وبين عالم الطبيعة الثابتة والمجردة من جهة أخرى. ولكن حري بنا في البداية أن نلقي نظرة سريعة على حياة أفلاطون لنستنتج بعض الأشياء عن طبيعته وشخصيته. •••
أفلاطون.
انحدر أفلاطون من عائلة ثرية مترابطة، يصل نسب والده إلى آخر ملوك أثينا، وهو قد بلغ بذلك أقصى درجات النبل (إلا إذا كان ذلك الملك تحديدا غير موجود من الأساس). ونظرا لكونه تلميذا نجيبا ينتمي إلى وسط كهذا؛ فقد كان من الطبيعي أن يعلق آماله على العمل بالسياسة، ولكن سرعان ما خاب أمله، ليس لأنه لم يكن على المستوى المتوقع بل لأن السياسة هي التي كانت كذلك. وعندما كتب عن السياسة لاحقا بعدما اهتز لأفكار سقراط المثالية، يقول أفلاطون إنه «انسحب في اشمئزاز من مفاسد ذلك الزمان.» وبعد عدة أعوام من ذلك الانفصال المبكر بينه وبين السياسة، سنحت له فرصة ليطبق أفكاره السياسية في إمبراطورية سيراقوسا، لكن الفرصة لم تدم طويلا. وقد اعتبر أفلاطون نفسه محظوظا فيما بعد لتمكنه من النجاة من هذه المرحلة المأساوية الهزلية من حياته. وربما وجد عزاءه الوحيد في أن الأكاديمية التي كان قد أنشأها في أثينا قبل أعوام والتي تفرغ لها في ذلك الوقت استمرت حوالي 900 عام.
وكانت فرصة أفلاطون الأولى لدخول مجال العمل السياسي في زمن الطغاة الثلاثين الذين تولوا مقاليد الحكم لفترة قصيرة بعد هزيمة أثينا في الحرب البلوبونيزية حيث كان اثنان من أقاربه أعضاء في تلك الحكومة البغيضة، وعرضا عليه العمل معهما. وقد كان أفلاطون طموحا وكان لا يزال في العشرينيات من عمره ولكنه أدرك بوضوح حقيقة الطغاة ورفض العرض. ورأى أفلاطون أن خطيئتهم الكبرى كانت محاولتهم إشراك سقراط «أعدل أهل زمانه» في أعمالهم. ويبدو أن الأمور تحسنت في أثينا لبعض الوقت بعد عودة الديمقراطية؛ مما جعل أفلاطون يعتقد في البداية أن وقته قد حان، ولكن تملكه الفزع حين تسبب «بعض من كانوا في السلطة» في محاكمة سقراط وإعدامه، فكان هذا درسا قاسيا لما يمكن أن يحدث في ظل الديمقراطية؛ مما أحدث أثرا سلبيا في الآراء السياسية لأفلاطون لم يتحرر منه قط.
لقد تحطمت آماله في الحياة العامة في أثينا وكل من انتظار اللحظة المناسبة لتكوين حكومة أفضل، وعن ذلك يقول:
أدركت أخيرا أن أنظمة الحكم في كل الدول دون استثناء سيئة؛ ولذلك فأنا مجبر على القول إن الجنس البشري لن يعيش أياما أفضل إلى أن يتولى السلطة السياسية من يتبعون الفلسفة حقا وصدقا، أو حين تحيل العناية الإلهية من بيدهم السلطة السياسية إلى فلاسفة حقيقيين.
كان أفلاطون في الثامنة والعشرين من عمره حين أعدم سقراط «الفيلسوف حقا وصدقا» عام 399 قبل الميلاد، وارتحل إلى أماكن عديدة في الأعوام القليلة التالية، وكان معظم هذه الرحلات لزيارة الفلاسفة والرياضيين الآخرين. في البداية رحل إلى ميجارا ليبقى مع إقليدس، وهو أحد أتباع سقراط وشارك أفلاطون اهتمامه ببارمنيدس، بل ربما يكون هو من غرس فيه ذاك الاهتمام. وكان فلاسفة ميجارا كما رأينا في الفصل السابق مهتمين بالغ الاهتمام بالخير وماهيته. وعلى النقيض كان الكثير ممن قابلهم أفلاطون في رحلاته التالية إلى إيطاليا وصقلية مهتمين في الأساس بقضاء وقت ممتع حيث يقول:
وجدت نفسي أختلف بشدة مع نمط الحياة التي توصف «بالسعيدة»؛ فهي مجرد حياة مليئة بالولائم الإيطالية والسيراقوسية، يقوم فيها كل شخص بملء بطنه مرتين كل يوم ولا يرقد في فراشه وحيدا أبدا، وينغمس في كل الممارسات الحسية المرتبطة بأسلوب الحياة هذا. وفي مثل هذه البيئة لا يمكن لأي إنسان تربى على هذا الانغماس في الملذات أن يصير حكيما.
رأى أفلاطون أنه ليس من المصادفة أن تكون الدول التي يحكمها أمثال هؤلاء دولا غير منتجة، سيئة الإدارة، ومنعدمة الاستقرار فقال: «من المؤكد أن تتعاقب على تلك المدن أنظمة حكم مثل الطغيان وحكم الأقلية والديمقراطية واحدا تلو الآخر.» أما ما سره في إيطاليا فكانت المجتمعات الفيثاغورية التي ضمت الحكماء وعلماء الرياضيات الذين عقد معهم صداقات دائمة وألهموه فلسفيا ومن بينهم أرخيتاس التارانتومي رجل الدولة الفيلسوف وعالم الرياضيات الذي اجتمعت فيه قيم الصداقة والإلهام معا. ومن المرجح أن الاتصال بهؤلاء الرجال هو السبب في رحلة أفلاطون إلى إيطاليا.
عقد أفلاطون صداقة أخرى لها قيمتها في سيراقوسا أثناء جولته الأولى، رغم أنها كانت في النهاية سلاحا ذا حدين؛ فقد آمن ديون وهو أحد أقارب الطاغية ديونيسيوس الأول «بحرية أهل سيراقوسا في ظل أفضل النظم القانونية»، وعلى ذلك «قدم له أفلاطون أفكاره المثالية عن الجنس البشري» ووجد في ديون متلقيا نهما لها. وبمجرد أن أنار أفلاطون بصيرة ديون «عقد الأخير العزم على قضاء بقية حياته بشكل مختلف عن معظم الإغريق في إيطاليا وصقلية متمسكا بالفضيلة بدلا من المتعة أو الرفاهية.» ولعل ذلك التحمس لأفكاره هو ما دفع أفلاطون للعودة بعد عدة أعوام إلى سيراقوسا أثناء حكم ديونيسيوس الثاني ولكن بنتائج مؤسفة.
لقد كان ديون كالسمكة التي خرجت من الماء بالنسبة للحاشية الفاسدة المتنازعة التي أحاطت بديونيسيوس الأول الذي قرب إليه الفيلسوف المحب للمتعة «أرسطيبوس»، الذي تتلمذ على يد سقراط، ويا لها من مفارقة عجيبة! وقد وصف بلوتارخ الوضع هناك بأنه «نظام يعتبر المتعة والإفراط فيها هما الخير الأسمى.» وهذا هو الشيء الذي لم يستطع أفلاطون تحمله. وقد انتهت زيارة أفلاطون الأولى لسيراقوسا نهاية سيئة نوعا ما. وقد جاء في إحدى الروايات أن ديونيسيوس الأول قد عرضه في سوق الرقيق، وقام بعض الأصدقاء بإنقاذه منه.
عندما انتهت هذه المرحلة من رحلات أفلاطون عاد إلى أثينا وأسس ما يعرف بالأكاديمية، وكان هذا عام 387 قبل الميلاد وأفلاطون في الأربعين من عمره. اشترى أفلاطون أرضا على بعد ميل من أسوار المدينة إلى جوار بستان مقدس كان يتعبد فيه البطل أكاديموس، وأنشأ مؤسسة جامعية بها مفكرون يعملون بالجهود الذاتية. ولكن من الصعب تكوين صورة عن الحياة اليومية داخل أكاديمية أفلاطون. وطبقا للقانون وجب تسجيلها كمؤسسة دينية تختص بأحد المعبودات، وقد اختار أفلاطون ربة الفنون التي كانت في ذلك الوقت مسئولة عن كل الأنشطة الفكرية وليس الفنون فحسب. وكانت بعض أنشطة الأكاديمية تحاكي تلك التي كانت تقيمها الجماعات التابعة لمذهب فيثاغورس التي رآها أفلاطون في إيطاليا. ونظمت ولائم عشاء شهرية في الأكاديمية ربما تشبه تلك التي تعدها الجامعات القديمة في عصرنا الحاضر في بعض المناسبات. وربما عقدت بعض الدورات التعليمية للعامة. وقد تحدث أرسطو وآخرون عن محاضرة لأفلاطون ألقاها ربما في الأكاديمية بعنوان «الخير» لكنها لم تنجح. وبغض النظر عما كان يتوقعه الحضور من تلك المحاضرة، فقد شعروا بالحيرة والضيق بسبب اضطرارهم إلى الاستماع إلى قدر كبير من الرياضيات المبهمة.
كان جل الخدمة التعليمية للأكاديمية موجها نحو الصفوة من الأثرياء الذين كانوا يتوقون إلى الحصول على مستويات عالية من التعليم. وقد كان نطاق المواد التي تدرس وتناقش أكبر وأوسع مما نعده الآن ضروريا لتحقيق أحد الأهداف الرئيسة للأكاديمية وهو تخريج رجال دولة حكماء. وفي عهد أفلاطون قامت أربع مدن على الأقل باستدعاء خبراء من الأكاديمية لصياغة قوانينها وكتابة دساتيرها الجديدة. وكان من أقوى معتقدات أفلاطون أن هذا الدور يحتاج إلى من تلقوا تدريبا شاملا لتأديته على أكمل وجه. وبناء على ذلك أتاحت الأكاديمية الدراسة في جميع مجالات العلم من الجغرافيا والتصنيف النباتي والتاريخ السياسي إلى أكثر المذاهب الفلسفية تجردا التي تتناول المثل الأفلاطونية، ولا شك أن أفلاطون قد قام بالتدريس بنفسه في مجال المثل. وأصبحت الأكاديمية مركزا مشهورا للبحث في علمي الرياضيات والفلك على وجه الخصوص. وقد ارتبط بالأكاديمية اسما اثنين من أهم علماء الرياضيات قبل إقليدس وهما هرقل البنطي وأودوكسوس الكنيدوسي، وهناك أيضا ظهر اهتمام أرسطو - الذي التحق بها في السابعة عشرة من عمره - بعلم الأحياء.
لقد رأى أفلاطون أن هناك بعض المواهب الفطرية التي يتطلبها السعي للتعلم، وأكد على أن من يبحث عن الحكمة ينبغي أن يدرك «عدد المواد التي تجب دراستها وقدر العمل الشاق الذي تتطلبه وضرورة تبني نظام معيشي منظم من أجل هذه الغاية.» وربما خضع بعض تلاميذ الأكاديمية لهذا النظام بمحض إرادتهم لمجرد أنهم تطلعوا للحكم وأرادوا أن يصلوا إليه بالطريق السليم، ولكنهم لم يشكلوا كثرة؛ فليس من الممكن أن كل الباحثين الذين تخرجوا في الأكاديمية كانوا من الساسة الطموحين أو المحبطين. ومن المؤكد أن مفهوم أفلاطون عن الفلسفة بوصفها حب الحكمة بأنقى صوره قد جذب بعض الناس إلى ذلك الحب في حد ذاته، كما انجذب أفلاطون نفسه للحياة الفكرية بذاتها وليس لمجرد أنها تحضير للحياة السياسية، ولكن أسلوب الحياة الأكاديمية كان يزعجه، حيث يقول: «كنت أخشى أن أجد نفسي في النهاية مجرد كلمات؛ أي أن أكون رجلا لم يشترك بإرادته قط في أي عمل أو مهمة فعلية.»
وفي عام 367 قبل الميلاد عندما خلف ديونيسيوس الثاني أباه في حكم سيراقوسا جاءته هذه المهمة المادية من تلقاء نفسها؛ فقد أقنع ديون الملك الجديد الذي كان في الثلاثين من عمره أن يرسل في طلب أفلاطون ليعلمه ويقدم له المشورة. وكان ديونيسيوس الأب قد أبقى ابنه في عزلة وبلا تعليم خوفا منه أن يحيك له المؤامرات وينقلب عليه؛ إذ كان ينظر إلى ولي عهده بوصفه خطرا محتملا. والآن أراد ديونيسيوس الابن أن يترك بصمته وأن يكسب بعض الاحترام، وهو ما رآه ديون فرصة للقضاء على الطغيان في سيراقوسا. وبدافع من هذا الطموح ومن صداقته لديون قرر أفلاطون أن «يهجر أنشطته الأكاديمية لمحاولة إصلاح نظام طاغية، وهو نظام الحكم الذي يبدو غير متوافق مع ما يؤمن به وغير متسق مع شخصيته.»
لقد كان إصلاح أسرة ديونيسيوس الحاكمة تحديا لم ينجح فيه أفلاطون. ربما لم يكن ديونيسيوس الثاني مستبدا كما كان والده، ولكنه أيضا لم يكن تلميذا مثاليا؛ حيث جاء في إحدى الروايات أن «الملك الصغير ظل يحتسي الخمر لمدة تسعين يوما متتالية دون انقطاع ... وفي تلك المدة لم تسمح حاشيته لأحد من رعاياه بالدخول عليه ولا للأمور ذات الأهمية بالوصول إليه، بل هيمن السكر والهزل والموسيقى والرقص والمجون على بلاطه.» وقد حاول أفلاطون وديون برفق ولطف أن يرشدا الملك إلى الطريق الصحيح ولكن تأثيرهما لم يزد الأمر إلا سوءا؛ ذلك أنه أثار الغيرة والشك بين خصوم ديون السياسيين الذين فضلوا أيام الفساد الماضية. وبعد وصول أفلاطون بأربعة أشهر فقط نفي ديون إلى خارج المدينة لأن الحرس القديم أقنع الملك بأن ديون يحيك مؤامرة للانقلاب عليه. وتحمل أفلاطون الوضع لحوالي ثمانية عشر شهرا أخرى ثم عاد إلى أثينا.
والعجب كل العجب أن أفلاطون قد عاد مرة أخرى إلى سيراقوسا بعد حوالي أربعة أعوام، وهو ما قد يكون دليلا على تفاؤله. كان الأمر مختلفا هذه المرة أو هكذا أوهمه البعض؛ فقد نضج ديونيسيوس بما يكفي بحيث اتبع أكثر رغباته جدية وهي الرقي بنفسه وإمبراطوريته عن طريق دراسة الفلسفة. وبصورة ما نجح الملك في إقناع أرخيتاس التارانتومي وبعض المفكرين الآخرين الذين علم أن أفلاطون يكن لهم احتراما ليشهدوا على حسن نواياه. وربما صدقوا هذه القصة وربما صدقها ديونيسيوس نفسه، ولكن بدا بعد فوات الأوان أنه لم يرد إلا تزيين بلاطه ببعض الفلاسفة المشهورين.
وأثناء التماسه موافقة أفلاطون وعد ديونيسيوس أن يعيد ديون ثانية وأن يحسن معاملته. وكان أفلاطون يخشى أن يمس ديون وأصدقاءه الآخرين المزيد من الأذى إن رفض الدعوة، فقرر قبولها. ولكن في الواقع كان الوضع أسوأ من جميع الجوانب هذه المرة؛ فقد وجد أفلاطون ديونيسيوس تلميذا سيئا مرة أخرى، فكان غبيا أو كسولا أو كليهما. لقد ظن ديونيسيوس أنه تعلم كل شيء بالفعل من فلاسفة الدرجة الثالثة في بلاطه، وهذا تحديدا هو ما أزعج أفلاطون. ونكث الطاغية كل وعوده بخصوص ديون، بل سرق كل ممتلكاته ووجد أفلاطون نفسه سجينا من الناحية العملية؛ فهرب بطريقة ما إلى أثينا حيث أكاديميته ولم يكرر ذلك الخطأ بعدها. •••
من السهل الافتراض أن المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون في «الجمهورية» كانت بالتأكيد الأساس لما حاول أفلاطون أن يحققه في سيراقوسا. وفي الواقع لا يمكن الربط بين «الجمهورية» وخطط أفلاطون العملية. وقد قيل إن المدينة الفاضلة المذكورة في «الجمهورية» يحكمها «الملوك الفلاسفة» وكان من المفترض أن يصبح ديونيسيوس حاكما أفضل بتعلم بعض الفلسفة. ولقد كتب كتاب «الجمهورية» قبل محاولة أفلاطون إصلاح ديونيسيوس، ولكن ذلك الكتاب لا يعد أساسا لأية مدينة حقيقية. فمن جانب لا يشير مصطلح «الملك الفيلسوف» في «الجمهورية» - كما يعتقد أحيانا - إلى مجرد ملك يعرف شيئا من الفلسفة، أو فيلسوف محترف وجد نفسه بشكل ما في سدة الحكم. أما الوصف الأدق لما قصده أفلاطون بذلك المصطلح فهو رجل حكيم وقدير يتميز بالتوازن والفضيلة، ورجل عسكري درس العلوم لمدة طويلة ولديه خبرة عملية كبيرة في السياسة والإدارة. ورغم أنه كان متفائلا بشكل زائد في بعض الأحيان، فإن أفلاطون لم يكن على هذا القدر من الحمق بحيث يعتقد أن أي ملك حقيقي قد يتحقق فيه هذا الوصف وخاصة ديونيسيوس الثاني المراوغ.
وقد ذكرت شخصية سقراط في كتاب «الجمهورية» الهدف الحقيقي من مدينة أفلاطون الفاضلة حيث يقول: «ليس من المهم ما إذا كانت المدينة موجودة الآن أو لن ترى الوجود أبدا.» فالمدينة المثالية هي مادة للتأمل والمناقشة. وبالنظر إلى المناقشة الواردة في كتاب «الجمهورية» عنها يمكن للإنسان أن يتعلم حقيقة العدالة وكيفية الحياة السليمة، وسيتعلم على وجه الخصوص الحقيقة التي نادى بها سقراط، وهي أنه من مصلحة الإنسان أن يتحلى بالعدل؛ وبهذا سيعيش في هذه المدينة القائمة في عقله، حيث يقول: «وربما هناك نموذج لها في السماء لمن أراد أن يذكر وأراد أن يكون مواطنا فيها.»
ويبدأ الجدل الأساسي في المحاورة بمواجهة مع رجل مشاكس فاسد أخلاقيا يدعى ثراسيماخوس. ويتحدث ثراسيماخوس عن المصلحة الشخصية المجردة مرددا بعض أفكار الكلبيين التي ناقشها السفسطائيون مثل أنتيفون، فيقول إن الفضيلة هي مجموعة من القواعد يفرضها القوي على الضعيف، فإن استطعت أن تفلت من عقاب الخروج على القانون، فلا بأس من خرق القانون. والأفضل من كل ذلك أن تضع القواعد بنفسك وتلزم الآخرين باتباعها. سم هذا «ظلما» إن شئت ولكن «عليك أن تنظر إلى الأمور - أيها المغفل سقراط - بهذه الطريقة؛ فالعادل دائما لا يحظى بأية أفضلية على الظالم.» وبصيغة أخرى فإن العدالة والفضيلة لا تجديان، وسقراط أحمق لاعتقاده العكس.
ويحاول سقراط أن يزعزع فكرة ثراسيماخوس عن الأخلاق ولكنه يفشل في التخلص منها. ويظهر ثراسيماخوس بصورة الطالح الكريه في موضع آخر. وفي سبيل إجراء مجادلة جيدة يغير جلوكون وأديمانتوس - وهما صديقان لسقراط - موضوع المناقشة إلى فساد الأخلاق؛ رغبة منهما في أن يعرفا ما إذا كان بإمكان سقراط أن يعطي جوابا أتم ويحل تلك المسألة أم لا. وأثناء لعبه دور محامي الشيطان يتحدث جلوكون عن راعي غنم أسطوري يدعى جيجيس عثر على خاتم يمكنه من إخفاء نفسه. ويقول جلوكون إنه بهذا الخاتم:
يبدو أنه لا يوجد أي رجل بهذا السلوك الصارم؛ بحيث يحافظ على العدالة ويكف يديه عن ممتلكات الآخرين، رغم أنه قد يتحصل - بموجب ما يتمتع به من حصانة - على ما يريد من السوق، وينتهك حرمة البيوت، ويمارس الفاحشة مع من أراد، ويذبح من أراد ويفلت من العقاب، ويرتكب أشياء أخرى معتبرا نفسه ندا للرب من دون الناس. ويمكن القول إن هذا دليل كبير على أنه ما من أحد يسلك مسلك العدل بمحض إرادته ولكن نتيجة قيود؛ ذلك أن من يملك رخصة ويرفض أن يرتكب أية جريمة فإنه حري بالشفقة شديد الحماقة.
ويضيف أديمانتوس أنه في رده على هذه الأفكار لا ينبغي لسقراط أن يدافع عن العدالة بمجرد بيان أنها تؤدي إلى نيل صاحبها الشرف واحترام الآخرين؛ فلن يؤدي هذا إلا إلى إثبات أن من مصلحة المتصف بالعدل أن يشتهر بين الناس بالعدل لا أن يكون عادلا فعلا. وإن كان الاشتهار بالعدل بين الناس هو المكسب الوحيد الذي يحققه الإنسان العادل؛ فإنه يمكن للإنسان أن يكون شريرا ما دام يستطيع أن يحفظ ماء وجهه. ولذلك يطلب أديمانتوس من سقراط أن يوضح «ما الذي يقدمه العدل والظلم بطبيعتيهما لأصحابهما ... ليكون الأول رجلا صالحا والآخر طالحا.»
هذه مهمة شاقة، ويتعهدها سقراط بطريقة غير مباشرة، فيحول تركيزه من الإنسان العادل أو الروح العادلة إلى المدينة العادلة. ويرى أنه من الأفضل النظر أولا إلى المدينة ككل؛ حيث يسهل فهم العدالة في هذا السياق الأكبر. وبعد تعريفه مفهوم المدينة العادلة بمحاولة تقديم صورة للمدينة المثالية، يشرع سقراط في الرد على مسألة العدالة الفردية. فإذا اتفق الأمران بحيث يكون الرجل العادل والمدينة العادلة متشابهين فسيتأكد سقراط أنه وجد العدالة الحقيقية. وهو يثق تمام الثقة أنه إن وجدها فسيتضح كيف أن الرجل العادل هو الأسعد وسيتضح سبب ذلك، وسيكون قد رد على ثراسيماخوس وأمثاله.
علينا إذن أن نصف حال المدينة الفاضلة أولا. يقول سقراط (أو ربما أفلاطون) إنها تحتاج إلى نوع من الحرس المجندين لحمايتها من الحروب الأهلية والغزاة. وتحقيق شرط الأمن هو أول شرط لقيام أية دولة مزدهرة، وسيكون هؤلاء الحراس خبراء متفرغين في أمور الدفاع والقانون والنظام؛ حيث إن أفضل المدن هي تلك التي تقدر التخصص. وسيؤدي كل المواطنين العمل الذي يتمتعون بالأهلية الطبيعية له بغض النظر عن المولد والنسب، كما يمكن للمرأة أن تصل إلى أعلى المراتب بسهولة كالمؤهلين من الرجال. وقد كانت هذه فكرة ثورية آنذاك؛ ففي أثينا في زمن أفلاطون كان ينظر للنساء كمربيات ومديرات منزل غير متعلمات يخضعن عمليا لملكية آبائهم أو أزواجهم. لم يكن أفلاطون مناصرا مستنيرا لحقوق المرأة بالمعايير الحديثة؛ حيث آمن بالمعتقد السائد آنذاك الذي يقول إن المرأة عامة أسوأ من الرجل في كل شيء، ولكنه يقول في «الجمهورية» إن المرأة يجب أن تحصل على الفرص نفسها التي يحصل عليها الرجل، وإن أيما امرأة أثبتت كفاءتها فيجب أن يسمح لها بالترقي في مراتب المجتمع.
وينقسم المجتمع في المدينة المثالية إلى ثلاث طبقات: يأتي المنتجون (مثل الحرفيين والفلاحين والتجار) في الطبقة الأدنى، يليهم الحراس، ثم الحكام الذين يجري اختيارهم من بين أفضل الحراس. وإن أظهر ابن أحد المنتجين أو ابنته الكفاءة المطلوبة ينتقل إلى طبقة الحراس، وبالمثل إن لم يكن ابن أحد الحراس بالكفاءة المطلوبة فإنه يكلف بالأعمال الدنيا. وحيث إن الحراس والحكام سيكون لهم قدر كبير من السلطة على الجميع فمن الضروري أن يتجردوا من الأنانية، وأن يسدوا النفع للغير بشكل لا التباس فيه. ويرجع السبب فيما آل إليه العديد من المجتمعات الأخرى من نهايات غير سعيدة إلى عدم تحلي الحكام بالفضيلة. ويحمل سقراط على عاتقه مهمة تحديد نوعية التعليم الذي ينبغي للحراس أن يحصلوا عليه، والبيئة التي يتعين عليهم أن يعيشوا فيها؛ حيث يعيشون حياة جماعية لا يحق لهم فيها الاستئثار بشيء، حتى أزواجهم وأطفالهم سيكونون ملكية عامة. ويحظر عليهم لمس الذهب أو الفضة ناهيك عن امتلاكهما. وستضمن هذه الإجراءات ألا يستخدم أي منهم نفوذه في تحقيق الثراء لنفسه أو تقديم أية مصلحة شخصية على مصالح المجتمع بشكل عام.
ومن الضروري أن تبنى شخصياتهم وهيئاتهم البدنية بطريقة صحيحة، ولن ينصب الاهتمام الدقيق على نظام التغذية والتدريب فحسب، بل على المواد التي يدرسونها والقصص التي تروى لهم والموسيقى التي يستمعون إليها. لقد اعتقد الإغريق أن للموسيقى تحديدا كبير الأثر على الشخصية والمجتمع؛ ولذلك يجب متابعتها باهتمام بالغ. ويشدد سقراط على وجوب «الحذر من ... تغيير نوع الموسيقى لأن تغيير أنواع الموسيقى لا يحدث إلا بتغيير التقاليد السياسية والاجتماعية الأساسية.» (يبدو أن بعض السوداويين من المحافظين المعاصرين مثل آلان بلوم في كتابه «انغلاق العقل الأمريكي» قد رأوا في ظهور موسيقى الروك في خمسينيات القرن العشرين دليلا واضحا على صحة ذلك). وبالنسبة للقصص التي سيستمع إليها الحراس الصغار، فمن الضروري أن تتناول الأبطال الذين يمثلون قدوة حسنة. وقد ذهب سقراط إلى أبعد من ذلك بتحديده بحور الشعر الأكثر إلهاما. وبشكل عام فقد صمم المنهج التعليمي بحيث يزرع الوسطية والفضيلة بإخضاع الحراس المستقبليين الصغار لأكثر المواد رقيا.
ويجب على كل الحرفيين من الشعراء وحتى مصممي الأثاث المنزلي الذين سيرى هؤلاء الصغار منتجاتهم أن يخضعوا لقواعد صارمة. فلا يسمح لهم:
بإظهار الرغبات الشريرة وكل ما يوصف بالفجور والتعصب والرذيلة سواء فيما يخص الكائنات الحية أو المباني أو أي منتج آخر؛ حتى لا ينشأ حراسنا بين رموز الشر كمن يترعرع في مراعي الأعشاب السامة. فليس لهم أن يقربوا تلك الشرور فيتراكم ... في أرواحهم قدر كبير من الرذائل وهم لا يعلمون. ولكن علينا أن نبحث عن الحرفيين الذين مكنتهم هبة الطبيعة من الوصول إلى الجمال والفضيلة الحقيقيين؛ حتى ينشأ شبابنا في بيئة صحية ويستفيدوا من كل ما حولهم، حيث يفوح أثر الجمال وينطبع على العين أو الأذن مثل النسيم النقي الذي يحفظ الصحة، فنرشدهم منذ نعومة أظفارهم إلى التشابه وإلى الصداقة وإلى التناغم مع المنطق السليم.
إن هذا الاهتمام الصارم والراقي بالتفاصيل التربوية هو بلا شك إفراط لا معنى له في أي نظام تعليمي حقيقي، ولكنه يوضح أن أفلاطون لم يرتكب الخطأ الذي وقع فيه سقراط ووجه بسببه أرسطو وآخرون اللوم إليه، ألا وهو تجاهله دور الشخصية في تحديد السلوك الأخلاقي؛ فالحراس المذكورون في «الجمهورية» يتصفون بالفضيلة والعقلانية وكرم الأخلاق عامة لأن كل شيء في حياتهم الأولى صمم ليشكل شخصياتهم بغية تحقيق ذلك الهدف.
ولنتصور مدينة يحكمها هؤلاء القديسون، هل ستسودها الفضيلة والشجاعة والحكمة والوسطية والعدالة كما يجب أن تكون المدينة المثالية؟ يجيب سقراط عن هذا السؤال بالإيجاب؛ فالشجاعة ستسود بفضل هؤلاء الحراس الذين اصطفوا وتدربوا على التفوق العسكري، وستسود فيها الوسطية أو ضبط النفس لأنها ستخضع للتنظيم، فكما يقول سقراط ستحكم «الرغبات السامية والحكمة الناشئة المغروسة في الأقلية الراقية» قبضتها على رغبات «الجموع والرعاع» كي تسيطر عليها، وستسود الحكمة بفضل حكامها الذين يختارون من بين أفضل الحراس ويحصلون على أعلى مستويات التعليم لتعزيز ملكاتهم العقلية. أما بالنسبة للعدالة فيبدو في هذه المرحلة من المناقشة أن سقراط يؤمن أن الأساس يكمن في أن يتفرغ كل مواطن إلى نمط العمل والحياة الذي يناسبه؛ فهذا سيؤدي إلى مجتمع متناغم ومتكافئ وسعيد، مما سيؤدي في النهاية إلى مجتمع عادل.
وهكذا يقول سقراط إن المدينة المفترضة في «الجمهورية» سوف تجسد جميع الفضائل، وقد أوحت فكرة المدينة العادلة التي يعمل كل عنصر فيها بتناغم مع الأجزاء الأخرى - مثل الإنسان المتزن السعيد - لسقراط بإمكانية توسيع المقارنة بين المدينة والروح واستخدام ذلك في دعم صورته عن العدالة. وكما تنقسم المدينة لديه إلى ثلاث طبقات (المنتجين أو الحرفيين أو الحراس والحكام)، ألا يمكن اعتبار أن النفس البشرية تنقسم إلى ثلاثة مكونات؟ يعتقد سقراط أن الروح تتكون من ثلاثة أجزاء هي: النفس الشهوانية والنفس الغاضبة والنفس العاقلة، وهي توازي أنواع الرغبات. فالنفس الشهوانية تحركها الغرائز الدنيا نحو الطعام والجنس والمال. أما النفس الغاضبة فتسعى نحو الشرف (كالشرف العسكري). أما النفس العاقلة فتحركها الرغبة في المعرفة. وليس من الغريب أن تتماشى أنواع الرغبات الثلاثة بدقة مع طبقات المجتمع الثلاث؛ فالحكام يحكمهم العقل والحراس تحكمهم الرغبة في الشرف والمجد، أما البقية من الحمقى والفقراء فتحكمهم شهواتهم الأولية. وكما أن الإنسان المتوازن لا يدع بطنه أو فرجه يتحكم في عقله، فالدولة القوية يديرها أولئك الذين يسيطر عليهم العقل وعندها يصبح كل شيء منضبطا.
وبعد أن عقد سقراط هذه المقارنة وغيرها بين ما ينفع المدينة وما ينفع الفرد، تتحول المناقشة إلى الإجابة عن التساؤل المرتبط بكيفية بناء مدينة كالتي وصفها على أرض الواقع. (ويستكمل الدفاع عن العدالة لاحقا بينما تستمر مناقشة المدينة الفاضلة وحكامها.)
ولقد وقع جلوكون وأديمانتوس على عناصر بعيدة كل البعد عن الواقعية في مدينة سقراط الخيالية، ألا وهي المساواة في التعليم بين الرجل والمرأة، والفرص التي تتاح لكل منهما. وقد نجح سقراط في إقناعهما أنه من الممكن جدا تنفيذ ذلك. كما نجح في إقناعهما بالاتفاق معه في هذه الجزئية على الأقل، حيث قال إن تشريعه المقترح للمدينة «ليس خياليا أو غير قابل للتطبيق لأن القانون المقترح يتماشى مع الطبيعة، بل إن ما دونه مما هو سائد الآن يعد ... تعارضا مع الطبيعة.» ولكن هذا النقاش حول المرأة أفضى إلى اقتراح آخر بخصوص الجنسين سبب الكثير من المشكلات؛ مما يجعل من الصعب معرفة كيف يمكن لمدينة سقراط أن ترى النور. كان من شأن هذا الاقتراح أن يقابل بالإدانة في عصرنا هذا على الأقل بنفس حرارة ترحيبنا بالمساواة بين الرجل والمرأة. كان مشروعه المقترح سيلغي الزواج التقليدي بين الحراس وتربية الأطفال، ليس هذا وحسب بل ستكون هناك محاولات للتحكم في تناسلهم بحيث لا يمارس الأفضل من بينهم الجنس إلا مع الأفضل من أمثاله، وأي ذرية رديئة سيكون مصيرها القتل، والهدف من ذلك كله هو إعداد أفضل الحراس للمستقبل.
ولتمكين هذا التناسل الانتقائي من الاستمرار بسلاسة سيتاح للحكام أن يخفوا ما يحدث عن بقية الحراس للحفاظ على نقائهم، وسيقيم الحكام احتفالات تتضمن «مراسم أشبه بقرعة محكمة النتائج ... تعد لجعل الطبقات الدنيا من الناس في كل قطاع من قطاعات المجتمع يلقون باللائمة على الصدفة وليس على الحكام» فيما يتعلق بما اختاره لهم الحظ من شركاء أو شريكات في التناسل. وعندما تضع كل امرأة حملها، تؤخذ «ذرية الطبقة الراقية» إلى «حضانات خاصة ليعيشوا فرادى في أحد ربوع المدينة، أما ذرية الطبقة الدنيا وأي ممن يولدون بعيوب خلقية يجري التخلص منهم سرا حتى لا يعلم أحد ما حاق بهم.»
ولا يشعر سقراط بالرضا عن هذا اللجوء إلى الكذب، ويدعو لاعتباره نوعا من العلاج، حيث يجب تحمل النتائج السيئة لهذا الخداع من أجل الصالح العام. ويعترف سقراط أنه يعتبر هذه المسألة «أمرا مقززا». وحتى نفهم كيف راق لشخصية سقراط - التي قدمها أفلاطون - هذا المشروع المروع يجب ملاحظة أمرين؛ أولهما: أن الحراس الذين سيعيشون الحياة الفضلى، والأطفال الذين ستختطفهم الدولة بهذه الطريقة هم من سيخولون سلطات ومسئوليات غير تقليدية. كما أنه نظرا للسلطة التي ستكون في حوزة هؤلاء الحراس والتي يجب فرضها على العامة، لن يكون هناك محاكم مستقلة يحتكم إليها الناس في مظالمهم، وقد بدا من الحكمة أن تتخذ كل الخطوات الممكنة لضمان كفاءة هؤلاء الحراس للمهمة الموكلة إليهم؛ فالهدف من خطة التناسل في النهاية هو الهدف المعلن فقط وهو إخراج «أبناء من نسل الآباء النافعين للدولة ليكونوا أكثر نفعا.» والأمر الآخر هو أن الحكام الذين يختارون من بين الحراس والمسموح لهم بالكذب حتى يتمكنوا من تنظيم التناسل الانتقائي البغيض يختلفون تماما عن أي حكام حقيقيين يمكننا تصورهم؛ فهم يشبهون الآلهة تقريبا. ويستبعد أفلاطون فكرة أنهم قد يسيئون استخدام نفوذهم أو ينحرفون عن وظيفتهم. أما بالنسبة لقتل الأطفال المشوهين سرا فهذا لا يبدو أنه قد أثار في عهد أفلاطون أي جدل يذكر.
وعند احتدام المناقشة حول إمكانية تطبيق تلك الخطة ككل يتملص سقراط من ذلك الجدال، حيث يذكر رفاقه أن «هدفنا لم يكن بيان إمكانية تحقيق هذه الأفكار المثالية» بكل تفاصيلها. ويسأل: «هل تعتقد أنه لا يمكن لرسام بارع أبدع صورة لإنسان في غاية الجمال دونما حذف لأي من التفاصيل اللازمة لتصل هذه الصورة إلى حد الكمال أن يثبت أن مثل هذا الرجل قد يوجد في الواقع؟» فسقراط مستعد لإثبات أن أهم التفاصيل في مدينته الفاضلة مرغوبة من الناحية النظرية، ولكن الهدف الحقيقي هو رسم صورة تستثير الفكر يمكن للناس أن يختاروا منها الأجزاء التي يرونها نافعة؛ فهو لا يحاول أن يشعل شرارة ثورة. ولإرضاء فضول مستمعيه فإن سقراط مستعد للإفصاح عما يراه مجرد «تغيير بسيط لتحويل أية دولة إلى نظام الحكم ذاك»، فيقول إنه لكي تصبح المدينة المثالية واقعا فليس إلا أن يصبح الفلاسفة ملوكا أو أن «يسعى من نطلق عليهم الآن ملوكنا وحكامنا إلى تعلم الفلسفة بحق وعلى نحو كاف.» ويبدو هذا «التغيير البسيط» في الأوضاع القائمة تغييرا جذريا، ولكن لو أتيحت لسقراط الفرصة لبناء مدينته الفاضلة في الواقع بتنفيذ أمنية واحدة له لكان هذا التغيير هو الأقرب لتحقيق ذلك.
لقد تجنب سقراط عرض فكرة الملوك الفلاسفة قبل ذلك خشية التعرض للسخرية؛ فهو يقول إنه مدرك تماما أن معظم الفلاسفة الحقيقيين إما أنهم لا يتحلون بالفضيلة أو أنهم بلا فائدة على الإطلاق، وسيكون من السخف التفكير في توليتهم مسئولية أي شيء. ولكن تصوره للملك الفيلسوف يختلف عن هذه الشخصيات تماما، وسيكون التدريب والانتقاء الضروريان لإعداد الفرد ضمانة بأن أفضل الناس هم من يبلغون هذه المرتبة، وسيوضح بعد ذلك في كتابه «الجمهورية» ما يدور في ذهنه بشأن هذا الموضوع؛ فبعد تلقي التعليم الإغريقي التقليدي في الموسيقى والشعر ومبادئ الرياضيات واللياقة البدنية، يتلقى التلاميذ الأفضل تدريبا عسكريا لمدة عامين أو ثلاثة بشرط أن يتحلوا بالفضيلة والرزانة والمهارة الاستثنائية. ويتابع المتفوقون من بينهم تعليمهم ليقضي كل منهم مدة لا تقل عن عشرة أعوام في دراسة العلوم التي شملت - وقتها بشكل أساسي - الهندسة والحساب والفلك والتوافقيات. ثم يتلقى أفضل هؤلاء تدريبا لمدة خمسة أعوام على الحجاج أو الجدل الفلسفي، وهذه مرحلة دقيقة جدا لأن قدرات التلميذ الجدلية يمكن أن تنحرف إلى المراوغة غير الهادفة أو المضللة. ولهذا السبب تحرص خطة أفلاطون التعليمية الصارمة على أن يتعلم التلميذ أولا أشياء أخرى كثيرة. وبعد ذلك يتلقى الذين تجاوزوا هذه المرحلة تدريبا عمليا في السياسة والإدارة لمدة خمسة عشر عاما. وفي النهاية يكون المتدربون قد وصلوا إلى سن الخمسين وأصبحوا أخيرا مستعدين لإدارة الأمور طالما ثبت أنهم «الأفضل في كل المهام وجميع صور المعرفة ولا يتفوق عليهم الآخرون في الخبرة أو الفضيلة.» وهؤلاء الذين يتفوقون في برنامج الملك الفيلسوف سيقضون معظم حياتهم في البحث في الفلسفة وتطبيقها من ثم في الحكم.
ويقول سقراط إنه بتولية هؤلاء مقاليد الأمور ستتحول المدينة التي يتحدث عنها إلى واقع. فسيكونون في موقع يسمح لهم برؤية ما هو أفضل للإنسان فعلا ومن ثم تطبيقه. ورغم أن هؤلاء الناس - كما رأينا - سيكونون أكثر من مجرد فلاسفة بالمعنى التقليدي فإن سقراط يؤكد على مواهبهم الفلسفية. فهذه المواهب هي آخر ما يتوقع أن يحتاجه أي حاكم صالح، ولكن أفلاطون يرى أنها جوهرية؛ لذا يحاول أن يوضح بشكل أكبر ما المقصود بالمعرفة الفلسفية وما أهميتها وما أثرها على حكم البشر. وهذا ما أدى إلى تعريف الفلسفة المقترح الذي كان في بداية هذا الفصل وإلى توظيف أفلاطون لقصة سجناء الكهف الرمزية الشهيرة.
فالفيلسوف المثالي - في نظر أفلاطون - هو من يتجاوز الأمور الدنيوية ليرى الطبيعة المجردة وغير المتغيرة للأشياء؛ أي المثل. وأمثال هؤلاء من محبي المعرفة بحق لا يصبحون إلا رجالا صالحين بقدر ما توصلوا إليه من معارف؛ لأن جميع الفوائد الناتجة عن المعرفة تتراكم في «عقل معتاد على التفكير في العظمة والزمن والوجود.» فعلى سبيل المثال «ليس لأي نفس وضيعة متعصبة نصيب في الفلسفة الحقيقية»؛ لأن العقل الفلسفي أسمى من تلك النواقص. وعلاوة على أن الفلسفة الحقيقية تشترط الفضيلة وتشجع عليها بطبيعتها فهي تؤدي إلى الخير كذلك بطريقة أخرى أكثر تجردا. فالثابت أن الفلاسفة يتعلمون «الجهاد في سبيل الحقيقة بكل صورها.» وإذا أكملوا رحلتهم المقدسة، فجزاؤهم رؤية قمة الحقيقة الأسمى من المثل وهي صورة الخير أو الجمال ذاته.
بل إن سقراط ذاته لا يمكنه تحديد ما هي تلك الحقيقة بالضبط ولكن يمكنه ذكر بعض معالمها. لقد كان مفهوم «الخير» في لغة ذلك العصر مرتبطا بمدى توافق العمل مع الوظيفة أو الغرض أو الهدف منه. وبشكل عام فإن الشيء يعد صالحا إن أدى دوره المناسب أو حقق الهدف المنشود أو بلغ حد الكمال (أي وصل إلى أقصاه). ومن منظور أفلاطون، يجب أن تكون هناك صورة تقابل الفكرة الكلية للملاءمة، وهذه الصورة هي جوهر «الخير». وبناء عليه سيعرف من رأى هذه الصورة كل ما هو نافع حقا، بمعنى أن من يرى هذه الصورة سيميز الصالح من الخبيث. وبطبيعة الحال سيكون الملوك الفلاسفة الذين تحدث عنهم سقراط نموذجا لمن بلغوا تلك المرتبة. فدراستهم - وبخاصة في الحجاج - ستجعلهم متخصصين في المثل؛ حيث تعتاد أذهانهم على تمييز المثل الأكثر أهمية. «وعندما يرون مثال الخير ذاته فسيتبعونه بوصفه التنظيم السليم للدولة.»
ويتطلع جلوكون وأديمانتوس بشكل منطقي لمزيد من الملاحظات عن هذه الصورة التنويرية، فيضغطون على سقراط ليذكر المزيد من خصائصها. ولكن أفضل ما وضعه بين أيديهم - لسوء الحظ - كان مقارنة غامضة. فقد قال إن صورة «الخير» شأنها شأن الشمس، فأهمية الشمس لحاسة البصر تماثل أهمية صورة «الخير» لملكة العقل. بمعنى أنه مثلما تنير الشمس الأشياء وتجعلها مرئية فصورة «الخير» تجعلها مفهومة.
هناك عدة أسئلة تطرح نفسها بخصوص مقارنة أفلاطون بين الشمس والخير، ولكن الأهم الآن في هذا التشبيه هو أنه يجعل من إدراك النموذج الأفضل مماثلا لإدراكنا الحسي لشيء مادي. وفي نهاية دراستهم للحجاج - البحث، الجدال، التساؤل، التعريف - سيرى الملوك الفلاسفة «نموذج الخير» مباشرة، تماما مثلما يرى بقية البشر الأقل شأنا الشمس مباشرة. فهذه الصورة - كالشمس - موجودة بشكل مستقل عنا وعن آرائنا. كما أنه لا يوجد ما هو ذاتي أو قابل للخطأ في أفكار الملوك الفلاسفة بشأن النموذج الأفضل لمدينتهم؛ فهم يرون الصواب ولا شيء غيره. وبالطبع لا يوجد أحد على هذا القدر من الحكمة وربما لن يتواجد هذا النموذج أبدا، لكن مفهوم نموذج «الخير» الذي يشبه الشمس يقدم لنا صورة تحفزنا على التطلع إليها.
ويقدم سقراط قصة أخرى في هذا الصدد من أجل عقد مقارنة بين المعرفة لدى أولئك الفلاسفة المفترضين وبين آراء عامة الناس (جدير بالذكر أن سقراط اعتبر نفسه واحدا من العامة). وتتناول هذه القصة - واسمها سجناء الكهف - مجموعة من السجناء في غرفة تحت الأرض مقيدين بإحكام بحيث لا يمكنهم إلا النظر إلى صخرة صماء أمامهم، وبعيدا - من خلفهم - تلوح ألسنة نيران تمثل مصدر الضوء الوحيد في الكهف، ويمر أمام تلك النيران الناس حاملين أشياء مختلفة غير مرئية، وهو الأمر الذي يلقي بظلال مضطربة على الجدار أمام السجناء. وقد ظل هؤلاء السجناء مكبلين بالقيود في هذا الوضع طوال حياتهم، وكل ما رأوه مجرد ظلال، فلم يروا قط شيئا حقيقيا بل لم يتصوروا وجوده. يقول سقراط إن هذه الحالة المحزنة هي حال البشر أجمعين، وتمثل الأشياء الحقيقية غير المرئية في هذه القصة المثل التي لا نرى منها إلا ظلالها ونعتبرها الحقيقة. ونحن قد تعودنا على هذه الحال لدرجة أننا إن تحررنا من قيودنا لن ندرك في البداية ما حدث. ويفترض سقراط أن أحد السجناء قد تحرر من أغلاله وأخرج من هذا المكان، عندئذ سيؤذيه الضوء المتوهج ويرغب في بادئ الأمر في العودة إلى الضوء الخافت الذي ألفه، وسوف يكون الضوء باهرا فلا يستطيع تمييز الأشياء. ويقول سقراط: «وإذا سئل ذلك الشخص عن الأشياء المارة أمامه، ألا تعتقد أنه سيشعر بحيرة ويعتقد أن ما رآه في السابق حقيقي قياسا بما يراه الآن؟» والأمر نفسه يسري على البشر في الواقع؛ حيث يريهم نموذج سقراط الأفلاطوني المثل ولكن أعينهم تطرف في ارتباك.
سيكون على السجين المحرر أن يعتاد البيئة المحيطة بالتدريج. في البداية، سيتمكن من تمييز الظلال الناتجة عن الشمس ثم الانعكاسات على سطح المياه، وبعدها يبدأ في تمييز الأجسام الصلبة في العالم الحقيقي. وفي الليل يحدق في الأنوار الخافتة للنجوم والقمر. وقد يصبح نظره بعدها قويا فيتمكن من النظر إلى الشمس، وسيمكنه ذلك من فهم النظام الكلي للأشياء: «عند تلك النقطة سيستنتج أن الشمس ... هي السبب في تنوع فصول السنة وأنها تشرف على كل الأشياء في مجال الرؤية.» وقتها سيدرك أن ما اعتاد على رؤيته سابقا في الكهف مجرد ظلال، وسيشعر بالأسف على رفاقه السابقين في الكهف «وعلى ما فاته من الحكمة هناك.»
وماذا سيحدث إن عاد إلى الكهف راغبا في تحرير زملائه؟ مرة أخرى سيعاني في البداية كثيرا. فهو لم يعد معتادا على رؤية الظلام ولن يتمكن من رؤية ظلال الكهف الباهتة. ومن شأن ظهوره داخل الكهف:
أن يثير ضحك رفاقه وسخريتهم، وقد يقال إنه عاد من رحلته بالأعلى وقد فقد بصره وإنه لا قيمة لمجرد محاولة الصعود، وإن سنحت الفرصة لرفاقه للنيل منه وقتله بعد أن حاول تحريرهم والصعود بهم للأعلى ألن يقتلوه؟
ولكن قد تبدو فكرة قتله متطرفة وغير معقولة حتى بالنسبة للسجناء المضللين الذين لا يعلمون شيئا عن العالم الحقيقي. ولكن علينا تذكر أن شيئا كهذا قد حدث تاريخيا بالفعل لسقراط نفسه كما يرى أفلاطون. فقد حاول سقراط أن يبث التنوير في نفوس أصحاب الكهف في أثينا فقتلوه. إن صورة الرجل العائد الذي يريد أن يرشد ذويه إلى النور ولكنه يقابل بالعداء وعدم التفهم هي كناية عن الاحتقار الذي يستقبل به أحيانا من عاد من رحلة في دروب المعرفة:
ألا تعتقد أنه من الغريب أن يقابل من عاد من التأملات السامية إلى الشقاء الإنساني بالسخرية والازدراء، وأن يرغم - بينما ما زالت عيناه تطرف في الظلام قبل أن يعتاد عليه بشكل كاف - على مواجهة ظلال العدالة في المحكمة أو غيرها ومجادلة عقول لم تر العدالة ذاتها قط؟
ليس هذا بغريب إطلاقا.
إن مصير السجين العائد في هذه القصة الرمزية الواردة في «الجمهورية» هو تخليد بسيط لذكرى سقراط الذي وقع حديثه عن العدالة على آذان صم.
إن على السجناء المحررين من الأغلال أن يعودوا دائما إلى كهف البشرية؛ ولذلك يستمر الجدل في «الجمهورية» حول هذه النقطة. فكما أن «غير المتعلمين وغير الخبراء بالحقيقة» لا يمكن الوثوق بهم في حكم الآخرين؛ فإن من وصلوا إلى «المعرفة التي قلنا إنها الأسمى» لا ينبغي السماح لهم بالتخلي عن مسئولية نشرها وتطبيقها. فبعد وصولهم إلى القمم المرموقة التي مكنتهم من رؤية الأصوب والأفضل، يجب ألا يسمح للملوك الفلاسفة بأن «يمكثوا فيها رافضين النزول مرة أخرى إلى المقيدين في الأغلال ومشاركتهم كدحهم.» قد يبدو من القسوة إعادة الملوك الفلاسفة إلى الظلام بعد أن أبصروا نور المعرفة، ولكن «القانون لا يرمي إلى استئثار طبقة معينة في الدولة بالسعادة، بل يحاول تعميم هذه الحالة على المدينة ككل»:
يجب أن تشرعوا إذن - كل في موقعه - في توطين الآخرين وتوطين النفس على تأمل الأشياء الغامضة البعيدة. فإن تهيئة النفس لذلك تساعد على التمييز السليم للأشياء دون لبس لأنكم قد رأيتم حقائق الجمال والعدل والخير، وبذلك تحكم مدينتنا بعقول يقظة ، وبآليات ليست كبقية المدن التي يسكنها ويحكمها في ظلمة دامسة رجال يتنافسون على المناصب وكأنها غنيمة عظيمة، بينما الحقيقة أن المدينة التي لا يتمسك حكامها بالمناصب تدار حتما أفضل إدارة وتكون أبعد ما تكون عن الشقاق.
ولكن كيف لتلك المدينة الفضلى - بقادتها الحكماء والمترفعين عن المناصب - أن تختلف عن جميع الأنظمة الأخرى القائمة؟ هناك أنظمة حكم كثيرة على مستوى العالم؛ فهناك النظام الكريتي أو الإسبارطي الذي يهيمن عليه العسكريون، وهناك حكم الأقلية؛ أي حكم الصفوة من الأغنياء، وهناك النظام الديمقراطي الذي تحكمه الجماهير، وأخيرا يأتي الطغيان «وهو النظام الرابع والأخير، وهو بمثابة علة تصيب الأمم.» هذه هي الأنظمة الأربعة الرئيسة ولكن هناك أيضا «الولايات المورثة والممالك المبيعة» وغيرها من الأنظمة الوسيطة. ويقول سقراط إن أنظمة الحكم تتعدد في الواقع كما تتعدد أنواع البشر، وهو يعتقد أن الدول المختلفة تشكل بصورة ما انعكاسا للشخصيات المختلفة لحكامها. وبعد أن ذكر سقراط الكثير عن الحكام العارفين بالفلسفة في مدينته الفاضلة، فهو مهيأ الآن للعودة إلى مهمته الرئيسة وهي: تحليل أنظمة الحكم والنفسيات المختلفة التي تتماشى معها ليكتشف المزيد عن العدالة وكيفية تحقيقها للسعادة.
يرتب سقراط الأنواع الأربعة الرئيسة للحكومات - بالإضافة إلى نموذجه المثالي - في تسلسل هرمي من خمس مراتب، وهو ما يعني أن حكم الملوك الفلاسفة يمثل أعلى المراتب، بينما يأتي الطغيان في أدناها. كما يتبين لنا أن أفلاطون قد وضع الديمقراطية في المرتبة الثانية من حيث السوء بعد الطغيان. فالديكتاتورية العسكرية أو حكم الأقلية من الأثرياء أفضل من حكم الرعاع. ولكن قبل إطلاق أية أحكام حول غرابة الآراء السياسية لأفلاطون، ينبغي أن ندرك أن الأمور ليست كما تبدو في ظاهرها، حيث نميل للاعتقاد بأن الحكم العسكري أو حكم الصفوة هما من أشكال الحكم الطغياني في الوقت الذي يصف فيه أفلاطون الطغيان أنه أسوأ من كليهما. فأي من هذه المصطلحات السياسية لا يتفق مع المعنى الحديث بصورة كاملة - وبخاصة الديمقراطية - رغم أن هناك الكثير من التشابه بين ديمقراطية الأنظمة الليبرالية الحديثة وديمقراطية أفلاطون ، وهو ما يجعل تناوله لها مشوقا. بالنسبة للأرستقراطية، فهي تعني في لغة أفلاطون أن يتولى مقاليد الحكم أفضل الناس وأعدلهم؛ فالأمر إذن لا علاقة له بانحدار المرء من نسل أجداد كان لهم حظ من الثراء أو حظوة لدى الملوك، فهذا هو المعنى الدارج للأرستقراطية في أيامنا هذه.
إن الملوك الفلاسفة - أي الأرستقراطيون الأفلاطونيون - هم رجال يحكمهم العقل؛ لذا فالدولة الأرستقراطية هي تلك الدولة التي تخضع لأكثر المبادئ حكمة. ويأتي نظام الحكم العسكري في المرتبة الثانية من حيث الأفضلية (ويطلق عليه التيموقراطية): وتتحكم في التيموقراطيين العاطفة النبيلة - أي الرغبة في نيل الشرف - ولكن تلك العاطفة ليست في مثل سمو العقل؛ لذا فالدولة التي يحكمونها ليست في مثل منزلة دولة الأرستقراطية. ويأتي في المرتبة الثالثة حكم الصفوة حيث يتحكم في الصفوة الحاكمة من الأثرياء عاطفة دنيئة هي الطمع في الثروة، ولكن لديهم بعض الفضائل. وهم مقتصدون ومنضبطون - إلى حد ما - بدافع ادخار الأموال. ولا يمكن القول بكفاءة نظام كهذا، ولكنه على الأقل أفضل قليلا مما يليه - النظام الديمقراطي - الذي يعوزه الانضباط على المستوى العملي؛ حيث تحكمهم الشهوات الدنيا كالطعام والشراب والجنس والإشباع الفوري للغرائز. فالدولة التي يديرها هؤلاء الديمقراطيون ما هي إلا كيان فوضوي وغير منضبط. أما بالنسبة للطغاة فهم في أدنى الهرم، حيث لا يظهرون أي التزام بالقانون. وهم قد جاوزوا رذائل الديمقراطيين بإقدامهم على فعل ما يحلو لهم أيا كان، كما أنهم مولعون بالقتل بصفة خاصة. ويبدو جليا أن الدولة التي يحكمها الطغاة هي الأسوأ على الإطلاق (حتى وإن كنت منهم كما سنرى).
يشرح سقراط كيف يشرع كل من أنظمة الحكم الأربعة الأولى في التدني حتى يتحول إلى الذي يليه. فكل نظام به عوامل تدميره الذاتية. فحتى النظام الأرستقراطي سينهار في النهاية. فسوف يقوم القادة - عاجلا أو آجلا - بخرق قواعد عملية التكاثر - ربما دون قصد - فيزيد عدد القادة غير الأكفاء؛ مما سيخلف مشكلات عندما يحاول القادة الأكفاء أن يتوافقوا معهم بحيث تنحرف المدينة عن التناغم المثالي. وسيقوم أنشطهم في النهاية - عن طريق السعي الدءوب والتطلع إلى نيل الشرف - بإزاحة أهل الفضل والفلسفة من المسئولية. وستقع الدولة العسكرية الناشئة في حرب أهلية عاجلا أو آجلا، ربما حين ينتهي قادتها من غزو جميع الدول الأخرى. وسيطمع من يتطلع إلى الشرف في زيادة أملاكه؛ مما يغذي أصول حكم الصفوة من الأثرياء حيث «يتحولون من محبين للمجد والشرف إلى محبين للمال، ويعجبون بالأثرياء ويولونهم المناصب ويحتقرون الفقراء.» ومن الواضح أن الثروة ليست دليلا حقيقيا على الكفاءة السياسية. «فإذا كان ربان السفينة يعين وفقا لدرجة ثرائه، ولا يسمح للفقير بتولي الملاحة حتى وإن كان ربانا أفضل ... فستكون النتيجة رحلة مأساوية.» وسيكون سقوط حكم هؤلاء الأثرياء مرهونا بالصراع بين الفقراء والأغنياء؛ أي صراع طبقي. وسيعم السخط بين الناس في ظل ظروف عصيبة نتيجة لجشع طالبي المال، وهو ما يؤدي إلى تفشي الحقد في نفوس الفقراء، فيندفعون للثورة وتأسيس نظام ديمقراطي. وهكذا يكون حب المال قد أتى على حكم الأغنياء من الداخل، كما ستؤدي الرغبة العارمة في الحرية إلى إسقاط النظام الديمقراطي فيما بعد.
ولا شك أن جموع الفقراء سيحتفلون بانتصار الديمقراطية التي حررتهم من الأقليات المختلفة التي حكمتهم من قبل وسيعدون ذلك انتصارا للحرية. ولكن سقراط يقول إن الأمر لا يعد نصرا للحرية على الإطلاق. فالرغبات التي أطلق لها العنان دون ضابط في مثل هذا المجتمع سوف تؤدي حتما إلى العبودية المطلقة لا الحرية المطلقة. فهكذا تبدأ الأمور: «ستسيطر الحرية بمختلف أشكالها - لا سيما حرية التعبير - على المدينة الديمقراطية» و«سيعمل الجميع على قضاء حياته كيفما شاء.» فالمشهد في هذه المدينة أشبه «بالثوب المطرز بجميع الألوان، حيث ستبدو أجمل المدن في ظل هذا التنوع والاختلاف بين الشخصيات.» ولن يكون هناك - بلا شك - مكان للحكام الفلاسفة في هذا النسيج المختلط:
إن سماحة الديمقراطية وازدراءها لقراراتنا المقدسة التي صدرت عند تأسيس مدينتنا ... تدوس بأقدامها كل هذه المثل، غير عابئة بالممارسات وأساليب العيش التي تتبناها السياسة، ولكن تحفل بالإنسان فقط إن أعرب عن حبه للشعب!
إن الديمقراطية التي يتحدث عنها سقراط هي شكل أكثر ديمقراطية من الأنظمة التي نعرفها؛ فهي الديمقراطية المطلقة. ولا توزع فيها السلطة بالانتخابات - التي تعد اليوم جوهر الديمقراطية - بل بالاقتراع العشوائي. قد يبدو هذا الكلام مبالغا فيه ولكنه يقارب واقع الديمقراطية في زمن أفلاطون. فكثير من شئون الدولة والعديد من المحاكمات كانت في يد ولاة أمور وقضاة يختارون بعشوائية لمدة عام واحد. وكانت القرارات الأهم تتخذ من خلال تصويت يجري بين من يتصادف وجودهم في الاجتماع ذي الصلة. كان هناك بالفعل ضمانات دستورية من المفترض أنها تكفل كفاءة الحكم في أثينا (فالقضاة - على سبيل المثال - عليهم اجتياز اختبار بسيط ويمكن التصويت على عزلهم). ولكن أفلاطون يرى أن الضعف المتأصل في هذا النظام يتضح بشكل أفضل عند تصور ما يمكن أن يؤدي إليه حكم الشعب.
ولفهم الأفكار الديمقراطية يقترح سقراط أن نتأمل شخصية من يعتنقون الديمقراطية النموذجية؛ فهذا سيوضح المحاسن والمساوئ المقترنة بالديمقراطية. وكما أن الديمقراطية المطلقة تقبل أي شيء وأي شخص، فإن الشخصية الديمقراطية عشوائية كذلك:
ستضع ملذاتها جميعا على قدم المساواة وتعمل على إشباعها ... وتسخر روحها لإشباع تلك الرغبات واحدة تلو الأخرى، فلا تترفع عن أي منها بل تتمسك بها جميعا ... ولا تقبل هذه الشخصية أو تسمح بأن تخترقها الحقيقة، حينما يخبرها أحدهم أن بعض الملذات ينبع من رغبات سامية صالحة والبعض الآخر ينبع من أخرى دنيئة، وأن الواجب هو إشباع بعض الرغبات وكبح الأخرى. فمن يؤمنون بالديمقراطية يرفضون هذا الوعظ ويؤكدون على تساوي كل الرغبات.
إن الشخص المؤمن بالديمقراطية - مثل الديمقراطية ذاتها - يؤمن «بالمساواة بلا تمييز بين الأشياء المتكافئة وغير المتكافئة على حد سواء.» فتبدو كل الأشياء في نظره متساوية في القيمة، ويتحول تفتحه العقلي إلى فراغ ذهني. وفي ظل افتتانه بشعارات الحرية والمساواة، يسيطر العشق الأعمى لكل رغبة عابرة على أنصار الديمقراطية:
فينغمس ذلك الشخص المؤمن بالديمقراطية كل يوم في نزوة آنية، فتجده يحتسي النبيذ ويتمايل مع نغمات الناي ثم يعود لشرب الماء والتهام الطعام. وأحيانا تجده نشطا، وأحيانا أخرى يتكاسل ويتجاهل كل شيء. ينشغل في بعض الأحايين بالفلسفة. وكثيرا ما يتدخل في السياسة، ثم يخرج بأي رأي يخطر بباله ويفعل ما تراءى له. فإن أبهره العسكريون اندفع لهم، وإن أغواه أهل المال تحول إليهم، ولا ضبط أو ربط في حياته. ولكنه يزعم أن حياته تلك هي حياة المتعة والحرية والسعادة ويتمسك بها حتى النهاية.
وهكذا يصبح الديمقراطي عبدا لرغباته، لكن النهاية قد تكون أدنى مما يتصور؛ لأن افتتانه بالحرية سيتضخم. فإذا كانت الحرية - في نظره - خيرا كلها، فإن الإجبار شر كله؛ عندئذ يصبح المواطنون «شديدي الحساسية والسخط إزاء أي ملمح من ملامح الاستعباد، وهو ما لن يتحملوه إطلاقا» حيث:
يحاول الأب باستمرار أن يجاري أبناءه مع أبنائه ... ويهاب المعلم التلاميذ ويتملقهم، ولكن التلاميذ - في المقابل - لا يعبئون بالمعلم ... ويحاول الكبار التأقلم مع الصغار ويقلدونهم في المزاح واللطف خوفا من ترسخ اعتقاد لدى الصغار بأن الكبار منفرون أو مستبدون.
ويقول سقراط مازحا إن روح التحرر والاستقلال ستتفشى إلى أن تصيب الحيوانات. فحتى «الخيول والحمير ستمضي في سبيلها بكل حرية وتزيح من طريقها من لم يفسح لها.» وهنا يقول جلوكون إن هذا ما يلحظه بالفعل عندما يذهب إلى الريف.
وهنا يجدر القول إن حديث سقراط عن الحمير لم يعد مزحة. فالدفاع عن حقوق الحيوان قد شاع في البلدان الديمقراطية، رغم أن الحيوانات نفسها - في خيال سقراط - لا تسعى بفاعلية إلى تلك الحقوق (يقول أحد المعاصرين - من مناصري حقوق الحيوان - حول المظالم التي تتعرض لها الحيوانات في زمننا الراهن: إن جماعة الحيوان التي تتعرض للاستغلال لا تستطيع تنظيم احتجاج ضد المعاملة التي تلقاها). وإنه لمن المثير اكتشاف أصداء معاصرة لملامح المجتمع الليبرالي التي تحدث عنها سقراط، سواء في سيادة أنماط معينة من السلوك لفترات زمنية وجيزة، أو في الحساسية المفرطة المقترنة بالخطابات السياسية المتزنة، أو السخط «عند أبسط تلميح للاستعباد». ولكن بخصوص ما تنبأ به أفلاطون من رفض لمظاهر الحياة المعاصرة المذكورة آنفا، ففي هذا قول آخر.
هناك جزء في نبوءة أفلاطون يأمل الجميع أن يكون مخطئا، وهو أن الديمقراطية تؤدي إلى الفوضى المدمرة. يقول سقراط إن هذا ما سيحدث منطقيا في النهاية لأن الرغبة في الحرية بكل صورها لا يمكن إشباعها دائما في إطار القانون (وقد يصلح مثالا عصريا على ذلك ما يذهب إليه بعض المتطرفين ممن لا يمانعون المخاطرة بالحياة البشرية من أجل حرية فئران المعامل ). كما يقول إن الشخصية المؤمنة بالديمقراطية «لن تلتفت في النهاية إلى القوانين المكتوبة والأعراف غير المكتوبة؛ حيث إنه من الوارد ألا تخضع لسلطان تلك القوانين في مختلف المواقف.» إن عدم احترام القانون - إلى جانب بعض الخصائص الأخرى للحياة الديمقراطية - هو ما سيسمح للطغيان بالوصول إلى السلطة. حيث يرى سقراط أن الانتهازيين الفاسدين من أعضاء المجتمع سيقومون بتسلق المشهد ويشقون طريقهم إلى مواقع النفوذ؛ فلا شيء يمنعهم من ذلك في ظل ديمقراطية مكفولة للجميع. ثم يلبسون عباءة خادمي الأمة المخلصين كي يصادروا أموال الأثرياء ويحتفظوا بقسط منها لأنفسهم. عندئذ يعارض الأثرياء هذه المصادرات ويحاولون مواجهتها، ولكنهم يتهمون بمحاولة قلب نظام الحكم. عندئذ يظهر قائد ذو شخصية مؤثرة بوصفه الدرع الواقية لعامة الشعب ضد الأغنياء المتآمرين، ثم تتسارع وتيرة الأحداث. وهنا يتقدم هذا (الحارس) «بالعريضة الشهيرة للطغيان التي يطلب فيها من الجماهير إمداده بالغطاء اللازم لتأمين المدينة دفاعا عن الديمقراطية.» ثم تتلوث يداه - بمعاونة جيشه - بدماء من أعلنهم أعداء للدولة. وهنا يصبح التحول الخطير إلى الحكم الطغياني السفاح حتميا. وفي النهاية «سيخضع من يقاومون الاستسلام ... إلى قيود الطغيان والعبودية.»
ويفرد أفلاطون مساحة للحديث عن شخصية الطاغية أكثر من أي شخصية أخرى. فالطاغية يعيش الحياة التي نعتها ثراسيماخوس بالحياة المفضلة إبان حربه على الفضيلة. فما نوع السعادة التي يحسها مثل هذا الإنسان؟ يقول سقراط إن حياته العقلية كابوس بالمعنى الحرفي. وفيما يعد تنبؤا بنظرية فرويد، يتحدث سقراط عن نوع من الرغبات المكبوتة التي تثور ليلا في نفس الطاغية. «تبين أحلامنا أن هناك نوعا خطيرا ووحشيا من الرغبات بداخل كل فرد، وهو نوع لا يخضع لأي قانون»:
تنتاب هذه الرغبات الجميع حتى من يبدو معتدلا أو منضبطا تماما مثلنا. هذه الرغبات تنشط أثناء النوم عندما تغفل الروح - أي الجزء العاقل المعتدل الذي ينبغي أن يسيطر علينا - ولكن الجزء الوحشي البربري - الذي يغذيه الطعام والخمر - ينهض مقاوما النوم ويسعى لإشباع غرائزه الخاصة ... وفي هذه الحالة سيقدم على فعل أي شيء بعد أن تحرر من أي شعور بالخجل، بل من العقل برمته. فلا يتوانى عن ممارسة الرذيلة مع أم يتخيلها أو أي شخص آخر سواء أكان من البشر أو الآلهة أو البهائم، فهو مستعد لأي عمل قذر.
وبينما يسيطر الإنسان المتزن على هذه الرغبات في معظم الأحيان، يقع الطاغية تحت تأثيرها ليلا ونهارا؛ «فيصير سكيرا مختلا تملؤه الرغبة العارمة إما بسبب طبيعته الشخصية أو ظروف حياته أو كلتيهما.» كما يقوده حب المال إلى الجريمة، ويحاط بالمداهنين الذين يخشون سلطته. ويخالط الناس فقط ليحصل على ما يريد منهم؛ فالصداقة إحدى المتع التي لن يدركها. كما لن يدرك السكينة الحقيقية أو الحرية لأنه عندما يتعثر سينقلب عليه أصدقاؤه الزائفون. ومثل المدينة التي يحكمها، تمتلئ روح الطاغية «بالعبودية حيث تخضع الأجزاء الدنيا من نفسه لسيادة جزء صغير هو الأكثر جنونا وشرا.» ويستمر سقراط في طرح التشبيهات المفعمة بالإيحاءات والأمثلة المقبولة على نطاق واسع؛ فيصور روح الطاغية على أنها بالضرورة فقيرة خائفة مضطربة بائسة. حيث يقول سقراط:
إن الطاغية بعيد عن تحقيق أدنى إشباع لرغباته؛ فهو فقير بحق لأنه في حاجة مستمرة لمعظم اللذات. وذلك يتضح من مراقبة روح الطاغية من جوانبها كافة. وطوال حياته سيملؤه الرعب والاضطراب والألم، ما دام حاله في الحقيقة يشبه حال المدينة التي يحكمها.
إن مشكلة الطاغية الأساسية أن «فساده في صميم روحه»؛ فهو يخضع لحكم أسوأ جزء من نفسه، ومن ثم يصبح تعيسا تماما. أما الفئة الأسعد من البشر فهم على النقيض من ذلك تماما؛ حيث يحكمهم الجزء الأفضل في أنفسهم وهو العقل. وهكذا نصل إلى المفهوم الكامل للعدالة أو الصواب وهو الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول الحياة السليمة. فبالنسبة للأفراد يكمن الحل في تناغم أجزاء الروح؛ أي أنواع الرغبات. فالحرص على إخضاع الرغبة في الشرف والمال والجنس وغيرها لسيطرة العقل يمنح الإنسان حياة سعيدة وسليمة (على الأقل بالنسبة لمن تتوافر لديه شروط السعادة). وعلى صعيد المدن، تكمن العدالة والسعادة في التنظيم المتناغم بين قطاعات المجتمع الذي يحكمه العقل أيضا - وتتمثل تلك القطاعات في طالبي المال وطالبي الشرف وطالبي المعرفة وغيرهم - وهي قطاعات تقابل بدورها أجزاء الروح. ويمكننا الآن أن نقع على العيب في فساد ثراسيماخوس الأخلاقي وعدم التزامه بالقوانين عندما ننظر للأمر برمته. فنحن نرى ما يؤدي إليه سلوكه في النهاية وكيف أن أسلوب حياته أو نظام الحكم الذي يدافع عنه بعيد تماما عن أن يكون الأكثر تحقيقا للسعادة. لذا يحقق سقراط في النهاية انتصارا لم يحالفه في بداية «الجمهورية» عندما حاول الرد على أفكار ثراسيماخوس مباشرة.
ولكي يصل بفكرته الرئيسة إلى ذلك الانتصار، يضيف سقراط نقطتين أخريين في صالح أطروحته؛ أولا: ماذا يقال لطالب المال أو طالب الشرف أو حتى الطاغية الفاسد المنغمس في الملذات الذي ينكر وجود أي حياة أفضل من حياته؟ سيصر أرباب كل لذة على أنها الأكثر إشباعا لرغباتهم. وهنا يوضح سقراط أن الوحيد الذي يمكنه الحكم على المتع المختلفة هو من جربها كلها. وهذا الشخص - وفقا لسقراط - هو الملك الفيلسوف الذي خاض كل هذه الأمور ليصل إلى ما وصل إليه؛ فسيتذكر مثلا من طفولته الخضوع للرغبات الدنيا. كما أن تجربته في الحياة ستصقلها ملكة العقل. وستمنحه دراسة الحجاج أفضل موضع لتقييم البراهين. لذا فعندما يخبرنا الملك الفيلسوف أن المتع العقلية هي الفضلى، فعلينا أن نسلم بذلك.
أما النقطة الثانية فهي مسألة يؤسس بها سقراط حجته. فالمتع المستمدة من الأمور الدنيا لا يمكن أن تحقق الإشباع في النهاية لأنها غير ثابتة في جوهرها ومن ثم فهي وهمية. فهي «متع ممزوجة بالألم، وهي مجرد صور غير أصيلة وظلال للمتع الحقيقية»:
إن من تنقصهم الخبرة بالعقل والفضيلة، من ينشغلون بالولائم وغيرها لا يتذوقون أبدا أي متعة ثابتة أو نقية. فهم يحنون رءوسهم كالأنعام وينكبون على موائد الطعام ويسمنون ويزنون. ولكي يتفوقوا على الآخرين في تلك الأشياء فإنهم يناطحونهم ويركلونهم فيقتلون بعضهم البعض لأن رغباتهم لا يمكن إشباعها؛ فالأمر أشبه بملء وعاء مثقوب.
ولكن الإنسان الذي يحكمه العقل يحصل على وجبة أكثر إشباعا؛ لأن رغبته في المعرفة تأخذه إلى مجال أهم وأقيم . وبالعودة إلى مثال الكهف، فقد وجد هذا الإنسان طريقه إلى النور حتى رأى حقيقة الأشياء؛ لذا فهو يعرف حق المعرفة ما يعود عليه بالنفع، فالإنسان ليس كالبهائم، حيث إن لديه جانبا أسمى يحقق الفضيلة التي تجلب بدورها السعادة الدائمة.
بعد ذلك يقوم أفلاطون بإدخال سقراط في رحلة خيالية مع الرياضيات يسعى فيها بغرابة إلى إثبات أن الملك الفيلسوف أسعد من الطاغية بسبعمائة وتسع وعشرين مرة. ويفضل عدم التعرض بكثير من القول لهذه الفرضية (حيث إن الحساب الرياضي في حد ذاته غير دقيق، فمن المفترض أن تكون نتيجة تلك الحسابات الرياضية هي أن الملك الفيلسوف يفوق في سعادته الطاغية باثنتي عشرة مرة ونصف). وتختتم «الجمهورية» بهبوط في وتيرة الأحداث يتمثل في مناقشة لمصير الروح البشرية، علاوة على التحول إلى موقف عدائي غريب تجاه بعض أنواع الشعر. وعند هذه المرحلة يكون الجزء المهم في «الجمهورية» قد انتهى. •••
إن ما يمكن أن نستفيده من قراءة «الجمهورية» هو اكتشاف المدينة الاستثنائية وملوكها الفلاسفة المثاليين. ويستخدم أفلاطون هاتين النقطتين وسيلة لنقل فكرته. ويقول بعض نقاد القرن العشرين - الذين كتبوا في ضوء ما عاصروه من فاشية هتلر وشيوعية ستالين - إن دولة أفلاطون تتسم بالشمولية البغيضة؛ فهي الأولى من نوعها الفاسد.
ولكن أفلاطون يستحق تقييما أفضل من ذلك. أولا يجب الأخذ في الاعتبار أن هدفه الأساسي لم يكن وضع تصور لدولة على الإطلاق، بل كان توظيفا للمقارنة بين المدينة والروح من أجل تكوين صورة متكاملة عن العلاقة بين العدالة والسعادة. فتحليله للطغيان على سبيل المثال كان بهدف إلقاء الضوء على نفسية الإنسان الفاسد، كما أن الملوك الفلاسفة هم نماذج مثالية تناقض نفسية الطاغية تماما. إن الدرس الحاضر دائما في أطروحته هو أن العدالة والسعادة في أفضل صورهما موجودتان معا في مملكة العقل، أما ما دون ذلك في الكتاب فهو ذو قيمة هامشية بشكل أو بآخر. ومع اقتراب الكتاب من خاتمته، يعلن سقراط صراحة أن أفضل حال هو أن يخضع الجميع لحكم العقل «النابع من النفس لا المفروض من قبل الغير.» وبعبارة أخرى، فالنظام المدني للمدينة الفاضلة بحكامها المنضبطين المدربين بعناية هو في الواقع ثاني أفضل خيار، وهو ينفذ فقط حال فشل الناس في السيطرة على نفوسهم بشكل سليم. ومن المهم التأكيد على أن «المدينة الفاضلة» الواردة في «الجمهورية» ليست بالنموذج المثالي لأفلاطون على الإطلاق. فهو يقول إن ما يحث عليه في الواقع لا يزيد عما يمكن أن ينتهجه أب حكيم في تربية أبنائه:
إننا لا نمنح الحرية للأطفال إلا بعد زرع قيم فيهم - تماما مثل وضع الدستور في مدينة ما - عن طريق ربط أفضل ما فيهم بأفضل ما فينا حتى نمدهم بحارس وحاكم بداخلهم ليحل محلنا، وعندها فقط نمنحهم الحرية.
في ضوء مبادئه، فإن من المفترض أن يشعر أفلاطون - لو كان بيننا اليوم - بالرضا الكامل عن الترتيبات الدستورية للديمقراطية الحديثة - أي تحرير الشعب - بشرط أن تكون تلك الترتيبات قادرة على تحقيق العدالة والسعادة.
ومن الواضح أن موقف أفلاطون من الديمقراطية في عصره يختلف عن الموقف التاريخي الأصلي لسقراط. ورغم أن سقراط لم يتكبد عناء تقييم أنواع الدساتير المختلفة بشكل صريح؛ فقد علمنا أنه كان مخلصا لديمقراطية أثينا، بينما رأى أفلاطون من خلال شخصية سقراط - التي تعد لسان حاله - في تلك الديمقراطية مجرد فوضى غير هادفة وبذور لطغيان في غاية السوء. وبالنسبة للفكر المعاصر فقد أخطأ أفلاطون في تصوره للحرية الدستورية. فحتى إن لم يكن أفلاطون يدافع عن أي نظام سياسي محدد، وحتى إن كانت المدينة التي يتحدث عنها ثاني أفضل خيار بالنسبة إليه وحسب، فمن الواضح أنه لم يقدر مخاطر منح إحدى النخب ذلك القدر الكبير من السلطات. كما يبدو أنه لم يقدر فكرة أن الناس قد يرغبون في البحث عن السعادة بأنفسهم بدلا من توجيههم إليها من خلال «حراس» يرعونهم، شأنهم في ذلك شأن البالغين الذين لا يرضون بأن يعاملوا كأطفال. باختصار، يبدو أن أفلاطون لم ينتبه إلى قيم الاختلاف والفردية التي تثمنها النظم الديمقراطية الغربية المعاصرة.
ولا يقف الأمر بأفلاطون عند تجاهل هذه التعددية بل يهدف تناوله للديمقراطية إلى الحكم عليها بشكل مباشر من خلال تصويرها على أنها بلا نظام أو تمييز، وأنها مرضية من الناحية الشكلية فقط. فإذا تركت الحرية للناس كي يسعوا خلف أي هدف تصادف اختيارهم له فسينتهي بهم الأمر عبيدا لكل نزوة عابرة. وبغض النظر عن كونهم متحكمين في مصائرهم من عدمه، فسوف يقعون - حسب اعتقاده - تحت رحمة جميع أنواع التأثيرات غير الملائمة والأيديولوجيات المضللة. وبالنسبة للحراس الذين يتحدث عنهم، يذكر أفلاطون منتقديه أن تدريبهم سيجعلهم «خبراء محنكين في الحرية المدنية». لذا فلا داعي للقلق من احتمال إساءة استخدامهم النفوذ. كما يرد على الاتهام بأنه لا يوجد أناس على قدر كاف من الحكمة والثقة للقيام بهذا الدور قائلا إنه يعلم ذلك جيدا وإنه قد أوضح بالفعل أن هذه الطبقة الأرستقراطية الحكيمة هي عرضة للانهيار عاجلا أو آجلا. ومن خلال لفت انتباهنا إلى أنها مجرد نظريات عن بعض المثل يستطيع أفلاطون أن يفلت من بعض الاتهامات العملية الموجهة إليه، على الأقل إلى حين.
ولكن المثل ذاتها محل شك. فعندما يعلن أفلاطون أن «الوحدة هي أعظم نعمة تنعم بها الدولة»، يصبح من الصعب التغاضي عن الدفع بأنه قد بالغ في إبراز الجانب الجيد وضحى بالتعددية في مقابل النظام. وكما يقول أرسطو: «سيصل الأمر إلى مدى تنشأ عنده نتيجة لذلك التوحد خلف شخص بعينه دولة أسوأ بكثير؛ فالأمر يشبه اختزال التناغم في التوحد، واختزال الإيقاع في وحدة إيقاعية واحدة.» فالاعتماد على الملوك الفلاسفة لضبط الإيقاع العام - مهما بلغت درجة إتقانهم - قد يشكل خطرا على المدينة. وكما يوضح أرسطو، فإنه حتى وإن كان الملوك الفلاسفة أكثر حكمة من الجماهير، فقد يصبح الشعب «عند توافقه خيرا من القلة الصالحة إذا نظرنا للأمر في مجمله وليس على المستوى الفردي، تماما مثلما أن الوليمة التي يشترك فيها عدة أشخاص خير من العشاء الذي يقدمه فرد واحد.» وقد يقع المواطنون في كبوة (رغم اتحاد خطاهم) كان من الممكن تفاديها إن أخذت مشورتهم بعين الاعتبار بين الحين والآخر. ألا يمكن أن يكون اختلاف رؤية الملوك الفلاسفة - بوصفهم مصممين للمدينة - عن رؤية أهلها هو عين المشكلة؟ يوضح أرسطو أن «هناك بعض الفنون التي لا يمكن الحكم على منتجاتها بشكل فردي أو من قبل الفنانين أنفسهم ... فساكن البيت يحكم عليه بشكل أفضل من بانيه.» وربما يكون فن السياسة من ضمن هذه الفنون.
قد يرد أفلاطون مرة أخرى بالدفع بأننا نتصور أن الملوك الفلاسفة المفترضين قد وصلوا إلى حد المثالية في حكمتهم وصلاحهم؛ لذا ينتفي النقد الموجه إليهم. ولكن هل الخير المطلق والحكمة الكاملة مفهومان حقيقيان؟ يرجع جزء من المشكلة إلى تصور أفلاطون وجود نموذج «للخير» وإلى استخدامه مثالي الشمس والكهف، بما يوحي بأن هذا النموذج يتيح في النهاية للملك الفيلسوف أن يرى الحقيقة واضحة كضوء النهار. ربما يكون تشبيه الخير بالشمس في غير محله، وربما يكون من غير الممكن إدراك الخير بمجرد اتخاذ الموقع الصحيح منه. ماذا إذا لم تكن هناك حقيقة واحدة شاملة بشأن ما هو أفضل للإنسان؟ وحتى إن كانت موجودة، كيف لنا أن نتأكد من وصول أي شخص أو شريحة من الناس إليها؟ إن أي شكوك حول هذه التساؤلات سيؤدي من ثم إلى تشكيك في إمكانية اعتبار مدينة أفلاطون ثاني أفضل خيار. فهي تعطي الكثير من السلطات إلى قلة من الناس الذين قد لا يتمكنون من إدراك الأفضل بالشكل الذي يظنه أفلاطون. ربما توجد الحكمة ولكن لا توجد حكمة مطلقة، وربما يوجد الخير ولكن لا يوجد «نموذج محدد للخير».
من حسن حظنا وأفلاطون أن الكثير من خواطره وأفكاره عن العدالة والسعادة يتجاوز هذه التشكك. ومع ذلك تظل شوارع مدينته في «الجمهورية» مهجورة ومظلمة؛ لأن صيغة «الخير» التي يتحدث عنها قد تلاشت للأبد من منظورنا. •••
إن أحد الأشياء التي حاول أفلاطون أن يعرض لها في «الجمهورية» هو أن صراع السفسطائيين بين الفضيلة والمصلحة الشخصية هو وهم في حقيقته. فهو مبني على صورة بدائية وغير مكتملة عن المصلحة الشخصية؛ فقد بات واضحا أن روح الإنسان قد طبعت على قضاء أسعد أوقاتها حين يحكمها العقل والفضائل الأخرى. فالنظر إلى الحياة الفاضلة من منظور سليم يثبت أنها تحقق صالح الإنسان. لذا يمكن القول إن الطبيعة ذاتها تؤيد الفضيلة والعقل لأنها تعاقب الإنسان الفاسد واللاعقلاني بالتعاسة والشقاء. وقد ورد في محاورة «طيمايوس» - التي أنتقل إليها الآن - قصة ذات صلة ولكن على مستوى أكبر. فهي تصور عالم الجماد الطبيعي سعيدا في ظل حكم العقل لأنه صنع من قبل كائن عاقل («الصانع الأكبر» أو الرب)، حيث تظهر عليه علامات تصميمه المنطقي. وقد حاول أفلاطون أن يضع بين أيدينا بيانا كاملا بكل هذه العلامات، من حركة النجوم إلى حركة الأمعاء.
طوال القرون الاثني عشر الأولى في العهد المسيحي كانت محاورة «طيمايوس» هي الأساس الذي قام عليه جل ما كتب في علم الكونيات في الغرب. ففي القرن الخامس الميلادي وما بعده كانت الترجمات اللاتينية لتلك المحاورة هي المصدر المنهجي الوحيد المتاح لشرح الطبيعة حتى ترجمت أعمال أرسطو العلمية - إضافة إلى أعمال أخرى - في القرن الثاني عشر. وتعود الشهرة التي تتمتع بها المحاورة إلى أن رب «طيمايوس» يمكن تفسيره على أنه الرب في سفر التكوين. وبقراءة أعمال أفلاطون بمعزل عن الإشارات الإنجيلية نرى أنها تحتاج إلى قدر كبير من التفسير التخيلي، وهذا ما أتى به المسيحيون. ويختلف الرب عند أفلاطون عن الرب في الإنجيل فيما يلي: لا يعتبر الرب عند أفلاطون أهم شيء في الكون (بل المثل التي يستمد الرب تعاليمه منها)، وهو ليس الرب الوحيد ولكن لديه مساعدون عدة، كما أنه ليس مطلق القدرة بل عليه التعاون مع القوى المختلفة في الطبيعة. ولم يخلق الصانع الأكبر الكون من العدم ولكنه استخدم مواد كانت موجودة بالفعل، وهو لا يهتم بالإنسان على نحو خاص ولكنه كلف مساعديه بمهمة صنعه كي يبقيه على مسافة لا يتخطاها.
وبالنظر إلى هذا، لا يسع المرء إلا أن يتساءل عن السبب في تنصير المسيحيين في القرون الوسطى لأفلاطون بعد وفاته. ولكن من الواضح أن السطو على الوصف العلمي الوحيد المفصل للعالم إغراء لا يقاوم، هذا بالإضافة إلى أشياء أخرى في «طيمايوس» تروق معتنقي الدين المسيحي. وفي إشارة إلى «الصانع الأكبر» يقول أفلاطون: «إن العالم هو أفضل ما خلقه ذلك الصانع الأكبر.» وتؤكد محاورة «طيمايوس» على أن تنظيم الكون والتخطيط المحكم الذي يبدو عليه يدل على هدف ما أسمى وأكثر حكمة. وكل التفسيرات الواردة في المحاورة تشير إلى مفهوم الهدف الأسمى؛ لذا فقد توافقت أفكار طيمايوس مع الأفكار اللاهوتية بشكل أفضل من العالم الآلي الذي تحدث عنه ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس. وتحاكي النظرية النموذجية التالية في علم اللاهوت من القرن الثامن عشر محاورة «طيمايوس» في النتائج التي تستنبطها من حركة الكواكب ومسارات المذنبات، وقد وضعها إسحاق نيوتن كما يلي:
لا يمكن تصور أن الأسباب الآلية وحدها قد تؤدي إلى هذا الكم الكبير من الحركات المنتظمة ... فهذا النظام البديع الذي يحتوي الشمس والكواكب والمذنبات لا يمكن أن ينشأ إلا بواسطة توجيه وسيادة كائن بارع قوي.
في الواقع لقد أغفل نيوتن - بسبب إيمانه - قوانين الحركة التي اكتشفها. وهذه القوانين تفسر بدقة كيف «تتسبب العوامل الآلية وحدها في هذا الكم الكبير من الحركات المنتظمة.» وقد استوعب إيمانويل كانط (1724-1804م) - الذي يعد فيلسوفا ولكنه من أكثر من كانوا على دراية بالفيزياء الرياضية والفلك في عصره - هذه الحقيقة أكثر من نيوتن نفسه. وقد رصد كانط ثلاثة عيوب في تلك المحاولات لاستخراج معجزة مسيحية من القوانين الفلكية؛ أولا: يرجع كثير من التناغم الظاهر في الطبيعة بالضرورة إلى قوانين المادة؛ لذا فإن أي كائن يضطلع بدور «الإرشاد والسيادة» سيكون معرضا دائما لأن يتحول دوره إلى دور اعتباطي في الوقت الذي يجري فيه فهم مزيد من القوانين. ثانيا: قد يعرقل النظر إلى الطبيعة في ضوء أهداف الكائن البارع من عملية البحث العلمي لأن الباحث سيميل إلى التوقف عن طرح الأسئلة عندما يظن أنه اكتشف الحكمة السماوية وراء شيء ما. وأخيرا قد تشير تلك المناقشات التي على غرار ما تناوله نيوتن أو أفلاطون إلى خيار واحد لا غير؛ فهي قد تدل على وجود صانع رئيس نظم الأمور قبل الوجود، ولكنها لا تصل إلى الخالق الأول الذي ورد في سفر التكوين. وقد وجه الفيلسوف الشكوكي ديفيد هيوم (1711-1776م) انتقادات مماثلة «للاهوت الفيزيائي» - كما يسميه كانط - في نفس الحقبة تقريبا.
لم تكن هذه الانتقادات لتمثل أية مشكلات لأفلاطون الذي لم يكن هدفه الأساسي في محاورة «طيمايوس» دينيا بالمعنى الحديث. فقد كان هدفه تحسين التفسيرات البدائية لأصحاب المذهب الطبيعي الأوائل، وليس تمهيد الطريق للمسيحيين من بعده. لقد كان يشعر أن أسلافه من طاليس وحتى ديموقريطس قد ارتكبوا أخطاء بتركيزهم المفرط على مسألة ماهية المادة التي خلقت منها الأشياء. فبينما ركز هؤلاء على العناصر والذرات في بحثهم عن الأسباب، فقد أغفلوا سببا مختلفا أكثر أهمية. لقد كان لدى أتباع مذهب فيثاغورس علم محدود بهذا السبب الخفي خلال حديثهم عن القوانين الرياضية في الطبيعة، وقد ألقى أناكساجوراس نظرة سريعة عليه في حديثه العابر عن العقل أو الفهم أو المنطق؛ «نيوس» باليونانية. كان أفلاطون قد حدد ملامح خطته العلمية الجديدة في حديث له على لسان سقراط عن أناكساجوراس. وكان محور الحديث هو استخدام خطة منطقية أو نموذج عقلي تتضح في ضوئه وظائف الأشياء. ويوضح هذه الفكرة مثال الإنسان؛ فبينما تؤدي الفسيولوجيا والميكانيكا نصف المهمة - في أحسن الأحوال - عند محاولة تفسير أفعال الإنسان؛ فإن التفسير الجيد ينبغي أن يضع في الحسبان أهداف المرء من أفعاله؛ أي الغرض الذي كان يحاول تحقيقه. وينطبق الأمر ذاته على الجماد، وهو ما عجز أصحاب المذهب الطبيعي عن إدراكه.
لقد رأينا أن فكر أناكساجوراس - الذي قلما وظف مفهومه عن العقل في السياقات العلمية - تميز بمعاداة الخرافات. فحينما عرض عليه رأس حيوان مشوه رفض الاعتراف بأي سبب خارق وراء ذلك، بل اكتفى بتفسير الأمر بأنه مجرد تأثير فسيولوجي. والسؤال الذي قد يثار هنا: ألم يرجع أفلاطون إذن إلى خرافات اللاهوت ومؤلفي الأساطير في بحثه عن الهدف والحكمة الإلهية خلف الحوادث الطبيعية؟ لا، ليس صحيحا، فقد كانت الأهداف التي أراد أفلاطون عرضها على النقيض تماما مما تحدث عنه مؤلفو الأساطير. كانت مشكلة التفسيرات الزائفة في اللاهوت هي أن الآلهة التي تحدثت عنها كانت متقلبة المزاج. كان بوسيدون يسبب الزلازل لأنه شعر برغبة في ذلك، فكان من المستحيل التنبؤ بتلك الحوادث أو وضعها في إطار عام. لذا فقد كان العلم مستحيلا. ولكن الأهداف التي وجدها أفلاطون في الطبيعة أكثر منطقية من نزوات بوسيدون، وقد كان الهدف من البحث عنها هو وضع نموذج عام بغية الوصول إلى علم حقيقي، حيث لم يتناول أفلاطون فن التفسير المنطقي من خلال استحضار الآلهة لتفسير الأحداث اليومية.
لقد حاول أفلاطون تفسير نظريته الجديدة مستخدما لغة الأساطير، ولكن ليس واضحا ما يمكننا قبوله منها حرفيا. لقد وصف الراوي الرئيس في محاورة «طيمايوس» كبير الصانعين بأنه يستخدم إناء لتحضير ما يشبه روح العالم، ثم سرت هذه الروح في كل مكان. ولكن باستخدامه فكرة الروح والإناء، يتضح أن أفلاطون لم يقصد التسليم ببعض هذه التفاصيل الأسطورية. لقد أثير كثير من الجدل حول ما إذا كان رب أفلاطون أو الصانع الأكبر مقصودا بمعناه الحرفي، أم أنه بمثابة قياس بين عمل الإنسان وعمل الطبيعة. أحيانا يبدو الرب الأفلاطوني مجردا من الهوية - تماما كنموذج «الخير» - وليس كائنا له ذاته المميزة. وحتى تلاميذ أفلاطون لم يتمكنوا من الفصل في هذا الجدل؛ لذلك ليس هناك أمل في حسمه بطريقة مباشرة الآن. ولكن يمكننا تسوية المسألة - إلى حد ما - بأن نذكر أن هناك اختلافا بين أفكار الإغريق عن العقلانية والعقل والهدف واللاهوت من ناحية وأفكارنا عن تلك الأشياء من ناحية أخرى.
كانت الرسالة المقصودة في محاورة «طيمايوس» هي أن المنطق هو سيد عالم أفلاطون. ولكن ما الذي كان يقصده أفلاطون بالمنطق ؟ من المفيد الرجوع إلى ما قاله عن المنطق البشري في «الجمهورية» وغيرها. لم تعن العقلانية بالنسبة لأفلاطون السكون والحرص والذكاء فقط. فالمنطق الإغريقي نشط وليس خاملا. وقد وضع له تعريف ملائم تماما هو «ذلك الشيء الذي يمكن الإنسان من العيش لهدف ما.» فهو ما يمكنه من تحديد الأهداف المناسبة وتكريس حياته لتحقيقها، كما أنه لا يكمن في غياب الرغبات أو كبتها، بل هو الملكة التي تروض تلك الرغبات بحيث تعمل معا بأفضل صورة ممكنة وتضع أمامها حافز «الخير». لذا ورد في «الجمهورية» أن الإنسان الأسعد هو من يحكمه العقل، بمعنى أنه ينظم حياته في سبيل الهدف الذي ينفعه في النهاية ولا يسمح لأي شهوات متهورة منحرفة بأن تخرجه عن هذا المسار. وكذلك يسود العقل المجتمع حينما يدار من قبل الأفراد الأفضل تنظيما. ولكن كيف لمفهوم المنطق الموجه النشط هذا أن يظهر في الجماد؟ في عصر المعلومات عبر بعض الفيزيائيين المعاصرين عن الكون كما لو كان حاسبا عملاقا يقوم بمعالجة البيانات (أي الأحداث) تبعا للأوامر الواردة في نظام تشغيله (أي قوانين الطبيعة). وفي عصر الآلات - بدءا من القرن الثامن عشر - كانت حوادث الطبيعة توصف في سياق آلي كالتالي: إن إبداع الطبيعة يكمن في التكرار الدقيق لحركاتها وفي حسن التناغم بين أجزائها. ولم يكن الإغريقيون صانعي آلات ولم يتداولوا المعلومات بل كانوا حرفيين. وقد كان الإبداع بالنسبة لهم يبدو جليا عند صنع شيء ما من المواد الأولية:
إن الحرفيين لا يقومون بانتقاء المواد الأولية ثم استخدامها عبثا، وإنما يستغلونها بالطريقة التي تكسب منتجاتهم صورة معينة. فلو نظرت مثلا ... إلى المصور والبناء وصانع السفن وغيرهم من الحرفيين ... لرأيت كيف يوظف كل منهم كل عنصر في نسق معين ويوفقه ليتناغم مع غيره؛ حتى يجمع المكونات في منتج منظم ومحكم.
ولكي يصبح الشيء منظما ومحكما - بما يجسد المنطق في العمل - يجب أن تنظم مكوناته وفقا لنسق أو نموذج واضح. إن جوهر المنطق الأفلاطوني - سواء وجد في الإنسان أو السفن أو المدن أو الكون ككل - يكمن في استغلال الوسائل بحرفية لتحقيق النتائج. فالأشياء الجامدة يمكن القول إنها منتظمة بوصفها وسائل أحسن استغلالها، وهذا هو جوهر ما يقصده أفلاطون حينما يتحدث عن الهدف المنطقي في العالم الطبيعي. فالهدف المنطقي يتسم بتناغم أجزائه معا كما يتجلى في نوعه. وهذا هو المنطق والهدف من منظور الحرفي.
ولكن ما هي وظيفة الرب في مثل هذه الصورة ؟ يظهر الرب في الإنجيل بوصفه صاحب المثل الأولى - أو النماذج التي تتبع - الذي يشرع في بناء العالم. ولكن هذه الوظيفة ليست موجودة في عالم أفلاطون. فالمثل أو النماذج الأولى للعالم الطبيعي موجودة بالفعل. وقد رأينا سابقا في المناقشة التي عرضها بين سقراط ويوثيفرو أن القيم الأخلاقية - وليس ما يختاره الرب - هي أهم المثل التي ينبغي أن يقوم عليها العالم. وبطرحه السؤال المحوري: «هل ما يعد مقدسا هو مقدس لأن الآلهة أحلته أم أنها أحلته لأنه مقدس بالأساس؟» يبين أفلاطون أن الرب بالنسبة له ذو صلاحيات محدودة، فكل شيء يجب الفصل فيه بعيدا عنه. وينطبق نفس الأمر على كل الصور، من صورة «الدودة» إلى صورة «الخير». فلكل شيء وضع مثالي - بشكل مستقل تماما حتى قبل وجود الرب - يمكنه من أداء وظيفته الطبيعية. ووظيفة الرب عند أفلاطون شكلية حيث يجمع المادة والمثل وفقا للتعليمات الواردة في النماذج الأولية الموجودة سابقا. ومع ذلك فتلك وظيفة حيوية إن افترضت أن العالم بدونها قد لا يتطور أبدا وفقا لتلك المثل، لكن المعضلة أن آلهة أخرى قد يعرضون عن الأمر إن لم يتدخلوا لفرض صورهم وأفكارهم الخاصة عند التطبيق.
لقد اتفق جميع الفلاسفة الإغريق القدامى - أيا كانت آراؤهم الفلسفية - على تصور مشترك بشأن اللاهوت يتصل بمفهوم أفلاطون عن الرب وبخاصة مدى الحرفية والأصولية التي يمكن في ظلها فهم تفسير أفعاله الواردة في محاورة «طيمايوس» بوصفها قصة إنجيلية. لقد تقبل الإغريق فكرة اللاهوت - بوصفها مجموعة من الصفات الموجودة في الطبيعة - أكثر من فكرة الرب بوصفه كائنا مستقلا تماما عن الطبيعة. ولقد عرفنا أن الأشياء كانت توصف بالمقدسة بناء على دوامها وقوتها وسموها عما هو بشري بالأساس. وكانت كلمة «مقدس» بين الإغريق تستخدم بشكل أساسي للحديث عن مثل هذه الأشياء، أما فكرة وجود كائن مقدس منفصل فتنبع من هذا الاستخدام، وليس العكس. وهنا يوضح أحد المعقبين على أفلاطون قائلا:
حينما يقول مسيحي إن الرب محبة أو إنه الخير فهو يؤكد - أو يسلم - أولا بوجود كائن غامض وهو الرب ، ثم يطلق حكما نوعيا بشأنه؛ فهو يخبرنا شيئا عن الرب. أما الإغريق فالأمر عندهم معكوس. فهم يقولون إن المحبة إله أو إن الجمال إله ولا يفترضون وجود أي كيان غامض، بل يذكرون شيئا عن المحبة والجمال اللذين لا ينكر حقيقة وجودهما أحد. فالشيء الذي يتحدث عنه ويصدر حكما بشأنه موجود بالفعل في العالم الذي نعرفه.
يرى أفلاطون أن الملحد - من ينكر وجود الإله - هو إنسان قد أخطأ في اعتقاده بعدم وجود نظام أو هدف في الكون أعظم من الإنسان نفسه. فالصانع الأكبر أو الرب الأقدم عند أفلاطون قد يكون هو نفسه في جماله وكفاءته الوظيفية تجسيد لهذا النظام أو ذلك الهدف، ولكن أيا ما يكون فهو شيء موجود في الكون وليس خالقا خارج إطاره. فكما يرث هذا الرب المادة التي يستخدمها، عليه أن يخضع للمثل الأفلاطونية؛ أي لقيم النظام والجمال والخير. وهذه هي الأسرار المقدسة للديانة الأفلاطونية. وبإثبات هذه النقطة يمكننا أن ننتقل إلى الأساطير المؤثرة التي وردت في «طيمايوس» لنرى أن الأمر لا يختلف كثيرا عن أصول فلسفة أفلاطون، سواء أعتقد حرفيا في وجود هذا الصانع الأكبر أم لا.
لقد كتبت محاورة «طيمايوس» لتكون في مستهل ملحق يضم ثلاثة أجزاء تكمل الأفكار الواردة سلفا في «الجمهورية». كان من المفترض أن تتمم تلك الثلاثية مناقشة المدينة الفاضلة في «الجمهورية» بعرض قصة حول كيفية تحقيق هذه المدينة، وكيف أنها ستنجح في معاملاتها مع المدن الأخرى. وتتناول القصة تحديدا معركة للعمالقة في الماضي السحيق مع إمبراطورية تدعى أطلانتيس هزمت في الحرب وغرقت في البحر. وقد كان ابتكار أفلاطون لمدينة أطلانتيس ذا صدى قوي لدرجة أن الباحثين والمهاويس أخذوا يبحثون عنها منذ ذلك الحين. وقد حولها العديد منهم بشكل غريب إلى مدينة فاضلة بينما يصفها أفلاطون بأنها إمبراطورية شريرة من المستبدين الطغاة. ولكن الثلاثية التي كانت قيد التخطيط لم تخرج إلى النور. ومعظم ما نجده في محاورة «طيمايوس» هو وصف مفصل لأقدم العصور في التاريخ. وهذا الوصف مقدم في صورة سلسلة من المناجات الفردية الطويلة لشخصية تدعى طيمايوس من لوكري (في إيطاليا)، شبهها كثيرون بصاحب المذهب الفيثاغوري أرخيتاس التارانتومي.
يؤكد طيمايوس في مقدمة محاضراته أنه لا توجد معرفة مؤكدة بالمسائل التي سيناقشها فيقول: «من الكافي أن نبرهن على كل الاحتمالات كغيرها لأننا مجرد بشر فانين، وعلينا أن نتقبل الرواية المحتملة دون طرح مزيد من التساؤلات.» وينشغل طيمايوس بتقديم رصد محدد ودقيق للكون. فالرب - أو الصانع الأكبر - قد صنع العالم المحكم لأنه كان ماهرا فأراد أن يكون كل شيء جيدا قدر الإمكان أيضا. ويفهم ضمنا أنه كان هناك عالم بدائي قبل ذلك ولكنه كان نموذجا رديئا. وحيث إن طبيعة هذا الرب كانت من منظور فيثاغوري بحت؛ فقد كان الأساس الذي اعتمد عليه الصانع الأكبر في خلق العالم كتابا في الهندسة يبدو أن حواشيه كانت تعج بملاحظات لإمبيدوكليس وديموقريطس.
كان الهدف الرئيس هو ضمان الانتظام؛ لأن الانتظام أمر جيد ومنطقي. لقد علم أفلاطون أن هناك خمسة أجسام منتظمة في علم الهندسة؛ أي خمسة أشكال متناظرة يمكن بناؤها من أشكال مسطحة متماثلة، وهي: رباعي الأسطح المنتظم (هرم مكون من أربعة مثلثات متساوية الأضلاع) والمكعب (مكون من ستة مربعات) والمجسم الثماني المنتظم (ثمانية مثلثات متساوية الأضلاع) والمجسم العشروني (عشرون مثلثا متساوي الأضلاع) والمجسم الاثنا عشري الأوجه الذي يشبه كرة القدم (اثنا عشر مضلعا خماسيا). هذه النماذج المثالية المنتظمة كانت جيدة إلى درجة لا يمكن معها إغفالها؛ لذا استخدم الرب هذه المجسمات الهندسية قوالب لجميع أشكال المادة. فاستعملت الأربعة الأولى منها لصنع عناصر إمبيدوكليس الأولية: النار والتراب والهواء والماء على الترتيب. فالتراب مثلا كان مكعبا لأن المكعب أكثر المجسمات المنتظمة استقرارا، حيث احتاج الرب إلى قاعدة ثابتة يعتمد عليها. أما الجسم الخامس فقد ربط بالكون كله لأن المجسم الاثنا عشري الأوجه كان أقرب الخمسة إلى الكرة (وهي الجسم الأقرب إلى التمام والانتظام).
كان كوكب الأرض عالما غير متحرك في مركز الكون يدور حوله الشمس والقمر والكواكب الأخرى بسرعات وميول مختلفة، وتدخل حركتهم في كرة أكبر تدور أيضا وتشكل الحد الخارجي للكون حيث تبدو النجوم كجواهر في قبة. ويبدو أن أفلاطون قد أدرك - ربما عن طريق يوديكسوس زميله في الأكاديمية - أن الشذوذ الملحوظ في حركة الكواكب يمكن من حيث المبدأ تفسيره في إطار الآثار المركبة للعديد من الحركات المنتظمة. ويعتبر الدوران المنتظم الحركة الأفضل والأتم؛ لذا اختير ليكون أساسا للمخطط الفلكي. ويقول طيمايوس إن رؤية هذه الحركات المنتظمة العظيمة تعطي الناس فكرتهم عن الزمن (صورة متحركة للأبدية) وعن الرياضيات، وقد يكون هذا هو السبب في صنع الرب لها.
إن كل الحوادث الدنيوية تكمن في التفاعل بين العناصر الأربعة، وكل المواد في العالم تتركب منها كما قال إمبيدوكليس. وعلى المستوى الأدنى اقتبس أفلاطون بعضا مما عند أصحاب المذهب الذري ورصد خصائص كل عنصر ومادة في ضوء أشكال الجسيمات المكونة لها. لذلك فالنار مؤلمة عند اللمس بسبب الرءوس الحادة في رباعي الأسطح المنتظم المكون لها. ولكن جسيمات أفلاطون أقرب إلى الرياضيات من ذرات ديموقريطس؛ لأن الأخيرة جاءت في صورة مجموعة من الأشكال غير المنتظمة على عكس أشكال أفلاطون الخمسة المنتظمة. ويوجد اختلاف آخر يكمن في أن جسيمات أفلاطون ليست أولية وغير قابلة للانقسام؛ فهي بدورها تتكون من مثلثات، حيث تعزى التغيرات في العناصر إلى إعادة الدمج بين هذه القطع الفيثاغورية. ويبدو أن المثلثات ذاتها يمكن بدورها أن تتحلل إلى أرقام على طريقة فيثاغورس.
إن هذا الخيال الرياضي الغريب يبين الاختلاف الجوهري بين فكرة ديموقريطس وفكرة أفلاطون، على الأقل فيما يخص بنية المادة. فالوحدات البنائية في نظام أفلاطون لا توظف بالمعنى الحرفي لها على الإطلاق؛ فهي ليست مجسمات ولكنها أشكال رياضية مثالية. وهذا يعكس أن وظيفة الرب عند أفلاطون ليست خلق مادة جديدة من العدم - فلا يمكن لصانع أن يفعل ذلك - بل وظيفته تطبيق المثال وتنفيذه بشكل عقلاني مناسب. فهو يستخدم مواد أولية بلا شكل (وغير واضحة المعالم) ويكسبها شكلا رياضيا بطريقة ما لتصبح أشياء معقدة ومنتظمة. فالمثلثات والأجسام المنتظمة التي تحدث عنها طيمايوس ليست مواد البناء التي يستخدمها الرب ولكنها النماذج التي تتصورها خططه المعمارية.
إن عمل الرب من هذا المنظور عسير للغاية، وحتى بعد خلقه للعناصر، فهو لا يقدر على الخلط بينها حسب إرادته؛ فهو ليس مطلق القدرة، وعليه أن يواجه قوانين الطبيعة الثابتة والخصائص الجوهرية للأشياء. فيمكنه مثلا أن يخلق الهواء ولكنه لا يقدر على جعله يذيب التراب. يصف طيمايوس الرب - مجسدا للمنطق في الحوادث - بأن عليه ترويض القوى الطبيعية والقوانين الثابتة، والموازنة بينها. ويشار إلى هذا الجزء المتمرد من الطبيعة «بالضرورة» (أو أنانكي) وهي الكلمة التي استخدمها ديموقريطس ليعني الحتمية الآلية للأسباب الطبيعية التي تعمل بلا هدف. لقد أقر طيمايوس بوجود هذه الأسباب ولكنه اعتقد أن هذا ليس كل شيء: «فالعقل - أي القوة الحاكمة - يروض الضرورة ليصل الجزء الأكبر من المخلوقات إلى حد الكمال، وهكذا فقد خلق هذا العالم عن طريق إخضاع الضرورة لسيطرة العقل.» ونتيجة لنجاح العقل في ترويض الضرورة، فهي تستجيب - حينما تكون المرونة ممكنة - وتعمل بشكل يحقق النفع.
إن الصانع الأكبر ليس الكائن المقدس الوحيد في الكون، فالأجرام السماوية تعد مقدسة لأنها قائمة بذاتها لا تموت. وهناك أيضا الآلهة المساعدة التي خلقها هذا الصانع ويطلق عليها طيمايوس - بغير جدية وبنوع من الشك - أسماء زيوس وكرونوس وهيرا وغيرها. وتنحسر وظيفتهم في أخذ بعض الجرعات المخففة من «روح العالم» (التي بثها الصانع الأكبر ليمكن الأجرام السماوية من الحركة وصبغ العالم بالمنطق) وخلق الناس منها، وذلك عن طريق مزج الجوهر السماوي بالأجسام المادية التي يشكلونها وفقا لمواصفات الصانع الأكبر. ويخبر الصانع الأكبر وزراءه من الآلهة أنه يفضل ألا يقوم بمهمة الخلق بنفسه:
إن خلقتهم وأعطيتهم الحياة بيدي فسيكونون على قدم المساواة مع الآلهة. ولكن كي يكون مصيرهم الفناء عليكم أن تتحولوا - كل حسب طبيعته - إلى هيئة الحيوانات وأن تحاكوا قدرتي التي ظهرت في خلقي لكم. أما الجزء الذي يستحق الخلود والقدسية - ويكون بمثابة مرشد لهؤلاء الراغبين في اتباع العدالة واتباعكم - فسوف أغرسه بنفسي، وبعد أن أبدأ خلق ذلك الجزء المخلد، سأكلفكم باستكماله. عندئذ عليكم أن تمزجوا الخالد مع الفاني كي تقوموا بخلق الكائنات الحية ورزقها وإنشائها ثم قبضها إليكم بعد الموت.
في هذه الحالة يكون هناك ثلاثة «أنواع» لهذه الكائنات الحية: الرجال والنساء والحيوانات. ويدور كل نوع في عجلة التناسخ. ويكون الجيل الأول كله من الرجال، وهؤلاء الذين يعيشون حياة تشوبها الضعة الروحية مقارنة بأقرانهم يعودون ليصبحوا نساء أو طيورا أو وحوشا أو أسماكا (في أسوأ الأحوال). وبهذا يحظى الجانب ذا الصبغة الرياضية الأقل من التقليد الفيثاغوري بدور هو الآخر.
ولكل دورة في عجلة التناسخ سببها، فهؤلاء الذين كانوا رجالا في الجيل الأول «وكانوا جبناء أو عاشوا حياة فاسدة، من المنطقي افتراض أنهم قد تحولوا إلى طبيعة المرأة في الجيل الثاني.» هكذا يفسر التناسخ «الحقيقة» المفترضة أن النساء أقل شجاعة واستقامة من الرجال. وهناك تفسير مشابه لوجود الطيور، حيث «خلقت من أصل رجال سذج تخيلوا ببساطتهم - رغم أرواحهم الوثابة - أن أقوى الدلائل نتوصل إليها بحاسة البصر؛ حتى نما لهم ريش.» وبعبارة أخرى، فالطيور كانوا أناسا لم يتفهموا الإدراك المنطقي واعتقدوا أن أفضل طريقة لفهم الأشياء هي الصعود للنظر إليها. لذا فقد أرسل هؤلاء للتحليق في الفضاء بحيث يقتربون ماديا من العالم الخالد ولكنهم في حقيقة الأمر بعيدون تماما عن فهمه. أما الحيوانات فظهرت لأن هناك بعض الناس كانوا أبعد ما يكونون عن المعرفة، لدرجة أنهم «لم يفكروا إطلاقا في طبيعة السموات» و«نتيجة لهذا أصبحت أطرافهم الأمامية ورءوسهم مرتكزة على الأرض حيث تجذبهم إليها ميولهم الطبيعية.» وبالنسبة للأسماك يقول طيمايوس:
لقد خلقت من الناس الأكثر حمقا وجهلا الذين رأى المحولون (الآلهة المساعدون) أنهم لا يستحقون تنفس الهواء النقي لأن لديهم أرواحا لوثتها جميع الآثام، فبدلا من إعطائهم بيئة الهواء النقية، خلقوا لهم البحر العميق الموحل ... وهكذا نشأت الأسماك والمحار والحيوانات البحرية الأخرى التي تعيش في أبعد الأماكن عقابا على جهلهم وحمقهم.
تأتي ملاحظات علم الحيوان الأخلاقية هذه في نهاية المحاورة عندما يفرغ طيمايوس من حديثه (يلاحظ أن ما قاله عن المرأة لا يتماشى مع المساواة التي منحتها إياها المناقشات الأكثر جدية الواردة في الجمهورية). ويسبق هذه القصة الخيالية تفسير أكثر تفصيلا لنفسية الإنسان ووظائف الأعضاء لديه حيث استعرض أفلاطون آخر اكتشافات مدارس الطب في عصره وأشهر الملاحظات والاستنتاجات التي توصلت إليها، مضيفا إليها نظرته العقلانية للأشياء. يوضح أفلاطون أوجه الاستفادة من كل عضو في جسم الإنسان. فعلى سبيل المثال، يقول طيمايوس في معرض تناوله للعظام والنخاع والأوتار واللحم: «إن ثم غطاء رقيقا من اللحم يغطي جسم الإنسان. فقد اقتضى العقل ذلك حتى لا يعيق حركة الجسم وانثناءه.» أيضا من بين ما تناوله طيمايوس بالذكر تفاصيل حركة الأمعاء وما تحدثه أعضاؤها ووظائفها من تناغم بين التفكير والانفعالات والشهية. فالأمعاء الدقيقة تعمل على الاحتفاظ بالطعام لمدة معقولة من الزمن حتى لا يأكل الإنسان على الدوام دون انقطاع؛ «فالشراهة توقع العداوة بينه وبين الفلسفة والحضارة.»
على خطى نظيره ديموقريطس، يشرح أفلاطون الأحاسيس الإنسانية في ضوء المذهب الذري. فعلى سبيل المثال، يأتي الشعور بالبرد نتيجة لمحاولة العديد من جسيمات الرطوبة المحلقة في الهواء الوصول إلى جسيمات الرطوبة داخل جسم الإنسان مسببة بذلك الإحساس بالرعشة. وكما هو الحال في جميع الروايات المماثلة التي سردها أسلاف أفلاطون، تتشكل العلاقة الكاملة بين الظواهر النفسية والجسدية في صورة مفهوم مادي بدائي يتناول الروح والعقل؛ فالروح هي مادة معينة تتحرك في فلك الجسم. صحيح أن الروح غير مرئية وأنها أنقى من الجسم كله، ولكنها تتمتع ببعض الخصائص المادية التي تدل عليها مثل «خروج البخار». وهنا يشار إلى العيوب الأخلاقية والأحاسيس غير السارة في ضوء المبدأ المادي (وبطريقة تهدف إلى إيجاد بعض الحقائق في نظرية سقراط غير القابلة للتصديق التي تشير إلى أنه لا يوجد إنسان يفعل الخطأ عن عمد):
لا يوجد إنسان طالح بمحض إرادته، ولكنه يصبح كذلك بسبب علة في جسده وسوء تعليمه ... حيث تعاني الروح من شر الجسد. وتتجمع الأحماض والسوائل اللزجة والأخلاط الأخرى في الجسم ولا تجد مخرجا أو مهربا إلا أن تكون مكبوتة داخله وأن تمتزج أبخرتها مع الروح التي تسري في الجسم ، هنا تنشأ كل أنواع الأمراض ... مسببة عددا لا حصر له من سوء الطباع والكآبة والتهور والجبن وكذلك النسيان والغباء.
تعد نظرية «الأخلاط شبه السائلة» هذه - كما نشرها أفلاطون - واحدة من العناصر العديدة في فكر طيمايوس التي حفرت نقشها في وعي العالم في وقت كان الحوار فيه هو مصدر التعلم الأساسي. إن التأثير واسع النطاق الذي أحدثته محاورة طيمايوس قد ضيق الخناق على سمعة أفلاطون حينما جاء الوقت الذي محيت فيه صورة العالم القديم والعصور الوسطى من أذهان الناس. فأيا كانت المعتقدات التي آمن بها الناس، فإن سببها هو أفلاطون. ولذا حينما يخطئ الناس، يتحمل أفلاطون الخطأ وحده. كتب جورج سارتون أحد مؤرخي العلوم المعاصرين قائلا: «إن تأثير طيمايوس كان عظيما وضارا في آن واحد» وإنه يظل إلى يومنا هذا - كان ذلك عام 1952م - «مصدرا للغموض والخرافة.» ويقصد هذا الكاتب من لفظ «الخرافة» علم التنجيم الذي اكتسب شعبيته بسبب أفلاطون؛ الأمر الذي يلومه عليه الكاتب كل اللوم. هناك بالتأكيد قدر كبير مما قد يعتبر هراء خياليا في محاورة طيمايوس، ولكن لا دهشة في ذلك لأنه كتب منذ حوالي 2400 سنة. إن محاورة طيمايوس حوار أدبي مكتوب معظمه بلغة الأساطير، ويمكن قبول العديد من التفسيرات له، كما أنه يحتوي على الكثير من الأفكار الثانوية المثيرة للجدل التي تتحرك بكثافة في فلك الموضوع الرئيس، والتي قد تشتت الانتباه عنه وتصل بفهم القارئ إلى طرق مسدودة، ومع ذلك يمكن رد العديد من أوجه القصور في محاورة طيمايوس إلى إصرار أفلاطون على إيجاد الهدف من الطبيعة ونظامها ووظيفتها. وقد جاءت في وقت لاحق نسخة أرسطو من هذا المشروع محسنة وخالية من الرموز الأسطورية إلى حد ما لتصحيح مسار كل ما هو خاطئ في مرحلة ما قبل العلم الحديث.
وهنا يبرز سؤال: ما كم المضار التي يعد الصانع الأكبر مسئولا عنها؟ الشيء الذي يمكن أن يقال في صالحه - أو بالأحرى في صالح مفهوم الطبيعة الذي يمثله - هو سعيه الدءوب نحو اكتشاف تفاصيل العالم الدقيقة والمترامية. وليس من محض الصدفة أن يكون أرسطو، الذي حاول إيجاد الغاية من وجود العالم الحي (على الرغم من كون هذه الغاية غير سماوية)، أكثر المحققين التجريبيين نجاحا في عصره. لقد أطلق عليه «داروين» لقب «أبو علم الأحياء» وقارنه بغيره من العلماء قائلا: «إن لينيوس وكوفييه بمثابة إلهين بالنسبة لي ... ولكنهما مجرد تلامذة مقارنة بأرسطو.» كما أنه من الصعب تصديق أن أرسطو كان ليتحمل عناء استكشاف أمعاء بعض الكائنات - مثلا - لو لم يعتقد أن هناك آليات معقدة وهادفة تقف خلف عملها. وعلى النقيض تماما نجد موقف الذين أصروا على أن الطبيعة تسير مندفعة دون بصيرة أو غاية. كثيرا ما هاجم لوكريتيوس (حوالي 99-55ق.م.) من يعتنقون آراء طيمايوس اعتقادا منهم أنه يجب فهم الظواهر الطبيعية من حيث هدفها وغايتها، حيث قال:
هناك خطأ في هذا الصدد نود لو تتفاداه ... لا تفترض أن نور العينين - أي البصر - مخلوق لإدراك ما يعرض أمامنا، أو أن نهايات الساقين والفخذين متصلة ببعضها البعض ومرتكزة على أساس القدمين حتى نستطيع أن نخطو بهما إلى الأمام فقط، أو أن الساعدين المثبتين بقوة في الذراعين واليدين المثبتتين في نهاية الساعدين مصنوعان لقضاء ما هو ضروري من حوائج الدنيا فقط. إن هذه التفسيرات وما يشابهها مبنية على أسس منطقية مغلوطة.
ربما يكون هذا التوقع لطرق التفكير الحديثة صحيحا من الناحية الفلسفية، ولكن الجدير بالذكر أن لوكريتيوس لم ير أي ضرورة لاستكشاف مزيد من الحقائق حول العينين والساقين والفخذين والساعدين. فإذا كنت مثل أرسطو تؤمن بما آمن به أفلاطون أن الطبيعة يجب أن تتجزأ إلى أجزاء صغيرة لمعرفة الغاية منها، فسيكون لديك الحافز الفلسفي لفحص هذه الأجزاء فحصا مفصلا بهدف الوصول إلى الغاية من وظائفها المعقدة. وإذا كنت مثل لوكريتيوس تبغي في المقام الأول دحض أية خرافات وأفكار لاهوتية؛ فليس هناك جدوى من تحمل مشقة طريق البحث؛ إذ إنك ستجد في نهايته مجموعة هائلة من الظواهر الفلسفية المعقدة التي لا يمكن تفسيرها. وفي الوقت الذي لم تكن فيه النظريات الجدية التي تشرح عمليات الطبيعة المعقدة (مثل نظرية داروين) قائمة، وجدت فرضية «الصانع الأكبر» سواء أتخذت على نحو حرفي أو مجازي أرضا خصبة لتشجيع البحث العلمي.
ظل الوضع على هو عليه - إلى حد ما - خلال العصور المسيحية؛ حيث كانت البحوث التجريبية تعمل على إثبات - ومن ثم تمجيد - ما جاءت به الكتب السماوية. فعلى سبيل المثال، ساهم اكتشاف ويليام هارفي للدورة الدموية في القرن السابع عشر في تأكيد فرضية التصميم الإلهي الذكي لجسم الإنسان. كما ذكر روبرت بويل الكيميائي العظيم أنه سأل هارفي عما دفعه لتقديم هذه الفكرة الاستثنائية:
أجابني أنه عندما لاحظ أن الصمامات الوريدية ... في معظم أجزاء الجسم صممت خصوصا لتسمح بحرية مرور الدم نحو القلب وتمنع تدفقه في الاتجاه العكسي، كان هذا بمنزلة دعوة ليتصور أن الطبيعة لم توجد هذا الكم من الصمامات دونما قصد أو غاية، ولم تكن هناك غاية أنسب من «الدورة الدموية».
صدق حدس هارفي؛ فقد نجحت فكرة الصانع الأكبر وتصميماته العقلانية وكانت لها استخداماتها، حتى لو لم يكن لهذا الصانع وجود.
كما ألهمت محاورة «طيمايوس» بعض الفيزيائيين في القرن العشرين، ليس فيما يتعلق بفكرة التصميم أو الغاية وحسب، بل في جعلها الرياضيات في مركز الكون. قال فيرنر هايزنبرج (1901-1976م) إن نظرية الجسيمات الهندسية التي وضعها طيمايوس لعبت دورا مهما في تطويره لأفكار نظرية الكم، كما أنه لم يكن وحده الذي وقع على أوجه تشابه بين نظرية أفلاطون للحساب الرياضي للمادة ونظرية ميكانيكا الكم الحالية. كما أضاف السير كارل بوبر (1902-1994م) أن أعظم إنجازات أفلاطون الفلسفية تتمثل في النظرية الهندسية للعالم التي يعتبرها القاعدة العامة التي قامت عليها أعمال كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر ونيوتن وماكسويل وأينشتاين. ربما نكون قد أطلنا البحث في هذا الصدد؛ ذلك لأن العديد قد أوجزوا البحث فيه أكثر مما ينبغي. لقد اعتمد كثيرون على بعض الحكم التقليدية المتوارثة عن أفلاطون - التي تبدو غير مبنية على قراءة أعماله - في دفعهم بأن أفلاطون رفض قضية المعرفة العلمية للكون باعتبارها قضية ثانوية قياسا بمعرفة الأشكال الثابتة. اعتقد أفلاطون أن الأشكال هي أهم النظريات على الإطلاق - بوصفها مركز كونه العقلي - تماما مثلما رأى نيوتن ذو الصبغة الدينية لاحقا أن الرب هو الأهم في نظرته للكون. ومع ذلك لم يرد أن أحدهما قد أهمل قضية العلم. وتؤكد محاورة «طيمايوس» على أن «الإنسان يمكنه أحيانا أن يضع تأملاته حول الأشياء الخالدة جانبا وأن يحاول الإبداع من خلال النظر في الحقائق القائمة في عصره ... عندئذ سيجد متعة لن يندم عليها ... وتسلية هادئة تتخللها الحكمة.» كما أن أفلاطون كان سيجد في نفسه حرجا من كتابة «طيمايوس» إذا لم يكن قد اتفق بينه وبين نفسه سابقا حول آرائه فيها. •••
وبتسليط الضوء على ما يبدو أنها الاستنتاجات الرئيسة التي خرج بها أفلاطون من أهم محاوراته (الجمهورية وطيمايوس)، يمكننا أن نتعرف على القناعات الأكثر عمقا التي كانت لدى أفلاطون. ولكننا في الوقت ذاته قد نرتكب خطأ طمس الجزء السقراطي في شخصية أفلاطون التي طالما جعلت له مكانة خاصة دون بقية المفكرين. فعلى طريقة معلمه سقراط، اعتقد أفلاطون أن الحقائق تظهر من خلال التحاور فقط؛ فالظاهر أمامنا أن كل أعماله كانت في صورة محاورات فيما عدا عملين اثنين - من بينهما محاورة «طيمايوس» - جاءا في صورة مناقشات استكشافية في الأساس. كما عمل أفلاطون عند اتباعه للنهج السقراطي على ألا يحط من شأن القانون وألا يكون دوجمائيا.
ومع ذلك، فإنه لم يستطع أحيانا أن يجنب نفسه النقد. لقد كان لديه الكثير ليقوله لا سيما لفلاسفة المذهب الطبيعي، بدءا من طاليس إلى ديموقريطس الذين ظنوا أن الطبيعة تفتقر إلى المنطق أو أنه لا يوجد غرض منها، بالإضافة إلى أرباب المنهج النسبي والسفسطائيين. فمن وجهة نظر أفلاطون، تسببت أخطاء السابقين في أخطاء اللاحقين. كان ذلك بسبب عدم إدراك خصومه المتعددين أن الطبيعة نفسها تتبع - إلى حد ما - نسقا منطقيا، حيث دفعوا بوجود تعارض بين القانون أو الأخلاق من جهة، والطبيعة الموضوعية من جهة أخرى، كما لو كانت أشياء مختلفة تمام الاختلاف. ويرى أفلاطون أنها في الأساس متشابهة لأنها تنتج عن إعمال المنطق. وكما ورد في آخر أعمال أفلاطون «القوانين»؛ فإن القانون والأخلاق مجالان «طبيعيان» أو بتعبير أدق: لا يقلان عن الطبيعة في حقيقة وجودهما باعتبارهما نتاجا «للعقل». ويقصد ب «العقل» هنا عقل الطبيعة وليس العقل البشري بالتأكيد. وتهدف محاورة «طيمايوس» إلى إظهار أن الطبيعة هي من إنتاج العقل (أو على الأقل هكذا تبدو لنا) ما دامت تبرز التكييف العقلي لأهدافها ووظائفها. ومن المفترض أن يبين كتاب «الجمهورية» أن رفاهية الإنسان تعتمد على مدى اكتشافه واتباعه الطريق الذي رسمه البنيان العقلي للطبيعة من أجل تحقيق أقصى درجات مصلحته. ويوضح مشروع أفلاطون بالأمثلة أن مثل هذا الاكتشاف يمكن أن يكون في وسع الإنسان إذا سار على خطى سقراط متبعا الأسئلة الصحيحة بالطريقة المثلى.
عقب وفاة أفلاطون، تباينت آراء رواد أكاديميته بين قطبي شخصيته الفلسفية. فتارة يدافع رواد هذه الأكاديمية عما اعتبروه تعاليمه الإيجابية قبل أن يشرعوا في تطويرها، وتارة أخرى يتبعون الجانب السقراطي من تفكيره الذي يعتمد على التجريب وطرح الأسئلة؛ وذلك خلال ما يسمى بالمراحل «الشكوكية» للأكاديمية تحت قيادة أركسيلاوس (حوالي 318-243ق.م.)، وكارنيادس (حوالي 219-129ق.م.) وقبل ذلك الوقت، كان أرسطو - أفضل تلاميذ أفلاطون - قد أسس مذهبه الفلسفي الخاص الذي تجاوز في آفاقه جميع أعمال أستاذه أفلاطون.
الفصل الثاني عشر
المعلم الأول: أرسطو
لو كان أرسطو شخصية خرافية لكانت محاولة اختراعه عبثا، وما كان أحد ليصدق بوجود مثل هذا الرجل. وحتى مع الوضع في الاعتبار الأعمال المفقودة للعلماء الموسوعيين القدماء كديموقريطس وبعض السفسطائيين؛ فلا يعتقد أحد أن هؤلاء المفكرين حتى لو بذلوا ما في وسعهم ليؤلفوا كل الكتب التي تعزى إليهم كان من الممكن أن يحققوا الكثير. ولكن الأمر يختلف بالنسبة لأرسطو، فما تبقى من مؤلفاته يناهز مجموع كلماته المليون ونصف المليون كلمة، بل هناك ما يحمل على الاعتقاد أن هذا لا يزيد على ربع ما كتبه، فكثير من كتبه التي أعدت للنشر فقدت، بما فيها بعض المحاورات التي كتبت على شاكلة محاورات أفلاطون، ومع ذلك فإن ما تركه لنا اليوم جدير بأن يضعه في مكانة لا ينازعه فيها أحد؛ إذ إن أية محاولة للتعبير عن جليل أثره لن تضاهي قدره.
والأعمال التي وصلتنا هي مجموعة من الرسائل التي كان يستخدمها في معهد أبحاث قام بإنشائه في أثينا عام 335 قبل الميلاد يعرف بالليسيوم، وتضم هذه الرسائل كتبا تتناول علوم الأخلاق والسياسة النظرية والخطابة والشعر والتاريخ الدستوري واللاهوت والحيوان والأرصاد الجوية والفلك والفيزياء والكيمياء والبحث العلمي والتشريح وأسس الرياضيات واللغة والمنطق الصوري وأساليب الاستنتاج والأغاليط وموضوعات أخرى يسهل وصفها فيما بعد. وثمة أعمال أخرى لا يعرف مؤلفوها الحقيقيون تبحث في «الاقتصاد» (وهو التدبير المنزلي في حقيقة الأمر) والميكانيكا ومجالات أخرى. كما تحتوي رسائل أرسطو على أول معالجة منهجية لما نطلق عليه الآن علوم الاجتماع والسياسة المقارنة وعلم النفس والنقد الأدبي. وما زالت كتبه في السياسة والشعر - علاوة على كتاباته الفلسفية المجردة - تدرس حتى اليوم، ولكن ثمة إنجازين من إنجازاته يسموان على جميع إنجازاته الأخرى أصالة وقوة، وهما: المنطق الصوري الذي ابتكره أرسطو من لا شيء تقريبا، وعلم الأحياء الذي عد أكثر الباحثين فيه تأثيرا حتى مجيء داروين.
كان والد أرسطو طبيبا، وكانت الأحياء هي أول ما انشغل به أرسطو، وخمس ما وصلنا من أعمال أرسطو يتناول بالوصف الخصائص الفسيولوجية والسلوكية لما يقارب 540 نوعا من أنواع الكائنات، معتمدا في ذلك على عمليات التشريح التي قام بها وملاحظاته وتحليلاته الخاصة، والتقارير التي قدمها الآخرون. وما أشد الحرج الذي وقع فيه من جاءوا بعده من علماء الحيوان بسبب ما أخذوه من وقت طويل ليضيفوا إلى دراسات أرسطو الدقيقة المحكمة، إلا أنهم كانوا يخفون ما وقعوا فيه من حرج بتسليط عدسة النقد على الأخطاء التي كان لزاما أن تتخلل أعماله. وقد ظلت بعض آرائه عن كيفية إتمام عملية الهضم في الحيوانات المجترة وعن الأجهزة التناسلية في الثدييات دون تغيير حتى القرن السادس عشر، وظلت بعض آرائه حول القلب والأوعية الدموية تقبل دون نقاش حتى القرن الثامن عشر، كما أن وصفه لعادات الأخطبوط وحبار البحر لم يطرأ عليه تعديل كذلك حتى وقت متأخر .
وكغيره من أعاظم العلماء كان أرسطو أحيانا يجانب الصواب بسبب بعض التعميمات المتسرعة؛ فقد رأى على سبيل المثال أن حشرات النحل العامل لا يمكن أن تكون إناثا لأنها تقدر على الوخز، و«ليس من شأن الطبيعة أن تجهز الإناث للحرب»، بل قال إن عدد أسنان الرجال يزيد بطبيعة الحال عن عدد أسنان النساء، وهو ما دفع البعض إلى التساؤل لماذا لم يكلف أرسطو نفسه عناء النظر في فم زوجته ليتأكد من صحة رأيه. ولكن يبدو أن شرذمة قليلين من البالغين هم الذين كانوا يستطيعون الاحتفاظ بأسنانهم كاملة في ذلك العهد، ويبدو أن أرسطو جانبه الصواب كذلك في ملاحظاته عن البقر والثيران والأيائل والظباء التي يمتلك فيها الذكور أسلحة أكثر فاعلية. وبشكل عام نجد أن نجاحات أرسطو تفوق إخفاقاته بكثير. ويعرض كتاب يؤرخ لعلم الأجنة قائمة بأربعة عشر اكتشافا من أهم اكتشافات أرسطو في هذا العلم منها أحد عشر اكتشافا صحيحا مقابل ثلاثة اكتشافات ثبت خطؤها. هذا بالإضافة إلى أن ثمة مسألتين في علم الأحياء كان يعتقد خطأ أرسطو بشأنهما على مدى قرون طويلة (وهاتان المسألتان تتعلقان بأسماك كلب البحر وأحد أنواع سمك الحبار وبعض الأنواع الأخرى)، بيد أنه تأكدت لاحقا صحة آرائه بشأنهما.
ويختلف المنطق الصوري اختلافا كبيرا عن علم الحيوان من حيث استخدام منهج الاستقصاء، فكم من أناس يستمتعون بمشاهدة الحيوانات وملاحظتها بينما لا يجدون في أنفسهم أي ميل للمنطق الصوري إذا ما قدر لهم الاطلاع عليه، فالمنطق لا ينطوي على أي من الأوصاف الدقيقة للطبيعة التي كان أرسطو مولعا بها، ولكنه ينطوي على التصنيف الصارم الذي استخدمه في علم الأحياء. وقد وظف أرسطو هذه المهارة توظيفا جيدا في تصنيف الأنواع المختلفة من الاستدلالات المنطقية وتمحيصها، والتي لم يفكر أحد في استخدامها من قبل. وقد كان لأبحاث أرسطو المنطقية كل الفضل في تطوير أجهزة الحاسوب الرقمية ولغاته، بعد طريق طويل قطعته في دروب تاريخ علم الرياضيات المتعرج مرت فيها بكثير من اللحظات الفارقة والأشخاص ذوي الأطوار الغريبة، كالمتصوف المعتوه الذي أتى من مدينة مايوركا، والذي صمم آلة لإجبار الكافرين على الإيمان بعد أن فشلت الحملات الصليبية في تحقيق مراميها، إضافة إلى اللعبة اللوحية المملة التي اخترعها لويس كارول. وعندما كتب العالم جون هيرشيل في القرن التاسع عشر أن «الملاحظات التي لا تجدي على الإطلاق هي دائما تلك التي انبثقت منها معظم التطبيقات العملية.» لم يكن يدرك عندها بالتحديد ما قد يكون أهم هذه التطبيقات التي سيتبين فيما بعد أنها تطبيقات المنطق الصوري. لا يخفى على أحدنا ما هي الحواسيب، أما التعريف الدقيق للمنطق فسيأتي شرحه فيما بعد.
قد يكون أرسطو مصدر إعجاب لنا، ولكنه كان بالنسبة للمتعلمين في العصور الوسطى المتأخرة يمثل الماء الذي يشربونه والهواء الذي يستنشقونه؛ فقد ظل التعليم المدني العالي على مدار قرون يقوم على النهل من رسائل أرسطو والتعليق عليها. وعندما استخدم دانتي (1265-1321م) عبارة «المعلم الأول» في «الكوميديا الإلهية» لم تكن ثمة حاجة للإشارة إلى أرسطو بالاسم. وبعد ذلك بأكثر من 300 عام كتب ديكارت آسفا: «كم كان هذا الرجل محظوظا! فكل ما كتبه سواء أمعن فيه فكره أم لم يمعنه ينظر إليه الناس اليوم وكأنه وحي نزل من السماء.» ولا يزال أثر أرسطو باقيا في القرن العشرين ليس بما تبقى من مفاهيمه ولكن بما خلفه من آثار في لغتنا ومن مفاهيم في فكرنا؛ فالمفاهيم التالية على سبيل المثال أخذناها عنه من خلال ترجمتها عن اللاتينية في الغالب: القوة والديناميكا والطاقة والمادة والكيفية والجوهر والفئة.
وليست هذه المفاهيم وغيرها الكثير إلا أصداء لما كان يدور في أروقة جامعات العصور الوسطى، والتي كانت في حد ذاتها أصداء لأفكار أرسطو. ويمكن التعرف على مدى تأثير أفكاره على قاعات الفلسفة المدرسية شبه المعتمة بمعرفة أن النقد الأساسي الموجه له لعدة قرون كان يقع همسا في مؤخرة فصول الدراسة، بينما كانت تعاليمه وآراؤه يتغنى بها المحاضرون عند السبورات. وفي عام 1641م كتب ديكارت إلى أحد أصدقائه سرا بعد أن أرسل إليه جزءا من جديد أعماله قائلا:
دعني أقل لك إن هذه التأملات الستة تحتوي على كل أسس الفيزياء التي وضعتها، ولكن أرجوك لا تخبر أحدا بذلك؛ فإن هذا من شأنه أن يؤلب علي أنصار أرسطو فلا يقبلونها؛ فكلي أمل أن يعتاد القراء تدريجيا على آرائي ومبادئي ويدركوا ما فيها من حقائق قبل أن يلاحظوا أنها تقوض مبادئ أرسطو.
كانت ردة الفعل العملية على أرسطو في ذلك الوقت قاسية، وشابتها المغالاة في بعض الأحيان. وقد كتب الشاعر جون درايدن الذي كان يخوض في العلم أحيانا الأبيات التالية في العام الذي انتخب فيه عضوا بالجمعية الملكية، وهي من أولى المؤسسات الأوروبية التي عملت على التخلص من الفكر المدرسي الأرسطي ونشر المعرفة الجديدة فيقول:
لم نعهد طغيانا طال كهذا،
طغيان خان فيه الآباء،
عقولهم الحرة لصالح هذا الإستاغيري (أرسطو)،
وجعلوا من شعلته نورا لهم.
كانت كيمياء أرسطو وفيزياؤه وآراؤه في علم الكونيات أول ما سقط سقوطا مدويا في القرن السابع عشر على يد جاليليو وبويل وغيرهما؛ فآراء أرسطو العلمية - باستثناء علم الأحياء - قد نبذت لا لأنها أخطأت في بعض الجزئيات، ولكن لأنها ضلت طريق الصواب، وهذا صحيح. ولكن قدرا كبيرا من الذم الذي ناله أرسطو كان يحمله بغير حق خطايا أتباعه الضعفاء الخانعين. وهذا ما نجده في هجوم فرانسيس بيكون (1561-1626م) أحد أبرز الشخصيات في الجمعية الملكية وأحد من مثلت كتابتهم نقطة انطلاق للثائرين في مجال العلم.
لا يزال بيكون يوصف بأنه أحد أنبياء الثورة العلمية على الرغم من أنه كثيرا ما لم يكن يعي جيدا ما يتحدث عنه، بل كانت لديه قدرة لافتة على أن يغفل عما يحدث من أمور مهمة. لم يكن بيكون ليلاحظ أي اكتشاف علمي مهم حتى لو حدث أمام عينيه كتفاحة نيوتن الشهيرة. إضافة إلى ذلك غض بيكون طرفه عن إنجازات طبيبه ويليام هارفي الذي اكتشف الدورة الدموية، ونبذ نظرية المغناطيسية التي قدمها شخص معروف لديه هو ويليام جيلبرت قائلا إنها محض عبث لا فائدة ترجى منه، كما تجاهل كذلك جاليليو وكبلر لأنه لم يوفق في فهم نظرياتهما الرياضية، فضلا عن أنه لم يتمكن من فهم كوبرنيكوس. ومع ذلك فقد لعب دورا كبيرا بصفته دعائيا في الانقلاب على كل من أرسطو والفلاسفة المدرسيين.
وقد وجه بيكون نقدين أساسيين لأرسطو: أولهما أن فيزياء أرسطو أصابها كثير من المفاهيم الخبيثة الخاطئة والنظريات المشوهة، وقد كان بيكون محقا في ذلك (رغم أنه لم يكلف نفسه عناء تفنيد أي منها بنفسه)، والآخر أن أرسطو كان دائم التجاهل للحقائق والازدراء لفكرة الملاحظة نتيجة لالتزامه الأعمى بالنظريات التي وضعها بنفسه. كانت هذه هي أشد الانتقادات التي وجهها بيكون لأرسطو ولكنها تجافي الصواب تماما رغم أنها تتردد على ألسنة هؤلاء الذين لم يعبئوا بقراءة ما قاله أرسطو قبل ترديدها.
وها هو أرسطو نفسه بعد أن انتهى إلى نتيجته الخاطئة بخصوص حشرات النحل العاملة التي سبقت الإشارة إليها، يقول:
تبدو هذه هي حقيقة تكاثر النحل اعتمادا على الحكم النظري، وما يعتقد أنها حقائق متعارف عليها في هذا الشأن ولكن لم يؤمن الناس بها حق الإيمان، وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نمنح المصداقية إلى الملاحظة لا إلى النظريات. ويمكن أن نمنح المصداقية إلى النظريات في حالة موافقتها للحقائق الناتجة عن الملاحظة.
وبصفة عامة نجد أرسطو قد كتب في موضع آخر يقول: «يجب أن نتحقق مما قلناه سابقا ثم نختبر صحته بمقارنته بحقائق الحياة، فإذا ما وجدناه يتفق معها فعلينا إذن أن نقبله، وإذا ما تعارض معها فلا مفر من التسليم بأنه محض حديث نظري.» وليست هذه مجرد عبارة توضح نيته بل إنها تشير بدقة إلى المنهج الذي اتبعه أرسطو في أعماله العلمية التي لا تزال موجودة حتى اليوم. والحق نقول إن أرسطو كان يحركه الفضول المتفتح نفسه الذي كان يحرك أعضاء الجمعية الملكية؛ ولكن لأنهم اعتبروا أنفسهم أصحاب فكر ثوري فقد حاولوا أن يقنعوا أنفسهم بغير ذلك. ولم يكن ما يحتاج إلى تعديل هو المناهج التي اتبعها أرسطو بل النتائج التي توصل إليها والتي لم يتمكن من تعديلها نظرا لوفاته منذ ألفي عام. وليس خطأه أن تتحول أفكاره وظنونه إلى عقائد يتبعها أتباعه ومن جاءوا بعده.
وقد أحسن جاليليو فهم ذلك أفضل من بيكون؛ حيث أقر أن أرسطو «لم يعترف بالتجربة ضمن طرق الوصول إلى نتائج المسائل الفيزيائية فحسب، بل قدمها على غيرها.» ولنأخذ مثلا مسألة البقع الشمسية، وهي التي كان اكتشافها تقويضا للصورة التي رسمها أرسطو للعالم (تلك الصورة التي ظلت محل إجلال قبل مجيء جاليليو لأكثر من ألف عام). وقد قال أرسطو: «على مدار العصور التي خلت حتى آخر يوم سجلته صحائفنا التاريخية، يبدو أنه لم يطرأ أي تغيير على السماء العليا.» وهو ما يعني أن شيئا لم يحدث بتاتا للنجوم. وقد استنتج أرسطو في نهاية المطاف أن الشكل الوحيد للتغيير الذي يمكن ملاحظته خارج الغلاف الجوي للأرض هو الحركة الدائرية المطردة، وأن هذا ما يفسر التباين الجذري بين عالم الأرض المضطرب وعالم السماء الصافي الهادئ. وقد توافقت هذه الفكرة بشدة مع الأغراض الدينية في العصور الوسطى؛ حيث إن هذا التقسم بين السماء والأرض يتسق مع ما جاء به الكتاب المقدس. ولكن عندما نظر جاليليو من منظاره ورأى بقعا شمسية غير منتظمة الشكل تدنس سطح الشمس؛ أدرك حينها أن السماء ليست بهذه الصورة من الهدوء، وأنها لم تعد ثابتة بأي حال من الأحوال. كما أدرك أن فكرة أرسطو حول الأرض والسماء كانت ستتغير لو أنه «ضمن نظريته الدليل الحسي الجديد» ولكان على القساوسة المتفلسفين في العصور الوسطى أن يبحثوا عن نظريات أخرى يعلقون عليها خيالاتهم الدينية. بالطبع لا يمكننا القطع بأن أرسطو كان سيغير رأيه إذا رأى ما رآه جاليليو، ولكن ما من سبب منطقي يدعونا للاعتقاد بأنه كان سيرفض ذلك.
ورغم ذلك فإننا نجد أنه كان هناك فارق جوهري ثوري بين منهج أرسطو في المعرفة العلمية والمنهج الذي تبناه بيكون، وهو يتمثل في موقف الرجلين من التكنولوجيا. أما أرسطو فلم تكن لديه أدنى فكرة عن هذا الأمر، حيث كانت معرفة الطبيعة غاية مرغوبا فيها في حد ذاتها ولم يكن لها شأن باختراع الأدوات الموفرة للجهد . وأما بيكون فكان رسول المجتمع التكنولوجي، ورغم أنه لم يكن منخرطا في العلم تمام الانخراط إلا أنه كان يظن بشكل من الأشكال أن العلم هو سبيله للوصول إلى مراده؛ فالطبيعة الأم يجب أن تخضع للإنسان وتلبي احتياجاته. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية وتنفيذ هذا المشروع الجديد أكد بيكون على ضرورة إجراء المزيد من التجارب والقيام بالمزيد من الملاحظات المنهجية إلى جانب تعزيز التعاون العلمي. ولم يكن أي من هذه الأشياء جديدا في حد ذاته إلا أن جهوده في هذا المضمار مثلت مسارا إصلاحيا في تقاليد العصور الوسطى.
فكر بيكون مليا في الطرق التي يمكنه من خلالها إبراز بيانات المسائل التجريبية وتقييمها، ولكن لسوء حظه لم يكن يجيد هذا الأمر بنفسه، بيد أن مبادئه كانت صحيحة؛ إذ كانت تحقق النجاح أينما ذهبت. آمن بيكون أنه بطرحه لهذه الأفكار يقدم أسلوبا جديدا يمكن من خلاله استبدال مبادئ المنهج العلمي الذي دافع عنه أرسطو. كما آمن بيكون - ككثير من الأجيال التي سبقته - أن أرسطو ينظر إلى العلم على أنه محض اختلاق لمجموعة من المبادئ العامة التي تتسم في ظاهرها بالحقيقة، ثم الحصول منها على أكبر قدر من النتائج دون الحاجة إلى الرجوع إلى الحقائق. وانتشرت هذه الشائعة في الوقت الذي كانت فيه أعمال أرسطو الموجودة حينذاك لا تتعدى بضعة أجزاء من رسائله في المنطق، كما أنها كانت تعتمد على الفهم الخاطئ لهذه الرسائل، فما كان يعزى لأرسطو من آراء لم يكن هو ما قاله حقيقة.
وينطبق هذا على العديد من الموضوعات التي كتب أرسطو عنها ولا يزال صحيحا حتى الآن. على سبيل المثال، يعتقد كثير من دارسي المسرح أن أرسطو يشترط في المسرحية المأساوية الجيدة أن تراعي ما يسمى ب «الوحدات الثلاث» وهي وحدة المكان والزمان والحدث (وهو ما يعني إجمالا أن العمل ينبغي أن يصور حدثا رئيسا واحدا يقع في مكان واحد ولا يستغرق وقتا أطول من وقت العرض المسرحي نفسه). وقد وضع هذه القواعد أحد النقاد الإيطاليين في القرن السابع عشر تعليقا على أرسطو. أما أرسطو نفسه فلم يكن ليعلم عن هذه القواعد شيئا، كما أنه لم يكن ليعلم الكثير عن قواعد الفلك والفيزياء الغريبة التي فرضت عليه. ووفق أحد الأدلة الموضوعة للعامة عن العلوم فإن أرسطو كان يعتقد أن الجنس البشري هو الهدف من وجود الكون بأسره؛ أي إن كل ما هو موجود في الكون قد وجد لخدمة الإنسان ومن أجله، وهذا خيال محض لا يمت للحقيقة بصلة ولكنه العرف الشائع آنذاك. ويؤكد تاريخ العلم أن أرسطو فسر سرعة سقوط الأشياء بقوله إن الجسم الهابط لأسفل «يتحرك سعيدا مسرورا كل دقيقة لأنه وجد نفسه يقترب من هدفه.» وثمة العديد من الأمور الغريبة عند أرسطو، ولكن هذا ليس واحدا منها؛ إذ إنه قدم تفسيرا ميكانيكيا لمسألة التسارع ولكنه غير صحيح. والخلاصة أن التشويهات والأوصاف السيئة التي قد تطلق على أرسطو يمكن أن تطول وتطول.
إذا كان الجميع يفهمون شخصا ما خطأ بشكل دائم؛ فإن ذلك عادة يرجع إلى خلل في هذا الشخص. وقد يعزى ذلك إلى تشوش كتاباته أو تناقضها أو ضعف صياغتها أو إلى كل ذلك. ولا تخلو رسائل أرسطو تماما من أي من هذه المثالب، ولكن عذره الأوجه لعادة التفسيرات الغريبة التي استمرت طويلا يكمن في أن كتاباته لم تكن معدة للنشر وأن ترجماتها (التي عادة ما تنقل عن تراجم عربية أو لغات أخرى) تتابع ظهورها في أشكال ملتبسة. وكان من الصعب في كثير من الأحيان أن تفهم بعض الأجزاء دون وضعها في السياق العام. بيد أن هذا لا يسوغ كذلك ما يقوله الناس حتى اليوم من كلام غريب عن أرسطو. وعلى أية حال فهذه عاقبة الشهرة الهائلة والتأثير البالغ اللذين يحدان من الاهتمام بقراءة ما تكتبه بالفعل. •••
ولد «المعلم الأول» - الذي كان كثيرا ما كان يسمى ب «الفيلسوف» في أواخر العصور الوسطى - في مكان خامل بمدينة ستاجيرا المغمورة الواقعة شمال اليونان عام 384ق.م. وكان والده طبيبا بالبلاط الملكي للملك أيمنتاس الثاني ملك مقدونيا. ولو لم يقدر لوالد أرسطو أن يفارق الحياة في سن صغيرة لاستأنف أرسطو مزاولة مهنة العائلة وأصبح هو نفسه طبيبا، ولكن نظرا لتغير الظروف انتقل أرسطو إلى أثينا وهو في السابعة عشرة ليلتحق بأكاديمية أفلاطون التي ظل بها طوال العشرين عاما التالية. ورغم أنه يبدو من الوهلة الأولى تابعا متحمسا لأفلاطون؛ فقد خالفه في كثير من آرائه فيما بعد. ويزعم أنه قال: «أفلاطون من المقربين إلي ولكن الحقيقة أقرب.» ولعل رغبة أفلاطون في أن يخلفه طالب أكثر تمسكا بآرائه من أرسطو كانت السبب في تجاوز الأخير عندما احتاجت الأكاديمية لرئيس يخلف أفلاطون بعد وفاته عام 347ق.م. لتئول في النهاية إلى سبوسيبوس ابن أخي أفلاطون. وبعد ذلك غادر أرسطو أثينا ومكث بعيدا لاثني عشر عاما. ثم يسرت له روابطه الأسرية الحصول على وظيفة المعلم الخاص للإسكندر الأكبر عام 343ق.م. ولم يكن الإسكندر حينها عظيما بل كان صبيا في الثالثة عشرة من عمره. وقد أنجز أرسطو معظم ملاحظاته الميدانية في علم الأحياء خلال هذه الفترة من الترحال. ويقال إنه بعد تنصيب الإسكندر ملكا استخدم نفوذه في مساعدة معلمه أرسطو في الحصول على عينات للكائنات الموجودة، فيقول: «لقد أعطيت الأوامر لبضعة آلاف من الرجال بآسيا الصغرى واليونان لضمان إطلاع ... (أرسطو) على أي كائن جديد يولد في أية منطقة.» وفي عام 335ق.م. - أي بعد تولي الإسكندر مقاليد الحكم بعام واحد - آب أرسطو إلى أثينا وأنشأ معهد الليسيوم بينما شرع تلميذه السابق في فتوحاته. وظل بعدها أرسطو لمدة ثلاثين عاما مقيما بأثينا يزاول التدريس والإشراف على الأبحاث ويكتب رسائله.
أرسطو.
وعندما توفي الإسكندر عام 323ق.م. وقع تمرد في أثينا ضد حكومة مقدونيا حيث كانت أثينا مثلها مثل باقي المدن الأخرى ترضخ للحكم المقدوني خلال عصر الإسكندر الأكبر. ولفقت لأرسطو الذي كان على علاقة طيبة بالنظام المقدوني تهمة الخيانة فغادر أثينا قبل أن يحاكم. ويقال إن أرسطو لم يشأ أن «يلوث أهل أثينا أنفسهم مرة أخرى بدماء الفلسفة» بعد ما حدث لسقراط. وقد توفي بعدها بعام في منفاه. •••
لا يسهل اليوم قراءة أعمال أرسطو إلا قليلا، بيد أن أسلوبه المنهجي يبقى عصريا بصورة تبعث على الاندهاش عند مقارنته بكتابات أي من الفلاسفة الإغريق الأوائل؛ فهو يبدو في كتاباته كما لو كان أستاذا جامعيا من عصرنا هذا. وليس هذا من قبيل المصادفة؛ فالأكاديميون في عصرنا هذا ينحدرون من سلسلة طويلة من الأكاديميين الذين ساروا على دربه واقتفوا أثره، وآية ذلك أنه يبدأ عادة بتعريف موضوع دراسته ويحدد بدقة الأسئلة التي سيعمل على حلها ثم يعمد إلى الإجابات القديمة على هذه الأسئلة ويعمل على تفكيكها وتبسيطها، ويزن الأقوال المعارضة لها ويحدد الفوارق حتى يزيل الغموض واللبس عن الأمور، ثم يدلي بدلوه في المسائل التي تبقى دون حلول أو إجابات، ويضع لها بعض الإجابات والتفسيرات من عنده، ويوضح حدود كل مسألة ويربطها ببعض تفسيراته لمسائل أخرى، ثم يلخصها في النهاية. وقد يكون من الصعب متابعة الموضوعات والمسائل التي تعج بها صفحات كتبه، ولكن ما يهون الأمر هو أن القارئ دائما ما يكون على دراية بما يسعى إليه أرسطو.
كان أرسطو يخوض دروب المعرفة كلها بنفس يملؤها التفاؤل في أن يحوز المعرفة ويجني ثمارها، ولم يكن لديه من الوقت ما يضيعه مع من يقرون بأنهم من أتباع مذهب الشكوكية، الذين قالوا إن المرء يجب أن يحجم عن إصدار الأحكام لأن الحقيقة أمر لا سبيل للوصول إليه، فقال: «كل الناس يتوقون للمعرفة بطبيعتهم.» ولم يراوده الشك في أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه هذه الغاية وتلبى هذه الرغبة، وكان يؤمن أن الناس «ينزعون بفطرتهم لمعرفة الحقيقة وعادة ما يصلون إليها.»
ورغم هذا فإن أرسطو لم يكن راضيا عن الطريقة التي بحث بها أسلافه من الفلاسفة عن الحقيقة، فعادة ما كانوا يطرحون أسئلة خاطئة ومختلفة ما كان لهم أن يشغلوا أنفسهم بها. ويرى أرسطو أن ثمة أربعة أمور رئيسة يجب على المرء أن يشغل بها نفسه حيال أي شيء وأن تبقى مميزة؛ أولها: ما المادة التي يصنع منها الشيء؟ وثانيها: ما صورة الشيء (أي تركيبه)؟ وثالثها: ما الغرض منه؟ وأخيرا: ما الذي أخرجه للحياة أو أدى إلى تغييره؟ ولا يتوافق مع الفكرة المعاصرة عن «العلة» إلا السؤال الأخير، إلا أنه يشار إلى الأسئلة الأربعة مجتمعة ب «علل أرسطو الأربع» وهي العلل المادية والصورية والغائية والفاعلة على التوالي. ولتوضيح هذه العلل الأربع نضرب مثالا بالمنزل؛ فعلته المادية هي أشياء مثل قوالب الطوب والأسمنت والأخشاب والحجارة، وعلته الصورية هي كيفية ترتيب هذه المكونات لتناسب تصميما شاملا معينا، وعلته الغائية (أو الغرض) هي توفير مأوى للناس، وعلته الفاعلة هي عامل البناء. ويمكن تطبيق هذا المخطط الرباعي على الظواهر الطبيعية كافة ولا يقتصر على المصنوعات اليدوية فحسب.
ويرى أرسطو أن الفلاسفة الأوائل قد أولوا جل اهتمامهم للعلل المادية دون غيرها، فكلما حاولوا تفسير ظاهرة ما يذكرون ببساطة مادتهم المفضلة كالماء أو الهواء أو النار أو غير ذلك، ثم لا يعرفون ما يتعين عليهم فعله بعد ذلك؛ ولهذا لم يحصلوا الكثير. ويرجع السبب وراء فقر التفسيرات القديمة في مسألتي العقل والنفس إلى أن الفلاسفة الأوائل شغلوا أنفسهم بالبحث عن المادة التي صنعا منها.
وعلى العكس من ذلك نجد أن الفيثاغوريين لم يولوا المادة اهتماما كبيرا، وقد توصلوا لإجابات تخص مسألة الشكل، فتوصلوا خصوصا إلى معرفة كيفية استخدام الأفكار الرياضية في تفسير بنية الأشياء وتكوينها، متجاهلين في ذلك العلل المادية. وهذا يفسر ولعهم الشديد بتفسير جميع الظواهر والأشياء على أنها محض أرقام. وإن كان مجهودهم هذا أمر يذكر فيشكر إلا أنه يبدو أنهم لم يدركوا أهمية اكتشاف المادة التي صنعت منها الأشياء (أي اكتشاف العلل المادية). وهذا يبين لنا أهمية الأخذ بالعلل الأربع وعدم الاستغراق المفرط في واحدة دون غيرها.
وكما قال أرسطو، من أهم المآخذ على فكر الفلاسفة الأوائل - لا سيما ديموقريطس - إغفالهم أهمية العلل الغائية أو الأغراض. فقد أجاب ديموقريطس على جميع الأسئلة الخاصة بالعلل المادية والصورية والفاعلة بالحديث عن ذرات متغايرة الشكل تتحرك في الفراغ. مم تتكون الأشياء؟ من الذرات. كيف تكتسب صورها؟ ليس هناك غير الذرات. ما الذي يجعلها تتحرك أو تتغير؟ ذرات أخرى. وقد رفض ديموقريطس الحديث عن أية غايات، وهذا خطأ كبير من وجهة نظر أرسطو؛ إذ إن تجاهل الحديث عن الغاية أو العلة من وجود شيء ما ووظيفته يعني الإخفاق في تفسير كثير مما يتعلق به. وهنا ندرك حدة شعور عالم أحياء مثل أرسطو بهذا النقص. وإلا فكيف يمكن تعليل وجود أجزاء النباتات وأعضاء الحيوانات إلا ببيان الوظائف التي تؤديها.
أما أفلاطون فلم يرتكب خطأ ديموقريطس بتجاهل العلل الغائية؛ فقد رأينا كيف يؤكد على أهمية الدور الذي يلعبه الغرض في الطبيعة للدرجة التي جعلته يقول إن صانعا ماهرا ينظم الظواهر جميعها. ولكن أرسطو يرى أنه على الرغم من الأهمية الكبيرة التي أولاها أفلاطون للعلل الغائية فقد تخبط عند الحديث عن العلل الصورية؛ فقد انبثقت نظرية أفلاطون الخاصة بالمثل من تشوش في معرفة كنه الصورة، فكما رأينا يعتقد أفلاطون أن صورة شيء ما (كصورة منضدة مثلا أو شيء جميل) هي كيان غير مادي لا يرتبط حتما بمنضدة معينة أو شيء جميل محدد، فحقيقة أن السرير مثلا يتكون من مجموعة من المواد يمكن تفسيرها على أن هذا السرير نسخة غير مثالية من شكل السرير. وينطبق الأمر نفسه على الأشياء الجميلة، فأفلاطون يصرح على لسان «سقراط» أن الشيء الجميل «يبدو جميلا لأنه يقتسم جزءا من هذا الجمال المطلق لا لشيء آخر.» أما أرسطو فقد حال تفكيره الواقعي دون اقتناعه بهذا الكلام، حيث كتب يقول إن التسليم بوجود هذه المثل أو الأشياء المطلقة «حديث مجرد لا فائدة منه»؛ إذ لا يفسر كل شيء. ولهذا السبب ولأسباب أخرى رفض أرسطو القول إنه لا يجب النظر إلى شكل شيء ما على أنه شيء منفصل يتحد معه بطريقة ما؛ ذلك أن الشكل ما هو إلا سمة من سمات هذا الشيء أو مظهر من مظاهره وليس شيئا مستقلا في حد ذاته.
وقد استغل أرسطو هذه الفكرة الخاصة بالشكل ليقدم نظرية جديدة تتحدث عن علاقة الجسد بالروح؛ فهو لم يؤمن بأن الروح طيف يسكن الجسد مؤقتا كما كان معروفا في العقيدة الأورفية التي اعتنقها أفلاطون، بل اعتقد أن ترتيب الخصائص الجسدية هو المسئول عن حياة الإنسان وهو ما يساعده على الفهم والإدراك؛ أي إنه لن تكون لك روح ما لم يكن لك جسد منظم يعمل بطريقة خاصة. فمن ناحية نرى أن أرسطو كان يؤمن بالمادية لأنه أنكر أن ما يمنح الإنسان الحياة ويجعله بشرا هو وجود أي شيء غير المادة؛ فالمادة هي المسئولة عن الحياة ولا شيء سواها. ومن ناحية أخرى نجد أنه لم يخطر ببال أرسطو أن تكون الإجابة على السؤال «ما هي الروح؟» هي ببساطة «كتلة من اللحم»، فلو فعل ذلك لكرر الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة الأوائل كطاليس مثلا الذي لم يفرق بين الشكل والمادة. ويقع الحديث عن امتلاك الإنسان روحا في نطاق الحديث عن الشكل؛ ومن ثم فإن السؤال عن المادة التي تتكون منها الروح يحيد بنا عن جادة الصواب. وبالمثل يقول أرسطو: «يمكننا أن ندع التفكير في مسألة ما إذا كان الجسد والروح كيانا واحدا أو لم يكونا؛ لأن ذلك يشبه التساؤل عما إذا كانت قطعة الشمع وشكلها شيئا واحدا أم لا.»
بيد أننا نعثر على أثر لأفكار أفلاطون بين طيات فكر أرسطو في مسألة الروح، فأفلاطون كان يظن أن الناس يحملون قبسا إلهيا بداخلهم وجد فيهم قبل أن يولدوا وسيبقى بعد فنائهم. ويرتبط هذا القبس (أو الروح) بشكل من الأشكال بملكة التفكير التي رأينا كيف تتحكم بطريقة ما في سير الكون كله وفي حياة الإنسان السعيد صاحب الفضيلة في الفلسفة الأفلاطونية. وقد قال أرسطو أيضا إن العقل هو أفضل ما يميزنا، فقد أقر في كتاباته الأخلاقية أن استخدام ملكة العقل يمهد الطريق للسعادة القصوى. وهذا حديث لا غبار عليه، ولكنه قال أيضا إن العقل هو الجزء الخالد من الروح. فكيف لنا أن نقنع بهذا؟ وبما أن أرسطو يعتقد أن الروح ليست إلا شكل الجسد فإن هذا يقتضي القول إنها لم تكن موجودة قبل الجسد ولن توجد بعده؛ فالروح لا بد وأن تفنى بفناء الجسد تماما كما يضيع الشكل المرسوم على قطعة الشمع بذوبان مادتها، وبذلك فإن خلود العقل مهما بلغ لا يمكن بحال من الأحوال أن يفضي إلى خلود الشخص. ونحن لا نعرف على وجه اليقين السبب الذي دفع أرسطو إلى الاعتقاد بخلود العقل. ولا يمكننا أن نفسر ذلك إلا من خلال القول إنها كانت فكرة أفلاطونية كامنة فيه.
وليست هذه سوى واحدة من نقاط كثيرة تظهر فيها أصداء عقيدة المعلم في كتابات تلميذه؛ فرغم رفض أرسطو لفكرة أفلاطون القائلة إن الواقع مقسم إلى عالمين أحدهما دني تملؤه الأشياء المادية العادية، والآخر علوي تعمره المثل المجردة فلا نزال نرى في كتابات أرسطو انعكاسا لهذه الفكرة الأفلاطونية القديمة؛ فإن سماء أرسطو تظهر وكأنها أثر من سماء عالم المثل الأفلاطوني الذي لا نراه، فعندما يتحدث أرسطو عن «الاهتمام الأسمى بالأمور السماوية التي هي موضوع الفلسفة العليا» فقد نعتقد للوهلة الأولى أنه يتحدث عن علم الفلك، ولكنها تبدو وكأنها ترانيم أفلاطون التي يمدح فيها عالم مثله الذي من المفترض أن يدرسه الفلاسفة التابعون له.
وغالبا ما تستهل أشهر الكتب المعاصرة التي تتناول دراسة الفضاء حديثها بمناقشة الأجرام السماوية. وعادة ما يظهر كتابها الخشوع أمام عظم الكون حال مقارنته بما يحيط بنا من بيئة متواضعة. أما أرسطو فلم يكن عظم الكون واتساعه هو السبب وراء إثارة دهشته بل كماله وإحكامه؛ فقد كان يعتبر الفلك أسمى من أن يكون فرعا من فروع العلم؛ ذلك أن الأجرام السماوية (فيما عدا كوكب الأرض والشهب والمذنبات) منتظمة الحركة وتتسم بالكمال والثبات والأزلية، وهي بذلك تحظى بقدر من القداسة الإلهية. وهذا ما جعلها لا تشبه الأشياء التي تقع دراستها في نطاق فروع العلم الأخرى التي تقل أهمية عنها كعلم الأحياء والميكانيكا الأرضية. فالأشياء الثابتة المستقرة التي لا تتغير كانت في مرتبة أعلى على مقياس الكمال الكوني. وكان التفكير من منطلق هذا النطاق تفكيرا أرسطيا بحتا حيث كان أرسطو يصب جل اهتمامه وتركيزه على اكتشاف الطبقات، فإذا ما ترك بمفرده مع بعض الأحجار الفكرية مثلا قام عقله المولع بالتصنيف بوضع هذه الأحجار في شكل هرم، وكان في الأخير يجد حجرا يتميز عن باقي الأحجار ليضعه على قمة الهرم. ويقع الإنسان على قمة هرم الكائنات الحية الفانية، ويقع العقل على قمة هرم السمات العقلية، وتقع الأجرام السماوية الثابتة على قمة هرم الفيزياء.
وبذلك نرى أن أرسطو كان يعتبر أن الشيء إذا كان ثابتا وأزليا كان في مكانة أعلى من غيره، شأنه في ذلك شأن بارمنيدس وأفلاطون. أما عندما يتعلق الأمر بمعرفة الأشياء الأرضية الفانية كان أرسطو يختلف مع بارمنيدس اختلافا كليا ولم يكن على اتفاق مع أفلاطون أيضا، فبارمنيدس قال إنه لا توجد مثل هذه الأشياء من الأساس؛ ولذلك لم يكن ثمة ما يمكن معرفته عنها، ورأى أن كل ما يوجد في الكون هو الواحد الذي لا يتغير. ورغم أن أفلاطون لم يشط كما فعل بارمنيدس فقد كان يرى أن معرفة المثل الثابتة تفوق أنواع المعرفة الأخرى. ولم يختلف أرسطو مع أفلاطون من حيث المبدأ في أن دراسة الأشياء الأرضية ليست على القدر نفسه من السمو، ولكن هذا من حيث المبدأ فحسب. وبالإضافة إلى أن المعرفة «السامية» عند أرسطو كانت تتعلق بعلم الفلك لا بالمثل المجردة فقد أدرك كذلك أنه رغم أن معرفة الأشياء التي لا تتغير قد تكون محبذة من الناحية النظرية، فمن الصعب أن تكتسب هذه المعرفة بطريقة عملية؛ ولذلك كان على المرء أن يرضى بمعرفة الأشياء الأرضية وأن ينظر للجانب المشرق منها وهو:
أن بعض المواد التي تشكلت بفعل الطبيعة لم تنشأ من العدم، ولا تفنى، وتتمتع بالخلود الأبدي، بينما بعض المواد الأخرى تسري عليها قوانين النشوء والفناء. ويتمتع النوع الأول من المواد بالسمو والقداسة، ولا يمكن معرفة الكثير عنه. كما أن الدلائل التي قد تساعد على معرفة شيء عنه تقع في نطاق الحس والشعور وعلى نحو غير كاف. أما فيما يخص النباتات والحيوانات الفانية فلدينا قدر وافر من المعلومات عنها؛ فهي تعيش مثلنا في عالمها الخاص ، ويمكن جمع الكثير من المعلومات عن أنواعها المختلفة إذا كانت لدينا الرغبة والعزم ... فمعرفتنا بالمخلوقات الأرضية تتسم باليقين وكمال المعرفة.
وقد سعى أرسطو وتلاميذه في معهد الليسيوم بكل جهدهم لاستغلال هذه الفرصة؛ بجمع المعلومات الكثيرة المتوفرة عن المخلوقات الأرضية وتصنيفها ومحاولة شرحها، ليس في مجال الأحياء فحسب بل في كل مضمار كان من الممكن فيه إشباع «الرغبة الطبيعية للمعرفة لدى الإنسان.» وفضلا عن نشاطهم العلمي قاموا بتجميع تفاصيل 158 دستورا سياسيا وقاموا بعمل مجموعات من الكتب عن عادات البربر ومعتقداتهم وتجميع التقاويم الرياضية (التي كانت من طرق تسجيل التاريخ المهمة في ذلك العصر) بالإضافة إلى كتب في تاريخ الفلسفة وسجلات العروض المسرحية والموسيقية. وقد اشتهر أرسطو كذلك بجمع الكتب، فيبدو أن معهد الليسيوم كان يحتوي على مخططات تشريحية لجسم الإنسان وخرائط وربما عينات بيولوجية شكلت جزءا من مكتبته.
ويوضح مدح أرسطو لمجال دراسته المفضل وهو علم الحيوان الفرق الجوهري بينه وبين أفلاطون؛ فقد كان أفلاطون يرى العالم الدنيوي من حوله بعين التشاؤم بحيث لا يحوي كل شيء حوله بين دفتيه المعايير التي حددتها المثل العليا. وكانت مهمة الفيلسوف أن يقنع الناس بهذه الحقيقة المحبطة وبالسمو فوق هذا العالم ولو في عقولهم على الأقل، وأن يحببهم في المثل بدلا منه. أما أرسطو فقد كان متفائلا، فبينما كان أفلاطون يحاول الهروب من الكهف المظلم الذي تقبع فيه الحقيقة المادية بحثا عن عالم أرقى وأسمى، كان أرسطو يرى أن هذا الكهف ليس بهذا السوء إذا ما أضاءته المصابيح، وخاصة إذا ما شرعت في تشريح الحيوانات داخله. فالجمال الذي كان يرومه أفلاطون في المثل غير الواقعية التي لا وجود لها في عالمنا كان أرسطو يراه في كل شيء حوله.
ولذلك كان أصغر الأشياء والكائنات في نظر أرسطو يستحق الدراسة؛ ذلك أن «كل شيء فيها سيكشف لنا عن جانب رائع من جوانب الطبيعة.» وما أثار أرسطو هو أن «غياب العشوائية وكون كل شيء يقود إلى غاية يشيع في الطبيعة شيوعا جد كبير.» وكان أرسطو يقصد ب «كون كل شيء يقود إلى غاية» أن كل شيء في العالم معد للعمل لتحقيق غاية محددة، وهذه النقطة يمكن تفسيرها في ضوء نظريته عن «العلل الغائية». فأجزاء العين على سبيل المثال تتكاتف وتتحد لتنتج لنا الرؤية، وبذلك تكون الرؤية هي العلة الغائية أو الغرض من العين؛ إذ تقوم أجزاؤها بعملها من أجل تحقيق الرؤية، وهذا هو المدخل لفهم هذه الأجزاء ومعرفتها كما يقول أرسطو. فالأسود لديها أنياب حادة لتجهز على فريستها وتقطع لحمها، وجذور النباتات تمتد لأسفل وليس لأعلى بحثا عن الرطوبة وهكذا. وقد أقر أرسطو أنه لا يمكن وصف كل ما في العالم الطبيعي بهذه الطريقة؛ فبعض الأشياء لا توجد لغرض بعينه وإنما وجدت على حالتها تلك بالصدفة دون أي سبب.
ولكن ما أثار دهشة أرسطو هو أن معظم الأشياء في العالم لم يولد من رحم الصدفة، ولكنه تنبأ بالاعتراض على هذه الطريقة في التفكير، فربما اكتشفت عجائب علم الأحياء بالصدفة، وربما كان ظهور الغرض مجرد وهم، وفي ذلك يقول:
لماذا لا تعمل الطبيعة فحسب بالطريقة نفسها التي تمطر بها السماء دون غرض أو سبب ودون أن يكون ذلك هو الأفضل؟ فالآلهة لا تنزل المطر من السماء من أجل إنبات الذرة في الأرض، وإنما يهطل المطر نتيجة لضرورة معينة؛ فالبخار الذي يرتفع لأعلى يبرد وبمجرد برودته يتحول إلى ماء ثم يسقط مرة أخرى على الأرض. أما نمو الذرة في هذه الحالة فهو محض صدفة. إذن لماذا لا يمكننا أن ننظر من المنطلق نفسه لباقي أجزاء الطبيعة؟ لماذا علينا أن نعتقد أن أسناننا على سبيل المثال برزت لضرورة ما؟ ولماذا لا نقول إنه من قبيل الصدفة المحضة أن صارت أسناننا الأمامية مثلا حادة ومناسبة من أجل التقطيع، وضروسنا كبيرة وملائمة من أجل مضغ الطعام؟
ولكن أرسطو رفض هذا التفسير البديل واصفا إياه بأنه بعيد الاحتمال بدرجة كبيرة، وفي ذلك يقول: «لأن الأسنان وجميع الأشياء الأخرى الموجودة بالطبيعة قد وجدت بطريقة ما، ولا يمكن أن تكون هذه الطريقة هي نتاج الصدفة أو التلقائية.» وقد يحدث مصادفة أن تولد بعض المخلوقات بسمات أفضل لا تتوافر لغيرها، ولكن ليس إلى هذا المدى ولا بهذا الانتظام الثابت الذي لا يتغير. ولو كانت الصدفة هي المسئولة عن وجود الأسنان محكمة الصنع على سبيل المثال لكانت هناك أسنان كثيرة أخرى سيئة الصنع ولا حاجة لها. وإذا نظر الإنسان حوله فلن يجد مثالا على هذا التنوع العشوائي.
وقد كان أرسطو محقا فيما ذهب إليه؛ إذ ليس من قبيل الصدفة أن توجد الطبيعة على هذا القدر من الإحكام، فعلى سبيل المثال يعتبر تمكين الأسنان الحادة الأسود من الصيد والأكل جزءا من سبب وجودها. وهذا هو ما كان يرمي إليه أرسطو؛ فقد كان على يقين من أن مبدأ النفع يلعب دورا كبيرا في التفسيرات البيولوجية رغم أنه لم يكن يدرك السبب الحقيقي وراء هذا المبدأ؛ لأنه لم يكن يعرف شيئا عن نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين. ففي مثال الأسود نجد أن أرسطو قد فاته معرفة أن الأسود ذات الأسنان الحادة ستحظى بحياة أفضل على حساب سائر الأسود الأخرى وستنتشر بشكل أكبر منها؛ ذلك أن الأسود التي ستأتي فيما بعد ستكون هي سليلة الأسود الأوفر حظا ومن ثم سيكون لها أسنان كأسنانها. وبوضع هذه التفاصيل المهمة التي ذكرها داروين في الحسبان يمكننا أن ندرك أن هذه الأسنان التي تستخدم لتحقيق هدف بعينه تساعد على تفسير وجود الأسود اليوم بمثل هذه الأسنان. وبهذا نرى أن أرسطو كان يسير في الطريق الصحيح ولكن بخطوات متعسرة.
ولا تغنينا تفاصيل داروين عن العلل الغائية لدى أرسطو، بل على العكس فالآلية التي تعمل وفقا لها نظرية الانتخاب الطبيعي توضح كيف تنطوي الطبيعة على العلل الغائية لا أن تستغني عنها. وقد طمست هذه الحقيقة عن طريق الاستخدامات الدينية واستخدامات من يسعون لإعاقة تحقيق أي تقدم لمصطلح أرسطو العلماني والبسيط للعلل الغائية. وفي الحقيقة توضح نظرية الانتخاب الطبيعي أنه ليس من المهم أو الضروري أن يعتقد الناس في وجود إله أو وجود آلية مبهمة أو عقل واع في الطبيعة البيولوجية لنتمكن من تفسير كيفية عملها. ولم تتضمن العلل الغائية التي تحدث عنها أرسطو أيا من هذه الأمور؛ ولذلك قام اللاحقون من رجال اللاهوت من أتباع أرسطو باستحضار هذه الأشياء مستعينين في ذلك بفكر أفلاطون، وإن كان لهذا حديث آخر. وقد بذل أرسطو ما في وسعه لتوضيح أنه حين قال إن الخصائص الوظيفية للنباتات أو الحيوانات «تخدم» هدفا بعينه أو غرضا محددا لم يكن يعني بذلك وجود تخطيط واع لا على مستوى الكائن نفسه ولا على مستوى الإله أو الطبيعة المتجسدة. أما بيكون وكثيرون آخرون فقد قالوا إن العلل الغائية التي قال بها أرسطو ليست إلا أكواما من قمامة يجب التخلص منها قبل أن يشق أي من العلوم الناضجة طريقه. وقد يصح هذا الكلام إذا ما قصدنا به بعض العلل الغائية التي نسبها إلى أرسطو زورا بعض أتباعه، وهي مزاعم لا شأن لأرسطو نفسه بها.
ولكي ندرك ما كان أرسطو يعنيه بالعلل الغائية، علينا أن ندرك نطاقها الذي حدده لها؛ فقد قال إن تفسير الأمور على أساس الغرض منها لا يتخذ إلا ثلاثة أشكال: أولها الأفعال الذكية للكائنات الحية كأن يطارد حيوان فريسته ليأكلها، أو أن يمشي الإنسان لعمل بعض التمرينات؛ فالحيوان كان يسعى للحصول على الطعام والإنسان كان يسعى وراء الهواء، وهذه أسباب ما أتوا من أفعال. ولا خلاف على هذا النوع من «الأغراض» أو «العلل الغائية» ولا على النوع الثاني الذي يشمل المصنوعات كالبيت. ويرجع السبب في حديثنا عن العلل الغائية أو الغرض في شرح الدافع وراء بناء سقف للبيت إلى أن الشخص الذي بناه كان يقصد شيئا من وراء ذلك، مثله كمثل الحيوان المفترس أو من يعتني بصحته؛ إذ إن لكل منهم خطة لما يفعل وغرض منه، فربما بنى البيت بهذه الطريقة ليقيه من المطر على سبيل المثال، وفي هذه الحالة يمكننا القول إن «الغاية» من بناء السقف هي حماية السكان من المطر، وهذه حقيقة لا لبس فيها. أما النوع الثالث من العلل الغائية فهو ذلك الذي تعج به كتابات أرسطو في علم الأحياء ويشمل تفسير بعض خصائص الكائنات الحية التي تقوم ببعض الوظائف المفيدة لهذه الكائنات، مثل النظام المعقد الموجود بالعين أو شكل الأسنان أو النظام الغذائي بالنباتات. وكما أكد أرسطو يكمن الفارق الكبير بين هذا النوع والنوعين السابقين من العلل في أنه لا ينطوي على أي نشاط عقلي؛ أي ليس ثمة هدف محدد يبتغيه الكائن الحي. ورغم هذا فإن العيون والأسنان والجذور تؤدي وظيفة في الكائنات التي هي جزء منها، حتى وإن كان هذا الهدف لا يمثل جزءا من خطة واعية، ولا يمكنك فهم الطريقة التي تعمل بها ما لم تفهم الوظيفة التي تؤديها. وهذا ما أدركه أرسطو فجعل يتحدث عن العلل الغائية في تفسيراته البيولوجية، كما أنه لم يتوصل إلى سبب وجود أجزاء العين وسبب عملها «من أجل تحقيق الرؤية».
ولا ينبغي أن يضلنا مصطلح العلل «الغائية» ويقودنا إلى الاعتقاد أن أرسطو قصد اعتبارها مطلقة بأي حال من الأحوال، حيث كانت هذه العلل تمثل له أجمل ما يمكن إدراكه من علل، إلا أنه لم يكن ليعتقد أنه بمجرد التوصل إلى العلة الغائية لظاهرة ما يصير كل شيء آخر بلا قيمة. فلا يزال ثمة أشياء أخرى قيد الاستقصاء مثل «العلل» بالمعنى الحديث للكلمة؛ أي الظروف السابقة التي أدت إلى نشأتها. ولم يكن أرسطو يسعى لإلغاء هذه العلل «الفاعلة» ليستبدل بها العلل الغائية، كما لم تكن علله الغائية مطلقة بمعنى أنها توضح النظام العام الذي يسير الكون وفقا له، فكثير من المفكرين اللاحقين قد اعتقدوا أن الرب خلق الكون من أجل الإنسان ونفعه، وأنه دبر أمور الكون بما يحقق مصلحة المخلوقات الأثيرة لديه؛ فقد خلق الرب بعض أنواع النباتات والحيوانات على سبيل المثال لكي يأكلها الإنسان (وقد قال أحد رجال الكنيسة عام 1836م إن الرب قد وضع الفحم في الأرض ليحرقه الإنسان في النهاية). ولكن مثل هذه الأفكار لم تكن مألوفة لدى أرسطو؛ إذ لم ير أي رابط بين الأنواع المختلفة في الكون، إضافة إلى أن الرب لدى أرسطو لم يكن ليعبأ بالإنسان ولا ليلقي له بالا كما سنرى. ونادرا ما يسهب أرسطو في الحديث عن هذه الأفكار الغريبة بطريقة قد تلتمس لها الأعذار وتؤيد صحتها إلى حد ما، فأحيانا يتحدث عن الطبيعة كما لو كانت مخلوقا ذكيا قام بتصميم الآليات المذهلة لعلم الأحياء، ولكن السياق العام للأفكار يبين لنا أنه كان يستخدم المجاز كما يفعل بعض علماء الأحياء هذه الأيام. ولو فسرت هذه الأفكار حرفيا لما توافقت مع مجمل أفكاره بالمرة. بيد أن أرسطو قد أقر مصادفة ذات مرة أن النباتات «وجدت من أجل» الحيوانات وأن الحيوانات وجدت من أجل الإنسان، ولكن السياق العام يوضح مرة أخرى أنه لم يقصد سوى أن نوعا ما من الأحياء قد يستغل نوعا آخر باتخاذه طعاما على سبيل المثال.
ومحصلة ذلك أنه عندما رفض المفكرون أصحاب الثورة العلمية في القرن السابع عشر الكون الذي تفسره الأغراض والذي قال به سلفهم في العصور الوسطى؛ فإنهم لم يتخلصوا بذلك من أرسطو وأفكاره، بل على العكس كانوا يرجعون إليهما، فعندما قال ديكارت: «إننى أرى أن البحث المألوف عن علل غائية في مجال الفيزياء هو أمر لا طائل منه.» لم يكن يعارض أرسطو وأفكاره رغم أنه كان يظن ذلك. وفي علم الأحياء لم يكن حديث أرسطو بأن بعض الأشياء قد وجدت «من أجل» غيرها أكثر غموضا من اقتناعه بأن البحث عن وظائف الأشياء وتنظيمها يحمل متعة أكبر من البحث الجاف في المادة التي تتكون منها، والذي كان الشغل الشاغل لعلماء الطبيعة الأوائل .
ما إن ننقي أرسطو وأفكاره مما علق بهما من شوائب «المذهب الأرسطي» في العصور الوسطى (بل وبعد ذلك بقليل) نرى أن قدرا ضئيلا جدا من أفكاره حول غائية الطبيعة لا يتوافق إلا مع طرق التفكير العلمي المعاصرة فيما عدا أمرا واحدا فقط، وهو أمر شديد الأهمية إلا أن غرابته تتعلق بفكرة أرسطو حول الأحياء والجمادات أكثر من تعلقها بفكرة الغايات والأغراض؛ فقد كان أرسطو يعتقد أن حركة بعض الأجرام السماوية على الأقل يمكن أن تفسر في إطار نظرية الغائية؛ أي الرغبة في التقرب للرب، وعن ذلك يقول دانتي في الأسطر الأخيرة من «الكوميديا الإلهية»: إن «الحب هو الذي يسير الشمس والنجوم الأخرى.» ويبدو هذا أمرا مضحكا على خلاف ما أراد دانتي، فأنى للحب أن يحرك نجما! وتبدو هذه الفكرة للوهلة الأولى وكأنها تطيح بكل ما ذكره أرسطو من أشياء محسوسة عن العلل الغائية، كما أنها تعزز النظرة التقليدية لأرسطو على أنه شخص يتبنى رؤية غامضة للطبيعة يفسر فيها سلوك الأجسام الفيزيائية البسيطة كسقوط حجر مثلا في إطار رغبة هذا الشيء وأهدافه. والحق نقول إن ما كتبه أرسطو عن حركة الأجرام السماوية يعد من أكبر الأسباب التي أدت إلى شيوع هذا التفسير.
ويقدم هذا التفسير صورة مغلوطة على أية حال، فالحقيقة الجلية هي أن أرسطو كان يعامل النجوم والكواكب معاملة الحيوانات لا معاملة الأحجار؛ فهي في نظره تتمتع بالحياة على خلاف الأحجار، وما دامت تتمتع بالحياة فإن لها نصيبا من النشاط العقلي. وبناء على هذه الفكرة (وإن كانت غريبة بالنسبة لنا فإنها تبقى أقل غرابة إذا كانت فكرة الألوهية لديك تشمل النجوم بطريقة طبيعية كما هو الحال مع قدماء الإغريق) فليس غريبا أن يقول إن النجوم والكواكب تحركها النوازع والرغبات، فالحب الذي يحرك النجوم يشبه الشهوة التي تحرك الحيوانات نحو فرائسها، فحركات النجوم تتأثر بحبها للرب كما تتأثر حركات الناس بمن يحبون من أقرانهم من البشر. ومهما كانت الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى مثل هذه الفكرة فإن ما يقوله أرسطو عن الأجرام السماوية يتفق على الأقل مع باقي تفسيراته المحكمة للعلل الغائية.
إلا أننا قد نتساءل عما دفع أرسطو إلى الحديث عن حياة الحب التي تحياها النجوم. وهنا نجد أن أرسطو كثيرا ما يذكر أن النتائج المتعلقة بالمسائل الفلكية عادة ما تكون غير مؤكدة، وهو الجانب المؤقت فيها. ولعل ما دفعه إلى اعتناق هذه الأفكار حول الرب والحب والنجوم هو باقي آرائه الفيزيائية لا سيما ما اعتبره آراء قوية عن طبيعة الحركة والتغير. وقد كانت فكرة الحب الذي يحرك النجوم محض نتيجة لم يدرك كيف يتفاداها بعد أن حصر نفسه في زاوية ضيقة.
ويرجع السبب في جزء من ذلك إلى أن أرسطو هو من أراد أن يحصر نفسه في تلك الزاوية؛ حيث رأى أن الفكرة الغامضة التي تقول بوجود رب يساهم فيما يقوم به الكون من نشاطات أو يتدخل في طبيعته، كانت معتقدا واسع الانتشار اعتبره الناس آنذاك أحد الحقائق المقبولة، وكان على العلماء الحقيقيين تفسيره، وكذلك فإن الاعتقاد السائد آنذاك بأن السماء على قيد الحياة كان لا يقبل الشك. وقد كان ضربا من المستحيل أن نصدق أن الجميع كانوا مخطئين بخصوص هذه الأفكار. فإذا ذهبت أفضل النظريات الفيزيائية التي يمكنه التوصل إليها إلى أمر ما وكان الإله الذي توصلوا إليه أدنى مرتبة كالكائنات ذات المراتب العلى - وهو ما يتوافق مع أفكار أرسطو الدينية - إذن لكان من الأفضل أن يأخذ بالآراء كلها. إلا أن ثمة قسطا من أفكاره الفيزيائية أصابها قدر من التشوه بسبب محاولات أرسطو لتوسيع هذه الأفكار لتصل إلى الاستنتاجات اللاهوتية المقدرة سلفا، ولكن هذا لا يسري على كثير من أفكاره. وبصفة عامة نجد أن الصورة التي رسمها أرسطو عن العالم تتلاءم أجزاؤها بشكل محكم ودقيق؛ مما يفسر سر ذيوعها وانتشارها بهذه الطريقة. وسنعرض الآن للنقاط العامة التي تمثل إطار صورته وصولا إلى المحطة الرومانسية الأخيرة في أفكاره حول السماء. •••
كانت الفيزياء في مفهوم أرسطو هي دراسة التغير، وكانت مهمتها الرئيسة الوصول إلى طريق وسط بين أفكار بارمنيدس الساذجة التي أنكر فيها حدوث التغير من الأساس وأفكار هرقليطس الذي رأى أن ليس هناك سوى التغير. وللوصول إلى تفسير وسط بين هذين الرأيين المتطرفين عاد أرسطو إلى جذور القضية لينظر في كنه «التغير» ويبحث في ماهيته، وتوصل إلى أنه ينطوي على ثلاثة أمور وهي: الشيء الذي يتغير، والحالة التي يتغير إليها، والحالة التي يتغير منها. ولنضرب مثالا بإناء من الماء البارد يتعرض للحرارة؛ فلدينا إناء الماء ولدينا حالة البرودة وحالة الحرارة ، والتغير هو تحول الماء من الحالة الأولى إلى الثانية. إلا أن التغير لا يحدث دوما على شاكلة هذا المثال؛ فقد لا تحتوي حالات التغير على الخصائص الملموسة كالبرودة والحرارة، فبالإضافة إلى تغير الخصائص ثمة تغيرات في المكان (أي الحركة) والحجم (أي النمو أو النقصان) والمادة (أي النشوء والفناء أو الميلاد والموت). وفي نوع من أنواع التغير نجد العناصر الثلاثة المذكورة آنفا وهي وجود الشيء الذي يتغير والحالات التي يوجد عليها قبل التغير وبعده.
وقد استفاد أرسطو من ذلك كثيرا في تطوير أفكاره بالبناء على أفكار هرقليطس. لقد أسهب هرقليطس وأطنب في الحديث عن حدوث التغير في كل مكان، ولكنه لم يقل من الكلام القيم عن سبب هذا التغير إلا قليلا (كما رأينا في مثال إناء الماء المذكور آنفا). وهذا التجاهل من جانب هرقليطس لأسباب التغير يشبه في غرابته اختفاء قطة شيشاير التي ذكرها لويس كارول والتي تركت ابتسامتها حاضرة بعد اختفاء وجهها بوقت طويل، ولا يمكن التبسم دون وجود وجه يتبسم. وبالمثل يقتضي التغير وجود شيء متغير، ويظل هذا الشيء المتغير ثابتا بطريقة ما خلال عملية التغير، وهو ما يعني أن التغير يتضمن شكلا من أشكال الثبات؛ فعند تغير درجة حرارة إناء الماء فإنه يظل رغم ذلك إناء ماء. ويستدعي ذلك أن التغير المستمر - أي الغياب التام - لا يمكن أن يكون أساس الطبيعة بالطريقة التي قال بها هرقليطس؛ لأن هذا ببساطة يعني وجود ابتسامة القطة دون وجود القطة نفسها.
ولا ينطوي التغير على فكرة الثبات فحسب، بل على مفهوم الاحتمالية كذلك؛ ذلك أن هناك حدودا لعملية التغير، فالبذرة قد تتحول إلى نبات وليس إلى تمثال، وهي في هذه الحالة نبات محتمل وليست تمثالا محتملا. وبشكل عام عندما تتغير المادة من حالة إلى أخرى فإن هذا يعني أن الحالة المحتملة أصبحت حالة حقيقية. وهذه الأفكار المتعارف عليها حاليا والتي تتعلق بالاحتمالية والحقيقة هي من بنات أفكار أرسطو، وقد شكلت الأساس الذي اعتمد عليه في الرد على أفكار بارمنيدس. لقد اعتقد بارمنيدس لغير سبب أن الموجود لا يمكن أن يأتي من العدم وأن هذه الاستحالة هي التي كان مفهوم «التغير» (الذي كان مدعاة للسخرية آنذاك) ينطوي عليها، ولكن أرسطو اعتقد أن الحديث عن الوجود والعدم أمر يكتنفه الغموض والإبهام. وما ينطوي عليه التغير هو تحول من الاحتمالية إلى الحقيقة. ومن خلال هذه الفكرة فقط يمكننا أن نفهم بطريقة واضحة ودون أية إشكاليات أن الأمر كان تحولا من العدم إلى الوجود؛ فالماء (في المثال السابق) كان من المحتمل أن يكون ساخنا ثم تحول إلى الحالة الساخنة بالفعل، والبذرة كان من المحتمل أن تكون شجرة ثم تحولت إلى شجرة بالفعل. وبهذا فليس ثمة غموض ينافي المنطق في هذه الفكرة.
وبعد أن أوضح أرسطو مفهوم التغير وأكسبه احتراما على المستوى الفكري أخذ ينظر إلى العوامل المادية الداخلة في صلب القضية عن كثب. فما هي الأشياء المادية التي يصيبها التغير؟ ولم تقنعه في هذا الشأن ذرات ديموقريطس وليوكيبوس؛ لأن المادة لديهما كانت قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية (أو كذلك قال أرسطو)، وهو ما يعني أنه لا توجد تلك الجزئيات المطلقة. أما ذرات أفلاطون الهندسية فقد كانت أسوأ من ذلك؛ فهي أشياء مجردة لا تتصف بالمادية ولم يكن لها أن تقبع تحت مظلة هذا الجانب من علم الفيزياء، فمجالها هو الرياضيات البحتة؛ ولذلك قرر أرسطو العودة إلى «الأضداد» التي تحدث عنها أهل ملطية كالساخن والبارد والرطب والجاف، وهذه على ما يبدو هي الخصائص التي تدخل في جميع عمليات التغير التي تحدث على الأرض وفي الجو ، وهي أشياء على الأقل يمكن أن يتعاطى الإنسان معها.
كانت الثنائيات الأربع لهذه الخصائص تجسيدا للعناصر الأربعة لدى إمبيدوكليس: النار (الساخن والجاف)، والماء (البارد والرطب)، والتراب (البارد والجاف)، والهواء (الساخن والرطب). يرى إمبيدوكليس أن جميع الأشياء المعروفة في عالمنا بما فيها الكائنات الحية تتكون من مزيج من هذه العناصر الأربعة وأن كل شيء يعمل تبعا لخصائص العناصر الغالبة على تكوينه. وعلى عكس عناصر إمبيدوكليس يتميز كل عنصر من عناصر أرسطو بالقدرة على التحول إلى أي من العناصر الأخرى عندما تخلط العناصر الأساسية الأربعة؛ فمثلا عند تجفيف الأشياء الرطبة تبرد الأشياء الساخنة وهكذا. وكان هذا هو أحد الأسباب التي ساعدت على ازدهار علم الكيمياء في العصور الوسطى، حيث لم يذكر أرسطو شيئا يستبعد احتمال تحول المعادن الخسيسة إلى ذهب إذا كانت الظروف مواتية، إلا أن أرسطو لم يكن يروم من دراسة الفيزياء تحقيق الثراء والغنى، بل أراد تفسير طريقة عمل الظواهر الطبيعية وحسب. وكانت حرارة الشمس هي المحرك الرئيس لعملية التغير التي تصيب التحولات المختلفة للعناصر، وهو ما مثل أولى الحبات في عقد التغير الذي صهر كل شيء آخر في أتون وأحدث التفاعل بين الأضداد الأربعة.
وكان للقياس دور ضئيل في هذا النظام الفيزيائي، وهو السبب الرئيس وراء وصوله إلى طريق مسدود. فاستخدام أرسطو لعناصره الأربعة في تفسير الأشياء كان يؤتي ثمارا طيبة في بعض الأحيان، ولكنه كان دائما ما يصل به إلى طريق مسدود. وقد تناول المطلقات في المقام الأول مثل: «الحرارة والبرودة» و«الارتفاع والانخفاض» و«الثقل والخفة» وهكذا في حين أنه لم يهتم بالمواد القابلة للقياس بالدرجات، وتمسكه بهذه المطلقات جعل من المستحيل أن تخرج مفاهيمه حول الخصائص الفيزيائية دقيقة من الناحية العلمية. وتصل كتب أرسطو في الفيزياء إلى أوج عظمتها وعطائها عندما تتناول مفاهيم الزمان والمكان والحركة والأزلية، والتي تقدم بعض الحلول لمفارقات زينون. وقد كانت هذه المجالات الأكثر تجردا للتناول والمعالجة الرياضية بشكل جزئي على الأقل، فما ذكره أرسطو في تفسير الديناميكا على سبيل المثال يقدم أول القوانين الكمية التي حاولت الربط بين العوامل التي تحكم سرعة الأشياء المتحركة، ولكن اتضح خطأ هذه النتائج كما هو معروف، وهذا يعود في الأغلب إلى اعتماد أرسطو الكبير على المعلومات التي تحصل عليها من الملاحظة البدهية دون أن يلجأ للمعاجلة المثالية بشكل كاف، كما فعل نيوتن ووجد فيها ضالته (مثل الحركة التي لا يتولد عنها الاحتكاك في الفراغ التام).
ويرجع فشل أرسطو في تحقيق طفرة خيالية أو حتى أي إنجاز على شاكلة ما حققه نيوتن وجاليليو في الميكانيكا بشكل كبير إلى رغبته في ملازمة جانب الحقائق المعروفة أكثر من غض الطرف عنها كما فعل نقاد القرن السابع عشر. فلم يدرك أرسطو على سبيل المثال أن نظرية كاملة عن الحركة كانت تتطلب منه بشكل إيجابي أن يتخلى عن بعض البدهيات التي ربما تكون مضللة حتى يتمكن من صياغة قوانين دقيقة ومحكمة. كما أن عزوفه عن القيام بتجارب معقدة في مجال الفيزياء يرجع أيضا إلى رغبته في الثقة في الظواهر لا إلى كسله أو الرضا بما توصل إليه من نظريات (وهو ما قد يبدو غريبا على آذاننا هذه الأيام)، فكان أرسطو يعتبر وظيفة «الفيلسوف الطبيعي» هي التوصل إلى ما تفعله الأشياء بشكل طبيعي؛ إذ يرى أن التدخل في عمل الطبيعة بوضع شراك لها كما يفعل العلماء المعاصرون إنما هو تحايل عليها يؤدي إلى اختلاط عناصرها، وهي أمور من شأنها أن تؤدي إلى تغيير صورة الطبيعة لا إلى كشف النقاب عنها؛ فالتشريح في علم الأحياء شيء قائم بذاته ولكن التجارب المصطنعة لا تؤدي إلا إلى تشويه الطريقة التي تسير عليها نواميس الطبيعة.
وهنا نجد أن معالجة أرسطو لمسألة الحركة تعد مثالا جيدا لمذهبه السلبي واهتمامه البالغ بكل ما هو طبيعي؛ فعندما تأمل أرسطو الطبيعة من حوله بدا له أن ثمة نوعين من الحركة: حركة طبيعية وحركة قسرية. ولكل عنصر طريقته الخاصة في الحركة الطبيعية والتي تعرف بالاتجاه الذي يسلكه حال تحرره وإطلاق العنان له؛ فالتراب والماء يتحركان بشكل طبيعي نحو مركز الكون الذي يقع في منتصف كوكبنا، أما الهواء والنار فيميلان بطبيعتيهما إلى الحركة في الاتجاه المعاكس، وهذا ما يفسر سقوط التفاحة (التي يغلب التراب على مكوناتها) إلى الأسفل عندما ينكسر الجذع الممسك بها، في حين أن ألسنة النار تتجه إلى الأعلى بسرعة. ويفسر ذلك أيضا خاصيتي الثقل والخفة؛ فالأشياء الثقيلة هي تلك التي يغلب التراب والماء على تكوينها؛ ومن ثم فهي تنزع إلى الحركة نحو الأسفل، أما الأشياء الخفيفة فتميل إلى الحركة نحو الأعلى نظرا لتكوينها المختلف. وكذلك يفسر نزوع الأشياء الثقيلة إلى التحرك نحو مركز الأرض لماذا تبدو الأرض كروية لا مسطحة. وقد كان أرسطو يدرك أن الأرض كروية الشكل، واستنتج ذلك من عدة ملاحظات منها مثلا أن الأرض تظلل القمر بظل منحن. وقد قدمت نظرية الحركة الطبيعية تفسيرا قويا لتلك الظاهرة، فبما أن المادة الثقيلة قد تجمعت من جميع الأماكن في هذه النقطة دون غيرها (لأنها مركز الكون) فإن هذه المادة قد تكتلت حول المركز من كل اتجاه بشكل متساو حتى كونت الشكل الكروي الحالي، أما الماء فلم يكن لينزع للهبوط لأسفل كما هو الحال مع التراب، وكذلك الهواء لم يكن ليتحرك لأعلى بشدة مثل النار؛ ولذلك فقد تجمع الماء على سطح الأرض (مكونا المحيطات) وتحرك الهواء نحو الغلاف الجوي السفلي وتحركت النار لأعلى. وبهذه الطريقة استقر كل شيء في مكانه الطبيعي.
لا يعني هذا أن كل شيء ظل في مكانه الطبيعي دائما، أو أنه لم يتحرك إلى هذا المكان قط؛ ذلك أن العالم مزدحم ومعقد ويعج بالأمور والأشياء التي من شأنها أن تتدخل في الحركة الطبيعية للأشياء. وقد تدعم الأشياء الثقيلة بعضها بعضا فيحول ذلك دون تحركها نحو مركز الأرض، أو قد يرتفع بعض الهواء بعد تسخينه حاملا معه بعض أوراق الأشجار لبعض الوقت؛ وبذلك فهو يقاوم رغبتها الطبيعية في السقوط بإجبارها على الحركة في اتجاه معاكس. ومن الأشياء التي قد تتدخل في عمل الحركة الطبيعة كذلك الكائنات الحية كالإنسان مثلا؛ فقد يلتقط أحدنا تفاحة ويلقي بها إلى الأعلى على سبيل المثال فارضا عليها حركة معينة. وبالطريقة نفسها يمكن لأحدنا أن يخمد ألسنة اللهب التي تندفع بطبيعتها إلى الأعلى. ولا مفر من أن الكائنات الحية كانت تخضع للحركات الطبيعية والقسرية كما هو الحال مع الأجسام المادية كافة، ولكن كثيرا منها لديها القدرة على تحريك نفسها، وهذه القدرة هي التي تميز الحياة الحيوانية عن غيرها؛ فعلامات وجود الحياة كما يراها أرسطو هي التغذية والتكاثر والإحساس والقدرة على الحركة والتنقل والرغبة والقدرة على التخيل والعقل. وكلما زادت حصيلة الكائن من هذه الخصائص أو الصفات ارتفعت مكانته في سلم الطبيعة. ولا يجمع بين جل هذه الصفات إلا الإنسان، وهذا ما يجعل حياته أرقى أساليب الحياة على سطح الأرض. وتستطيع جميع الكائنات التي تعلو النباتات في المكانة تحريك نفسها، وهذه الحركات التي تأتي بها يمكن تفسيرها في إطار نظرية العلل الغائية؛ فهي تحدث دائما «من أجل» شيء ما، فالكائنات تتحرك من أجل تلبية احتياجاتها وإشباع رغباتها بدافع من الإحساس وأيضا بدافع من الخيال والفكر (إذا كانت تتمتع بهما) كي تهتدي إلى الطريق. وبشكل عام لا يتحرك شيء إلا بسبب شيء آخر؛ فأشكال الحياة العليا تحركها رغباتها، بينما باقي الأشياء تدفع حركتها أشياء خارجية.
وقد يتوهم القارئ للوهلة الأولى أن هذه الفكرة تهدي أرسطو إلى طريق الرب، فإذا كانت كل الجمادات تحركها قوى خارجية أفلا يستلزم هذا أن يكون ثمة علة أولى استهلت كل ذلك؟ ولكن كان لأرسطو رأي آخر؛ فقد كان يعتقد في أزلية الكون ولذلك لم يكن هناك أي شيء أولي. كان هذا هو أحد جوانب فكر أرسطو الذي أثار حفيظة الفلاسفة المسيحيين واليهود والمسلمين في العصور الوسطى؛ فقد كان أرسطو يعتقد في وجود رب ضعيف لا يتمتع بصفات الألوهية؛ فليس هو من خلق العالم أو بدأ ما فيه من حركات. وقد حاول فريق من فلاسفة العصور الوسطى - على رأسهم توماس الأكويني (1225-1275م) الذي أصبحت آراؤه كاثوليكية خالصة - أن يثنوا أرسطو عن هذا الاعتقاد ويثبتوا وجود الرب الذي هو العلة الأولى والذي خلق كل شيء وحباه الحركة، ولكن الطرق التي سلكها أرسطو إلى الرب ليست مباشرة بالمرة. ولنتمكن من الوقوف على أبسط هذه الطرق ينبغي لنا معاينة النصف الثاني من الصورة التي رسمها للعالم وهو الجزء الذي يتعلق بالسموات، وبالأخص نوع حركتها.
وكما أشرنا سابقا تعجب أرسطو من أن أحدا قبله لم يلتفت إلى حدوث أي تغير يذكر في السماء؛ فلم يلحظوا إلا أنوارا لا يرى آخرها وأجساما بعيدة. وقد كان بمقدور المرء أن يدرك بنفسه أن السماء تتميز بحركة دائرية موحدة، أو هكذا اعتقد أرسطو. وقد كانت هذه حقيقة بارزة تحتاج لتفسير؛ لأن الدوران الموحد لم يبد سمة طبيعية لأي من الموجودات على الأرض؛ فالعناصر الأرضية وكل ما يتكون منها تسير في خطوط مستقيمة ما لم يعترض طريقها عائق يجبرها على الارتداد أو التحرك في اتجاه معاكس؛ ولذلك رأى أرسطو أن هذا يقتضي وجود نوع خامس من المادة (أو «الجوهر» كما سمي فيما بعد) يتحرك بشكل طبيعي في حركة دائرية، وهو ما يفسر اختلاف الحركة بين الأجرام السماوية والأشياء الأرضية؛ ذلك أنها مصنوعة من نوع مختلف من المادة. وكان أرسطو يطلق أحيانا على هذه المادة اسم «الأثير» وهو مصطلح كان يطلق على المادة النارية التي تكونت منها النجوم والكواكب كما كان الاعتقاد السائد قديما.
ودائما ما تطل فكرة الرب برأسها لا سيما عند التفكير في السر الكامن وراء حركة هذه الأجرام السماوية. وتوضح الفرضية التي تقول بوجود المادة الخامسة التي تتحرك بشكل دائري سبب تحركها بهذا الشكل الدائري بدلا من التحرك في خطوط مستقيمة، ولكنها لا تبين السبب وراء حركة هذه الأجرام وعدم سكونها. وحتى إن كانت هذه الأجرام أزلية الحركة كما اعتقد أرسطو؛ فلا يغنينا ذلك عن النظر في الأسباب التي تؤدي إلى حركتها. وقد رأى أرسطو أن الحديث عن وجود أية قوة مادية عادية تدفعها للحركة هو ضرب من المستحيل؛ فهذا الشيء ليس لديه من القوة ما يمكنه من الحفاظ على الحركة إلى الأبد. بالإضافة إلى ذلك كان أرسطو يرى أن ثمة مشكلة أكبر من كل ذلك؛ فأيا ما كان الشيء الذي يحرك الأجرام السماوية فلا بد وأن يكون ساكنا وإلا لكان علينا البحث عن شيء آخر يكون مسئولا بدوره عن حركة هذا الشيء. ولن نصل إلى أصل الموضوع أبدا؛ فحركة الأرض يمكن أن نعزوها إلى تأثير حركة الأجرام السماوية (من خلال حرارة الشمس التي صهرت الأشياء وخلطتها على سبيل المثال) ولكن لا بد من الوصول إلى الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة. ويستتبع ذلك أن ما يحرك السموات لا يتحرك؛ أي إنه محرك لا يتحرك. ثم شرع أرسطو بعد ذلك في البحث في طبيعة عمل هذا الشيء.
وهنا تتبادر إلى الأذهان فكرة تحرك الحيوانات بدافع أهدافها وغاياتها، فإذا رأى أسد حمارا وحشيا وأراد أن يلتهمه فإن الحمار الوحشي في هذه الحالة يعد دافع حركة الأسد ولو لم يتحرك (وفي الواقع فإن الأسد يفضل أن يقبع الحمار الوحشي في مكانه دون حراك)؛ ومن ثم فإن الشيء المرغوب فيه هنا يقوم بدور المحرك الذي لا يتحرك، وهو ما يوضح كيف لنا أن نحل مشكلة الأجرام السماوية. فإذا كان لهذه الأجرام رغبات أو شيء من هذا القبيل إذن فالشيء المرغوب فيه يكون الدافع لحركتها، كما أن هذه الرغبات ستكون علة غائية بالمعنى الذي حدده لها أرسطو وليست علة فاعلة، وستكون هي الهدف من الحركة لا الدافع الذي بدأها، وقد تكون ساكنة في نفسها. وهذا يفسر لنا بطريقة محكمة كيف لشيء أن يسبب الحركة الأزلية للأجرام السماوية دون إثارة سلسلة طويلة من الأسئلة عما يحرك المحرك. وقد يساعد هذا كذلك في الوقوف على البذور الأولى لفكرة أن الأجرام السماوية كائنات حية. لقد انتهى العديد من الأفكار بأرسطو إلى أن أي محرك سماوي لا يتحرك يجب أن يكون بسيطا لا يتغير إذا كان يريد أن يؤدي وظيفته على أتم وجه. كما قدم أرسطو براهين قوية تبين كيف يجب أن يتمتع هذا المحرك بالأزلية وألا يكون له شكل أو حجم معينان. ولأن السموات تتسم بالكمال والإحكام؛ فإن نوع الرغبة الذي يمكن العثور عليه سيكون رغبة فكرية مفعمة بالحب ولا يشبه رغبة الأسد في التهام الحمار الوحشي. وبصفة عامة نجد أن المحرك الذي لا يتحرك الذي تحدث عنه أرسطو يشبه فكرة الرب في كثير من الأمور.
كان أرسطو أحيانا يغير رأيه بخصوص بعض التفاصيل الخاصة بهذه المسألة، فيقول أحيانا إن النجوم والكواكب هي التي ترغب في المحرك الذي لا يتحرك، ثم نجده في النهاية يخلص إلى أن الرغبة لا تنبع من النجوم وإنما من «السماء الخارجية»؛ أي الفلك الشفاف العملاق الذي تكمن فيه أبعد النجوم، كما كان يعتقد سائر الرواد من الفلكيين اليونانيين. وقد كان هذا الفلك يدور لأن رغبته تحركه نحو المحرك الذي لا يتحرك حاملا النجوم حوله. ثم تنتقل حركة هذا الفلك المرصع بالنجوم بشكل آلي إلى مجموعة من الكواكب متحدة المركز بداخله والتي تحمل جميع الأجرام السماوية الأخرى (ولكل كوكب فلكه إلى جانب بعض الأفلاك المتوسطة). فالمنظومة كلها تعمل كالساعة التي تملأ نفسها لأنها حية تحركها رغبة تستعر داخلها؛ ومن هنا تأتي فكرة «الحب الذي يحرك النجوم». وعندما أراد أرسطو أن يطور بعض النقاط الصغرى في الفكرة التي طرحها، اقترح وجود عدد كبير من المحركات التي لا تتحرك لكي يجد تفسيرا للحركة الفلكية الملحوظة، بيد أن هذا كان أبعد ما يكون عن اليقين. وأما ما كان متأكدا منه إلى حد كبير فهو أن حركة السماء الخارجية تتطلب محركا لا يتحرك يكون أعلى مقاما، وأن الشيء الفلكي الغامض المرغوب فيه يفسر لنا حقيقة المعتقد القديم في وجود كبير للآلهة.
ماذا يمكن أن نضيف عن هذا الرب؟ لم يكن أرسطو مهتما بالآلهة التي تشبه العمالقة من الرجال بما تحمله نفوسهم من رغبات في المخلوقات الأقل شأنا واهتمامهم بها. ولا ريب أن هذه الآلهة لا تؤدي أي عمل في العالم كما تزعم التفسيرات الخرافية (وكما تزعم كذلك اليهودية والإسلام والمسيحية). فعقلية أرسطو الهادئة والمنطقية جردت كل هذه الأفكار الإلهية من الصفات البشرية، فكما يقول:
نحن نفترض أن الآلهة أسمى من المخلوقات جميعا تحيا حياة مباركة هانئة، ولكن ما هو شكل العمل الذي نوكله إليهم؟ أهو إقامة العدل؟ ألن تبدو الآلهة في موقف سيئ إذا وقعت العهود وأعادت الودائع؟ أم أن عملهم يتمثل في الشجاعة والإقدام على اقتحام المخاطر والأهوال بدافع من النبل أو غيره؟ أم أن عملهم يتمثل في تصريف الحرية؟ ولمن سيهبونها؟ سيكون الأمر غريبا إذا امتلكوا أموالا أو شيئا من هذا القبيل ... وإذا استعرضنا هذه الأمور كلها فسنجد أن ظروف ما يقومون به من أعمال إنما هي ظروف وضيعة لا تليق بهم، ورغم ذلك فإن الجميع يعتقد في حياتهم وبالتالي في نشاطهم، ولا يسعنا أن نزعم أنهم نائمون مثل إنديميون. وبعد هذا لنا أن نسأل: إذا كانت الآلهة قد أخذت العمل والتكاثر من الكائنات الحية فماذا تبقى لها غير التأمل والتفكير؟
يتكون نشاط الإله الذي يحرك السماء الخارجية من خلال إلهامها بالحب من التأمل الفكري في المقام الأول، وهو النشاط الأنقى للعقل والذي يعد أفضل شيء في الوجود. والإله لا يفكر إلا في ذاته، ما لم يكن ثمة شيء آخر يستحق التفكير فيه إذا كنت إلها.
وهذا الصرح العظيم الذي يقوم على خليط من الأفكار الفيزيائية واللاهوتية يمثل للعقول الحديثة أمرا عبثيا أيما عبث. ولكن أرسطو سيعود إلى الإطراء بلا ريب، فلو افترضنا اقتناع أرسطو بما توصلنا إليه في الفيزياء الحديثة وعلم الفلك لما اقتنع أبدا بإله الإنجيل أو القرآن، فما كان ليضيع لحظة في التفكير في وجود كائن قام ذات صباح بخلق الكون من العدم، ثم طفق يحدد الثواب والعقاب لسكان الكون البائسين؛ إذ هو يرى أن آلهة الأساطير القديمة لم تكن سوى خيال صبياني، وما كانت فكرة جمع الآلهة في إله واحد ووضع جميع صفاتهم في شخصه لتحدث فارقا كبيرا لديه.
ولا يتطلب الأمر أن يكون المرء متعصبا لأحد الآلهة حتى يكتشف الفجوات الواسعة التي عابت فكرة أرسطو حول المحرك الذي لا يتحرك؛ فالتشبيه بين الرغبات المحفزة للحيوانات والإنسان من جانب والأجرام السماوية من جانب آخر تبدو غير مقنعة بالمرة. والأسوأ من ذلك أنها لا تستتبع أن ما ترغب فيه الأجرام السماوية ليس موجودا من الأساس، فقد يظن الأسد وجود حمار وحشي في أجمة بالقرب منه فيقفز عليه ثم يكتشف أنه لم يكن هناك أي شيء، وفي هذه الحالة يعد الحمار الوحشي المتوهم هو العلة الغائية لحركة الأسد، فالأسد قفز «من أجل» الحصول على الحمار الوحشي الذي ظن وجوده، إذن فالحمار الوحشي هو غاية هذه الحركة وهدفها رغم عدم وجوده في الحقيقة. ولربما كانت الأجرام السماوية قد خدعت هي الأخرى بالطريقة نفسها؛ إذ ربما تتحرك هذه الأجرام بدافع الحب للمحرك الذي لا يتحرك والذي قد يكون محض خيال، وبهذا تسقط حجة أرسطو في وجود الإله لأنه لا يمكنه أن يتجاهل هذا الاحتمال.
وقد كان لأرسطو غير سبب جعله يؤمن بوجود المحرك الذي لا يتحرك بالشكل ومن ثم قد لا يكون للنقد السابق أثر عليه. ولتوضيح ذلك دعونا ننظر في المثال الآتي: ليس للزمن بداية ولا نهاية؛ لأن هذا يعني وجود زمن قبله وآخر بعده، وهذا بالطبع هراء لا فائدة منه؛ ومن ثم فإن الزمن لا بد وأن يكون أبديا، ومن ثم يصبح التغير أبديا هو أيضا لأن الزمن ببساطة هو إحدى طرق قياس التغير، ومن ثم أيضا لا يمكن الحديث عن فترة من الوقت لا يحدث بها أي نوع من التغير. ويدعي أرسطو أنه إذا افترضنا صحة هذه الفكرة فلا بد من وجود شيء يضمن دوام التغير واستمراره. وفي هذا الصدد قدم أرسطو أسبابا للاعتقاد أنه لا يضمن ذلك سوى كيان غير مادي يتمتع بالأزلية والكمال المطلق، وأن هذا الكيان لا يمكن أن ينشغل طوال أزليته بسوى التأمل الفكري؛ وبهذا نجد أن أرسطو قد شق طريقا آخر نحو الإله. إن الأسئلة التي أثارها حري بها أن توضع موضع التشكيك في كل تفاصيلها، ولكنها مرتبة ومنظمة، وقد بناها على آرائه الأخرى التي أوردها في طيات كتاباته وصاغها كلها بشكل متناغم. ومحصلة ذلك هو رسم صورة كاملة المعالم ومحكمة التفاصيل للعالم جعلت أجيالا وأجيالا تتوقف عندها بالتأمل والتدبر. •••
ويمكن العثور على معظم مناقشات أرسطو المجردة للحركة والزمن والتغير، والمحرك الذي لا يتحرك في رسائله الفيزيائية والفلكية ورسائله في علم الأحياء. وقد كانت هذه الأفكار جزءا جوهريا من العلم بصفة عامة؛ فقد برزت بشكل طبيعي في محاولاته لفهم العالم وسبر أغواره، إلا أنها امتدت إلى سياق آخر لا يعد اليوم مجالا من مجالات العلوم. وقد اكتمل الكثير من حجج أرسطو عن هذه الموضوعات في مجموعة رسائل سماها أحد المحققين اللاحقين «الميتافيزيقا» أو «ما وراء الطبيعة»، وكان هذا المصطلح يشير في ذلك الوقت إلى أن هذه الكتب التي تحمل اسم «ما وراء» تأتي بعد كتب «الطبيعة»؛ أي كانت محض مصطلح مكتبي. بيد أن هذا المصطلح سلك طريقا خاصا به فيما بعد؛ ففي العصور الوسطى أصبح علم «ما وراء الطبيعة» يشير إلى فرع من المعرفة يختلف اختلافا جذريا عن «الفلسفة الطبيعية» (أي العلم)، فكانت صفة «ما وراء الطبيعة» تعني «ما يتجاوز الطبيعة». وبالنسبة لبعض الفلاسفة المتأخرين الذين كان يساورهم الشك في احتمالية هذا التجاوز - لا سيما ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر وفلاسفة المنطق الوضعي في القرن العشرين - اكتسب مصطلح «ما وراء الطبيعة» سمعة سيئة بشكل من الأشكال، فكان ينظر إلى الشخص الذي يهتم بما وراء الطبيعة على أنه شخص يجيد حياكة الألغاز السفسطائية المبهمة؛ فقد كان عمله محض عبث فكري لا يفضي إلى أية نتيجة لعدم اعتماده على الأدلة التجريبية أو المعرفة العلمية. وتستخدم صفة «ما وراء الطبيعة» في العصر الحالي مرادفا لكلمة «خرافي».
ولنتمكن من فهم ما كان يدور بخلد أرسطو عند استخدامه لهذا المصطلح؛ فمن الأفضل أن نتجاهل المعاني التي ذكرناها آنفا لهذا المصطلح. إن الكتب الأربعة عشر التي جمعت تحت عنوان «ما وراء الطبيعة» تحتوي على موضوعات كثيرة دون ترتيب معين؛ فهي تتضمن هجوما طويلا على تفسيرات أفلاطون الروحية الزائفة للرياضيات يقول فيها أرسطو إن الأرقام والنقاط والمثلثات وما إلى ذلك يجب أن ننظر إليها على أنها أشياء مجردة في العقل بدلا من كونها أشياء غامضة توجد بذاتها. كما تتضمن هذه الكتب معجما يوضح فيه أرسطو المعاني المختلفة لثلاثين مصطلحا من المصطلحات الرئيسة المستخدمة في تحليلاته وتحقيقاته مثل: «المادة» و«الرغبة» و«الخاصية» و«الضد» و«الكل» و«المستحيل» و«الزائف»، كما يتناول بالشرح في أجزاء أخرى من كتاب «ما وراء الطبيعة» مذهبه عن العلل الأربع ويربطها بأفكار المفكرين الأوائل حيث حاول تطوير أفكاره حول الفرق بين الصورة والمادة، إضافة إلى حديثه عن مبادئ التصنيف والتعريف، ومناقشة مفاهيم الوحدة والتنوع، كما عمل على إيضاح بعض التفاصيل الرياضية في علم الفلك، وتحدث عن الإله، فضلا عن انتقاده لمذهب الشكوكية والنسبية ضمن أشياء أخرى، كما ناقش بعض المبادئ الأساسية في علم المنطق كالمبدأ القائل إنه «لا يمكن أن تكون عبارة ما صحيحة وخاطئة في الوقت نفسه.»
ويبدو أن هذه الموضوعات المختلفة لا تمت لبعضها بصلة، ولكن كان ثمة رابط بينها ساعد على تجميع معظمها في عقل أرسطو؛ ففي موضعين من كتابه «ما وراء الطبيعة» نجده يتحدث عما يسميه «الفلسفة الأولى»، ويبدو أنه قصد بها أعم المبادئ والعلل والمفاهيم العامة؛ فهي تناقش المسائل والموضوعات العامة التي تدخل في جميع المجالات من علم الحساب وحتى علم الحيوان في محاولة للوصول إلى الحقائق التي «تحمل الخير لكل الموجودات». كما نجد أن ما ذكره أرسطو حول استقصاء العلل الأربع ومفاهيم الصورة والمادة والاحتمالية وغيرها تتسم كلها بالعمومية لدرجة تجعلنا نضعها تحت مظلة الفلسفة الأولى إذا طبقت على نطاق واسع. والحال نفسه مع مبادئ المنطق الرئيسة. بيد أنه لم يتضح لماذا يوضع الفلك واللاهوت كما يقول أرسطو في سلة واحدة. ويمكننا القول إن كليهما يتناول الأمور العلوية أو بالأحرى أكثر الأمور كمالا والتي تعد مسئولة مسئولية تامة عما يجري في العالم الأرضي. وتقول فكرته الرئيسة عن الفلسفة الأولى إنها تتناول نوع المعرفة المطلوب للحصول على الحكمة؛ أي ما يتوق المحب المخلص للمعرفة إلى الحصول عليه، وهو يفسر ذلك على أن الفلسفة الأولى تخبر هذا المحب بالأشياء الأكثر أهمية (مثل الإله والأشياء الأخرى الأزلية غير المتغيرة) وبالحقائق والمفاهيم التي تحتل أعلى منازل الأهمية (أي الأعم).
وأكثر المفاهيم عمومية هو مفهوم الكينونة أو الوجود؛ حيث إنه الشيء الوحيد الذي تتمتع به جميع الأشياء. وقد يظن المرء للوهلة الأولى أن الكينونة مفهوم عام جدا يستحيل الحديث عنه أو وصفه، ولكن أرسطو توصل إلى بعض الحقائق بشأنه. بعد توضيح الطرق الكثيرة التي يمكن للمرء من خلالها أن يصف شيئا ما أو أن يقول فقط بوجوده، حاول أرسطو اكتشاف ما إذا كان ثمة نوع أساسي للوجود يعتمد عليه وجود باقي الأشياء والموجودات. ويقول أرسطو إن ثمة وجودا لجميع الأشياء المادية مثل الأشجار والصخور والنباتات والحيوانات، ويعتقد أن جميع أنواع الوجود الأخرى تعد وجودا تطفليا على هذه الأشياء المادية، فعند الحديث مثلا عن شيء كبير أو أحمر أو جميل فإن صفات الجمال أو الاحمرار أو الحجم لا يمكن ادعاء وجودها إلا إذا كان هناك شيء معين يحمل هذه الصفات؛ فلا يمكن لهذه الصفات أن تسبح بمفردها أو بذاتها. وتتناقض هذه الفكرة تناقضا صارخا مع نظرية المثل لدى أفلاطون التي تقول بأن الاحمرار والجمال يعدان أكثر واقعية من أي شيء أحمر أو جميل. ففي عالم أفلاطون يعتبر وجود المثل هو الوجود الأولي والأساسي للأشياء، كما أن عالم الأشياء المادية هو حالة من التغير الدائم والمضطرب تمثل انعكاسا ناقصا لهذه الحقائق. أما أرسطو فيعتقد أن هذا يشبه وضع العربة أمام الحصان وأن هذا الحديث المضطرب يعوق الفهم الصحيح لوجود الأشياء، وهو أحد أكثر الموضوعات عمومية ومن ثم فهو موضوع مطلوب في السعي وراء الحكمة.
ويعد نقد أرسطو لتفسير أفلاطون للرموز الرياضية جزءا من بحثه العام في أنواع الوجود، وكذلك نظريتا النسبية والشكوكية اللتان يعدهما ردتي فعل متطرفتين وانهزاميتين في مواجهة مسألة تحديد أنواع الموجودات في العالم. ولكن لا فائدة ترجى من ربط كل ما قاله أرسطو في كتابه «ما وراء الطبيعة» وجمعه في مشروع واحد واضح المعالم ؛ فمن ناحية اعتقد أرسطو أن الفلسفة الأولى علم يتميز عن باقي العلوم بانشغاله بالبحث في الأمور العامة؛ ولذلك ثمة تداخل كبير بين أجزاء الفلسفة الأولى والأجزاء العامة والنظرية من فروع البحث المتخصصة كالفيزياء، ولذلك نجد أنه يتحدث عن المحرك الذي لا يتحرك في كتابيه «الفيزياء» و«ما وراء الطبيعة».
وبما أن ما يعنيه الفلاسفة المتأخرون ب «ما وراء الطبيعة» يختلف غالبا عما كان أرسطو يعنيه ب «الفلسفة الأولى» فحري بنا أن نؤكد على أنه لم يعتقد أن الفلسفة الأولى كانت تتضمن أية آليات خاصة للبصيرة العقلانية. وقد رأى آخرون من المهتمين بعلم ما وراء الطبيعة أن هذا الموضوع يتجاوز طرق البحث العلمي للبرهنة على بعض الحقائق الأساسية عن العالم عن طريق العقل المحض والتي لم تكن العلوم الكادحة لتتوصل إليها؛ ومن ثم فإن المهتم بعلم ما وراء الطبيعة يعد عالما خارقا لا يضارعه غيره من أقرانه. ولكن لم يكن أرسطو ليسلك هذه الطريق؛ إذ كان يرى أن من يدرس الفلسفة الأولى «في منزلة أعلى من الفيلسوف الباحث في الطبيعة»؛ ذلك أن «الطبيعة محض نوع من أنواع الوجود» أي لكون الفلسفة الأولى مهتمة بالبحث في جميع أنواع الوجود (بما في ذلك الوجود الرياضي والوجود الإلهي) وليست مقصورة على البحث في الوجود الطبيعي. ولكن هذا يعني أن الفلسفة الأولى هي الأخرى تعد علما تقليديا شديد العمومية والتنوع ولكن يستحق أن يبذل الباحث فيه كل جهد.
ومن مجالات البحث التي تتداخل دائما مع الفلسفة الأولى أو ما وراء الطبيعة علم المنطق الذي يمكن تعريفه بأنه علم الاستدلال والبرهان. وقد كان لأرسطو أسباب وجيهة كي يخوض في هذه الأمور خلال بحثه في المسائل العامة والمجردة، فإذا كانت الفلسفة الأولى هي أشد العلوم عمومية فإن علم المنطق هو أكثر العلوم شمولا؛ فهو أداة يمكن استخدامها عند البحث في كافة العلوم إلى جانب كونه ساحرا وفاتنا في حد ذاته. وكما يقول أرسطو فإن الباحث عن الحكمة «يجب أن يبحث كذلك في مبادئ الاستدلال». وقد كان أرسطو هو أول من قام بذلك بطريقة منهجية؛ ولذلك فهو يعد مبتكر علم المنطق. •••
ويعرف أرسطو الاستدلال على أنه حديث «تذكر فيه بعض الأمور، وتبرز بالضرورة أمور أخرى غير الأمور المذكورة.» ولكي ننفذ إلى لب هذه الفكرة ونوضحها دعونا نتبع سلسلة الأفكار التالية:
جميع السناكر بناكر.
جميع البناكر حناكر.
إذن:
جميع السناكر حناكر.
إن كل هذه الكلمات عدا «جميع» و«إذن» لا معنى لها، إلا أن أيا منا قد يجد لها سياقا تكون فيه صحيحة، فالنتيجة تنبع منطقيا من المقدمات، فإذا كانت جميع السناكر بناكر وكانت جميع البناكر حناكر فإنه «من الضروري» نتيجة لذلك أن تكون جميع السناكر حناكر. وفي الحقيقة لا يوجد أي معنى للسناكر أو البناكر أو الحناكر، إلا أنه لا علاقة لهذا بمسألة النتائج والمقدمات، فهذه الكلمات التي لا معنى لها في هذا الاستدلال تسلمنا إلى حقيقة مهمة مفادها أن صحة مسألة استدلالية منطقية أو خطأها (أي سواء أكان الاستنتاج ينبع من المقدمات أم لا) لا يعتمدان على صحة المقدمات أو خطئها. وقد كان أرسطو أول من عني بالبحث عما تعتمد عليه المسائل الاستدلالية وبتقديم الإجابة الصحيحة على هذا السؤال.
لقد رأى أرسطو أن صحة حجة كهذه الحجة تعتمد على نوع من أنواع البناء الذي يمكن توضيحه بتجاهل التفاصيل الخاصة بموضوع الحجة؛ ولهذا فلننح جانبا الحديث عن السناكر والحناكر وسيتبقى لك هيكل يسمى البناء المنطقي كالتالي:
كل «أ» هو «ب».
وكل «ب» هو «ج».
إذن:
كل «أ» هو «ج».
في هذه الحالة لا يهمنا ما يرمز إليه كل من «أ» و«ب» و«ج» أو أية مصطلحات أخرى نستبدلها بها، فستكون النتيجة استنتاجا صحيحا؛ أي إنه إذا كانت الكلمات التي ستستبدل بها الأحرف «أ» و«ب» و«ج» تجعل العبارتين الأوليين صحيحتين فإن العبارة الثالثة ستكون صحيحة بشكل تلقائي، والمثال الذي ضربناه عن السناكر والبناكر يتبع هذا البناء ومن ثم فإنه صحيح.
ولا ريب أن ثمة العديد من الأنماط غير الصحيحة للحجج، فكما يقول أرسطو: «من الواضح أن بعض الاستدلالات أصلية وبعضها غير ذلك. وهذا يحدث مع الحجج كما يحدث مع غيرها من الأمور بسبب التشابه بين الحقيقي والزائف.» ولنضرب مثالا على حجة زائفة كما يلي:
ليست الثعابين خنازير.
الخنازير لا تطير.
إذن:
الثعابين لا تطير.
جميع هذه العبارات صحيحة، فلا تستطيع الثعابين ولا الخنازير الطيران، وليست الثعابين خنازير، ورغم ذلك فإن الحجة باطلة، ويمكن لبناء أرسطو المنطقي أن يبرهن على ذلك ويفسره. وهذه الحجة تتبع البناء التالي: «أ» ليس «ب». «ب» ليس «ج».
إذن: «أ» ليس «ج».
لو كان هذا الشكل صحيحا فإنه يستحيل أن نجد أمثلة على الحروف «أ» و«ب» و«ج»؛ بحيث تصير المقدمات صحيحة والنتائج خاطئة، إلا أنه من الممكن إثبات ذلك. فلنرمز للطيور بالحرف «أ» والخنازير بالحرف «ب» والأشياء التي تستطيع الطيران بالحرف «ج»، وهذا على النحو التالي:
الطيور ليست خنازير.
الخنازير لا تطير.
إذن:
الطيور لا تطير.
وهذا بالتأكيد غير صحيح وباطل؛ لأنه وضع حقيقتين ونتج عنهما نتيجة زائفة، فلم تكن الطيور يوما خنازير ولا يمكن للخنازير أبدا أن تطير ولكن الطيور بالتأكيد تستطيع الطيران؛ ومن ثم فإن شكل البناء المنطقي «جميع «أ» هو «ب»، وجميع «ب» هو «ج»؛ إذن فإن جميع «أ» هو «ج»»، هو شكل صحيح، أما البناء المنطقي ««أ» ليس «ب»، و«ب» ليس «ج»؛ إذن «أ» ليس «ج»»؛ فلا بد أن يكون شكلا زائفا وباطلا، والمثال السابق عن الطيور يثبت صحة ذلك.
وقد أصبح هذا النوع من استخدام الرموز العامة مثل «أ» و«ب» و«ج» أمرا معتادا لا سيما في الرياضيات وكذلك في الأغنية القائلة:
انظر كيف توزع الأقدار العطايا.
لأن «أ» سعيد و«ب» ليس كذلك.
ولذلك فإن «ب» يستحق
رخاء أكثر من «أ».
وكما أن بمقدور المرء أن يصوغ الحقائق الرياضية العامة باستخدام الرموز التي ترمز إلى الأرقام وليس باستخدام رقم محدد (كما نقول في س + ص = ص + س) فقد استطاع أرسطو أن يصوغ الحقائق العامة عن المنطق باستخدام الرموز التي ترمز للمصطلحات وليس لمصطلح بعينه مثل الحروف «أ» و«ب» و«ج». ويبدو أن أرسطو هو من ابتكر مفهوم «المتغير» كما يسمى الآن على الأقل في هذا النوع من الاستخدام. ومن الواضح أن علماء الرياضيات لم يستخدموا هذا المفهوم حتى وقته بدلا من الأرقام، رغم أنهم استخدموا الحروف للإشارة إلى خطوط الأشكال الهندسية، وهو ما كان بذرة فكرة أرسطو الرائعة.
وتدور الحقائق المنطقية العامة التي اعتمد عليها أرسطو حول أنواع الجمل الأربعة التالية: «كل «أ » هو «ب»»، و«كل «أ» ليس «ب»»، و«بعض «أ» هو «ب»»، و«بعض «أ» ليس «ب»». وقد قال أرسطو إن كل عبارة يمكن اختصارها في جملة من مصطلحين هما: «الموضوع «أ» والمحمول «ب»»، ويجب كذلك أن تكون إما موجبة أو سالبة وأن تكون إما خاصة أو عامة لكي تمكننا من الحصول على أحد هذه الاحتمالات الأربعة. وقد كانت الحقائق العامة الأولى التي توصل إليها أرسطو عن هذه الأنواع من العبارات تدور حول تبديل أماكن الموضوع والمحمول «أ» و«ب»، وقد أشار إلى أنه من الممكن أن تبدل على النحو التالي: «ليس «أ» هو «ب»»، و«بعض «أ» هو «ب»»، ولكن ليس على نحو «كل «أ» هو «ب»»، أو «بعض «أ» ليس «ب»»، فعلى سبيل المثال إذا كان «أ» ليس «ب»، فإن هذا يعني أن «ب» ليس «أ» (أي إذا لم يكن السياسيون جديرين بالثقة؛ فكل جدير بالثقة ليس سياسيا بالتأكيد). وكذلك إذا كان بعض «أ» هو «ب»، فإن بعض «ب» هو «أ» (أي إذا كان بعض المحامين كسالى فإن بعض الكسالى محامون). أما إذا كان كل «أ» هو «ب»، فليس كل «ب» هو «أ» (فكل القطط حيوانات، ولكن ليست كل الحيوانات قططا). وإذا كان بعض «أ» ليس «ب»، فلا يعني هذا أن بعض «ب» ليس «أ» (فبعض الحيوانات ليست قططا، ولكن هذا لا يعني أن بعض القطط ليست حيوانات).
ويبدو أن أرسطو قد افترض أن أكثر أشكال الاستنباط إثارة ومتعة وتشويقا هي تلك التي يمكن أن يعبر عنها في صورة حجج كما في أمثلة السناكر والخنازير والطيور؛ ذلك أنها يمكن ترتيبها في شكل عبارات ثلاثية تتكون من مقدمتين ونتيجة واحدة، وتنتمي كل عبارة منها لأحد الأنواع الأربعة التي ذكرها (كل «أ» هو «ب»، وكل «أ» ليس «ب»، وبعض «أ» هو «ب»، وبعض «أ» ليس «ب»). وقد أصبحت الحجج التي من هذا القبيل يطلق عليها اسم أشكال القياس. وبناء على تصنيف أرسطو لهذه الأشكال كان هناك 192 صورة متفرعة عن الأشكال الأربعة منها 14 فقط صحيحة. واستطاع أرسطو باستخدام هذا التصنيف للأشكال الأربعة وضع بعض القواعد العامة للقياس المنطقي، وكانت اثنتان من أبسط هذه القواعد هما أن لكل قياس صحيح مقدمة واحدة موجبة (أي «كل «أ» هو «ب»»، أو «بعض «أ» هو «ب»»)، والأخرى هي أن لكل قياس صحيح مقدمة كلية واحدة على الأقل (أي «كل «أ» هو «ب»»، أو «كل «أ» ليس «ب»»).
ويقول أرسطو إن أربعة من أشكال القياس التي توصل إليها «مثالية» أو «كاملة» بمعنى أن صحتها وصدقها يظهران للعيان من الوهلة الأولى. وقد استخدم طرقا عدة لربط كل من الأشكال العشرة الأخرى الصحيحة للقياس المنطقي بواحد من هذه الأنواع الأربعة. ونظرا لأن الأشكال الأربعة المثالية صحيحة فقد برهن أرسطو على أن الأشكال العشرة الأخرى يجب أن تكون صحيحة أيضا.
ومن خلال اشتقاق جميع الأشكال الصحيحة للقياس المنطقي من الأشكال الأربعة المثالية (وتوضيح أن هذه الأشكال الأربعة هي بدورها أمثلة لمبدأ عام وحيد لن نتطرق إليه) بنى أرسطو نظاما منطقيا مبهرا تاه به فخرا على خلاف ما عهدناه منه. فحتى نهاية القرن التاسع عشر كان جل المهتمين بالبحث في هذا المجال تقريبا يعتقدون أن هذا النظام لا يمكن تطويره بشكل كبير، ولم يتبق إلا أن يتعلموه بدقة. وقد كان الطلاب في العصور الوسطى يتعلمون منظومات شعرية طريفة تساعدهم على هضم فكرة القياس العبقرية لدى أرسطو التي بدت وكأنها وحي نزل من السماء، وذلك على النحو التالي:
Barbara celarent darii ferio baralipton.
Celantes dabitis fapesmo frisesomorum;
Cesare campestres festino baroco; darapti.
Felapton disamis datisi bocardo ferison.
وكانت هذه المقطوعات الشعرية الرباعية، التي تتكون من أسماء أشكال القياس ، تضم رسائل مضمرة تخبر الطلاب بالصحيح منها وبكيفية ربط كل منها بأحد الأشكال الأربعة المثالية للقياس.
واستغرق اكتشاف أن المنطق ينطوي على ما هو أكثر من أشكال المنطق الأرسطي برهة طويلة من الزمن. فكتب كانط في عام 1787م يقول إن أشكال المنطق الأرسطي المثالية «كانت مذهبا متكاملا لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل.» وبالمثل كتب أحد الأساقفة في القرن التاسع عشر نصا في المنطق واصفا فيه منطق أرسطو بأنه «الشكل الذي يمكن أن تختزل فيه جميع أشكال الاستدلال الصحيحة»، وكذلك كتب جون ستيوارت مل في عام 1843م يقول إن أشكال القياس الأرسطي المثالية هي «الأنواع الجامعة لجميع أشكال الاستنباط الصحيح.» ولكن في الحقيقة قال أوجست دو مورجان - وهو أحد الفلاسفة وعلماء الرياضيات الإنجليز في ذلك الوقت - إن منطق أرسطو (بغض النظر عن ادعاء كونه جامعا) لا يمكنه أن يبرهن على أن رأس الحصان هو رأس حيوان؛ أي لا يمكنه التدليل على صحة استنتاجات مثل «الخيول حيوانات إذن إن رأس الحصان هو رأس حيوان» لأن مثل هذا الاستنباط لا يمكن أن تعبر عنه أشكال القياس الأرسطي.
وبصفة عامة يمكننا القول إنه على الرغم من أن أشكال القياس الأرسطي مناسبة في مجملها للتعامل مع الاستنباطات التي تنطوي على نوع العبارات المفضل لديه مثل «كل «أ» هو «ب»»، و«بعض «أ» هو «ب»»، وما إلى ذلك؛ فإنها تبقى غير قابلة للتطبيق على كثير من أشكال الاستنباط الأخرى، فعلى سبيل المثال لا يمكن استخدامها مع العبارات المركبة مثل: «إذا ضعفت الطاقة فستتوقف الساعة»، وهي بذلك لا تغطي بعض الاستنباطات مثل:
إذا ضعفت الطاقة فستتوقف الساعة.
الساعة لم تتوقف.
إذن:
الطاقة لم تضعف.
وتسمى دراسة الاستنباطات من هذا النوع بالمنطق الافتراضي لأنه يستخدم كثيرا من المتغيرات ليشير إلى افتراضات كلية مثل «ضعفت الطاقة»، في حين أن المنطق الأرسطي لا يستخدم إلا «أ» و«ب» ليشير إلى مصطلحات الموضوع والمحمول مثل «الطيور» و«الذباب». وفي المنطق الافتراضي يمكن استخدام الرمز «أ» للإشارة إلى «ضعفت الطاقة »، والرمز «ب» للإشارة إلى «ستتوقف الساعة»؛ ومن ثم يمكن عرض الشكل المنطقي لهذا القياس على النحو التالي «إذا ترتب «أ» على «ب»، وكان «ب» غير موجود؛ إذن ف «أ» ليس موجودا كذلك.»
وبعد عصر أرسطو بفترة قصيرة قام بعض الفلاسفة الذين كانوا ينتمون إلى المدرسة المعروفة بالرواقية بدراسة هذه الاستنباطات فوضعوا نظاما منطقيا يمكن أن يتناول مثل هذه الاستنباطات إلى حد معين. وبما أن الرواقيين كان ينظر إليهم دائما على أنهم معارضون لأرسطو، وبما أن أرسطو قد ذاع صيته بين الناس على أنه رجل حكيم فإن ثمة اعتقادا ذاع بأن منطق الرواقيين غير صحيح؛ مما تسبب في تجاهله. والحق أن هذين المذهبين لا يتعارضان مع بعضهما أبدا بل يكملان بعضهما؛ حيث أدرك علماء المنطق فيما بعد حاجة المنطق الأرسطي إلى تدعيمه بالمنطق الرواقي الافتراضي والعكس صحيح.
بيد أن المنطق الأرسطي يحتاج كذلك إلى توسيع دائرته كي يتواكب مع العبارات التي تستخدم فيها المصطلحات «ذات الصلة» كما تسمى والتي تعبر عن العلاقات بين شيئين أو أكثر مثل «أطول من» و«مساو ل» و«هو والد فلان»؛ ذلك أن أشكال القياس الأرسطي لا يمكن الارتكان إليها مع مثل هذه العبارات. (ويندرج مثال أوجست دو مورجان عن رأس الحصان تحت هذه الفئة لأنه يحتوي على العلاقة رأس كذا). وكان أحد الذين أدركوا الحاجة إلى منطق يتعامل مع العلاقات هو جالين الفيلسوف والطبيب اليوناني الذي عاش في القرن الثاني الميلادي وحظي بشرف التوصل إلى بدايات هذا النظام، ولكن معظم أعماله في المنطق قد ضاعت إثر الإهمال، شأنه شأن كثير من الرواقيين، ربما لأن أحدا لم يعرف كيف يوفق بينها وبين المنطق الأرسطي. ومثل هذه التعقيدات كانت تعني شيئا واحدا فحسب وهو الحاجة لاستظهار المزيد من المنظومات الشعرية. وحتى نهاية القرن التاسع عشر لم يدرك سوى قليلين أن علماء المنطق كان عليهم أن يولوا اهتماما أكبر للرواقيين وجالين واهتماما أقل لأرسطو.
كان العديد من معالم المنطق الحديث قد تنبأ به الفيلسوف لايبنتس (1646-1716م) في القرن السابع عشر والذي لم تنتشر أعماله في المنطق إلا بعد وفاته بفترة طويلة، كما لم يعتد بها إلا بعد وقت طويل. وكان لايبنتس من أوائل من وقفوا على المغزى الكامل من وراء استخدام أرسطو للمتغيرات، فقد رأى أن في استخدام أرسطو للمقدمات القياسية «نوعا من الرياضيات العامة التي لا يعرف أهميتها إلا القليل». وقد أدرك لايبنتس كذلك أن أشكال القياس الأرسطي لا تستطيع التعبير عن جميع أنواع الاستنباط، ولكنه كان يعتقد أن نظاما منطقيا أشمل وأعم من نظام أرسطو يمكنه القيام بهذا العمل إذا بني على منطق أرسطو لا سيما إذا وجدت سبيلا للاستعانة بأساليب الرياضيات. ومنذ أن بلغ التاسعة عشرة من عمره حلم لايبنتس أن تكون هناك لغة كلية شاملة تؤسس لقوانين الاستنباط عن طريق الرياضيات؛ ولذلك يقول:
إن الطريقة الوحيدة لتصحيح استدلالاتنا هي أن نجعلها ملموسة مثل الاستدلالات الرياضية حتى نتمكن من اكتشاف أخطائنا في لمح البصر، وإذا حدث خلاف بين بعض الأشخاص بخصوص مسألة ما يمكننا بكل بساطة أن نحتكم إلى الحساب لنرى من على صواب ممن هو مخطئ. وإذا فسر الكلام وفقا لطريقة أراها ممكنة، والتي لم يتوصل إليها أولئك الذين أسسوا اللغات، يمكننا أن نصل إلى النتيجة المبتغاة عن طريق الكلمات نفسها. وفي الوقت نفسه فثمة طريق آخر وعر علينا أن نسلكه وهو أن نستخدم رموزا يمكن من خلالها أن نصحح أفكارنا وأن نضيف إليها براهين رقمية تماما كما يفعل علماء الرياضيات.
وقد تفاءل لايبنتس تفاؤلا مفرطا بأن استخدام مثل هذا الحساب يمكن أن يحل جميع المشكلات الفكرية. وفي هذا ما فيه من المبالغة؛ لأن كثيرا من الخلافات لا تدور حول مسائل منطقية معينة ولكن حول بعض الحقائق، كما أنه ليس من الممكن إثبات الحقائق المنطقية كافة باستخدام الرياضيات بالطريقة التي ارتآها لايبنتس. ولكن رغم ذلك فإن رغبته في إنشاء «لغة تلعب فيها الرموز والأحرف الدور الذي تلعبه الرموز الحسابية في الأعداد ورموز الجبر للكميات بشكل عام» كانت مؤذنة بما حدث بعد ذلك.
وقد نشأت فكرة لايبنتس عن اللغة الحسابية جزئيا من المشروع بالغ الغرابة لرامون لول (1232-1315م)، وقد كان لول شخصا خليعا يعمل في البلاط الملكي قبل أن يصبح راهبا بعد قصة حب غير موفقة. وكان لول يعتقد أن المسلمين - وكذلك كل من يشك في المسيحية من أتباع توماس - يمكن أن يروا حقيقة المسيحية إذا قدروا الفضائل المختلفة التي يمتلكها المسيح الإله حق تقديرها. وقد ابتكر العديد من الأجهزة الميكانيكية والمخططات لعرض الرموز التي تشير إلى صفات الإله مثل «الخيرية » و«الأزلية» و«العظمة». ويمكن لمجرد التأمل في هذه الصفات أن يأتي بالضالة ويحقق المراد؛ فإبرة المنطق في وسط هذه الكومة من العته تتمثل في أن التلاعب بالرموز يمكن أن يلعب دورا في عملية الاستدلال أو يجسدها على الأقل. وقد دفعت الفكرة نفسها لايبنتس إلى التفكير في طريقة يمكن بها اختزال المنطق في عملية آلية بحتة؛ ومن ثم استخدامه للوصول إلى نتائج لا يمكن تفنيدها كما هو الحال في الرياضيات.
كان توماس هوبز (1588-1679م) قد عبر عن فكرة أن الاستدلال يمكن أن يشبه العملية الحسابية بقوله:
عندما أتحدث عن الاستدلال فإنني أعني بذلك الحساب، ولكي تقوم بعملية حسابية الآن فإما أن تجمع مجموعة من الأشياء التي أضيفت إلى بعضها أو أن تعرف قيمة المتبقي إذا طرحت شيئا من شيء آخر، فجميع أنواع الاستدلال تندرج تحت هاتين العمليتين العقليتين ألا وهما الجمع والطرح.
ولم تكن لدى هوبز المعرفة الرياضية الكافية ولا الرغبة في تطوير هذه الفكرة. أما لايبنتس فكان يمتلك كلتا الميزتين ولكنه لم يحقق إنجازا كبيرا في هذا المجال، فوضع بعض التشبيهات بين الصيغ الرياضية والعبارات العادية، وجرب بعض المفاهيم الرياضية وقدم بعض المسلمات التي يمكن من خلالها استنتاج نظام منطقي كامل بالشكل الذي عليه براهين إقليدس الهندسية، ولكنه لم يستكمل مشروعه هذا كشأنه في مشاريعه الأخرى، فانتقلت المهمة إلى اثنين من علماء الرياضيات الإنجليز وهما جورج بول (1815-1864م) وأوجست دو مورجان (1806-1876م) اللذان كرسا جهدا أكثر لها، فأرسى بول أسس علم جبر الفئات والذي يمكن استخدامه في التعبير عن أشكال القياس لدى أرسطو، وكذلك أرسى أسس علم الجبر للمنطق الافتراضي، أما أوجست دو مورجان فقد وضع علم جبر أوليا للعلاقات. وفي النهاية أصبح من الممكن إثبات أن رأس الحصان هو رأس حيوان.
وفي القرن التاسع عشر وضعت اللمسات النهائية للمنطق الأساسي على يد الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرز بيرس (1839-1914م) وعالم الرياضيات الألماني جوتلوب فريدج (1848-1925م). وقد نسب كل الفضل لفريدج بعد موته على الرغم من أن ملاحظاته لم تكن قابلة للاستخدام حيث بين من أتى بعده من المفكرين أن أعماله لم تعلب إلا دورا صغيرا في تطوير علم المنطق على عكس ما ادعى الكثير من كتب التاريخ. وبين عامي 1910م و1913م نشر برتراند راسل ومعلمه السابق ألفريد نورث وايتهيد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي جمع ما سيعرف فيما بعد بالمنطق الرياضي. ومنذ ذلك الوقت بدأ البحث في المنطق والبحث في الحساب يتضافران كما حدث في عقل لايبنتس. وفي عشرينيات القرن العشرين ابتكرت الإجراءات الآلية - أي تلك الإجراءات التي تجري من خلال آلة - من أجل اختبار مدى بروز النظريات الرياضية المذكورة في كتاب «مبادئ الرياضيات» من المسلمات الخاصة بها. وقد كانت هذه خطوة رئيسة في الطريق إلى ابتكار لغات الحاسب الآلي التي كانت ثمرة الحسابات المنطقية. وفي عام 1938م توصل الباحثون إلى أن تصميمات مفاتيح التحويل في الدوائر الكهربية يمكن اعتبارها متوافقة مع صيغ المنطق الافتراضي حيث ترمز المفاتيح «تشغيل» و«إغلاق» إلى «حقيقي» و«مزيف» على التوالي، (كما فعل بول في علم الجبر الذي يبحث في الافتراضات عندما عادل «حقيقي» و«مزيف» بالرموز «1» و«0»). وفي عصرنا الحالي يقوم علماء الرياضيات البحتة بدراسة بعض الأجزاء المتنوعة من علم المنطق الرياضي والأنظمة الصورية، بينما يقوم علماء الحاسب الآلي بدراسة أجزاء أخرى. أما الفلاسفة فيتجولون بعشوائية في جميع المجالات.
لقد بدأ الأمر كله بمقدمات أرسطو، ولكن من الواضح أن ثمة شيئا كثيرا قد حدث قبل أن تخرج الحسابات الشاملة للمنطق الحديث ولغات الحاسب للحياة. وربما كان السبب الرئيس الذي جعل منطق أرسطو محدود النطاق جدا يكمن فيما دفعه إلى هذا المجال منذ البداية، فمعظم ما أحرزه المنطق من تقدم وإنجازات حتى اليوم كان على يد من كانوا مهتمين بتوضيح البراهين الرياضية أو تحويل كل الاستنتاجات المنطقية إلى نوع من الرياضيات أو كليهما. أما أهداف أرسطو فكانت مختلفة، فيبدو أن اهتمامه بالاستنباط المنطقي لم يتأثر كثيرا بأي اهتمام بالرياضيات، ولا برغبة في دراسة أنواع الاستدلال المختلفة وإنما بولعه بنوع الحجج التي استخدمها سقراط، فيبدو أن أشكال القياس لدى أرسطو كانت تناسب ما كان يطرحه سقراط من أسئلة وكأنها ثوب على مقاس صاحبه، أما المشكلة فتكمن في أنها لا تصلح لكثير من الأمور الأخرى.
ودائما ما كانت تنتهي تحقيقات سقراط في محاورات أفلاطون بالحديث عما إذا كانت فئة معينة من الأشياء لها خاصية أو ميزة خاصة بها أم لا، فهل كانت جميع أمثلة العدل أمثلة لإعادة ما جرى امتلاكه؟ وهل كانت كل الأشياء التي تحبها الآلهة مقدسة؟ وخلال المناقشات كان سقراط يسأل دائما عن تعريف يضم كل الأمثلة المشتركة للعدل على سبيل المثال، فإذا ما حاول ضحيته أن يفلت من خلال الحديث عن بعض الأمثلة الصحيحة عن العدل، كان سقراط يعترض مؤكدا على أنه مهتم بماهية العدل وكنهه؛ ولذلك كان يحتاج إلى معرفة ما ينطبق على العدل في «جميع» صوره. وقد حالفه الحظ أحيانا في التوصل إلى اتفاق حول افتراض معين يتخذ الشكل التالي: «جميع أفعال العدل هي كذا وكذا» والذي بناء عليه يخرج بنتائج منطقية ويعيد النظر في الاستثناءات ويقوم بصياغة مبادئ عامة جديدة. ويبدو أن أرسطو قد راعته فكرة انطواء هذه المناقشات على عبارات عن كل المقدمات أو بعضها أو أي منها، وعما إذا كانت هذه المقدمات متوافقة أم لا. وقد يكون ذلك هو السبب وراء عدم اكتراثه بالحديث عن هذه الأمور في أعماله بعدما حقق إنجازا رائعا بتحليل هذه العبارات.
ولم يكن التحقيق في القياس الأرسطي بمقدمتيه «أ» و«ب» إلا جزءا من كتابات أرسطو في المنطق، ورغم أنه الجزء الأصلي في هذه الكتابات، فهناك أشياء أخرى لها بالغ الأثر على هذا المنطق، منها ما هو مفيد ومنها دون ذلك. وقد درست هذه الكتابات بحماس بالغ في العصور الوسطى، ربما لأنها أولى أعمال أرسطو التي تترجم إلى اليونانية. وإحدى رسائله تسمى «الموضوعات» هي عبارة عن كتيب من النصائح تستخدم في المناقشات التنافسية، التي كانت من الرياضات المفضلة التي حظيت بشعبية جارفة في عصر أرسطو. وتحتوي هذه الرسالة على ملحق يضم مجموعة متنوعة من المغالطات، ويوضح للمرء كيف يكتشفها قبل أن يسقط فيها. وقد قال أرسطو إن التدريب الذي يقدمه كتاب «الموضوعات» مفيد لأهداف جادة مثل البحث العلمي؛ لأنه يسهل التمييز بين الغث والسمين من الاستدلالات، كما يحتوي على قدر من التحليل المعقد، ولكن أرسطو يعطي كذلك بعض الملاحظات غير المهذبة التي يمكن استخدامها لهزيمة الخصم والتغلب عليه، مثل نصيحة المتحاور بالتحلي بالصبر، والتحدث بسرعة، وبذل قصارى الجهد لجعل الخصم يفقد أعصابه. أما العقل الحديث فلا يرى أدنى علاقة لهذه النصائح بالمنطق. وثمة رسالتان أخريان تناقشان بعض الأمور التمهيدية لدراسة المنطق: إحداهما تتناول الأنواع المختلفة للافتراضات وعلاقتها ببعضها وبعض المشكلات المتعلقة بالحقيقة والمعنى، والأخرى تتناول الأنواع المختلفة للمصطلحات التي تتكون منها الافتراضات.
تناولت إحدى الرسائل المنطقية الأخرى «أشكال القياس العلمي»، وكان ينظر إليها على أنها إنجيل المنهج العلمي حتى عصر النهضة، وهو ما يثير دهشة القارئ إذا ما قرأ وصاياها للمرة الأولى؛ فمناقشة أرسطو ل «المبادئ الأولى» التي ينبغي أن تبدأ منها كل البراهين العلمية يبدو أنها صيغت على شاكلة البراهين الهندسية؛ حيث تشتق فيها النظريات من مجموعة من التعريفات الأولية والمعطيات الأساسية والمسلمات اليقينية. ومن الواضح أنه كان يرى أن كل العلوم يمكن أن تختزل في صورة الرياضيات البحتة؛ لأنه قال إن المعرفة العلمية الأصلية تتكون من مجموعة من «الحقائق الضرورية» (التي لا تقبل الخطأ)، وإن هذه الحقائق كلها تتعلق بالأشياء الخالدة غير المتغيرة. يبدو هذا للوهلة الأولى مبهما؛ إذ كيف يمكن أن يتسق هذا مع أبحاث أرسطو البيولوجية؟ فليس هناك على سبيل المثال شيء خالد في أسماك كلب البحر، ولكن يبدو أن أرسطو كان حريصا على اكتشاف الكثير عنها. ولنا أن نتساءل: أليس هذا من العلم؟ يبدو هنا أن أرسطو قد ثار على انتقاداته لأفلاطون وعاد للنظرة الأفلاطونية التي تقول إن المعرفة عن الأشياء الثابتة التي لا تتغير والأشياء التي لا تنتمي إلى عالم الأرض هي النوع الحقيقي الوحيد من المعرفة.
ولم يقدم أرسطو ما يكفي من الأمثلة المفصلة لنتأكد مما كان يعنيه بملاحظاته عن المبادئ الأولى والبراهين العلمية ، ولكن يبدو أنه كان يتحدث عن شيء مثالي يجب أن يسعى إليه كل فرع من فروع المعرفة. كانت الهندسة هي أكثر العلوم تطورا آنذاك؛ ولذلك يبدو أن أرسطو افترض أن باقي فروع المعرفة ستسعى إلى أن تكون مثل الهندسة، مكونة من مجموعة من الحقائق منظومة في سلسلة من الاستنباطات، بطريقة يمكن للمرء فيها أن يرى كيف أن النتيجة التي يتوصل إليها لا يمكن إلا أن تكون صحيحة كما هو الحال في الهندسة. أما فيما يخص سمكة كلب البحر والخلود فقد كانت فكرة أرسطو تقول إن العلم المتقدم يجب أن يكون مهتما في المقام الأول بكل ما هو صحيح بصفة عامة عن كل أنواع الأشياء، والذي وفقا لهذا المعنى يمكن أن يتعامل مع حقائق خالدة لا تقبل التغير كما هو الحال في الهندسة كذلك. فأفراد الأبقار على سبيل المثال لا تعد من المجترات عند موتها ولكن تبقى حقيقة خالدة (كما يقول أرسطو) أن جنس الأبقار بصفة عامة من المجترات. وبالمثل قد تموت زهرة الأقحوان ولكن تستمر فصيلة المجترات في مضغها؛ وبذلك يمكن لعلماء الحيوان أن يتأكدوا من أن «نظرياتهم» ستظل صحيحة للأبد كما هو الحال مع النظريات الهندسية.
إن تفسير أرسطو للعلم بوصفه متوالية هندسية من أشكال القياس يدعونا إلى التفاؤل؛ حيث إنه يفترض أن كافة المعلومات قد جمعت في سؤال مثير حول كيفية تنظيمها وترتيبها في شكل مبادئ وتعريفات ونظريات وهكذا، وكلها تسير نحو هذا السؤال . ويبدو أن أرسطو كان على وعي بأن تفسيره لا يمكن تطبيقه على أي من العلوم الفعلية (عدا الهندسة نفسها)؛ لأنه لم يجر استكمال ما يكفي من البحوث لذلك، وهذا ما يفسر إحجامه عن ترجمة أعماله العلمية في أشكال القياس فيما عدا بعض العينات البسيطة التي تأتي على سبيل التفسير. وأما عن جمع المعلومات العلمية في المقام الأول فلا يرى أرسطو نصيحة أفضل من قوله: «اذهب واكتشفها بنفسك.» فقد كان هذا أمرا يتوقف على بصيرة الباحث المتمرس وما يبذله من جهد في هذا السبيل، وليس على البراعة المجردة لعالم المنطق؛ ولذلك لم يقدم أرسطو تفسيرا يتبع طريقة علمية عملية بالمرة، بل كان الأمر يشبه كتابا يحفظ لمن يعرف كل شيء. وفي القرون التالية عانت أفكار أرسطو من سوء الاستخدام على يد أناس انكبوا على رسائله في المنطق وأهملوا (أو لم يعرفوا شيئا عن) رسائله العلمية؛ حيث أراد مفكرو العصور الوسطى آنذاك أن يتجاوزوا البحث ويركزوا على أشكال القياس الأرسطي. وهذا الخلط الذي لا فائدة منه بين التعريفات والاستنباطات هو الذي تسبب في إلصاق سمعة سيئة بالمنهج العلمي «الأرسطي»، لا سيما عند مقارنته بنظيره لدى فرانسيس بيكون.
وبهذا نجد أن الجزأين الأساسيين من منطق أرسطو قد أحدثا بعض المشكلات فيما بعد بشكل غير مقصود. وقد عمرت نظرية أرسطو العامة حول القياس وآتت أكلها في النهاية وكبحت تطور المنطق الاستنباطي؛ ذلك أن معجبيه تأثروا بأنه من وضع حجر الأساس لهذا العلم حتى ظنوا أنه هو صاحب الكلمة الأخيرة فيه. وأما عن نظريته حول البرهان العلمي أو أشكال القياس العلمي فقد أدت إلى التقليل من مكانة الدور الذي يلعبه البحث التجريبي؛ لأن بعضا من معجبي أرسطو أخذوا بحثه التجريدي الذي تناول فيه الشكل المثالي الذي يمكن أن يبدو عليه العلم حجة لهجر العمل التجريبي قبل الأوان. •••
قد كتب أرسطو ذات مرة يقول: «إنها سمة الإنسان المتعلم أن يبحث عن الدقة في كل شيء كما تبدو في الطبيعة.» فقد تكون الدقة هدفا في الرياضيات على سبيل المثال ولكن في العلوم الأخرى قد يكون من السذاجة أن تبحث عن شيء آخر غير الخطوط العريضة. أحيانا ما كان أرسطو ينسى نصيحته، ولكن عندما يتعلق الأمر بالموضوعات الأخلاقية والسياسية نجد أنه كان على وعي جيد بأنه لم يكن ثمة مبادئ دقيقة، وفي ذلك يقول:
يجب تقديم التفسير الشامل لكل ما يتعلق بالسلوكيات في إطار عام وليس بدقة ... فالأمور التي تتعلق بالسلوك وما يحمل لنا الخير ليست ثابتة تماما كتلك الأمور التي تتعلق بالصحة. وبما أن هذه هي طبيعة التفسير الشامل فإن تفسير بعض الحالات الخاصة تنقصه الدقة ... ويجب على الأفراد الفاعلين في كل حالة أن يضعوا في الاعتبار ما يناسب الموقف كما يحدث في الطب أو الملاحة.
إن الحياة فيها من التعقيد ما يجعلنا نعجز عن العيش فيها بقائمة من الأوامر والنواهي وحسب، فإذا حاولت أن تضع مجموعة كاملة من القواعد التي تعيش وفقا لها فستكون هذه القواعد على درجة من التعقيد تمحو أية فائدة عملية منها. في الحقيقة توجد مجموعة من القواعد الثابتة والسريعة مثل «لا تقتل» و«لا تسرق»، ولكنها لا تغطي إلا الأسئلة السهلة، وهي صحيحة بتعريفها. (فلا يعد قتلا إلا القتل بظلم؛ ولذلك فإن عبارة «لا ترتكب جريمة القتل» لا تعني سوى لا ترتكب ظلما). وما يحتاجه الإنسان ليفرق بين الخير والشر في عالم متداخل هو الشخصية والخبرة وحكم متوازن من الشخص الذي تدور حوله الأحداث. وقد يساعدنا ذلك على اتخاذ القرارات المناسبة في المواقف الصعبة وعلى تحديد أهدافنا في الحياة.
ويختلف هذا المذهب العملي والمرن اختلافا كبيرا عن طريقة أفلاطون المفضلة في الحديث عن الأخلاق. فإذا كان الأمر كما يعتقد أرسطو لا يتعلق بصياغة قواعد عامة؛ فإن الأخلاق لا يمكن أن تكون قضية فكرية كما يرى أفلاطون، فقد قال أفلاطون إن طبيعة «الشيء الخير» يمكن تمييزها من خلال التأمل المحض في الصفات المشتركة بين جميع أفعال الخير. وبعد حياة مديدة من الدراسة الجادة والاستعداد الشديد استطاع الملوك الفلاسفة من أتباع أفلاطون اقتباس جزء من المثال الأعلى للشيء الخير، وقدموا إجابات على كل الأسئلة عن أي الأشياء خيرة وأيها غير ذلك، ثم قاموا بسن القوانين للجميع. وانتهى الأمر على هذه الحال ولم تعد ثمة مشكلات تتعلق بالأخلاق. وكما رأينا لم يتوقع أفلاطون حدوث أي من هذه الأمور، ولكن الدرس المستفاد من القصة كان واضحا وضوح الشمس في كبد السماء ألا وهو: تمسك بالمثال الأعلى للشيء الخير - أو الخير ذاته كما كان يسميه - والباقي تفاصيل محضة.
لم يرق هذا الأمر لأرسطو، فلم يكن يفهم علاقة المثال الأعلى للشيء الخير بأي شيء آخر، فمن ناحية تفترض الصورة التي رسمها أفلاطون أن الخير هو شيء واحد؛ فالرجل الصالح والمنزل الصالح والدجاجة الصالحة كلها تجتمع في علاقة واحدة مع هذا المثال الأعلى. وقد اعترض أرسطو قائلا إن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا؛ لأن هناك العديد من المعاني التي يمكن أن يقال عن الأشياء فيها إنها خيرة (أو غير ذلك) وهي تختلف بشدة تبعا للأمر الذي يتحدث الإنسان عنه، فكيف يكون هناك فائدة من «الخير نفسه» إذا كانت فكرة الخير تنطبق على الكثير من الأشياء؟ وعلى أية حال فقد كان من المريب أن أحدا لم يحاول استغلال هذا المعيار أو المقياس العام للخير. فإذا أراد الإنسان أن يصبح طبيبا ناجحا فعليه أن يدرس الطب، وإذا أراد أن يصبح نجارا ناجحا فعليه أن يعرف عن الأخشاب والأدوات؛ وبهذا نجد أن المثال الأعلى للشيء الخير لا علاقة له بالأمر. ويمكننا تطبيق الأمر نفسه على طريقة العيش والحياة، فإذا أردت أن تعرف كيف تتفوق في هذا المجال فإن ما يجب أن تهتم به هو تفاصيل الشخصية الإنسانية والظروف المميزة للحياة البشرية.
وهذا هو ما كان أرسطو يحاول أن يفعله في كتاباته عن الأخلاق. وبما أن طريقته كانت - كما كانت في سائر أبحاثه - تعتمد على تفسير الحقائق كما تبدو بشكل عام، والبناء على الآراء المقبولة والمتعارف عليها بشأن هذه الحقائق وتنقيحها؛ فليس من العجب أن نكتشف أنه كان صاحب ثورة في الأخلاق لا تقل عن سقراط وأفلاطون. فكما رأينا لم يهتد سقراط في الأساس بالأخلاق التقليدية، بل بضمير يخبره رغم كل شيء أن يتجنب فعل كل ما قد يضر، كما أن الحاجة إلى الحفاظ على نقاء روحه وتقويتها كانت تعني أن يعيش عيشة القديس وألا يرد الصاع بالصاع. أما لدى أفلاطون فإن مطالب الضمير ارتدت لباس العقل بوصفها مطالب للبحث عن «الخير نفسه»، وقد ظلت مثله مجردة ولكنها ظلت على غير العادة تضع معايير رفيعة ولو على المستوى النظري على الأقل، كما كانت بعض الإصلاحات التي نادى بها في كتابه «الجمهورية» - مثل مساواة المرأة ونظام الإفقار الإجباري للقيادات الحاكمة - تحمل من الإبداع والابتكار ما أذهل الجميع.
لم تكن آراء أرسطو عن القيم التقليدية التي امتدحها المتعلمون والمثقفون من أبناء عصره مختلفة اختلافا كبيرا، إلا أن هذا لم يجعل فلسفته الأخلاقية باعثة على الملل من حيث كونها لم تقدم جديدا؛ لأن الأمر يختلف عندما تكون قادرا على تفسير هذه القيم والاستفادة منها. لقد ذهب أرسطو بعيدا في محاولته لتبرير نظام العبودية الذي كان المفكرون اليونانيون الآخرون يقبلونه على أنه مجرد حقيقة حتمية في الحياة، فمروا عليه مرور الكرام. أما أرسطو فكان يعظ بما يمارسه الآخرون ولا يتكلمون عنه، وهو ما يعد من الناحية الأخلاقية سلوكا محافظا ومن الناحية الفكرية عملا فيه قدر من المغامرة. وبصفة عامة إذا كانت الفلسفة الأخلاقية لدى أفلاطون وسقراط يمكن النظر إليها على أنها محاولة لوضع بعض القوانين لأحد الأندية؛ فإن أرسطو كان مهتما بإلقاء الضوء على الدستور الذي يسير النادي وفقا له، وأن يبحث عن الطريقة المثلى التي تجعل أعضاءه يتصرفون على أساسه. ولا يعني هذا أنه كان يقبل كل القيم التقليدية دون تفكير؛ فقد اعترف أن «العادات القديمة هي عادات ساذجة وهمجية إلى حد كبير ... كما أن ما تبقى من القوانين القديمة ليس إلا عبثا لا فائدة منه.» وقال أرسطو أيضا إن القوانين القديمة «يجب ألا تبقى دائما بعيدة عن معاول التغيير والتبديل.» فهو يرى أن حدوث التغيير يجب أن يكون بحرص شديد؛ لأن «العجلة في التغيير من القديم إلى الحديث تضعف قوة القانون.»
وقد كان سؤال أرسطو الأول حول الأخلاق وفن العيش هو: «ما «الشيء الخير» للإنسان؟» لا يعني هذا «ما الذي يجعل الإنسان أفضل من الناحية الأخلاقية؟» أو «كيف يجب على الناس أن يتصرفوا إذا تعارضت مصالحهم مع مصالح الآخرين؟» فحسب، بل كان السؤال يتسع لأكثر من هذا ولا يقتصر على ما نسميه السلوك الأخلاقي، فعندما يتحدث عن «الشيء الخير» للإنسان فهو يسأل: «ما الهدف من الحياة الإنسانية؟» و «ما الذي يجعلها تتسم بالكمال؟» يقول أرسطو إنه من البدهي أن تكون الإجابة على هذا السؤال هي
eudaimonia
وهي كلمة يونانية تترجم دائما ل «السعادة»، ولكن هذه الترجمة تجعل الإجابة غير مقنعة للمفكرين والفلاسفة المعاصرين، فمن المؤكد أن الحياة لا تقتصر على الشعور بالراحة. وفي الواقع لا يقصد بكلمة
eudaimonia «السعادة» إلا بمعناها الواسع في الإنجليزية؛ لأنها تتضمن النجاح والعيش الكريم والثروة الكبيرة بالإضافة إلى الرضا وراحة البال. وكان من الممكن أن تضم قوائم أفضل كتب الاعتماد على النفس من حيث المبيعات آنذاك كتبا تحمل العناوين التالية: «السعادة للجميع: كيف تحقق النجاح وتكون محط الإعجاب وتكون كمن أنعم عليه الرب»؛ ولذلك لم يجد أرسطو غضاضة في أن يتفق الناس على أن السعادة هي الهدف المنشود من هذه الحياة. وتبقى المهمة الأساسية في رأي أرسطو هي تحديد ما سيوصلنا إليه هذا البحث بدقة.
يرى أرسطو أن دهماء الناس يعتقدون أن هدف الحياة هو المتعة، ولكنه يعد هذا نوعا حقيرا من أنواع الوجود لا يليق إلا بالحيوانات؛ فالناس «ذوو الذوق الرفيع والمزاج النشيط» يعرفون هدف الحياة على أنه الشرف والسمعة الحسنة، وهو ما يمكن للإنسان أن يحصل عليه من وظيفة جيدة في الحياة العامة. لكن لأسباب عدة تعد هذه أيضا طريقة سطحية في التعامل مع الحياة. إن هذا الشرف لا يعكس إلا طريقة تفكير الآخرين، فهل يمكن أن تعتمد سعادة المرء على السلوكيات المتقلبة للآخرين؟ وإلى جانب هذا يود الناس دائما أن يكرموا ليس من العامة فحسب وإنما أيضا من أصحاب الحكم الحصيف؛ ومن ثم فإنه من غير المنطقي أن يهتم المرء باحتفاء الناس به وتكريمهم له أكثر من اهتمامه بالفضائل نفسها التي من المفترض أنه يعرفها، فالناس يعجبون ببعضهم لأنهم أهل لهذا الإعجاب لا لأنهم معجبون؛ وبذلك فإن الشرف والاحتفاء لا يمكن أن يكونا هما أهداف الحياة.
ويؤدي هذا إلى القول إن هدف الحياة قد يتمثل في التمتع بجميع الفضائل (أو «أنواع التميز» التي تعني لدى الإغريق المعنى ذاته) سواء أكانت فيها احتفاء العامة بالمرء أم لا. ولكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا أيضا؛ أولا: لأن هذا سلوك سلبي، فأرسطو كان يرى الفضائل على أنها ميول أو قدرات، وقد يكون للمرء كثير من هذه الميول والقدرات دون الاستفادة منها في شيء. وثانيا: لأنه حتى لو تصرف المرء وفقا للفضيلة وبدت منه جميع أشكال التميز والرقي فقد لا يكون هذا كافيا؛ لأن المرء قد يعاني من مصائب عدة مثل المرض أو الفقر أو فقدان الأصدقاء والأهل، ومثل هذا الإنسان البائس «لن يدعوه أحد إنسانا سعيدا»، فهذه الظروف التي تخفيها الحياة تذهب بزهرة السعادة. وسرعان ما تخلص أرسطو من فكرة أن الثروة قد تكون مفتاح الحياة الكريمة، فالمال يبتغى لما يمكن أن يحققه وحسب، فهو وسيلة لغاية ما.
ولتحقيق مزيد من التقدم في هذا الشأن يقترح أرسطو أن يمعن الإنسان النظر في شخصيته، فهو يرى أن هذا سيطلع الإنسان على «وظيفته»؛ وبناء عليه سنتمكن من معرفة الطريقة المثلى التي يجب أن يؤدي الإنسان بها هذه الوظيفة فيقول:
كما هو الحال مع عازف الناي والنحات وأي فنان، بل وكل الأشياء التي لها وظيفة أو نشاط ما، يظن الناس أن الخير يكمن في الوظيفة نفسها؛ وبالمثل يظن أن ثمة خيرا في الإنسان إذا كانت له وظيفة. فهل للنجار أو الدباغ وظيفة بينما ليس للإنسان أية وظائف؟ هل جبل الإنسان بدون وظيفة؟ وبما أن للعين واليد والقدم وسائر الأعضاء وظائف تؤديها فهل يمكننا القول إن للإنسان وظيفة تختلف عن كل ذلك؟
وكما رأينا في أبحاث أرسطو البيولوجية فإن السؤال عن وظيفة الكائن الحي (أو أحد أجزاء الكائن الحي) هو سؤال عن طبيعة عمله الأساسية. إن وظيفة العين هي الرؤية، ولذلك فإن الخير الذي تناله العين هو الرؤية الجيدة. ولننظر إلى كل ما يقوم به الإنسان بشكل طبيعي، فهو يأكل ويتنفس ويدرك وينام ويتحرك ويفكر وما إلى ذلك، ولكن معظم هذه الأمور يشترك فيها مع كثير من المخلوقات الأخرى؛ ولذلك فهي لا تعد من الوظائف المميزة للإنسان. ويقول أرسطو إن ما يتبقى لنا بعد أن ننحي كل هذه النشاطات المشتركة جانبا هو العقل أو الذكاء؛ فإن العقل أو الذكاء هو الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى، وبذلك نعثر على وظيفة الإنسان ومن ثم على مفتاح السعادة.
يميل الإنسان بطبيعته لوضع الخطط، وتكون لديه دوافع معينة ويقوم بحساب النتائج، ويسعى إلى اكتشاف الأشياء ومعرفتها، كما يؤدي حركات إرادية ويفكر في كل شيء من حوله ويدرسه. وتعتمد كل هذه النشاطات على الذكاء. وهذا يقودنا إلى القول إن مصلحة الإنسان و«خيره» يتضمن إتقان عمل كل هذه الأشياء، أو «بما يتفق مع (الصورة المناسبة من) التميز»، وهو ما يعني أن نشاط الإنسان الخير السعيد وسلوكه يعرضان الفضائل المناسبة لكل نوع من أنواع التصرفات الذكية والتفكير العقلاني؛ فلا يجب عليه أن يتصرف بهذه الطريقة لمرة أو مرتين، بل طوال حياته كلها؛ ذلك أن «ممارسة عمل ما مرة واحدة أو مرتين لا يكفي، كما أن الوقت القصير لا يجعل الإنسان سعيدا منعما.» وقد رأينا أن الحظ العاثر قد يؤدي إلى ذبول زهرة السعادة؛ ولذلك فلكي نقول إن إنسانا يحيا على أكمل وجه؛ فإنه يحتاج إلى قدر وافر من الحظ وأن يكون «لديه ما يكفي من العوامل الخارجية» والتي يعتبر بعضها كالصحة ضروريا للسلامة والرفاهية، وبعضها الآخر مثل الثروة يساعد على القيام بالأمور النبيلة.
وتبقى الفضائل أمرا أساسيا؛ ولذلك يجب أن يتناولها المرء بمزيد من العناية. ويقسم أرسطو أشكال التميز الإنساني إلى مجموعتين هما: فضائل الشخصية (أى الفضائل الأخلاقية)، والفضائل الفكرية. وكلا النوعين مرتبطان بالعقل. وتعتبر الفضائل العقلية من قبيل المهارة في التخطيط والبصيرة الفكرية تجسيدا للعقل نفسه، أما الفضائل الأخلاقية مثل الشجاعة والكرم فيقال إنها «تستمع» للعقل أو تهتدي به. وبينما تستخدم الفضائل العقلية في تصميم الخطط بعيدا عن العاطفة وحساب العواقب وتقدير الظروف، تجذب الفضائل الأخلاقية الإنسان إلى التصرف بشكل معين فتولد عنده رغبة في عمل أمور معينة؛ وبذلك فإن نوعي الفضيلة يعملان جنبا إلى جنب لإنتاج الفعل الصحيح.
ويقول أرسطو إن الفضائل العقلية ليست فطرية ولا غير طبيعية؛ فهي حالات عقلية مكتسبة يفرضها الاستخدام المتكرر، فلكي تكون للإنسان شخصية كريمة على سبيل المثال، يجب أن يتصرف بكرم متى سنحت الفرصة، وكلما انتهز الإنسان مثل هذه الفرص أصبحت طباعه تتصف بالمزيد من الكرم. ويسري الأمر نفسه على الرذائل أيضا؛ فالإنسان البخيل هو الذي يختار دائما أن يتصرف بطريقة معينة، وكلما استمر في التصرف بهذه الطريقة ازداد بخله. ولأن الرذائل بذلك تعتبر نتاجا لاختيارات الماضي، يرى أرسطو أن كل إنسان مسئول أخلاقيا عن رذائله، وهو يعترف أنه بمجرد التعود على عادة معينة فمن الصعب الخلاص منها بعد ذلك، ولكنه يصر على أن الناس مسئولون عن العادات التي اكتسبوها بأنفسهم.
إذا كانت الفضيلة والرذيلة هي نزعات مكتسبة يميل فيها الإنسان إلى التصرف بطريقة معينة، فما الذي يفرق بينهما إذن؟ يقول أرسطو إن هذا يكمن في أنه في منحى من مناحي الحياة يمكن أن يضل الإنسان بطريقتين مختلفتين، فإما ألا يفعل الإنسان أو يشعر إلا بالقليل، وإما أن يفعل الإنسان أو يشعر بالكثير؛ فالرذائل «إما أن تزيد عن المقدار الصحيح من المشاعر والأفعال أو تنقص»؛ وبذلك فإن كل فضيلة تتضمن السير في طريق وسط بين رذيلتين تقفان على أحد جانبي هذا الطريق. ولنأخذ على سبيل المثال الظروف التي تتطلب الثقة والشجاعة؛ فعلى أحد جانبي فضيلة الشجاعة يقف التهور وعلى الجانب الآخر يقف الجبن، وعلى أحد جانبي التواضع نجد الوقاحة وعلى الجانب الآخر نجد الخجل، وهكذا الأمر فيما يخص جميع فضائل الشخصية. وبصفة عامة يقول أرسطو:
يتعلق التميز الأخلاقي بالعواطف والأفعال، وفي هذه الأمور لدينا درجات من الإفراط والنقص والاعتدال. فنجد على سبيل المثال أن مشاعر مثل الخوف والثقة والشهية والغضب والشفقة والمتعة والألم يمكن أن تنتاب الإنسان بقدر كبير أو قليل، وفي كلتا الحالتين فهذا أمر غير جيد، ولكن أن نشعر بهذه المشاعر في الأوقات المناسبة تجاه الأشياء المناسبة وبالطريقة الصحيحة فهذا هو الطريق الوسط المعتدل والأفضل، وهذا إحدى سمات التميز. وكذلك الأمر مع الأفعال، فلدينا فيها درجات من الإفراط والنقص والاعتدال ... فالإفراط شكل من أشكال الفشل وكذلك النقص، أما الاعتدال فهو حري بالمدح والثناء ويعتبر شكلا من أشكال النجاح.
ولا يمتدح أرسطو هنا التوسط فحسب، فليس هذا المقصود بالوقوف على «الاعتدال»؛ فبعض المواقف تتطلب من الإنسان أقصى درجات التصرف والعاطفة، فإذا تعرض الإنسان على سبيل المثال لسلوك شديد الأنانية بشكل فيه من اللامبالاة ما يثير الحنق والغضب، ينبغي عليه أن يعبر عن غضبه الشديد إزاء هذا السلوك، فلا يشجبه برفق ولين، فقد يعاني الإنسان من الإفراط في الاعتدال. والمقصود بالاعتدال هنا هو أن تكون عاطفة الإنسان أو تصرفه مناسبا للموقف وعلى مستوى الحدث، فلا يكون مبالغا فيه ولا دون الحدث؛ ذلك أن التعرف على كنه «الاعتدال» يتوقف على الظروف الواقعية، حيث يقول أرسطو إن الأخلاق لا تقتصر على معرفة القواعد والمبادئ العامة فحسب؛ فالفضيلة الفكرية للحكمة الواقعية يجب تطبيقها على الفور للوقوف على المسار «المعتدل».
ويقول أرسطو إن أسلوب النظر في قضايا الفضيلة والرذيلة يمكن أن يتسع ليشمل الأمور المتعلقة بالشجاعة والزهد والمال والشرف والود والغضب والفخر والصدق والحياء وغير ذلك الكثير، بل يشمل ذلك أيضا المزاح والفكاهة؛ فالإنسان الذي يتمتع بفضيلة الفكاهة يستطيع أن يشق طريقا وسطا بين الهزل الماجن والفظاظة الجافة كما يقول أرسطو. ولكن لم يتمكن أرسطو من تطبيق هذا الأسلوب عند تناوله لقضية العدل الذي يقسمه إلى عدل توزيعي (توزيع أعمال الخير والشرف) والعدل الإصلاحي (تصحيح الأخطاء) والعدل التبادلي (التبادل العادل). وتتشابك محاولته لضم كل هذه الأشياء في حزمة واحدة وتتعقد باعترافه هو. ومع هذا فقد كان لتحليلاته للمفاهيم القانونية والاقتصادية خلال مناقشته لقضية العدل كبير الأثر حتى صارت تبدو اليوم من البدهيات. ويشير أحد شارحي أرسطو المعاصرين في هذا السياق إلى أعمال أرسطو قائلا: «إنها تعج بالتفاهات كما تعج مسرحية هاملت لشكسبير بالاقتباسات.»
ولتلخيص المسألة حتى الآن نقول إن الحياة الكريمة تتطلب حدا أدنى من الراحة المادية وحظا سعيدا، ولكن يبقى الأمر الأساسي هو أن نقوم بكل ما يوصف بالإنسانية بدافع من المحفزات الصحيحة؛ فمثل هذه الحياة تجلب أفضل أنواع المتعة من منظور الرجل الحكيم. وتأخذ القضية منحنى جديدا عندما ندرك أن نشاطا ما له قيمة أكبر مما سواه؛ وبذلك فإن أفضل شكل من أشكال الحياة سيكون هو المخصص لمثل هذا النشاط. ويوضح أرسطو أن هذا النشاط يتمثل في التأمل العقلي أو البحث عن الحقيقة لذاتها. هذا أمر ينطبق على الفلاسفة والعلماء، وهو يشبه قول الخباز إن أفضل الحيوات هي تلك التي يقضيها في خبز الخبز. وهذا يجعلنا نتساءل ما إذا كان هذا النشاط العقلي يتناسب فعلا مع أرسطو ومنهجه الواقعي في البحث عن كيفية الحياة. ويبدو أن ظلال أفلاطون - وكذلك فيثاغورس والأورفية - تخيم على فكر أرسطو في هذه النقطة.
ويؤمن أرسطو أن «الحياة سيرا على منهاج العقل هي أفضل الحيوات وأكثرها سرورا على الإطلاق؛ لأن العقل هو الذي يميز الإنسان أكثر من أي شيء آخر»؛ فقد أثبت فعلا أن الذكاء أو العقل هو ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات. ويسوق أرسطو كثيرا من الحجج ليوضح أن القدرة على الانشغال بالبحث الخالص عن الحقيقة هو «أفضل ما يميز الإنسان»، فمن ناحية هو النشاط الوحيد الذي نشترك فيه مع الآلهة، فكما رأينا عند مناقشة ما يفعله المحرك الذي لا يتحرك في وقته فإن التأمل هو النشاط الوحيد الملائم للآلهة. كما أن ثمة العديد من الاعتبارات الأخرى التي تجعل التأمل هو الغاية القصوى من الحياة بما يقدم من متعة لا تذبل، كما هو الحال مع العديد من المتع الأخرى؛ إذ يمكن الاستمتاع به باستمرار، فكما يقول إن هذه المتع «رائعة بفضل نقائها واستمراريتها». بالإضافة إلى ذلك تتميز حياة التأمل بتحقيق الاكتفاء الذاتي لصاحبها، وهي سمة من سمات الحياة الفضلى فلا يحتاج الإنسان إلى الاعتماد على أي شيء أو أي شخص ليحوزها، فهي النشاط الوحيد الذي يحبه الناس لذاته، في حين أن كافة الأمور الأخرى يؤديها الإنسان سعيا لكسب شيء آخر بخلاف المتع التي يجلبها النشاط نفسه (أو هكذا ادعى أرسطو ). وأخيرا يندرج التأمل ضمن قائمة نشاطات الفراغ، وهو أحد السمات الأخرى للحياة الفضلى من وجهة نظر أرسطو.
سنعمد الآن إلى مناقشة ما كان أرسطو يعنيه ب «التأمل العقلي». لا يتضح في حالة الإنسان ما إذا كان هذا التأمل يشتمل على أبحاث علمية نشطة من النوع الذي برع فيه أرسطو، أم أنها تقتصر على التأملات غير الفعالة (كما في حالة الرب الذي ليس بحاجة إلى إمعان النظر في أي شيء). وعلى أية حال يبدو هذا التأمل أقرب ما يكون إلى البحث الخالص عن المعرفة الذي امتدحه الفيثاغوريون على أنه أفضل الطرق للخلاص. والتأمل العقلي لدى الفيثاغوريين وأفلاطون وكذلك أرسطو هو القبس الإلهي في الطبيعة الذي يفتح نافذة على الحياة الخالدة، وإن كنا لا نستطيع في حالة أرسطو إلا أن ننظر من تلك النافذة دون أن نفكر في القفز منها، لأنه ليس ثمة خلود بشري.
وبذلك فإن المدح الذي أولاه أرسطو للتأمل العقلي لم يكن فتحا جديدا في الأخلاق اليونانية، إلا أن ما قاله أرسطو وغيره من الفلاسفة في هذا الصدد يبقى غريبا بعض الشيء؛ فالأخلاق اليونانية لها خلفيتها في الأدب اليوناني، لا سيما في مسرحيات سوفوكليس التراجيدية وملاحم هوميروس التي لا يجهلها جاهل. وقد كانت حياة هؤلاء الأبطال الذين تحدثت عنهم هذه القصص هي البذرة التي نما منها الفكر الإغريقي عن «خير» الإنسان. ومن هذه الأعمال أدركنا أن الحكمة العملية وغيرها من الفضائل الأخرى المختلفة هي كلها عناصر تدخل في بنية الحياة المثالية، إلا أن هذه العناصر لم تضمن تحقيق السعادة؛ لأن الأمور قد تسير على غير ما يرام (ودائما ما كانت تسير على غير ما يرام في المسرحيات التراجيدية). وفي مدحهم لفضيلة التأمل العقلي ابتعد الفلاسفة كثيرا عن الأوديسة والإلياذة؛ فأوديسيوس يملك قدرا وافرا من الحكمة العملية التي قال عنها أرسطو إنها قوام الحياة الكريمة، في حين أن التأمل العقلي لم يشغله كثيرا؛ فهو لم يفقأ العين الوحيدة الغريبة للسيكلوب العملاق كي يشرحها أو يصوغ أشكال القياس عن كيفية عمل أجزائها. كانت أعمال هوميروس ستختلف كثيرا إذا استغرق أبطاله الوقت في التفكير والبحث عن المعرفة، فمن المحتمل أنهم كانوا سيمضون وقتا أطول في التأمل العابس، كما فعل أخيل. ومن الصعب كذلك أن نرى كيف من المفترض أن يتناسب التأمل العقلي مع حياة الفضائل كما يصفها أرسطو، ناهيك عن الصورة التي رسمها هوميروس في أعماله. وإذا كانت هذه الحالة الرفيعة هي أقصى أماني الإنسان فأين يأتي ما تحدث عنه أرسطو سابقا من نعم دنيوية وحسن حظ وفضائل دنيوية مثل الشجاعة والفطنة وغيرهما؟ فكما رأينا، لم تعبأ آلهة أرسطو بمثل هذه الأمور الدنيوية التافهة مثل العدل، فلماذا إذن على الإنسان أن يعبأ بها؟
ثمة تناقض هنا، وإن كان أرسطو لا يراه عيبا في نظريته عن الحياة الإنسانية بقدر ما يراه تناقضا لا يمكن التخلص منه في الحالة الإنسانية نفسها؛ ذلك أن للإنسان طبيعة مركبة كما قال الأورفيون والفيثاغوريون وأفلاطون. فمن ناحية يعتبر الإنسان حيوانا فانيا يعيش وسط أقرانه من بني جلدته، وبالتالي عليه ممارسة الفضائل الإنسانية إذا أراد أن يحيا حياة سعيدة، وسيحتاج بطبيعة الحال إلى ضروريات الحياة والحظ الحسن للاستمتاع بها. ومن جهة أخرى نجد أن للإنسان صفة لا تميزه عن الحيوانات فحسب، بل تمنحه نصيبا مما يتعين أن تنطوي عليه الحياة الإلهية؛ وبناء على هذه الحقيقة «لا ينبغي لنا أن نتبع نصائح من يحثنا من بني البشر على التفكير في الأمور البشرية ومن أهل الفناء والزوال على التفكير في الأشياء الفانية، بل علينا أن نجعل أنفسنا خالدين قدر المستطاع وأن نبذل قصارى جهدنا لكي نحيا على أفضل ما فينا»، فالحياة الفاضلة إنما هي عمل متوازن تراعى فيها مطالب الإنسانية من جانب والمطالب الإلهية من جانب آخر.
وقد اعترف أرسطو أن الوجود إن لم يكن فيه إلا التأمل الخالص «لشق على الإنسان الوصول إليه لا بسبب طبيعته البشرية ولكن بسبب شيء إلهي داخله»، فالإنسان يضطر غالبا إلى القبول بسعادة «ثانوية» في الحياة طبقا لفضائل الحياة اليومية التي «تلائم حالتنا البشرية». كما أن فكرة أن الحياة التأملية هي أرقى صور السعادة وأقواها تصب جل تركيزها على فكرة الكمال لدى الإنسان. ولا ريب أن الإنسان قد لا ينال مثل هذه الحياة المثالية يوما، بل وقد يفشل في تحقيق الفضائل الدنيوية «الثانوية»، ولكن إذا كان الإنسان يعلم ما يحاول أن يفعل «فمن المحتمل أن يصيب هدفه كرامي السهام الذي يصوب على علامة محددة.»
قد تبدو هذه نهاية أكاديمية مخيبة للآمال، فلا ريب أن تحديد الإنسان هدفا في حياته أمر مفيد ونافع، ولكن آمالنا كانت أبعد من ذلك؛ فمن المفترض أن أرسطو كان أكثر المفكرين اهتماما بالجوانب العملية حيث قال صراحة: «إننا لا نبحث في التميز لكي ندرك ماهيته، بل لينعكس علينا ونصبح أناسا صالحين.» وبالبحث الدقيق يتبين لنا أن منهج أرسطو في المادة عملي من الدرجة الأولى؛ لأنه يجيب على سؤال: «كيف يمكن أن أصبح إنسانا صالحا؟» بالإجابة التالية: «إذا لم تكن قد تربيت على أن تكون إنسانا صالحا يتعين على الدولة أن تجبرك على ذلك.» ويرى أرسطو أن الأخلاق تمهد للسياسة وأن السياسة هي التي تتحقق الفضائل بها؛ فالأخلاق تهتم بدراسة أشكال التميز التي تتحلى بها شخصيات أعظم الناس وسلوكياتهم، وبذلك توضح الهدف من الحياة التي تستحق الدراسة. أما السياسة فتهتم بدراسة القوانين والدساتير التي من شأنها أن تشجع التميز وتساعد على ازدهاره؛ وبذلك فالسياسة هي «الفن الرئيس» الذي ينتج السعادة والخير على نطاق واسع. ولم يكن أرسطو موهوما بقوة الجدال العقلاني المحض، فالفضيلة كما يحاول أن يوضحها في كتاباته عن الأخلاق هي مسألة تتعلق بالشخصية، والشخصية تتكون من مجموعة من العادات؛ ولذلك يقول: «ليس هينا أن يكتسب الإنسان عادات مختلفة منذ نعومة أظفاره؛ فذلك يصنع فارقا كبيرا، بل إن شئت فقل يصنع كل الفارق.» وبذلك فإن وظيفة المشرعين هي «أن يجعلوا المواطنين صالحين بتكوين العادات فيهم»، فثمة مجموعة صغيرة ومختارة من المواطنين ستصل إلى «تصور عن الأمور النبيلة والسارة» ربما من خلال قراءة ما قاله أرسطو عن الأخلاق، وسيتصرفون على أساسها. ولكن بصفة عامة ف «إن القوانين هي الطريقة المثلى لتحقيق الصلاح.»
لسنا هنا بصدد استعراض كتابات أرسطو السياسية التي يناقش فيها بعض القوانين وأشكال المجتمع التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف، (ففي مناقشته للأمور الدستورية كان يكرس كل هجومه على الشيوعية ثم ينتهي به الأمر إلى تأييد اضطراري لنظام يسمح بمقدار محدود من الديمقراطية). وبدلا من ذلك سيسلط الجزء الأخير من هذا الفصل الضوء على آراء أرسطو في الشعر، ولكن باختصار، حيث يتضح أن الشعر أيضا يلعب دورا في جعلنا أناسا صالحين ولو بطريقة غير مباشرة. •••
لو سئل الناس اليوم عن أيهما أقرب شبها للعلم: التاريخ أم الشعر؛ لأجاب معظمهم: «التاريخ»، فالتاريخ بشكل عام يعد حقيقة على عكس الشعر. أما أرسطو فما كان إلا ليجيب بأن الشعر هو الأقرب شبها للعلم، وأن هذا بالضبط هو ما يجعل للشعر مغزى أخلاقيا أعلى من التاريخ. ولا تستعصي هذه المفارقة على الفهم إذا ما تذكرنا ما قاله أرسطو بشأن العلم وما قاله بشأن الأخلاق.
كما رأينا يعتقد أرسطو أن علامة العلم المتطور هو أنه يتناول الحقائق العامة والأساسية عن الأشياء، مثل أن الأبقار تنتمي كلها للمجترات على سبيل المثال. ومن أفضل طرقه للتعبير عن هذه الحقيقة هو قوله إن العلم يهتم «بما عليه الشيء طوال الوقت ... أو في غالب الأحوال.» فلا شأن للعلم بالأحداث العابرة أو التفاصيل الثانوية والأمور الغريبة الطارئة (وهو أحد عيوب العلم الأرسطي، ولكن لهذا حديث آخر). أما التاريخ كما يراه أرسطو فهو على النقيض من هذا؛ إذ يعج بالأحداث العابرة غير الضرورية ولا يهتم بالبحث في الحقائق العامة، ولذلك فلا شأن له بالعلم، فالتاريخ يتعامل مع أشياء معينة تحدث للتو. أما الشعر الجيد كأعمال هوميروس أو مسرحيات سوفوكليس التراجيدية فتعالج التفاصيل والملابسات غير ذات الصلة؛ بغية التركيز على الحقائق العامة الشاملة عن الحياة والطبيعة البشرية، فالشعر الجيد (الذي يشمل الدراما الجيدة) يلفت نظرنا إلى الخصائص الجوهرية للأنواع المختلفة من البشر من خلال تحديد سلوك أبطال هذه الأعمال وخصومهم وما نتوقع أن نجده في هؤلاء «دائما أو في أغلب الأحيان». وبهذا نرى أن «الشعر شيء ذو طبيعة فلسفية أكبر من التاريخ، وجدير بالاهتمام أكثر منه؛ لأنه في الوقت الذي يهتم الشعر فيه بالحقائق العامة يركز التاريخ على حقائق معينة. وأعني بالحقائق العامة هنا ما قد يفعله أو لا بد أن يفعله شخص ما في موقف ما.»
ولا تتناسب فكرة أن الشعر يصب اهتمامه على الشخصية مع كثير مما نسميه شعرا، إلا أنها تلائم ما صنفه أرسطو على أنه النوع الأفضل من الشعر مثل الإلياذة والأوديسة. وتعنى الأخلاق كذلك بالشخصيات والأفعال، وبما أن الشعر هو ما يحرك مثل هذه الأشياء أو يحاكيها؛ فلا محيص من أن يكون له مغزى أخلاقي. وباستحضار أنواع معينة من الشخصيات والأفعال، وحثنا بمهارة على تبني مواقف معينة تجاهها، يقوم الشاعر البارع بتقوية الحالات المزاجية المختلفة لدينا بوضعنا فيما يشبه آلة للتدريب العقلي. وبهذا نخلص إلى أن الفضيلة «تنطوي على الفرح والحب والكره بطريقة صحيحة.» وفي سعينا نحو الفضيلة فإننا نهتم ب «اكتساب ... القدرة على تكوين الأحكام الصحيحة وعلى الفرح بالحالات المزاجية الجيدة والسلوكيات النبيلة وزيادة هذه القدرة». وقد يساعد الشعر على تقوية جميع هذه الأشياء؛ لأن «الشعور بالمتعة أو الألم بسبب التمثيلات الشعرية لا يختلف كثيرا عما يحدث مع الواقع.»
وقد استمر أرسطو ثابتا على موقفه في عدم اعتبار الشعر بشكل عام أداة للتطوير الذاتي، وعدم اعتبار المسرح على وجه الخصوص منبرا يلقي الواعظ من عليه خطبه؛ فقد كان الغرض من الشعر وجميع الفنون الجميلة هو تحقيق المتعة عن طريق المحاكاة بكافة أنواعها وأشكالها حتى لو كان ينطوي على جانب أخلاقي. فمن الطبيعي أن يحاكي الإنسان الأشياء، وأن يجد نصيبا من المتعة في نتاج محاكاته. ولم ينبذ أرسطو هذه المتع والملذات كما نبذها أفلاطون في كتابه «الجمهورية»؛ إذ يرى أفلاطون أن معظم الشعر يجعل الإنسان عاطفيا وضعيفا بتشجيعه على ارتكاب كل الأخطاء واقتراف كل الذنوب والآثام التي يجب أن تكون محظورة. وفي نهاية «الجمهورية» جعل أفلاطون شخصية سقراط تعترض على المحاكاة الفنية بالكامل بزعم أنها تصرف الأذهان عن الأشياء المهمة في الحياة، ألا وهي المثل العليا. وإذا كانت الأشياء المادية التي يظنها الإنسان حقيقية هي مجرد ظلال تتراقص على جدران أحد الكهوف؛ فإن الصور التي نجدها في الفنون تنأى عن الحقيقة أكثر وأكثر. فالصور والقصائد تحاكي الأشياء المادية، والأشياء المادية بدورها تحاكي المثل؛ ومن ثم فإن الشعر والدراما والموسيقى والفنون البصرية هي محاكاة المحاكاة؛ أي ظلال الظلال، فالفن هو كهف داخل كهف.
ويبدو أن أفلاطون لم يفكر في مدى سوء فكرة الكهف داخل الكهف؛ فأحيانا كان يقول إن الرقابة على الشعر أمر ضروري، وإن الأشكال الشعرية اللائقة قد يسمح بمناقشتها على الملأ (وينبغي أن يؤخذ هذا على أنه وجهة نظره الشخصية)، وفي أحيان أخرى كان يقول إنها يجب أن تحرم بالكلية عدا «الترانيم التي تغنى للآلهة ومدائح الصالحين.» كان رأي أفلاطون متشددا للغاية. لقد وافق أرسطو على فكرة منع الأطفال من بعض أشكال الشعر، أما أفلاطون فقد أراد أن يعامل الجميع كالأطفال حتى في لحظات اعتداله.
وبينما كانت نصيحة أفلاطون الرئيسة للشعراء هي أن يختفوا من الوجود أو أن ينتقوا موضوعات آمنة؛ فإن رسالة أرسطو في هذا الموضوع كان لها هدف عملي أكثر إيجابية يرمي إلى تفسير طبيعة الشعر الجيد.
وقد سعى أرسطو باعتماده على معرفته الواسعة بكثير من القصائد والمسرحيات إلى تحليل فضائل هذه القصائد والمسرحيات وتفسير الكيفية التي تحقق بها آثارها الممتعة والراقية؛ الأمر الذي انتهى به إلى وضع تعريفه المشهور عن المسرحية التراجيدية، وهو الموضوع الأكثر أهمية الذي تناوله في رسالته التي لم تكتمل والتي تحمل عنوان «الشاعرية»، وفي ذلك يقول أرسطو:
إن المسرحية التراجيدية هي محاكاة لفعل جاد له كثير من الأهمية، ويتسم بالكمال الذاتي بجانب كونه جذابا حيث يستخدم كل نوع من أدوات الزينة المستخدمة في لغته على حدة في أجزاء العمل بشكل درامي لا سردي حكائي، ويجري هذا بالتوازي مع وجود أحداث تبعث على الشفقة والخوف؛ الأمر الذي يؤدي إلى تطهير تلك المشاعر. (ثمة جدل واسع منذ ذلك الوقت حول ما كان يعنيه بكلمة «تطهير المشاعر»، وسنعود لذلك فيما بعد، ولكن نكتفي الآن بالإشارة إلى أنها كانت تعني في السياقات اليونانية في ذلك الوقت «التطهير» أو «تنقية النفس».)
إذن ما هو الشكل الذي يجب أن يكون عليه هذا النوع الدرامي من حيث الشخصيات والحبكة؟ إن البطل الرئيس يجب أن يكون إنسانا فاضلا، وإلا فلن يتعاطف معه الجمهور فيما يمر به من محن. كما يجب أن يكون إنسانا متميزا؛ لأن السقوط من الأعلى ومن المكانة الرفيعة له تأثيره الأكبر في إثارة الشفقة في النفوس. ولأن هذه الحالة من الخوف الذي يثير الشفقة تصدر عن إنسان «مثلنا»؛ فإن البطل يجب أن يكون على درجة من الفضيلة كتلك التي يعتقد الجمهور أنه عليها. وثمة سبب آخر وراء ألا يكون بطل المسرحية التراجيدية رجلا فاضلا إلى أعلى الدرجات، وهو أنه لو بلغ أقصى درجات الفضيلة فإن النهاية غير السعيدة ستبعث الضيق في نفوس الجمهور، وليس ذلك من العدل في شيء، فيجب أن يكون به عيب ما أو أن يرتكب خطأ ما كأن يندفع بتهور على سبيل المثال لتكون هذه هي بداية سقوطه، وإلا لأصبح ما يصيبه محض حظ عاثر لا دخل له فيه، ولأصبح ذلك موضوعا لا يناسب مسرحية جادة. وكما نرى فالشاعر التراجيدي يجب أن يراعي الدقة الشديدة كمن يمشي على الحبل لتخرج المسرحية على النحو المطلوب. بالإضافة إلى ذلك يجب أن تكون الشخصيات واقعية، وأن تصور بطريقة متناسقة حتى لو كان التناقض جزءا من طبيعة الشخصيات، وفي هذه الحالة يجب أن تكون الشخصيات «غير متناسقة بشكل متناسق».
أما فيما يخص حبكة المسرحية التراجيدية الجيدة؛ فإن الشفقة والخوف يجب أن يثارا لا عن طريق المؤثرات المسرحية كمناظر الدم فحسب، بل عن طريق القصة نفسها؛ ففي المسرحية الجيدة يكون توضيح الأحداث هو ما يحقق الغاية منها. والوسيلتان اللتان تعتمد عليهما الحبكة للعب على مشاعر الجمهور هما «الانقلاب» و«الإدراك»، والانقلاب يحدث عندما يؤدي حدث ما إلى عكس ما كان مخططا له أو متوقعا منه، كما في مسرحية «أوديب» عندما حمل الرسول أنباء كان يظن أنها سارة ولكن تبين بعد ذلك أن لها دلالات مرعبة. وقد كان حادث الرسول في هذه المسرحية مثالا على نوع «الإدراك» الذي تعتمد عليه حبكة العمل التراجيدي؛ ذلك أن هذا الحادث قد كشف النقاب عن نسب أوديب الحقيقي، وهو ما يمثل الفاجعة الرئيسة في المسرحية. ويفضل أرسطو أن يحدث الانقلاب والإدراك معا كما يبين هذا المثال. ويبقى الشيء الأهم هو توالي الأحداث وتسلسلها تسلسلا منطقيا بطريقة يمكن تصديقها، فلا يكون هناك أمر غامض حول ما يحدث كما يمزق الخوف والرعب كل ما يصاب بهما.
من الواضح أن التراجيديا الأرسطية ليست محض مسرحية أخلاقية يلقى فيها الشخص الشرير القصاص العادل. وإذا كان الكاتب قد أدى وظيفته على أتم وجه فإن الجمهور لا يترك المسرح مسرورا بالجزاء العادل الذي تلقته الشخصيات، وإنما يغادر في حالة من التأمل والسكون العقلي. ولكن لم يحدث هذا؟ لقد كان لدى أرسطو المزيد ليقوله عن الشعر، ولكن لم يكن هناك أفضل مما لم يقله عن حالة تطهير المشاعر التي تحدثها المسرحية، فكيف لنا أن نحصل على المتعة في مثل هذه المحاكاة التي تبعث فينا الخوف والشفقة إذا كان لا يجدر بنا الشعور بأي منهما في الحياة الواقعية؟ وقد أثار أفلاطون هذا السؤال من قبل دون تقديم إجابة له. ومن المفترض أن نظرية أرسطو حول «تطهير المشاعر» كانت ستنطوي على إجابته عن هذا السؤال، ولكن يبدو أن جل معالجته لهذه القضية قد فقدت أو لم تكتب من الأساس. ولكن يمكننا رغم ذلك أن نخمن بعض الأمور على أساس مستنير بهذا الشأن.
تقول أبسط النظريات إن ما تقدمه المسرحية التراجيدية هو تطهير بمعنى طبي زائف؛ فهي تخرج مشاعر الشفقة والخوف في فراغ مشبع، ولكن هذه الفكرة غير الناضجة لم تكن لتقنع أرسطو؛ لأنه لم يعتقد أن التخلص من الشفقة والخوف أمر مرغوب فيه، فهو يرى أنه من الصحيح أن يشعر الإنسان بهذه الأمور في مناسبات معينة، وأن الشخص المستقيم يشعر بها في المناسبات الصحيحة وفي الأوقات الصحيحة؛ فالمشاعر تحتاج للتهذيب وليس للطرد. وربما يستفيد بعد ذلك شرح أفضل لمصطلح «تطهير المشاعر» من مصطلح التطهير وهو أحد المعاني الأساسية الأخرى الموجودة في العالم. فبما أن المسرحية التراجيدية مصممة لتجعل الإنسان يتذوق طعم الشفقة والخوف بطريقة ما في مجموعة من الظروف المحكمة؛ فبإمكاننا أن نعتبر هذه التجربة محطة تنقية تنقي ردود أفعالنا العاطفية، من خلال إعطائنا صورة مشوقة للممارسة عن طريق توجيه هذه المشاعر نحو ما هو صحيح. وقد قال أحد شارحي أرسطو إن ما تثيره مسرحية أوديب من خوف وشفقة:
قد يقود إنسانا جبانا إلى إدراك أن مخاوفه مبالغ فيها، وأن مشكلاته ليست على هذه الدرجة من الرعب والتخويف. وقد تثير المسرحية نفسها في رجل قوي واثق من نفسه يتصرف بكبر وغرور مع الآخرين فكرة أن أقوى حكام الأرض قد يحتاج ذات يوم لشفقة من هم أضعف منه ومساعدتهم.
وبغض النظر عن شخصيات الجمهور وظروفهم الشخصية، سيتعرضون ل «تطهير» تربوي، وسيشعرون بمتعة خاصة إزاء ذلك؛ لأنه - كما يرى أرسطو - أمر ممتع بطبيعة الحال أن تشاهد «مشاهد المحاكاة» خاصة إذا كان للإنسان أن يتعلم منها. ورغم أن المسرحية التراجيدية الأرسطية ليست نوعا بسيطا من المسرحيات الأخلاقية، فلا يعني هذا أنها ليست مسرحية أخلاقية إلى حد ما.
وتبقى الآثار الأخلاقية والعاطفية للأدب وشكل العلاقة بينهما لغزا محيرا يبعث على الحزن؛ لأننا لا نملك سوى تخمين ما اعتقده أرسطو بشأنها. فلو ألف أرسطو كتابا عن السمك الذهبي وفقده لملأتنا الثقة أننا لم نفقد الكثير، أما في حالة تناوله لآثار الشعر فمن الصعب أن نكون على القدر نفسه من اليقين.
وثمة جزء آخر مفقود من رسالته حول الشعرية - وهو جزء نعتقد بشكل شبه يقيني أنه قد كتبه - وهو معالجته لفن الكوميديا؛ فهناك بعض المحاولات لإعادة بنائها تعتمد على مصادر ثانوية كتبت في وقت مبكر، كما يلقي أمبرتو إيكو الضوء على هذا الموضوع في روايته المثيرة «اسم الزهرة»؛ حيث يحكي هذا العمل أن كتاب أرسطو المفقود عثر عليه في العصور الوسطى على يد راهب بندكتي، وجد أن محتوياته تنطوي على معان مروعة عن المسيحية؛ لدرجة أنه كرس حياته البائسة لحماية العالم من وصول أفكار هذا الكتاب إليه. (ولأن هذا الراهب كان يعمل أمين مكتبة فلم تكن نفسه لتطاوعه على التخلص من الكتاب حتى اللحظة التي تنحل فيها عقدة الدراما.)
وقبل تدمير جزء من الكتاب وحرق جزء آخر قرئ جزء منه على الملأ. وفي محاولة سخيفة لقلب ما قاله أرسطو عن التراجيديا؛ فإن هذا الكتاب يبين كيف يمكن للكوميديا «أن تطهر هذه المشاعر بإحداث المتعة بما هو ساخر.» ثم يشرع هذا الكتاب في توضيح كيف أصبحت هذه الصورة المطابقة للتراجيديا تثير الضحك من خلال:
مقارنة الأحسن بالأسوأ والعكس، وذلك عن طريق إثارة الدهشة من خلال مواقف الخداع، والمواقف المستحيلة، وانتهاك قوانين الطبيعة، وما ليس له علاقة بالأمور محل النقاش، وما هو غير منطقي، وتشويه الشخصيات، واستخدام المسرحيات الإيمانية الكوميدية العامية، والتنافر، واختيار الأشياء التي لا تستحق أدنى اهتمام.
وثمة شبه كبير بين الاعتراضات التي أوردها الكاهن وما قاله أفلاطون في «الجمهورية» حين قال إن الضحك على المسرحيات الكوميدية يجعلنا من الساخرين أصحاب العقول التافهة وغير ذوي قيمة، إلا أن الراهب تخطى ذلك فاعتقد أن التحليل الجاد للمسرحية الكوميدية كذلك الذي في عمله الأدبي المزعوم سيكون مثالا سيئا، وستكون له عواقب اجتماعية وخيمة ، وفي ذلك يقول:
إذا افترضنا أن شخصا ما ... رفع سلاح الكوميديا في الموقف الذي يحتاج إلى سلاح جاد ... وإذا افترضنا أن فن السخرية أصبح يوما مقبولا ونبيلا وحرا متحررا ... وإذا افترضنا أن شخصا ما جاء ذات يوم يقول (وسمعه الآخرون): «أنا أسخر من تناسخ الأرواح.» فلن يكون لدينا ما نحارب به هذا الكفر ... وقد برر هذا الكتاب فكرة أن الحكمة تكمن في البساطة.
ولكن لماذا اعتقد هذا الكاهن أن كتابا واحدا سيكون له كل هذا التأثير الكبير؟
الإجابة هي لأن كاتبه هو «الفيلسوف»؛ إذ هدم كل كتاب كتبه هذا الرجل جزءا تعليميا تراكم في المسيحية على مر القرون. لقد قال كهنة (الكنيسة) كل شيء يجب معرفته عن قوة الكلمة ... ولكن تحول بعد ذلك اللغز الإلهي للكلمة إلى محاكاة بشرية للفئات وأشكال القياس. فسفر التكوين يروي كل ما يجب معرفته عن تكوين الكون وكان كافيا لإعادة اكتشاف كتاب «الفيزياء» الذي ألفه الفيلسوف لإعادة فهم الكون في إطار الحديث عن المواد المعتمة والطينية ... قبل ذلك، كنا ننظر إلى السماء بعين الإجلال والوقار وننظر شزرا إلى الطين، أما الآن فننظر إلى الأرض ... فكل كلمة قالها الفيلسوف، والذي يقسم به الآن القساوسة والأنبياء، قلبت صورة العالم.
قد يكون هذا من وجهة نظر شخص مسيحي ضيق الأفق ومتحفظ ممن عاشوا في أواخر العصور الوسطى تلخيصا جيدا لبعض آثار أرسطو على الفكر الغربي. وبعد إعادة اكتشاف أعماله في القرن الثاني عشر، وقبل أن تجد المسيحية طرقا لاستيعابها وفهمها جيدا كان ينظر إليها بعين الشك وأحيانا كانت تحرم. لقد دافع أرسطو عن المنطق والعقلانية اللذين كانا يهددان الإيمان الأعمى؛ فقد دافع عن دراسة الأشياء الأرضية التي تشتت ذهن الإنسان عن التفكير في السماء والتفكر فيها. ويستأنف الراهب حديثه قائلا: «لكنه لم ينجح في الإطاحة بصورة الرب، فلو أصبح هذا الكتاب ... متاحا للتفسير العام لكنا قد تخطينا الحاجز الأخير.» وهذا يعني أنه إذا أولى المفكرون كثيرا من الاهتمام لهذا العمل كما هو الحال مع سائر أعمال أرسطو إذن لعمت الفوضى والاستهتار العالم بأسره، وهو ما لا يتفق مع فكرة إله المسيحية. لا ريب أن هذا محض خيال. ويصعب أن يتقبل المرء أن يكون لعمل واحد مثل هذا الأثر العظيم إلا لو كان هذا العمل من أعمال أرسطو ذاته.
الجزء الثالث
الفصل الثالث عشر
الطرق الثلاث إلى السكينة: الأبيقورية والرواقية
والشكوكية
توفي أرسطو بعد عام واحد من وفاة تلميذه الإسكندر الأكبر. وبحسب الاعتقاد السائد فإن وفاة الإسكندر عام 323ق.م. تعد بداية فصل جديد في التاريخ القديم وهو «العصر الهيليني». وبعد مضي نحو ثلاثمائة عام من بزوغ هذا العصر جاءت نهايته بوفاة كليوباترا، وضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية التي قامت بعد أفول الإمبراطورية اليونانية. وتتمثل إنجازات الإسكندر في أنه استطاع أن يصل بالحضارة اليونانية إلى أقاليم نائية - مثل مصر جنوبا والهند شرقا - خلال فترة عنفوان قوامها عشرة أعوام. وتوفي الإسكندر الأكبر بعد أن أقام إمبراطورية مترامية الأطراف خلال فترة وجيزة جدا؛ بحيث كان من الصعب الحفاظ على وحدة تلك الإمبراطورية، خاصة أنه لم يترك خليفة له في الحكم. وبذلك تمزقت الإمبراطورية اليونانية حديثة التكوين إلى ممالك متفرقة استأثر بها القادة العسكريون في زمن الإسكندر (وكانت كليوباترا هي آخر حكام تلك السلالة التي بدأت ببطليموس أحد رجال الإسكندر). ونظرا للانتشار الضئيل للثقافة اليونانية على تلك الرقعة الشاسعة من الأرض، فقد انصهرت - دون شك - مع أفكار وديانات أجنبية. فقد صار العالم الذي هيمن عليه الإسكندر هيلينستيا وليس هيلينيا؛ أي إنه لم يكن يونانيا صرفا. فلم تعد أثينا مركز الخريطة الثقافية؛ إذ نافستها مراكز ثقافية أخرى كالإسكندرية في مصر وأنطاكية بسوريا ومدينة بيرجامون بآسيا الصغرى ثم مدينة رودس الواقعة شرقي بحر إيجة. ظلت أثينا عاصمة الفلسفة دون منازع حتى العصور المسيحية، إلا أن الفلسفة ذاتها طرأت عليها بعض التغيرات؛ نظرا لتزايد الإقبال عليها من أبناء الحضارات المختلفة؛ مما استلزم من الفلسفة أن تلبي حاجاتهم. وبذلك فإن العصر الهيلينستي قد أدى إلى بزوغ عهد جديد في الفلسفة خصوصا كما في التاريخ عموما.
نظر للفلسفة الغربية في تلك الأيام باعتبارها سبيل الرشاد في الحياة ومصدرا للراحة والسلوى، حيث يقول أبيقور:
إن الفلسفة التي لا تشفي آلام البشرية هي محض هباء. فالفلسفة التي لا تبرئ الروح من معاناتها، لا تختلف عن طب لا يداوي مريضا ولا يشفي عليلا.
هكذا تحدث أبيقور (341-271ق.م.) أحد أشهر فلاسفة العصر الهيلينستي الحديث. وقد كان خطابه في هذه العبارة تحديدا معبرا عن فلاسفة العصر جميعهم. كانت هناك ثلاث مدارس فكرية سائدة وقتذاك هي: الأبيقورية والرواقية والشكوكية. وللتفريق بين هذه المدارس على وجه العموم يمكن القول إن الأبيقوريين إذا اتخذوا مسلكا أو رأيا معينا، اتخذ الرواقيون ضده. أما عن الشكوكيين فقد كانوا يرفضون اتباع أي من المنهجين. ورغم هذا، ظل هناك ما يتفقون حوله، وهو اعتقادهم أن الفلسفة فن غرضه تحقيق الشفاء الروحي وليس محض ملهاة يقضي بها الحاذقون أوقات الفراغ.
اكتسب الأبيقوريون والرواقيون شعبية لم تحظ بها مذاهب أفلاطون وأرسطو الجافة. واستمرت المدارس الأفلاطونية والأرسطية خلال العصر الهيلينستي في البحث أو التدريس لصفوة المجتمع، وكان لديهم بالتأكيد ما يعين الناس على حياتهم، لكنهم لم ييسروه للعوام؛ بحيث يسهل فهمه ومن ثم تطبيقه. على النقيض، كان فلاسفة الحقبة الهيلينستية الجدد قد نالوا قسطا وافرا من الشعبية، وهو ما دفع بعض النقاد إلى وصف تعاليمهم بالبساطة المعينة على الفهم. وقد كتب شيشرون - وهو خطيب ورجل دولة روماني كان يميل إلى مدرسة أفلاطون ذات الطابع الأكاديمي - قائلا إن كون الفلسفة الأبيقورية «على هذه الدرجة من اليسر بالنسبة للعوام» يثبت مدى تفاهتها وعدم منطقيتها. إلا أن كثيرا من أهل أثينا لم ينظروا إليها هكذا. فقد نال هؤلاء الفلاسفة تلك الشهرة لقدرتهم على تفسير الحياة تفسيرا جليا مما جذب العامة إليهم، كما يظهر في مراسم تشييع جثامينهم.
وتدين هذه المدارس الفلسفية الحديثة لسقراط أكثر مما تدين لأفلاطون وأرسطو. فسقراط هو من أشار إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة، حيث كان يرى أن الهدف من الفلسفة هو تغيير أولويات الفرد في الحياة ومن ثم تغيير حياته ذاتها. فعملت المدارس الهيلينستية الفلسفية على تحقيق هذا الوعد السقراطي وتطبيقه. وزعموا أن بإمكانهم الوصول إلى حالة الصفاء الذهني والسكينة النفسية التي كانت لدى سقراط نفسه. لكنهم عدلوا في أفكار سقراط لتلائم البحث في أعماق النفس. فرغم أن سقراط كان يتحلى بالهدوء في وقت الشدة، فلم يدع يوما أن هذه السكينة هي الهدف من الحياة. أما الأبيقوريون والرواقيون والشكوكيون فكان حديثهم يسعى إلى إثبات أن الوصول إلى حالة السكينة والصفاء هو الهدف من الحياة. وكانوا يثنون أشد الثناء على حالة السكينة التي تحرر الإنسان من الاضطراب والقلق، ويرون أن هذه هي الحالة المثالية التي يجب أن تكون العقول عليها. قال سقراط سابقا إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق به الأذى؛ لأن الأذى الوحيد الذي يؤخذ في الاعتبار هو ذلك الذي يصيب به المرء نفسه بتحوله إلى شخص طالح. إلا أن فلاسفة العصر الهيلينستي عدلوا من الفكرة بعض الشيء قائلين إن الرجل الحكيم لا يجعل نفسه عرضة للاضطراب؛ لأن مفتاح الحكمة هو تجاهل الأمور التي لا تستحق الاكتراث.
أشرنا آنفا إلى أنه على الرغم من كون سقراط رجلا صاحب رسالة، إلا أن هناك مجالا للجدل بشأن مضمون هذه الرسالة (انظر الفصل العاشر). فقد استقى كل من أرسطيبوس وأنتيستنيس فلسفتيهما بشكل واضح من كلام معلمهما سقراط وحياته. كان أرسطيبوس - عاشق اللذة - رائدا للفلسفة الأبيقورية، في حين كان أنتيستنيس - ذلك الرجل الزاهد المتقشف - رائدا للفلسفة الرواقية. ولذا فكلتا المدرستين تدخلان في إطار الفلسفة السقراطية بشكل أو بآخر. وينطبق الأمر ذاته على الشكوكيين؛ حيث كان سقراط يردد دائما أنه لا يعرف شيئا على الإطلاق. ورغم أنه يستخدم هذه العبارة على سبيل المجاز فقد حمل الشكوكيون العبارة على معناها الحرفي. وكان سقراط يطرح كل مسألة أخلاقية تعترضه في الحياة على طاولة البحث، وقد سلك الشكوكيون مسلكه، ولكنهم لم يقفوا في بحثهم عند حد مسائل الأخلاق فقط.
كانت هذه المدارس الهيلينستية الجديدة تعمل على نطاق أوسع من مدرسة سقراط، ولكن الأولويات المحدودة التي شغلتهم كانت انعكاسا للاهتمامات المحدودة لفلسفة سقراط. فسقراط لم يك يعبأ بالمسائل العلمية. كما لم يهتم بقضايا المنطق أو المعرفة أو العقل أو أي من المسائل الفلسفية التي كانت تناقش وتدرس في المدارس الأفلاطونية والأرسطية. فالقضية الأهم التي شغلت سقراط كانت الطريقة المثلى للحياة. ورغم اهتمام الأبيقوريين والرواقيين والشكوكيين بكل القضايا الفلسفية فتحقيق السعادة في الحياة كان هو هدفهم من دراسة هذه القضايا والبحث فيها. وبذلك احتلت قضايا الحكمة مكانة ثانوية مقارنة بالقضايا الأخلاقية كما كان الحال لدى سقراط. فرغم أن الأبيقوريين والرواقيين طرحوا نظريات حول أمور شتى ، ورغم أن الشكوكيين قد تكلموا في كل مسألة تعن لهم، فإنهم جميعا مشتركون في وجود دوافع مضمرة خلف أبحاثهم تهدف إلى المعالجة الروحية للبشر.
اعتقد الأبيقوريون أن القضية الأساسية للبحث تتمثل في القضاء على كل الاعتقادات الخاطئة. فظنوا أن الخوف اللاعقلاني من أهم العقبات في طريق السعادة، وأن العلاج الأنجح لهذا الخوف يكمن في قدر معقول من الفيزياء وبعض التدريبات المنطقية. فرأوا أن فكرتهم - على سبيل المثال - التي تزعم أن العقل يتكون من ذرات تتناثر مع خروج الروح من الجسد تساعد على التخلص من الخوف من الموت؛ ومن ثم الاستمتاع بالحياة. أما الرواقيون فقالوا إن القضية كلها تتلخص في مساعدة الإنسان على الحياة «في وفاق مع الطبيعة»، وهنا يكمن مفتاح السعادة في نظرهم. ومن المستحيل أن يحيا الإنسان حياة كهذه دون أن يفهم حقائق الطبيعة. فعلى سبيل المثال، يؤمن الرواقيون أن الأمور كلها تخضع للقدر، وأن التسليم بهذه الحقيقة من شأنه أن يفضي إلى سلوك الرضا والتسليم. ولذا كان عليهم أن يخوضوا في مسائل علمية متنوعة لإثبات أن كل شيء خاضع للقدر. أما الشكوكيون، فقد رأوا أن الغرض من البحث هو التوقف عن إصدار أحكام بشأن القضايا المختلفة؛ وذلك لتجنب القلق بشأنها. وفي سبيل ذلك قالوا إنه يمكن للشخص الواحد أن يتخذ طرفي الجدال حول مسألة ما. وبما أن ذلك ليس بالأمر الهين فقد انهمك الشكوكيون في بحث المسائل الفكرية والخوض فيها شأنهم كشأن غيرهم. فأسفر هذا عن لجوء المدارس الثلاث إلى البحث في الفيزياء وفي الكثير من المسائل الأخرى التي لم يهتم بها سقراط، لكن دافعهم في النهاية كان تحقيق السعادة والسكينة.
إلا أن سعيهم للوصول إلى السعادة كان له أثر على طريقة تناولهم للمسائل العلمية؛ فقد اهتم الأبيقوريون والرواقيون بالأمور التي تسلط الضوء على الإنسان وموقعه في الطبيعة، وقد وجدوا سعادة غامرة في البحث في طبيعة الكون العامة أو في مسائل القدر والأسباب الطبيعية، بينما لم ينشغلوا بالكائنات الحية وسلوكها كما فعل أرسطو. فقد كانت رؤيتهم أن علم الحيوان غير ذي قيمة فلسفية. وقد كانت دوافعهم المضمرة خلف أبحاثهم تظهر أحيانا بشكل فج. وكثيرا ما كان الأبيقوريون يسرعون إلى قبول أي تفسير قديم بشأن ظاهرة ما ما دام هذا التفسير يحول دون الوقوع في دائرة القلق. وقد بالغ الرواقيون في الاهتمام بالتنجيم لاعتقادهم أنه يؤكد إيمانهم بالقدر. ولم يكن لأي من هذه المدارس بوجه عام الفضول العقلي الذي تمتع به أرسطو أو رغبته في جمع المعلومات الدقيقة. ورغم أن بعض تلاميذ أرسطو اتبعوا طريقه في البحث العميق والمتفتح؛ فإنهم لم يمثلوا سوى حالات استثنائية بين فلاسفة أثينا في العصر الهيلينستي، كما أن إسهاماتهم كانت ضيئلة إذا ما قورنت بإسهامات غيرهم. ولم تحظ المدارس الفلسفية بأثينا بمكانة في تاريخ العلم حيث كان الاهتمام بأمور العلم يجري بمكان آخر من العالم.
كانت الممالك الحديثة المقتطعة من إمبراطورية الإسكندر أكبر مساحة وأكثر ثراء من المدن القديمة مثل مدينتي أثينا وإسبرطة، وكان بإمكان هذه المدن توفير دعم مالي للعلوم والفنون من الخزانة الملكية التي جادت بالأموال في سبيل ذلك. وكان الملوك يتنافسون على جذب كل البارعين في مختلف مجالات المعرفة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ نظرا لما يعود به ذلك عليهم من شرف ومكانة. ففي مصر قام البطالمة (الذين تقلدوا الحكم منذ وفاة الإسكندر حتى انضمام مصر للدولة الرومانية عام 30ق.م.) بجمع كوكبة من المفكرين وأهل العلم للعمل في معهد للبحوث أقيم بالإسكندرية. كما قاموا بجمع العديد من المخطوطات النادرة لإلحاقها بمكتبة الإسكندرية، وأغدقوا المنح والأموال على هؤلاء العلماء بجانب تقديم الكثير من المساعدات الأخرى (فمثلا كانوا يزودون الأطباء بجثث المسجونين الذين قضوا نحبهم كي يقوموا بتشريحها وفحصها). وقد أثمرت مثل هذه المنح نفعا فنجد أن إقليدس وأرشميدس - اللذين كانا من فطاحل علماء القرن الثالث قبل الميلاد بل والتاريخ اليوناني القديم بأسره - زاولا نشاطهما العلمي بالإسكندرية.
تحققت الإنجازات العلمية في العصر الهيلينستي في مجالات الرياضيات والفلك والطب (وكذلك في الهندسة بدءا بالمجانيق المستخدمة في الحروب وانتهاء بالمحركات البخارية البدائية) بعيدا عن أثينا وعن فلاسفتها، وكان أسلوب التنظير الذي اتبعه الأبيقوريون والرواقيون في بحثهم في الطبيعة يشبه كثيرا كتابات فلسفة العلم في عصرنا الحديث أكثر من كونه أبحاثا تتبع الوسائل العلمية. وتناول الكثيرون من فلاسفة العصر الهيلينستي موضوع الطبيعة بنظرة عامة لا تهتم بالتفاصيل ولا تدقق فيها. ولذا كان ينظر إلى هذه المرحلة من التاريخ الغربي على أنها مرحلة انفصال العلم عن الفلسفة؛ وبذلك ينتهي مشروع البحث المشترك بينهما الذي استهله طاليس وأناكسيماندر قبل ثلاثة قرون من ذلك الحين.
ولكن هذا الانفصال المفاجئ بين العلم والفلسفة يعطي صورة في غاية التبسيط عن شكل العلاقة بينهما. وإننا لنتساءل عن تلك اللحظة الفارقة - إن وجدت - التي سار فيها كل فرع منهما في طريق بعيد عن الآخر. وهنا، نجد أنفسنا بصدد العديد من الإجابات المتناقضة، فبينما يدعي البعض حدوث الانفصال في العصر الهيلينستي، يشير آخرون إلى وقوعه في زمن فيثاغورس في القرن السادس قبل الميلاد. ويجزم آخرون بأنه كان في بدايات القرن الخامس قبل الميلاد الذي عاش فيه بارمنيدس. وهناك من يرده إلى عهد سقراط بعد ذلك بحوالي خمسين عاما. ويظن آخرون أن الانفصال بين العلم والفلسفة لم يحدث إلا في عصر جاليليو أوائل القرن السابع عشر، بل ويذهب أحد الكتاب إلى أن هذا الانفصال لم يحدث بشكل نهائي حتى عصر كانط في القرن الثامن عشر. ويقول آخر إن ذلك الانفصال قد وقع في القرن التاسع عشر.
نخلص مما سبق إلى أنه لا يوجد في التاريخ تلك اللحظة السحرية الفارقة على الإطلاق. لكن الإجابات سابقة الذكر تخبرنا عن مراحل تطور الحياة الفكرية بصفة عامة. ولنبدأ على سبيل المثال بفيثاغورس الذي - على الرغم من الجوانب العديدة التي يمكن من خلالها تناول فكره - كان يقدم نفسه على أنه حكيم صوفي يستطيع تفسير معنى الحياة والموت إلى مريديه، وهو ما لا يمت للعلم بصلة. وبهذا يتمثل أمامنا نموذج من القرن السادس قبل الميلاد لفيلسوف كان يود أن يكون أكثر من محض عالم. وهناك نموذج آخر مختلف وأعمق أثرا هو للفيلسوف بارمنيدس الإيلي وتلميذه زينون؛ فقد سبقا كثيرا من فلاسفة العلم إلى نقد العديد من المصطلحات التي استخدمها علماء سابقون دون تحليل ودراسة، ونذكر منها على سبيل المثال مصطلحي الحركة والتغير. وبذلك يكون الإيليون قد تناولوا جانبا آخر من التفكير الفلسفي يختلف عن النشاط العلمي التقليدي، ألا وهو التفكير المجرد في المفاهيم الأساسية. أما سقراط فيحسب له أنه نزل بالفلسفة من بحث عالم السماء إلى بحث عالم البشر؛ حيث اشتغل بالنظر في الأخلاق والسياسة بدلا من علم الفلك. ولكن هذا التحول الكبير الذي قام به سقراط لم يدم طويلا؛ فكما رأينا، قام فلاسفة آخرون بالرجوع بالفلسفة إلى مباحث السماء.
وقد شهد القرن السابع عشر تغييرات في الطريقة التي تناول بها الباحثون عن الحقيقة أعمالهم؛ فالعلم الطبيعي ازداد اعتمادا على الرياضيات والتجريب والملاحظة المنهجية، وازدادت مجالات التخصص التي بدأت في العصر الهيلينستي، ولكن هذا لم يؤد إلى حدوث صراع أو انفصال بين العلم والفلسفة؛ ففي هذا الوقت لم يكن أحد ليدرك معنى حدوث مثل هذا الانفصال. وعلى الرغم من التغيرات الهائلة التي كانت تحدث في هذا الوقت فإن «العلم» باعتباره البحث المنهجي في الطبيعة كان لا يزال فرعا من الفلسفة، وكان يسمى الفلسفة الطبيعية (فكلمة «علم» كانت تعني فقط «المعرفة» أو المهارة). ويمكن أن تكون التطورات الرياضية والتجريبية التي حدثت في القرن السابع عشر هي الدافع وراء حدوث صراع بين الفلسفة الأرسطية والفلسفات المتأخرة عليها، ولا يمكن أن ندعي أن هذا الصراع كان بين الفلسفة في حد ذاتها والعلم في ذاته.
ولا يمكن أن نقع على مثل هذا الصراع بين الفلسفة والعلم كذلك في أعمال كانط في القرن الثامن عشر، على الرغم من أن بعض القراءات السطحية لأعماله ادعت عكس ذلك. لا شك أن كانط قد فرق بين المعرفة التي تكتسب عن طريق التجربة (أي من خلال الملاحظة والتجريب) والمعرفة التي تكتسب من التفكير المجرد الذي سماه «العقل المحض». ولكنه لم يصرح قط بأن العلم مهتم بالنوع الأول والفلسفة مختصة بالنوع الثاني، بل كان كانط يرى أن أعمال نيوتن تعد بمنزلة تزاوج بين العلم والفلسفة. ولعل التراكم الكبير للمعرفة هو الذي دفع إلى وجود نوع من التخصص يشابه ما في عصرنا الحالي. ففي عام 1840م صاغ الفيلسوف والمؤرخ ويليام ويويل مصطلح «العالم» ليميز بين هؤلاء الذين ينتجون المادة الخام للبحث في الطبيعة، وهؤلاء الذين ينظرون للأمور من بعيد ويخرجون بالنظريات العامة. إلا أن دمج المجالين معا لا يزال أمرا ممكنا؛ فحتى يومنا هذا لا يمكن الفصل التام بين العلم والفلسفة من خلال تعريف كذاك الذي وضعه ويويل؛ فلا يزال الغموض يكتنف بعض الحدود الفاصلة بين العلم والفلسفة.
لقد وضع العصر الهيلينستي في مجمله حجر الأساس للتخصص، وإن لم يمثل نقطة تحول تجاه الانفصال بين العلم والفلسفة. فرغم أن الفلسفة تصدرت المشهد في ذلك الوقت بتقديمها علاجا غير علمي للروح، ورغم أن كثرة من العلوم في ذلك الوقت كانت تضع لنفسها الخطوط العريضة للبحث، فمن الخطأ القول إن الفلسفة والعلم قد انفصلا كانفصال الأميبا بصورة تامة وأبدية في هذه اللحظة من التاريخ. صحيح أن الفلسفة أضحت ذات طابع شخصي وتأملي بشكل أكبر، وأصبحت بعض العلوم أشبه بالوظائف كاملة الدوام، ولكن هذا الوضع لم يكن جديدا أو دائما، فقد كان هناك متخصصون قبل ذلك الوقت، كما سيظهر مفكرون موسوعيون فيما بعد.
وإذا لم تكن المدارس الهيلينستية قد أحدثت ثورة كبرى، فقد كان لها تأثير عميق على الفكر فيما بعد عبر مذاهبها؛ فقد استطاعت من خلال تقديمها لفلسفات شاملة ومنتشرة انتشارا واسعا، ومن خلال انقسامها إلى فرق يجادل بعضها بعضا أن تؤثر على رؤية الحضارات التالية للفلسفة. فعندما كان يكتب مشاهير العصر الروماني مثل شيشرون أو بلوتارخ عن الفلسفة، كانت معظم كتاباتهما تتناول الصراعات الفكرية في أثينا الهيلينستية. وقامت الإمبراطورية الرومانية بنشر الفلسفات الهيلينستية (من خلال كتابات لوكريتيوس وسينيكا وماركوس أوريليوس على سبيل المثال) حتى أصبحت من أكثر الفلسفات التي يقبل القراء عليها في الأدب الأوروبي.
وقد ظلت الأخلاق الرواقية لفترة من الزمن الفلسفة السائدة والمعترف بها رسميا بشكل أو بآخر لدى الطبقات العليا في الإمبراطورية الرومانية، وكان للرواقية كذلك صدى في المسيحية. ولكن الأهم من ذلك أن نذكر أنه من قبيل المبالغة أن ندعي أن العصر الحديث في العلم والفلسفة بدأ مع إعادة اكتشاف أفكار المدارس الهيلينستية القديمة (الأبيقورية والرواقية)؛ فقد كانت للفلسفات التي ظهرت في القرن السابع عشر لمناهضة الفلسفة الأرسطية جذور في الفكر اليوناني القديم. فقد أدخلت تعديلات على الفيزياء بفضل إعادة اكتشاف أفكار أبيقور حول النظرية الذرية في بدايات هذا القرن - حيث كان يرى أن الكون لانهائي ويسير بشكل ميكانيكي يتمثل في تفاعل الذرات - وكذلك بفضل تناوله للمعرفة من جانب تجريبي يعتمد على التجربة والملاحظة. وقد كانت هذه هي مقومات الثورة العلمية التي أطاحت بالتصورات الأرسطية للعالم. هذا بالإضافة إلى التأثير المتزايد للشكوكية؛ فلو أردنا أن نحدد تاريخا لميلاد الفلسفة الحديثة لكان أقرب إلى عام 1562م عندما نشر نص من الفلسفة الشكوكية باللغة اللاتينية؛ ما أدى إلى إحياء الفلسفة بعد خمود أدامه المذهب المدرسي عليها طيلة العصور الوسطى. وبعد ذلك بخمسة وستين عاما، بدأ ديكارت في تطبيق «الشك المنهجي» الذي تعلمه من الفلسفة الشكوكية القديمة. وأخذت الفلسفة منذ ذلك التاريخ تتشكل وتصاغ من الأسئلة التي يثيرها الشكوكيون، وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل التالي، ولكننا نرسم أولا الخطوط العريضة للمدارس الفلسفية الهيلينستية الثلاث التي ظهرت في أثينا عقب وفاة أرسطو. •••
خرج أبيقور (341-271ق .م.) مثل فيثاغورس الذي سبقه بقرنين من الزمان من مدينة ساموس وهي جزيرة أيونية على الساحل الواقع جنوب غربي آسيا الصغرى. وكما فعل فيثاغورس فقد أنشأ مجلسا انشغل رواده بالقيل والقال. وقد قام أحد الأعضاء السابقين ممن تمردوا على الأبيقورية بنشر قصته عن أبيقور تحت عنوان «ليالي الفلسفة سيئة السمعة». وزعم أن أبيقور كان يتقيأ مرتين في اليوم الواحد من فرط الأكل. وكتب كذلك أن صداقات أبيقور من الفلاسفة كانت قليلة وأن معرفته بالحياة اليومية ضئيلة وسطحية، كما زعم أن حالته الصحية كانت سيئة لدرجة أنه لم يستطع أن يقوم من كرسيه لمدة أربعة أعوام، وأنه رغم ذلك كانت له علاقات مع أربع سيدات كن يترددن على المجلس وكن يعرفن بأسمائهن المستعارة «هيديا» (الفطيرة الحلوة)، و«إيروشن» (الحبوبة)، و«نيكيديون» (النصر الصغير)، و«ماماريون» (ذات الثدي الكبير).
لازمت مثل هذه الأقاويل الخبيثة أبيقور منذ ذلك الحين - ومن بعده لوكريتيوس (99-55ق.م.) وهو أهم أتباعه. كان اليونانيون يلقبون أبيقور ب «الخنزير». وزعم القديس جيروم (340-420) بلا دليل أن لوكريتيوس قد أصابه الجنون بعد أن احتسى شراب الحب ثم كتب قصيدته الأبيقورية العظيمة في لحظات من النشوة قبل أن ينتحر. وقال كذلك الأسقف جون السالزبوري في القرن الثاني عشر إن العالم مليء بأمثال أبيقور لسبب بسيط، وهو أن من بين هذه الأعداد الكبيرة من الرجال قلة قليلة هم من ليسوا عبيدا للشهوة. هذا وقد أصبح اسم أبيقور في نهاية المطاف مقترنا بالإفراط في تناول الطعام، كما نرى في الأبيات الفكاهية البريطانية التي كتبها سيدني سميث (1771-1845م):
سيقول الأبيقوري في هدوء وقد شبع:
لا يقوى القدر على إيذائي، فلقد حصلت على كل غذائي.
أبيقور.
ولكن ليست هذه هي حقيقة أبيقور ورفاقه. ففي الواقع كان المجلس الذي أنشأه أبيقور بعد وصوله إلى أثينا في منزل به حديقة بجوار أكاديمية أفلاطون مكرسا للحياة البسيطة. حيث كان يشدد فيه أبيقور على تجنب الإسراف في الطعام، وكان يشجب كل مظاهر الانغماس في اللذات، أما ما قيل عنه فيما يخص الجنس فمن ذا الذي يعلم يقينا ما وقع بين أبيقور وفطيرته الحلوة في الحديقة؟ ولا بد أن نذكر أن مذهبه كان على عكس ما يتردد عنه، حيث لم يكن يحبذ الجنس، فكما يقول: «إن الجنس لا يجلب أية فضائل للإنسان، وللإنسان أن يسعد إذا لم يتسبب له الجنس في أي أذى.» وقد وافقه لوكريتيوس في هذا كما سنرى فيما بعد، ولعل شجبه العنيف للحب القائم على الجنس هو ما أدى إلى ذيوع فكرة أنه تناول جرعة من شراب الحب وصلت به إلى حد الجنون.
وهكذا يمكننا أن ندرك بسهولة مصدر الشائعات التي رددها علماء الأخلاق ورجال الدين المسيحي فيما بعد، فقد قال أبيقور إن على الإنسان أن يتناول الطعام أولا ليحيا حياة سعيدة، ومن السهل انتزاع هذا الكلام من سياقه، وهو ما حدث بالفعل. أما عن الدين، فلم يكن أبيقور متوافقا مع اللاهوت، فآلهته كانت عبارة عن مجموعات متنافرة من الذرات. كما كان يحتقر جميع المعتقدات الدينية التي سادت عصره، وكان هذا الأمر في حد ذاته سببا للعديد من المشكلات، وعلاوة على ذلك، كانت فلسفته في الحياة ترتكز على مبدأ اللذة وهو ما يبدو منافيا للفضيلة.
وربما كان صحيحا ما ذكر في أحد كتب تاريخ الأخلاق الأوروبية أن «الخطيئة الرومانية استترت خلف اسم أبيقور»، ولكن إذا نظرنا عن كثب لما قاله بشأن اللذة نجد ما قد يذهل هؤلاء الذين لم يعرفوا عن أبيقور إلا الشائعات، فهو يقول:
عندما نقول إن اللذة هي المقصد (بمعنى: الهدف من الحياة)، فنحن لا نعني بذلك لذة المنغمسين في الشهوات أو من يقضون أوقاتا في المتعة كما يدعي البعض نتيجة لجهلهم ورفضهم فهم ما نقول، بل اللذة هي التحرر من ألم الجسد وقلق الروح. فما يهب الحياة سعادتها ليس الانغماس في الشراب والحفلات، ولا إقامة العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء، ولا التلذذ بالأسماك والمأكولات غالية الثمن ... وإنما العتق من الأفكار التي تسبب اضطراب الروح.
إن دفاع أبيقور عن اللذة كان أكثر نضجا من الحب المترف الذي تناوله حديث أرسطيبوس الفلسفي على مأدبة ديونيسيوس الأول. فعلى خلاف أرسطيبوس لم ينصرف أبيقور إلى التلذذ بالمتع الآنية، وإنما كان مهتما بخلق توازن يحقق الرضا في الحياة والخلاص من مصاعبها بصورة عامة؛ فقد كان على علم بما يمكن أن يسببه الانغماس في اللذات الآنية من خسارة فادحة لمتع أعظم على المدى البعيد.
كما أن أبيقور نظر إلى اللذة نظرة سلبية عندما رأى أنها تعني فقط غياب الألم. فالألم ليس فقط أن يدهس أحدهم قدمك، كما أن اللذة ليست في أن تنال قبلة من «الفطيرة الحلوة»، فأبيقور يرى أننا إذا أمعنا النظر في القضية أدركنا أن اللذة والألم يتقاذفان الإنسان فيما بينهما على الدوام؛ فإما أن ينعم المرء بالسرور جراء شيء ما فيتذوق فيه اللذة، وإما أن يسقط في براثن الجزع والقنوط فيطمع أن يحوز شيئا آخر أو يرغب في المزيد من الشيء نفسه؛ أي يشعر بحالة من الألم بسبب شعور الحرمان الذي انتابه. وبذلك نجد أن الألم يكمن في نواحي الحياة كافة لا سيما إذا ما حرص الإنسان على توفير حياة قوامها السعادة أو غيرها من المشاعر التي تدخل المتعة على الإنسان. فالألم لا يقع فقط نتيجة بعض الاضطرابات في المعدة أو نتيجة تجربة عاطفية فاشلة، وإنما ينشأ عن الرغبة الجامحة التي تنتاب الإنسان وتجعله يلهث وراء كل ما يعن له من شهوات؛ ولهذا فإن الحياة التي تقوم على اللذة الخالصة من منغصات المتع الحسية هي حياة هادئة هانئة. إنها حياة تخلو من مجالب الألم أو بواعث الكدر، أو هي - كما أجمل أبيقور - حياة خالية من «الألم الجسدي أو القلق الروحي»، وهذه هي الغاية القصوى للذة في نظر أبيقور.
وبما أن أبيقور انشغل في المقام الأول بالتخلص من أشكال الحزن والهم كافة، فلم يكن دفاعه عن مبدأ «اللذة» هو ما مثل تهديدا لمفهوم الفضيلة التقليدي الذي نقع عليه في الفلسفات التي تشجع على الإشباع الذاتي. كان أبيقور يرى أن سعي المرء للتخلص من الألم والقلق والخوف يهيئ له حياة فاضلة؛ لأنك إذا نظرت في الطرق التي قد تكدر عليك حياتك فستعرف حينها أنه «من المحال أن تنعم بالسعادة والمتعة دون أن تحيا حياة قوامها الحكمة والعدل والشرف، ولن تتمكن من ذلك ما لم تكن هذه الفضائل الثلاث (الحكمة والعدل والشرف) مرتبطة باللذة؛ فهذا من ذاك.»
ولذلك فإذا أردت أن تحيا وفقا لمبدأ اللذة الذي ينادي به أبيقور فعليك ألا تأتي بأي ظلم؛ لأن «الحياة العادلة هي أكثر الحيوات خلوا من الكدر.» أما حياة الظلم فهي تعج بأسباب التوتر والقلق. وهذا يذكرنا بما قاله أفلاطون في «الجمهورية» عندما بين أن حياة الطغاة تخلو من السعادة. علاوة على ذلك، فإن الشخص الحكيم الذي يتبع أبيقور يحرص على التحلي بقيمة الصداقة التي أثنى عليها أبيقور مرارا وتكرارا في كتاباته. حيث ذكر أنها الفضيلة الخالدة التي تمنح المرء متعا دائمة تخفف من وطأة الآلام التي تحملها الحياة. وبشكل عام، فإن المجتمع الأبيقوري مجتمع تغمره المودة ويقوم على الكرم الفطري وحب الخير؛ فقد نص أحد تعاليمه على «أن نفع الآخرين يحقق لذة أكبر من نيل الهبات.»
إن وصف أبيقور للفضيلة بأنها طريق إلى الحكمة يجني المرء منه منافع هائلة قد يجعل الأبيقورية تبدو كأنها فلسفة متمركزة حول نفسها. ولنا أن نعترف أنها كذلك لأنها تركز على رغبة الفرد في اتباع اللذة والتخلص من الألم، وإن كان هذا التركيز على رغبة الفرد يوضح ببساطة أن أبيقور كان يسعى إلى اكتشاف سر السعادة الشخصية، فلم يكن المجتمع أو الحياة الاجتماعية بصفة عامة محط اهتمامه. وقد ذكر أن عدم اهتمامه بالمجتمع يرجع لرؤيته أن إصلاح كل فرد وفقا للمذهب الأبيقوري عن طريق إرشاده إلى مكامن الرضا والهدوء الدائم، سيؤدي في النهاية إلى صلاح المجتمع ككل، فكما يقول: «إن الإنسان الهادئ لا يسبب توترا أو إزعاجا لغيره.» وبذلك يصبح الإنسان السعيد مواطنا صالحا. ونجد أنه عندما بدأ الأبيقوريون في الاهتمام بالشئون المجتمعية والقانونية تلاشت عنهم هذه النظرة المتمركزة حول الذات، وكان تناولهم لهذه القضايا في إطار تحقيق اللذة والرفاهة للمجتمع بأسره.
لا جدال أن تعامل الفلسفة الأبيقورية مع الشئون المجتمعية بهذا الشكل هو الأساس الذي خرجت منه نظرية «النفعية» لدى كل من جيرمي بنثام (1748-1832م) وجون ستيوارت مل (1806-1873م)؛ فبنثام يستهل رسالته التي تدور حول الأخلاق والتشريع بذكر المقولة الأبيقورية: «إن الطبيعة قد وضعت الإنسان تحت حكم سيدين متسلطين هما «الألم» و«اللذة».» ومبدأ المنفعة الذي صاغه بنثام من فكرة «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد ممكن من البشر» يقود الفرد إلى محاولة تحقيق أكبر قدر من اللذة وأقل قدر من الألم. وهذا المبدأ من شأنه أن يقود الشخص النفعي إلى حساب نتائج أفعاله قبل الشروع في أي عمل مثلما تحدث أبيقور من قبل عن حساب مزايا الأفعال ومراجعة مساوئها. ويجب هنا أن نشير إلى أن الاختلافات الرئيسة بين أبيقور وأصحاب المذهب النفعي هي اختلافات في الدافع ومواطن الاهتمام. ولعلها تكمن فيما يلي؛ أولا: اهتم الأبيقوريون بالتخلص من الخوف والقلق في المقام الأول، في حين أن أصحاب المذهب النفعي أولوا اهتمامهم بالخطوات والأساليب التي تساعد على تحقيق الرفاهة. ثانيا: في الوقت الذي انصرف فيه أصحاب المذهب النفعي إلى المشرعين والسياسيين، كان أبيقور يحذر أتباعه من الانخراط في الشأن العام، حيث قال: «يجب أن نحرر أنفسنا من قيود العمل الروتيني وأغلال السياسة.» وبهذا نرى أنه كان من الممكن للأبيقورية أن تضع نظاما جيدا لإدارة العالم لولا انصراف أبيقور ورفاقه إلى اهتمامات أقل إثارة للقلق.
كان أبيقور يهتم بمقاومة الأفكار والمعتقدات الخاطئة بدلا من الدخول في تنافس مع أرباب السياسة، حيث كان ممارسا للفلسفة التي يقول عنها إنها «نشاط يقود من خلال الحوارات والمناقشات إلى تحقيق السعادة.» والخطوة الأولى على طريق السعادة تتمثل في توفير الاحتياجات الأساسية كالتحرر من الجوع مثلا. ورغم أن «الحوارات والمناقشات» في حد ذاتها لا تغني من جوع، يرى أبيقور أنها تظل نافعة رغم ذلك، حيث يقنعنا بأننا لسنا في حاجة للكثير من الطعام. ولمزيد من التوضيح، يرى أبيقور أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها. فكما يقول: «إن المعدة ليست في حالة من النهم، وإنما تكمن المشكلة في اعتقادنا الخاطئ أنها تحتاج إلى الامتلاء دائما.» كما يرى أننا لا نكافح فقط من أجل الحصول على أمور وأشياء لا نحتاجها ولا نرغب فيها، وإنما نحن نخاف دائما من أشياء ليست موجودة، ونقلق من أمور لن تحدث؛ فنحن متوترون بفعل الخرافات لأننا لا نعلم شيئا عن كيفية عمل الكون، وهو ما يجعلنا مثقلون بفكرة القدر وفكرة الموت لأننا لم ندرك معنى الحياة، فمثل هذه الأفكار والهموم هي التي تطيح بسعادتنا. والفلسفة بوصفها نوعا من المعرفة العلمية، تعد خير مجيب على مثل «هذه المخاوف التي تثيرها الظواهر السماوية والموت والقلق.»
كان التخلص من مخاوف الموت من الأمور التي عمل عليها أبيقور ورفاقه. فقال إن القصص التي تدور حول الأرواح الشريرة للموتى تبعث على الخوف والرعب لأن العقل أو الروح أشياء مادية لا تبقى بعد وفاة الجسد. كان لوكريتيوس قد ذهب إلى أن «العقل والروح كيانان ماديان»؛ ولذلك فلا بد أن يصيبهما ما يصيب الجسد لأن «العقل والروح يحركان الأطراف، ويوقظان الجسد من النوم، ويغيران تعبيرات وجه الإنسان كما يسيران جميع نشاطات الإنسان التي تنطوي بشكل أو بآخر على حاسة اللمس، واللمس يتضمن الإحساس بالمادة. وما دام الأمر كذلك فكيف لنا أن ننكر طبيعتهما المادية؟» ولعل ما يجب الإلمام به في هذه الجزئية هو رؤية ديموقريطس للحياة على أنها تمثيل للتفاعل الميكانيكي للذرات. فوفقا لهذه الرؤية يؤدي انتظام الذرات في شكل معين إلى وجود كائن حي يستطيع التفكير والإحساس والتحرك وغير ذلك من أفعال. وعندما يتفكك هذا الانتظام ويحدث الموت لن يبقى هناك تفكير أو شعور؛ وعليه فإن حالة الموت لا يمكن أن تتمثل فيها المتعة أو الألم. فالمرور بتجربة الموت ومنازعة آلام الاحتضار قد لا ينطوي على أي قسط من اللذة، ولكن حالة الموت نفسها ليست كذلك؛ «فما دمنا نحن موجودين وأحياء فالموت غائب، فإذا حضر الموت غبنا نحن.»
كان لوكريتيوس قد أشار إلى أن الإنسان المتوفى لا يختلف حاله بعد الموت عن حاله قبل الميلاد. وللأبيقوريين كثير من الملاحظات التي تؤكد هذا الأمر: «إن الفهم الصحيح للموت على أنه بلا معنى يجعلنا نستمتع بفكرة الخلود، وهذا لا يحدث بإضافة وقت لانهائي للحياة، وإنما من خلال تحريرنا من رغبة الخلود نفسها.» وبذلك فإن الرجل الحكيم لا يحتقر الحياة ولا يهاب الموت، ولكن كما أن هذا الحكيم يختار نوع الطعام الذي يدخل عليه أكبر قدر من اللذة ولا ينشغل باختيار الكمية الكبرى من هذا الطعام؛ فإنه كذلك يجد السعادة في أفضل الأوقات لا أطولها. وعند التفكير في الأمر سندرك أننا لسنا في حاجة إلى حياة أبدية لنحظى بحياة كاملة. إن التفكير في الموت والرغبة في الخلود هي الأمور التي تذهب وقتنا سدى. وكذلك الحال بالنسبة للخوف من الخرافات التي عالجتها نظرية ديموقريطس الذرية، فتتلخص رؤيته في أن العالم العلوي بعجائبه هو مادة بحث في العلم الذري ولا علاقة لها بطقوس خرافية كحرق الدجاج أو البكاء تضرعا للسماء بها. فالكون لا تتحكم فيه الآلهة وإنما الذرات، والذرات لا تحتاج إلى من يتضرع لها بالصلوات أو من يتقرب إليها بالأضاحي، بل إن الآلهة نفسها لا تلقي بالا لهذه الممارسات؛ فهي منهمكة في حياة من السكينة والهدوء. أما الاستماع إلى توسلات البشر أو التدخل في إدارة العالم وتصريف شئونه بإحداث رعد هنا أو برق هناك، فهو آخر شيء يمكن أن يشغل الآلهة.
ورغم أن أبيقور يتحدث عن الآلهة فإن شكل اعتقاده فيها أمر يكتنفه الغموض؛ إذ لا شك أنه قد رفض الأقاويل التي تذهب إلى أن الآلهة تتدخل في الشئون اليومية، وكذلك قصة الخلق التي وردت في محاورة أفلاطون «طيمايوس». وقد كانت النظرية الذرية تفتخر أنها تثبت عدم وجود داع لتدخل الآلهة في عمل العالم الطبيعي، وهو الفخر الذي تكبد لوكريتيوس كثيرا من العناء كي يعلل له من خلال نظرياته التي تنعت بالعبقرية أحيانا وبالغرابة أحيانا أخرى، وهي التي ناقشت العديد من القضايا والأمور بدءا بالمغناطيس وانتهاء بالحليب. وتبنى الأبيقوريون لتفسير التنظيم المحكم للكائنات الحية رأيا يشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى داروين، حيث أخذها الأبيقوريون عن إمبيدوكليس. فالآلهة الأبيقورية لم تكن حتى بحاجة إلى الاحتفاظ بالسماء في حالة من الحركة السرمدية كما كانت في العالم الأرسطي. ورغم ذلك فإن أبيقور ذهب إلى ما ذهب إليه أرسطو من أن الاعتقاد في وجود الآلهة أمر منتشر بدرجة واسعة وكبيرة يستحيل معها أن يكون مخطئا تماما، وإن كان لا يتصف كذلك بالصحة والكمال التامين.
ويبدو أن آلهة أبيقور ليست سوى مجموعات خيالية من الذرات؛ فهي ليست أجساما صلبة مثلنا وإنما تشبه كثيرا التيارات الذرية التي تحدث عنها أبيقور ولوكريتيوس عندما حاولا تفسير الإدراك والخيال؛ فعندما ننظر إلى شجرة مثلا فإن ما يحدث - وفقا لنظريتهما - هو أن الشجرة تطلق هالة من الذرات التي تتخذ شكل الشجرة قبل أن تدخل إلى أعيننا؛ وبهذا فإن كل شيء حولنا يطلق طبقات رقيقة من الذرات تشبه الدخان المنبعث من كتلة خشبية محترقة، ومن خلال هذه العملية تحدث الرؤية. وتختلط أحيانا هذه الأغشية الرقيقة بالرياح - «فهي رقيقة وناعمة بحيث يسهل اختلاطها بالهواء عند مصادفته» - وهو ما ينتج عنه تجمع هجين من الذرات يكون مسئولا عن حدوث الهلوسة عند دخوله إلى عقولنا، أو يجعلنا نرى كائنات خرافية كالقنطور والحصان وحيد القرن. كما يرجع حدوث الأحلام ووجود الخيال أيضا إلى وجود أسراب من الذرات تدخل إلى الرأس؛ فرؤية شبح أو كابوس تحدث نتيجة دخول مجموعات من ذرات حرة الحركة من الهواء إلى الرأس، واختلاطها به اختلاطا قويا. وفكرة الآلهة كذلك كما يراها أبيقور ما هي إلا ضرب من الأحلام الرقيقة المرهفة. فأفكار الإنسان اليوناني القديم عن الآلهة هي أفكار مثالية تصور الآلهة على صور شبيهة بالإنسان، فتتدفق هذه الصور من الخارج إلى الداخل لتمتزج ببعض أفكار الكمال الموجودة بالنفس الإنسانية. فصورة الآلهة لدى الإنسان اليوناني القديم تشبه البشر لدرجة كبيرة؛ لأنه هكذا كان يتصورها. فكان يتصور الآلهة في حالة من السكينة والهدوء التامين لأن هذه الحالة - في نظر أبيقور - هي التي ظن الإنسان اليوناني أنها صورة الحياة المثلى، بيد أن هذا الحديث من شأنه أن يثير سؤالا محوريا وهو: هل هذه الآلهة موجودة بالفعل أم أنها محض صور تقبع في دهاليز الخيال؟
أما إجابة أبيقور فكانت مثيرة للدهشة حيث رأى أنها تتضمن كلا الأمرين، فأبيقور كان يرى أن جميع الأفكار والصور المنطبعة في الذهن حقيقية؛ أي إن كل ما تستقبله حواسنا لا بد له من أساس في الواقع، فلا يمكن أن تكون هذه الأفكار خاطئة تماما. ومن ثم، فما تخبرنا به حواسنا من وجود آلهة - يرى أبيقور أنها توجد في أحلامنا ورؤانا - لا بد أن يكون موجودا في الحقيقة. ولكن رغم ذلك علينا أن نتعامل مع هذه الأفكار بشكل من الحرص؛ لأنه من السهل أن تفسر الرسائل التي ترسلها لنا الحواس بشكل خاطئ. وعلى الرغم من أن جميع أفكارنا حقيقية؛ «فإن آراءنا ليست كذلك، حيث إنها أحكام نصدرها وفقا لأفكارنا وانطباعاتنا. وهذه الأحكام قد تصيب وقد تخطئ اعتمادا على ما نضيفه إلى أفكارنا أو ما نقتطعه منها.» فعلى سبيل المثال، عندما يراودنا حلم عن الحصان وحيد القرن لا ينبغي أن نتعجل الأمر ونطلق حكما بوجود كائن مادي يتجول في الجوار وله قرن بارز من جبهته التي تشبه جبهة الفرس؛ فهنا يكون حكمنا أو رأينا قد بني على غير دليل. فربما استقبلت حواسنا مجموعات من الذرات على شكل الحصان وحيد القرن، ثم تدفقت هذه الذرات إلى داخل رءوسنا. ومن ثم فإنه بالرغم من إمداد حواسنا لنا بصور ورؤى حول الآلهة (كما يرى أبيقور) فهذا لا يعني أنها كائنات مادية تتجول في الكون وتحدث الرعد والصواعق. فالآلهة حقيقية بالطريقة التي تتكون عليها جميع صورنا الحسية؛ أي إنها محض مجموعة من الذرات التي تدخل عقولنا؛ فهي صور ذرية حقيقية ولكنها ليست أجسادا مادية حقيقية؛ ولهذا السبب يمكننا أن نصف الآلهة على أنها موجودة بالفعل ونسج من خيال في آن واحد.
ولكن إذا كانت الآلهة موجودة فعلا بنفس الطريقة التي توجد بها الكائنات الخرافية فلماذا لم يختصر أبيقور الطريق ويعترف أنه ملحد؟ فلو أقام مجموعة من المجانين معبدا لبعض الكائنات الخرافية كالحصان وحيد القرن مثلا، لم يكن أبيقور ليذهب للصلاة فيه، فلماذا اعترف أبيقور إذن بالآلهة ولو شفاهيا؟ يرجع ذلك - ضمن أمور أخرى - إلى أن من ينكر وجود الآلهة في أثينا في القرن الثالث لم يكن لينعم بعيشة هادئة. كما أن الآلهة كانت تعد وسيلة نافعة لبيان مفاهيم أبيقور، فالحديث عن الآلهة التي تحيا حياة السكينة والسلام كان من أنجع الأساليب للتعبير عن معتقداته حول الحياة.
ربما كان الشك يخالج أبيقور سرا بشأن الآلهة، ولكنه لم يكن لديه من الوقت ما يضيعه في مذهب الشكوكية الذي كان آخذا في الانتشار بين جموع الفلاسفة آنذاك. وبذلك فاعتقاده في حقيقة ما تخبره الحواس كان يعد ردا على الشكوكية. وهذه المسألة التي حاول أبيقور معالجتها ترجع إلى عهد ديموقريطس الذي قال إن الحواس تعطينا صورة مضللة عن العالم لأنها تصور لنا الأشياء حلوة أو مرة أو ساخنة أو باردة أو غير ذلك من الصفات، في حين أنه في الحقيقة لا يوجد سوى ذرات وفراغ. كان ديموقريطس يرى أن بعض الخصائص مثل المذاق واللون تنشأ في العقل، فهي مجرد انطباعات تتكون في عقولنا تأثرا بتجمع الذرات. ورغم أن ديموقريطس لم يتطرق إلى النتيجة التي توصل إليها، وفحواها أننا لا يوجد يقين ثابت نتعرف من خلاله على العالم، فقد قام فلاسفة آخرون بإعلان هذه النتيجة وتبنوها؛ مما دفع أبيقور إلى التصدي لهذا الهراء.
قال أبيقور إن المرء لو شك في كل ما تمليه عليه الحواس فسيكون أشبه بمن يركب قاربا دون مجداف، أو كما يقول: «إذا شككت في جميع الحواس فلن يبقى لديك معيار تعرف من خلاله صدق الحواس أو كذبها.» فلنفترض على سبيل المثال أن شخصا يرى برجا على مرمى البصر يبدو دائريا، ولكن كلما اقترب تبين له أن البرج على شكل مربع، فعرف أن شكله الدائري الظاهر كان محض خداع بصري، فهل يمكن أن نقول إن الحواس هي التي خدعته؟ يرى أبيقور أن هذا ليس صحيحا؛ لأنه رغم أن الحواس هي التي جعلته في بداية الأمر يظن أن شكل البرج دائري، فهي أيضا التي جعلته يدرك أنه على شكل مربع عندما نظر إليه عن قرب. وانتهى إلى أن تنحية الحواس جانبا دون الاعتماد عليها نهائيا تعني ضرورة التوصل إلى بديل، وطالما أننا نفتقد البديل فليس أمامنا - كما يقول أبيقور - سوى الاعتماد على الحواس في تلقي المعرفة رغم كل شيء.
ويتلخص الحل لديه في معرفة طبيعة عمل الحواس وحدود قدرتها؛ فهي تعمل ببساطة من خلال تخزين الأشكال الذرية التي تستقبلها، وهي وظيفة ليس هناك داع إلى التشكيك في قيام الحواس بها على الوجه الأكمل. ولكن على الرغم من أنه يمكن الثقة فيما تستقبله الحواس بوصفها مصدرا للمعلومات عن موجات الذرات التي تؤثر على مراكز الإحساس في الجسم، فلا يمكن الاعتماد عليها بوصفها مصدرا للمعلومات عن الأجسام الصلبة أو المادية التي تقوم ببث هذه الذرات، ويرجع ذلك إلى أن الأشكال التي تتخذها الذرات كما رأينا يمكن أن يحدث لها تشوه خلال عملية الانتقال أو حال دخولها إلى العقل. وقد تناول لوكريتيوس مثال البرج بالدراسة وقال إن موجات الذرات المرتبة والمنظمة التي تخرج من الأجسام تتشوه عندما تنتقل لمسافات طويلة عبر الهواء حتى تصل إلى أعيننا، وهي تتبلور على شكل دائرة عند الأطراف خلال انتقالها، وهذا هو سبب ظهور البرج مستديرا في المثال السابق، وبالنظر إلى البرج عن قرب فإن الذرات تنتقل عبر مسافة قصيرة بالشكل الذي يحول دون حدوث تشوه لها. وقال أبيقور إن بعض الانطباعات التي تتكون من خلال الحواس تكون أكثر وضوحا وتميزا عن غيرها. وتلك هي الانطباعات التي يمكن الاعتماد عليها، أما أحلامنا ورؤيتنا المتذبذبة الضبابية حول الآلهة والأشياء البعيدة فلا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق في النتائج التي تخبرها بشأن العالم الخارجي، في حين أن هناك انطباعات أخرى يمكن الاعتماد عليها. ولم يوضح أبيقور تماما المقياس الذي من خلاله يمكن الاعتماد على انطباع معين من عدمه، ولكنه ترك لنا بعض القواعد البسيطة المساعدة التي بين في أحدها أنه كلما حدث الاقتراب من الشيء زادت إمكانية الاعتماد على الانطباعات التي نستقبلها منه.
ويرى أبيقور أن التعامل الحريص مع الانطباعات التي نكونها يمكننا من تفادي التفسير الخاطئ لها؛ ومن ثم تجنب تكوين آراء أو اعتقادات خاطئة عن العالم. وقد ارتكب أبيقور نفسه خطأ كبيرا عندما اعتنق إحدى هذه الاعتقادات. فقد قال إن طول قطر الشمس يقدر بقدم واحد؛ لأن الشمس تبدو له هكذا، ولأنه لم يجد مبررا للدفع ببعدها البالغ الذي يحول دون الحكم عليها، وهذا لا يعد عوارا في مبادئه وقواعده ذاتها، وإنما الخطأ يكمن في كيفية تطبيقه لهذه المبادئ وتلك القواعد. فخطأ أبيقور بشأن الشمس لا يعني أن الحواس دائما ما ترتكب مثل هذه الأخطاء، فهو يرى أن مصدر الخطأ دائما هو الناس لا الحواس، حيث يقول لوكريتيوس: «لا تلصق هذه التهمة بالعين، فالعقل هو المخطئ.»
وهذه الملاحظة تلقي الضوء على المنهج الذي تستند إليه فلسفة أبيقور، فالعقل دائما هو محل الخطأ؛ ومن ثم فإن العقل هو ما يحتاج إلى علاج بطريقة أو بأخرى، تماما كما تنبع تعاستنا من المعتقدات والآراء الخاطئة التي نكونها عن الأشياء لا من طبيعة الأشياء نفسها. وبهذا فإن اللائمة تقع على تفسيراتنا الخاطئة لا على ما تنقله لنا الحواس المجردة. وفي كلتا الحالتين ليست الطبيعة هي مصدر مشكلاتنا؛ لأن الطبيعة في الأصل هي مصدر كل خير، بل إن الطبيعة ترشدنا إلى الطريقة التي نعيش بها عن طريق وضعنا تحت إمرة سيدين عظيمين هما اللذة والألم - وهو ما قاله بنثام فيما بعد - إذ غرست الطبيعة فينا غريزة اتباع أحد السيدين وتجنب الآخر، ومن خلال اتباع هذا النهج الطبيعي سنحيا في ازدهار وسعادة. وبما أننا لا نعرف دوما كيف نتبع هذه الطريقة لما نعانيه من تلوث في الأفكار، فعلينا إذن اتباع العلاج الأبيقوري لكي نبتعد عن مصادر الخوف والقلق والكرب.
وإذا كان الأخذ بعلاج أبيقور هو مسألة مرتبطة بعلم الذرات المتجرد من الاعتبارات الشخصية بما فيه من تفسيرات مطمئنة حول الموت والأحلام والكوارث؛ فمن الممكن كذلك أن نركن إلى استشارته بين حين وآخر، ولنأخذ تناوله لقضية الجنس مثالا على هذا. فقد حاول لوكريتيوس أن يشخص ويقدم علاجا لما أسماه بمرض العاطفة الجنسية. وكان يعد هذا المرض أمرا في غاية السوء لأنه يناقض مبدأ السكينة الأبيقوري. إن هذه العاطفة الجنسية - كما يقول - «تتقاذفها رياح الوهم حتى في أكثر لحظاتها إمتاعا.» ويكتب أيضا: «إن تشبثك بالعاطفة الجنسية يزيدها اشتعالا بجوانحك؛ ومن ثم يزيدك ألما، وإن الجرح ليتفاقم ويزداد عمقا مع مرور الأيام.»
ويرى لوكريتيوس أن العاطفة الجنسية تتبدل حزنا وكدرا لأنها تعد تشويها للدوافع الطبيعية عبر رغبات غير واقعية ومعتقدات خاطئة. فهي مسئولة عن وجود رغبات عارمة لا يمكن إشباعها لأنها أخذت شريعتها من الوهم والخيال، حيث يرغب المحبون في التوحد معا (ويعتقدون أن بإمكانهم تحقيق ذلك) وهو أمر مستحيل قطعا، وعن هذا يقول:
إن الأجساد لتتعانق، والشفاه لتلتئم، ثم تندفع الأنفاس الحارة من الحلوق، دون هدف أو غاية، فلا يمكن لأي طرف أن ينتزع من محبوبه جزءا، ولا يمكن كذلك أن يدخل إلى جسد الآخر فيذوب بداخله، ورغم التصاق الجسدين ببعضهما فإنهما يظنان أن هذه هي الغاية والمنتهى. وحال انقضاء الشهوة، تزول حالة السعار، التي لا تلبث أن تتجدد مرة أخرى.
ويميل الإنسان المغرم إلى عدم إدراك صفات محبوبته الجسدية والعقلية، فيتغنى كثيرا بصفاتها الحميدة ويغض الطرف عن عيوبها، (كان لوكريتيوس يشير دائما للمحب على أنه ذكر أما المحبوبة فتكون دائما أنثى). وهذا لا يتسبب فقط في الاضطراب والإحباط والقلق والشك الذي تخالطه الغيرة، ولكن يؤدي أيضا إلى تدهور الصحة وإهمال الأعمال الواجب أداؤها بالإضافة إلى ضياع المال والوقت وتشويه السمعة.
والحرمان في رأيه هو الحل الأمثل لمشكلة العاطفة الجنسية. وهنا يخبر بضرورة أن يتوخى المرء الحذر لظهور العلامات الأولى قبل أن تغويه الإغراءات. وإذا وقع المرء فريسة لهذه العاطفة فإن أفضل نصح يمكن إسداؤه له هو أن ينظر إلى عيوب حبيبته ويوليها النصيب الأوفر من تركيزه. فإذا كان يرى في محبوبته «روحا» فلينظر إليها باعتبارها في الحقيقة محض «قزم بهلواني»، أو إذا كان يراها «رقيقة» فلربما تكون «إنسانا شبه ميت مصابا بالسعال»، وإذا كان يميل إلى وصفها بأنها «تذيب القلب بألق يشبه ألق الجواهر» فإنها قد تكون في الواقع «امرأة سليطة اللسان عصية على الترويض». وينصحه أن يضع جميع هذه الأشياء دائما نصب عينيه. فإذا كانت المحبوبة بالفعل نموذجا طيبا وتستحق المدح والثناء، فيجب أن يتذكر أيضا أن هناك الكثير ممن هن على شاكلتها، وأنه كان يحيا بشكل طبيعي قبل أن يصادفها، وأخيرا ينصحه ألا ينسى «أنها لا تختلف في تكوينها الطبيعي عن أي من بنات جنسها، وأنها تستخدم العطور والبخور ذا الرائحة المزعجة، وأن خادماتها يحاولن البقاء بعيدا عنها ويسخرن منها في غيابها.»
وهذه هي نصيحة لوكريتيوس للمحب، فلا يمكن للعاطفة بعدها أن تنجو من هذه المصائد. ومن النصائح المهمة كذلك التي يقدمها لوكريتيوس: «انثر بذور الحب على أشياء أخرى.» وصورة لوكريتيوس ليست مجازية فهو يرى أن المشكلة تكمن في وجود فائض من بذور الحب في أعضاء التناسل، وهذا الفائض يجب التخلص منه، وفي هذه الحالة فإن المومس قد تكون السبيل الأمثل لإفراغ هذه الشحنة الفائضة. ولكنه يوضح أنه ليس من الممكن نثر بذور الحب على أي شيء؛ لأن الأعضاء لا تثار إلا برؤية أشكال معينة من الناس كالوجوه الفاتنة أو القسمات الجميلة، فلا يلفت شيء انتباهنا سوى مثل هذه الأشياء، وما يحدث هو أن السحب الذرية التي تكون هذه الأشكال والصور تتسلل إلى أجسادنا في الأحلام. وكما يحدث عادة مع الأحلام فإننا نظن أنها صور لأناس حقيقيين؛ وذلك لأن القوى العقلية التي تحمينا من هذه الهواجس تكون قد خمدت بفعل النوم. ولكن يتضح أن الرغبة الجنسية ليست محض مطاردة لأشباح خيالية في الأحلام فحسب، فحقيقة كون هذه الشهوات الغرامية تشتعل بفعل مجموعة مختلطة من الصور البشرية سواء في النوم أو في اليقظة تفسر لنا عدم قابلية هذه الشهوات المغوية للإشباع وتسببها في مشكلات جمة، وكما قال:
إن الطعام والسوائل تدخل إلى أجسادنا حيث تملأ الجزء المخصص لها؛ وبذلك فإن الحاجة إلى اللحم والسوائل يمكن إشباعها بسهولة، ولكن الوجه الجميل أو القسمات الفاتنة لا يمنح الجسد شيئا يستمتع به سوى مجموعة صور لا قيمة لها عادة ما تذهب هباء.
وبما أن الإنسان لا يمكنه أن يلتهم حبيبته كالتهامه الطعام؛ فإن محاولة إشباع عاطفته محكوم عليها بالإخفاق.
قد ننتهي بعد هذا الحديث إلى القول إن لوكريتيوس - وليس المحب - هو من بحاجة إلى العلاج، فبعض قصص الحب تنتهي نهاية سعيدة، كما أن كثيرا من تلك القصص يكون نماذج رائعة لعلاقات الحب في بداياتها وفي منتصف أحداثها. وقد يرد لوكريتيوس قائلا إنه لم يقصد مهاجمة جميع صور العلاقات الودية بين الأحبة وإنما العاطفة التي تصل إلى حد الجنون فحسب، أو إدانة «فينوس» كما يحلو له تسميتها؛ فهو لا يسعى إلا لعلاج حالات الحب المبالغ فيها. ولكن مع ذلك نجد أنه لا يبدو مخطئا تماما في حذره من العلاقات الشخصية، حيث إنه يفضل الهدوء والسكينة والاستقرار على كل ما عداها، فلا توجد أية إشارة لديه تؤكد أن لحظة من الهدوء يمكن أن يضحى بها في سبيل أي شيء آخر في الوجود. ولم يكن الشعار القائل: «يفوز باللذات كل مغامر.» من الشعارات التي تروق له هو وغيره من الأبيقوريين. وقد وصف أفلاطون ذات مرة أن هجر الحب ونبذه يعد في ذاته من أسرار الحب التي تسبب الهيام به، فقد يكون الحب ضربا من الجنون المرغوب. وعلى العكس من أفلاطون، يرى أبيقور ولوكريتيوس أن الأمر الذي سينتهي بالدموع لا يستحق حتى الوقوف على عتباته.
تطلب الأمر إدخال تغيير أو أكثر على نظريات ديموقريطس الخاصة بالذرات كي يستخدمها أبيقور ولوكريتيوس في تفسير العالم لمرضاهم المصابين بالحيرة والاضطراب. ومن أهم إضافات أبيقور في هذا الصدد فكرة «الانحراف»، وكان يعني بها انحراف الذرات في مسارات وطرق جانبية، وهذا من شأنه أن يحل اثنين من تعقيدات الصورة التي رسمها ديموقريطس للعالم. المسألة الأولى تتعلق مباشرة بالفيزياء، أما الثانية فلها تأثيرات مهمة ومباشرة أيضا على الحياة البشرية. والمسألة الأولى هي فكرة تصادم الذرات، فقد قال أبيقور إن ذرات ديموقريطس يمكن أن تسقط في الفراغ بالسرعة نفسها، وكثيرا ما تسلك الطريق لأسفل مباشرة، وخلال هذا تتخذ كل ذرة مسارا خاصا بها، ولكن السؤال هو كيف إذن لهذه الذرات أن تصطدم ببعضها البعض ثم تلتحم لتكون الأجسام المادية العادية؟ وهنا نجد لوكريتيوس يجيب: «إن عدم وجود انحرافات من وقت لآخر يعني عدم وقوع تصادم؛ ومن ثم ينعدم تأثير أي ذرة على أخرى.» وقال أبيقور إنه لا مفر من وجود قسط من العشوائية في عمل الطبيعة من خلال قفزات تضع ذرة في طريق أخرى. وقد علق شيشرون على هذه الفكرة قائلا: «إنها محض وهم طفولي.» ولكنها رغم ذلك تشبه فكرة اللاحتمية أو فكرة العشوائية الموجودة في الفيزياء الكمية. أما المسألة الثانية التي وجد لها حلا من خلال فكرة «الانحراف» فإنها مسألة تستحث الفضول، وقد كان أبيقور أول من أثارها لتصبح من بعده من أكثر المسائل المحورية في الفلسفة.
إنها مسألة الإرادة الحرة في مواجهة الحتمية. فإذا كانت جميع الظواهر والأحداث تمثل نتيجة حتمية وآلية لحركة الذرات، فكيف يتسنى لأي شخص أن يدعي الحرية؟ بل وكيف يمكن أن ندعي أن كل إنسان مسئول أخلاقيا عن أفعاله؟ فإذا سلمنا بهذه الفكرة فلن تكون حركة كل إنسان نابعة من إرادته بأي حال من الأحوال، وإنما محض نتيجة حتمية لحركة الذرات الموجودة بجسده. وكانت هذه من الأفكار التي أثارت حفيظة أبيقور، وإن كان الأبيقوريون قد وقفوا في وجه التنجيم قائلين إنه محض هراء لا طائل منه؛ فإن عليهم الآن التسليم بأن النظرية الذرية جعلت المستقبل يمكن بسطه وعرضه كورق اللعب. وهكذا بعد أن حاول أبيقور أن يقدم صورته التي تقوم على المنهج العلمي وكأنها ترياق للبشرية يثبت من خلاله أن حياة البشر ليست في يد الآلهة أو تخضع لسطوة القدر ؛ فإنه قد وجد أن الذرات مثل القدر لا تختلف عنه في شيء، بل إن أبيقور يقرر أن ذرات ديموقريطس أسوأ من فكرة القدر نفسها؛ إذ يقول:
من الأفضل أن نكون أسرى لفكرة الآلهة في علم الأساطير عن أن نكون عبيدا لفكرة «القدر» عند الفلاسفة الطبيعيين؛ فالأولى تسمح على الأقل بفسحة من الأمل عبر التقرب للآلهة بالعبادة، في حين أن الأخرى تنطوي على ضرورة لا سبيل للفكاك منها.
ويضع لوكريتيوس الفكرة ذاتها في إطار الحديث عن القدر فيقول:
إذا افترضنا أن طبيعة سير الحركة تقوم على الترابط؛ فإن الحركة الجديدة ستكون نتيجة للحركة القديمة وفقا لترتيب حتمي، وما دامت الذرات لا تنحرف مطلقا لكي تنشأ حركة جديدة تكسر روابط القدر والسلسلة الأبدية القائمة على السبب والنتيجة؛ فما هو إذن مصدر حرية الإرادة التي تمتلكها كافة الأشياء على سطح الأرض؟ وما هو مصدر الإرادة التي تنتزع من براثن القدر والتي نسلك خلالها الطريق نحو المتع والملذات، أو ننأى عن ذاك الطريق دون تقيد بزمان أو مكان عدا ما تمليه عليه قلوبنا؟
إذا كانت الذرات تنحرف أحيانا دون القدرة على التنبؤ بحركتها، على حد زعم أبيقور ولوكريتيوس؛ إذن فإن «روابط القدر» يمكن أن تحل، و«التسلسل الأبدي للسبب والنتيجة» لن يصبح دائما على هذا النحو حيث يمكن اعتراض سيره. وهنا نجد أن أبيقور ظن أن فكرة «انحراف» الذرات التي قدمها يمكنها أن تجنبنا فكرة الحتمية غير الإنسانية التي توجد في نظرية ديموقريطس. وقد ذكر بعض علماء الفيزياء الكمية في القرن العشرين فكرة وجود قدر من الحرية في الفيزياء الكمية، فكتب السير آرثر إدنجتون عام 1928م على إثر اكتشاف نظرية اللاحتمية قائلا: «وبذلك فإن العلم يتراجع عن اعتراضه على فكرة حرية الإرادة.»
إن فكرة كون العشوائية هي سر وجود حرية الإرادة تبدو فكرة مغرية حقا، ولكنها محيرة في ذات الوقت؛ حيث يطالعنا سؤال: ماذا يعني أبيقور ولوكريتيوس حقا بهذا الحديث؟ هل يعني حديثهما أن الأفعال التي تحدثها الإرادة الحرة ما هي إلا انحرافات للذرات عن مسارها في المخ؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يعني أن الإنسان حر الإرادة ولكن لا يمكن التنبؤ بسلوكياته أو أفعاله. ولكن هذا أمر يجانب الصواب؛ لأن فكرة العشوائية لا تستوي مطلقا مع أفكار مثل الاستقلال والمسئولية الشخصية، فكما يوضح الفيلسوف الإنجليزي الحديث ألفريد جول آير (1910-1989م):
إذا كان سلوك الإنسان وتصرفه من قبيل الصدفة، فإن هذا يعني أنه حر بيد أنه غير مسئول، حيث لا يمكن التنبؤ بأفعاله؛ ومن ثم لا يمكن اعتباره مسئولا أخلاقيا، وإنما يعد مجنونا.
إذا كان أبيقور يعتقد أن الأفعال الحرة تنتج عن انحرافات الذرات في الجسد وأن هذا هو ما يعطي الإنسان تحكما في أفعاله، فلا بد إذن أنه كان واقعا في حيرة واضطراب كبيرين بشأن هذه الفكرة. ولكن ربما لم يكن هذا ما عناه أبيقور، فربما كان يعني أن وجود قفزات عشوائية في حركة الذرات يبين أن الطبيعة تسمح بوجود مساحة من الإمكانات المتاحة، وأنها لا تحدد كل شيء بدقة وصرامة، فإذا كانت للذرة الحرية في التحرك في الاتجاهات كافة، فلربما لنا نحن أيضا حرية التحكم في أجسادنا؛ وبذلك فإنه ليس صحيحا أن كل أفعالنا ناتجة عن قانون السبب والنتيجة. وإذا كان هذا هو ما يرمي إليه أبيقور فعلا؛ فهذا يدل على أنه لم يكن يخلط بين فكرتي العشوائية والحرية، إلا أننا لا يمكننا ادعاء أن إجابته عن مسألة حرية الإرادة شافية كافية، فلم يبذل أدنى جهد في محاولة توضيح طبيعة الأفعال الحرة. وتبقى فكرته في هذا المقام مبهمة وغامضة ولا نعرف كيف لها أن تتسق مع صورة العالم في النظرية الذرية. ولكن على كل حال، ربما كان تصورنا أن أبيقور قد حل مشكلة حرية الإرادة ينطوي على قدر من المبالغة؛ حيث إنه نجح فقط في تسليط الضوء على هذه القضية.
ولعله قد تناول هذه المسألة في كتاب من كتبه التي تلفت وضاعت. فكتب أبيقور الرئيسة ضاعت - شأنها في ذلك شأن كثير من المؤلفات الهيلينستية - دون أن تصل إلى الأجيال التالية التي تقدر هذه المؤلفات وتجلها أكثر من أصحابها حينئذ. أما ما بين أيدينا من كتبه فهي التي تتناول المسائل بشكل شمولي؛ «حيث إن الرؤية العامة الشاملة مطلوبة دوما، أما التفاصيل فالحاجة إليها نادرة». بالإضافة إلى بعض الكتب التي تجمع مقولاته المتفرقة. وهذا يجعل من الصعب تقييم مشروعه وعمله الفكري مقارنة بأعمال أفلاطون وأرسطو. ولكن من الواضح أن طريقة تفكيره وأسلوبه يختلفان إلى حد كبير عنهما، فلم يكن مهتما بالمصطلحات التقنية ولا البراهين المعقدة ولا استخلاص الاستنتاجات منها ولا التعريفات الملتوية، ولم يكن يعيرها اهتمامه، وهذا ليس فقط على مستوى أعماله الشهيرة بل في أعماله كافة، فكان يظن أن هذه الأمور من شأنها أن تشتت العقل بعيدا عن عالم الطبيعة الحقيقي الذي يمكن اكتشافه بالحواس وتفسيره بعلم الذرات.
ولم يكن أبيقور مهتما بما شغل كلا من أفلاطون وأرسطو، بل لم يكلف نفسه عناء تفنيد كلامهما. ففي الوقت الذي كان على المرء فيه أن يسعى إلى العلم والدراسة الشاقة في سبيل الوصول إلى الحكمة والحقيقة التي تنطوي عليهما فلسفة أفلاطون وأرسطو؛ لم تكن فلسفة أبيقور تحتاج إلى سابق معرفة أو علم للإلمام بها. وفي الحقيقة، إن تعليما فلسفيا على طريقة أفلاطون وأرسطو يعد عائقا أمام الكثيرين؛ فالأسلوب الفلسفي الذي يقوم على الإطناب قد يضل الإنسان ويشتت تفكيره: «يجب أن نضع أيدينا على المعاني التي تشير إليها الكلمات؛ وبذلك يمكننا أن نستخدمها مرجعا نعود إليه للحكم على أمور الرأي والتساؤلات المسببة للحيرة.» إن الفيلسوف بحاجة إلى تثبيت أقدامه بقوة في الأرض؛ حتى لا تغمره موجات الكلمات وتقذفه بعيدا فيغرق في دوامة من الجدل العقيم. كان أبيقور على حد قول أحد الشارحين المحدثين يهدف إلى «المحافظة على الفكر قريبا من الواقع ومرتبطا به قدر الاستطاعة.» وهو ما تشير إليه كلمات أبيقور: «إن جميع أفكارنا مستمدة من التصورات، سواء من خلال الاتصال المباشر بها أو من خلال القياس عليها أو التشابه معها أو تركيبها مع بعضها، مع مساعدة بسيطة من العقل.» وإن العقل وأفكاره ما هي إلا أشياء مادية، فهي مجموعة من الذرات مثل أي شيء آخر، وهي تتأثر في الأساس بتدفق الذرات من مراكز الحس؛ ومن ثم فإن أي وجه لصحة أفكارنا بوصفها مصدرا من مصادر المعرفة لا بد أن ينبع من هذه الحقيقة، فخبرتنا وتجاربنا في الحياة هي «الأمور التي تشير إليها الكلمات». ولذلك فإن جل حديثنا وتنظيرنا لا بد أن يوضع موضع الاختبار عن طريق التجربة.
وهذا هو فحوى نظرية «التجريبية» التي تطورت في عدة أشكال في القرن السابع عشر، مع الإشارة إلى أن الأبيقوريين لم يسعوا يوما إلى الوصول إلى نظرية حول المعرفة أو الفيزياء، وكان إرثهم الأساسي يتمثل في فلسفة الحياة التي وصف لوكريتيوس طبيعتها ومزاياها بحفاوة بعد وفاة أبيقور ورفاق حديقته بمائتي عام:
إنه لأمر طيب أن تقف على اليابسة وأنت تشاهد رجلا ما يجابه الأمواج العاتية بعدما أثارتها الريح. ولا يعني هذا أنك إنسان سادي تسعد بعذاب الآخرين، وإنما يجعلك هذا الموقف تدرك قيمة الأمان من المصاعب والمشاق التي يتكبدها غيرك. وكذلك الأمر عندما تشاهد المعارك الطاحنة تدور رحاها في السهول بينما تمكث أنت بعيدا عنها دون اشتراك فيها. ولكن هذه الأمور جميعا لا تضاهي السعادة التي تنعم بها عندما تكون أنت سيد إحدى تلك البقاع الهادئة المطمئنة التي تقف شامخة عالية عما حولها محصنة بتعاليم الحكماء؛ فمن ثم يمكنك أن تنظر إلى الناس من تحتك يهيمون على وجوههم بلا هدف أو غاية بحثا عن طريقة للحياة، وهم يتنافسون قدر طاقتهم محاولين التغلب بعضهم على بعض وارتقاء السلم الاجتماعي، فيبذلون قصارى جهودهم ليلا ونهارا ويكدون من أجل تراكم ثرواتهم وتعزيز سلطانهم. فيا لبؤس عقول هؤلاء الرجال! ويا لعمى قلوبهم! ويا له من ظلام دامس! وكم من أهوال ومخاطر نهدر في سبيلها حياتنا القصيرة هذه! ألا ترى أن الطبيعة لا تهدف لشيء سوى تخليص الجسد من الألم وتحقيق راحة العقل بعد إزالة القلق والخوف منه؟
ولذلك فالجسد لا يحتاج سوى ما يدفع عنه الألم ويجلب له متعا جمة. والطبيعة تسعى للأمر ذاته، فهل هناك ما هو أكثر إمتاعا من تماثيل ذهبية لشباب في مداخل الأروقة يحملون مشاعل النار في أيديهم ليضيئوا مأدبات الليل، أو منزل يبرق بالفضة ويتلألأ بالذهب، أو سقف ذهبي مقوس يعكس صوت العود، أو رجال يفترشون العشب الأخضر على ضفة إحدى البحيرات في ظل شجرة سامقة لينعشوا أجسادهم باللذة والسعادة دون كلفة، وتكتمل السعادة إذا ابتسم لهم الطقس وتناثرت حولهم الأزهار على البساط الأخضر.
لقد كانت الأبيقورية عقيدة شخصية واستمرت كذلك حتى بعد وفاة المعلم نفسه. وكان أتباع أبيقور يقيمون احتفالا في العشرين من كل شهر لإحياء ذكراه في المنزل والحديقة التي تركها لخليفته عندما توفي عام 271ق.م. فكانوا يتلون بعض كتبه التي يحفظونها عن ظهر قلب، كما كانوا يفعلون عندما كان معلمهم العظيم حيا يرزق. وقد عملوا على نشر عقيدته واتبعوا سمته في العيش والحياة. ولم يكن أحد أعظم إجلالا وتقديرا له من لوكريتيوس الذي كتب يخاطبه بعد قرنين من وفاته قائلا: «أنت يا أول من خرج من جوف الظلام حاملا قبسا يشع ضوءا وضاحا يكشف عن ملذات الحياة ويزيح عنها الظلام، أنت مرشدي، يا فخر الإغريق ومجدهم، وإني أسير واثقا مهتديا بخطاك وأثرك.» •••
أما الرواقية فلم تكن تتمحور حول رجل واحد؛ إذ مرت الرواقية بثلاث مراحل خلال الخمسمائة عام التي تطورت خلالها، ولم يتزعم أيا منها رجل واحد منفردا. ويستمد الرواقيون الأوائل اسمهم من «الرواق» الواقع في ساحة السوق، حيث كان معلمهم ومؤسس الجماعة الرسمي زينون (حوالي 333-262ق.م.) المولود في مدينة «سيتيم» يجتمع بهم، إلا أن كريسيبوس (حوالي 280-207ق.م.) - وهو فيلسوف عبقري تخصص في المنطق والفيزياء - كان له تأثير على المرحلة الأولى من الرواقية لا يقل عن تأثير زينون، فكما تقول إحدى العبارات القديمة: «لولا كريسيبوس لما كانت الرواقية.» ويعتقد أن كريسيبوس كتب حوالي 705 كتب لم ينج منها كتاب واحد، وإنما عثر على قطع متفرقات من أقواله في أحشاء بعض الكتب الأخرى. أما أفضل الكتابات الرواقية فهي تلك التي كتبها ثلاثة كتاب رومان: سينيكا وإبيكتيتوس وماركوس أوريليوس، وتقدم كتاباتهم في المقام الأول تعاليم أخلاقية وسلوى للنفوس، وهم يمثلون الرواقيين المتقاعدين كما نقول في هذه الأيام. كان ماركوس إمبراطورا سمحا حكم خلال القرن الثاني الميلادي، وكان عهده محفلا للنزاعات والصراعات حتى أصبح يرى أن الحياة مثيرة للغثيان. أما إبيكتيتوس (50-120م) فكان في سابق عهده عبدا، وكان مهتما بالتفكير في طبيعة الحرية والأمور غير القابلة للاستعباد في الطبيعة مثل أفكار الإنسان. أما سينيكا (4ق.م.-65م) فكان موظفا حكوميا وخطيبا وكاتبا مسرحيا، نفي إلى كورسيكا بعد أن اتهم - زورا على ما يبدو - بالزنا مع أخت الإمبراطور، ثم دعي فيما بعد لتعليم نيرون الصغير الذي أمره لاحقا بالانتحار، واشتهر بالعديد من الصفات الرواقية. ثم يأتي الرواق الأوسط - وهو مرحلة وسيطة بين الرواق الأول لزينون وكريسيبوس والرواقيين المتأخرين من الإمبراطورية الرومانية - الخاص بكل من بانيتيوس وبوسيدونيوس، المفكرين المبدعين اللذين قدما الرواقية إلى العالم الروماني في القرن الثاني قبل الميلاد.
كان على من يتبع الرواقية أثناء العصر الروماني أن يسلك إحدى هذه الطرق الثلاث، وإن كانت الطرق كلها تؤدي إلى مكان واحد؛ لوجود سمات عامة مشتركة تجمع بينها. تتكون هذه السمات من مزيج من أفكار زينون التي كونها خلال رحلته الفكرية عبر المدارس الفلسفية الأثينية. وكان الكلبيون من أبرز معلميه، حيث قالوا إن الفضيلة هي الشيء الوحيد الجدير بالاهتمام، وكانوا يعنون بذلك أن القيم التي يقوم عليها المجتمع التقليدي أمور غير ذات جدوى، وأنه يجب أن يعاد النظر في أهميتها وإنزالها منزلة ثانوية. وقد اعتنق زينون هذه الطريقة الانطوائية الانعزالية للحياة التي أخذها من الكلبيين، وهو ما جعل فلسفته تبدو جافة وعسيرة بالنسبة للطبقات العليا في الإمبراطورية الرومانية (لم يهتم أهل السلطة والنفوذ داخل الإمبراطورية كثيرا بالأسلوب غير التقليدي الفج الذي تبناه الكلبيون مثل ديوجين في حوضه الشهير، وكذلك لم ينجذبوا إلى الأفكار الثورية الأخرى التي تأثرت بالفكر الكلبي في الأعمال السياسية الأولى للرواقيين، ورسمت هذه الكتب الطوباوية - المعنونة عادة «الجمهورية» قياسا على جمهورية أفلاطون - صورة لعالم يحظر فيه دخول المباني العامة، في حين يجوز فيه سفاح ذوي القربى وأكل لحوم البشر وإنتاج ملابس موحدة للجنسين).
ويدين زينون بكثير من علمه للأفلاطونيين كما يدين للكلبيين. ويبدو أنه أعجب بفكر أفلاطون وقصته عن كيفية الخلق التي ذكرها أفلاطون في محاورة «طيمايوس»، والتي تحكي أن العالم قد تكون وصمم بفعل عبقرية خيرة. فوجد زينون في هذه القصة ما يخفف من مصاعب الحياة ومتاعبها؛ حيث جعلت من الممكن احتمال المشاق والصبر عليها ما دام كل شيء مصمما ليسير العالم للأفضل، حتى وإن بدا على السطح خلاف ذلك. ويرى الرواقيون - كما يرى هرقليطس - أن أحد أهم أسباب السعادة يكمن في تعلم كيفية العيش في ظل الظروف المختلفة والتكيف معها، ما دامت الحياة في ظلها أمرا لا مفر منه، أو كما يقول أحد الرواقيين اللاحقين: «لا تتوقع أن يحدث كل أمر على هواك، وليكن هواك مع الأمر كيفما يحدث، وساعتها ستنعم بحياة هادئة.»
وهذا التوق إلى الهدوء يذكرنا بفكرة السكينة لدى الأبيقوريين؛ حيث نرى تأكيد الكاتب نفسه على أن المشكلات الحقيقية محلها العقل:
الأشياء في حد ذاتها لا تسبب الكرب للإنسان، وإنما آراؤه فيها؛ فليس الموت أمرا مخيفا، فسقراط نفسه لم يعتقد في ذلك، وإنما مكمن المشكلة في اعتقادنا أن الموت كذلك؛ ولذلك إذا ما أصابنا العجز أو القلق أو الحزن، فلا يجب أن نلقي باللائمة على أي شيء أو شخص سوى أنفسنا؛ أي إن علينا أن نلوم اعتقاداتنا.
ولكن التعامل الرواقي مع الأحكام الخاطئة كان مختلفا تماما عن تعامل أبيقور، سواء من حيث المادة أو الأسلوب، على الأقل خلال الأيام الأولى للرواقية. وعلى خلاف الأبيقورية كان للرواقية جانب أكاديمي؛ فقد درس زينون في أكاديمية أفلاطون واقتبس من طريقتها. وكان الرواقيون مسئولين عن شيوع استخدام المصطلحات الفلسفية، في حين أن أبيقور كان يفضل استخدام الكلمات المألوفة العادية؛ حتى لا يقع المرء في دوامة من المصطلحات المتخصصة. وكان كثير من الرواقيين الأوائل يهتمون بالأسئلة الفنية للمنطق، التي انصرف عنها الأبيقوريون (وإن اشتغلوا لفترة بالأسئلة المجردة التي تدور حول اللغة)، فنجد أن 300 كتاب من كتب كريسيبوس تناقش مسائل في المنطق. وهذا الموضوع كان ذا أهمية لدى الرواقيين نظرا للدور الذي لعبه في إنتاج المعرفة، فالمنطق يساعدك على استخراج استدلالات من أمور تدركها بالفعل؛ وبذلك فإنه يهديك إلى الأحكام السديدة، وقد وجد كريسيبوس متعة في المنطق لذاته، فكتب طائفة كبيرة من الألغاز والأحاجي، مثل ذلك اللغز الذي يحكي عن رجل يقول: «إن حديثي الآن هو محض زيف.»
وفضلا عن اختلافات الأسلوب والمنهج؛ فإن قسطا كبيرا من الاختلاف بين الرواقية والأبيقورية يرجع إلى آرائهم المتعارضة بشأن الطبيعة. فعلى الرغم من اتفاق الرواقيين مع الأبيقوريين على أن الناس لا يدركون كنه العالم الذي يعيشون فيه، وهو ما يوقعهم في براثن القلق والاضطراب بشأن الطرق التي يستطيعون بها العيش ويسلكون بها في الحياة، فقد كانوا يعتقدون أن الأبيقوريين لا يقلون عن غيرهم جهلا بهذه الأمور، إن لم يكونوا هم أكثر الناس جهلا بها. ويرى الرواقيون أن الأبيقوريين قد أصابوا في أمر واحد فقط، هو أن الأشياء كلها مادية؛ فقد كان الأبيقوريون والرواقيون من المؤمنين بالمادية على عكس أفلاطون وأرسطو، فهم يرون أنه ليس هناك عالمان - كما اعتقد أفلاطون - يتكون أحدهما من الأشياء المادية والآخر من انعكاساتها المثالية أو الأرواح، فيعتقد الرواقيون أن المثل الأفلاطونية محض مصطلحات عقلية. وبما أن العقل مادة في الأساس فإن هذه الأفكار مادية هي الأخرى. أما فيما يخص الروح فإن أفلاطون قد أخطأ - في نظرهم - حين اعتقد أنها تتكون من شيء غير مادي، كما أن أرسطو أخطأ في نظر الرواقيين كذلك عندما نفى أن تكون الروح مصنوعة من أي شيء على الإطلاق؛ فالأبيقوريون والرواقيون يظنون أن الروح مصنوعة من المادة التي خلق منها سائر الأشياء. وفيما عدا ذلك تتناقض المدرستان الهيلينستيتان فيما عدا ذلك من مسائل وقضايا.
قال الأبيقوريون إن العالم هو نتاج عشوائي لقوى غير منتظمة، أما الرواقيون فرأوا أن العالم مصمم بنظام دقيق يراعي أدق التفاصيل. وكذلك ظن الأبيقوريون أن آلية العمل في الكون لا تراعي هدفا محددا وإنما تعمل بعشوائية، وأن الآلهة في راحة أبدية، أما الرواقيون فقد اعتقدوا في أن ربا خيرا يحيط العالم برعايته، فيما زعم الأبيقوريون أن عمل الطبيعة ليس محددا سلفا؛ فهي تعمل وفقا للانحرافات العشوائية للذرات، أما الرواقيون فأكدوا أن جميع الأشياء تسير تبعا للقدر على هيئة سلاسل متتالية من الأسباب والنتائج، وأن هذه العمليات ستستمر دوما في حلقة كونية من التكون والضمور. وذهب الأبيقوريون إلى أن كل فرد حر تماما في أفعاله وسلوكه، أما الرواقيون فنفوا تلك الحرية لإيمانهم بفكرة القدر (ولكنهم مع ذلك قالوا إن كل فرد مسئول أخلاقيا عن تصرفاته). كما ظن الأبيقوريون أن الواقع يتكون من ذرات تلتحم ببعضها عن طريق الصدفة في الفراغ لتكوين كل ما نراه، أما الرواقيون فجزموا بأن المادة تنصهر بفعل حرارة نار تقوم بتشكيلها وتصميمها وتوجيهها لتكوين أشكال مختلفة، وأن الذرات ليس لها علاقة بهذا الأمر.
وكما هو الحال في قضية الأخلاق، نجد أن آراء الرواقيين في الفيزياء والفلك مستقاة من خليط من المصادر القديمة؛ فقد استبدلوا العناصر الأربعة القديمة من تراب وماء وهواء ونار بفكرة الذرات، وكانت قصصهم السطحية التي تدور حول الظواهر الفلكية والطقس والموضوعات الأخرى - التي كان من شأنها جذب الفضول اليوناني - مجموعة من الأفكار التي كانت سائدة لدى فلاسفة الطبيعة الأوائل قبل ذلك بقرنين من الزمان. ويبدو كذلك أن الرواقيين قد اعتمدوا كثيرا على صورة هرقليطس التي رسمها للعالم؛ فقد كان يضع النار في مكانة تعلو بقية العناصر. وقد رأى الرواقيون أن هواءها الساخن (الذي كانوا يسمونه «نيوما») له أهمية كبرى. فقد كانوا يتحدثون عن هذا الهواء وعن الإله وعن المبدأ المنظم للطبيعة، كما لو كانوا يتحدثون عن شيء واحد، وهو ما يذكرنا بفكرة هرقليطس الغامضة حول عقل على شكل النار أو روح تبث الحياة في العالم. كان هرقليطس على ما يبدو يعتقد أن الكون يدمر ثم يبنى بشكل دائم، حيث يلقى العالم مصيره من الدمار عن طريق نار كونية قبل أن يبدأ في التكون من جديد. وسواء أكان هذا اعتقاده بالفعل أم أن هذه الفكرة قد نسبت إليه فيما بعد، فقد رحب الرواقيون بالفكرة بكل تأكيد. وبما أنهم كانوا يعتقدون في سير الكون وفقا للعناية الإلهية فإن هذا يعني أن كل دورة من دورات تاريخ العالم من المفترض أن تكون متساوية، لأنه لا يوجد سوى طريقة واحدة تعمل بها الأشياء؛ لذا فإن العناية الإلهية ستسلك نفس الطريق في كل مرة، وما من جدوى وراء محاولة العبث بالطريقة المثلى لعمل الأشياء.
ولعل الجديد في فيزياء الرواقيين هو استخدامهم لفكرة الاختلاط التام أو التداخل؛ من أجل شرح الطريقة التي يدخل بها الهواء الساخن إلى أشكال المادة فيتخللها ليبث فيها الحياة. ولفهم هذه العملية يمكن أن ننظر إلى الاختلاف بين نوعين من المركبات المادية: في النوع الأول تلتصق بعض الأجزاء الصغيرة بالبعض مثلما تلتصق الحجارة ببعضها عند بناء المنازل، والنوع الثاني تختلط فيه المواد معا كامتزاج الماء بالخمر. ويعتقد الأبيقوريون وغيرهم من الذريين أن الأشياء العادية كالأشجار والناس والمنازل على سبيل المثال تشكلت بالطريقة الأولى، فالذرات الداخلة في تكوين مثل هذه الأشياء في اعتقادهم تلتحم ولكنها لا تتداخل أو تختلط. أما الرواقيون فكانوا يرون أن العالم الفيزيقي ما هو إلا خليط محكم الخلط تتداخل فيه العناصر، فكانوا يعتقدون أن المواد المختلفة يمكنها الاختلاط والتداخل لتنتج كلا متجانسا، وبنفس الطريقة يتخلل الهواء الساخن المواد الأخرى ويمتزج بها، ليصبح العالم وجودا مركبا من أشكال المادة المختلفة يوجد فيه هذا الهواء الساخن في كل مكان.
أما عن الطريقة التي يشكل بها هذا الهواء الساخن العالم ويتحكم في سيره، فإننا لا نقع إلا على حجج وتفسيرات مضطربة. فلم يرغب الرواقيون في الاستغراق في التفاصيل، إلا أن بعض أفكارهم استحثت بعض مؤرخي العلم إلى البحث في الطريقة التي استطاعوا من خلالها التنبؤ ببعض الاكتشافات الحديثة. فقد قيل إن تموجات الطاقة التي يحدثها الهواء الساخن المنتشر في العالم الفيزيقي تشبه «مجالات القوة» الفيزيائية المكتشفة في القرن التاسع عشر، كما أن اختلاط الهواء الساخن النشط بالمادة السالبة يذكرنا بفكرة توازن الطاقة والمادة الموجودة في نظريات أينشتاين، بل إن بعض العلماء الذين جاءوا من بعد أينشتاين قدموا أوصافا للعالم لو رآها الرواقيون لصدقوا عليها:
إن وحدة الطاقة موجودة تحت جميع أشكال المادة وتجلياتها في الحياة كما تقول نظرية أينشتاين. ولكن هذه الوحدة لا تتشكل فقط لتظهر في أشكال هائلة التنوع من الموجودات، بل يمكنها أن تنتج أنماطا من الحياة أكثر تعقيدا، بدءا بفقاعة الغاز الموجودة في البلازما البدائية وانتهاء بتركيب المخ الإنساني المتناهي التعقيد.
وكما حدث في فيزياء أرسطو فإن فيزياء الرواقيين شهدت أعظم لحظاتها عندما شرعت في البحث في مصطلحات المكان والزمان والأبدية أو اللانهائية، ولكن هذه المسائل شبه الرياضية يجب ألا تشغلنا عن اهتمامنا الرئيس، ألا وهو نظرة الرواقيين الكلية للطبيعة وتأثيرها على فلسفة الحياة لديهم، ما دامت تلك الفلسفة تحتل القدر الأكبر من إرثهم الثقافي.
إن أهم ما يميز الرواقية هو سلوك التسليم والإذعان الذي يمكن فهمه وإدراكه إذا كان الكون يسير بالفعل وفقا للرؤية الرواقية. فإذا كان القدر يحكم العالم بحيث لا يصبح في مقدورنا أن نغير فيه أو نبدل، فمن الأفضل أن نكون واقعيين ولا نتنبأ إلا بحدوث ما يمكن حدوثه كما يقول أبيقور: «أن تتمنى حدوث الشيء على الوجه الذي يحدث به فعلا.» فلا داعي أبدا أن يشغل الإنسان نفسه بتغيير أمور لن تتغير، كما أنه لا داعي إلى التعلق بأشياء لا مفر من زوالها. وينبغي ألا نتعلق بشيء هو رهينة للأقدار؛ فأي شيء من شأنه أن يسبب للإنسان الحزن يجب التخلي عنه راضيا قبل أن ينتزعه القدر منه رغما عنه ويصيره هباء. والمقصود من التخلي عن الشيء هو عدم الاكتراث به؛ فلا ينال هذا الشيء حظا من رعاية الإنسان واهتمامه:
لا تقل عن شيء أبدا: «لقد فقدت هذا الشيء»، بل قل: «لقد أعدته مكانه.» فإذا ما مات ولدك فقد عاد إلى مكانه، وإذا ماتت زوجك فقد عادت إلى مكانها، ولا تقل: «لقد خسرت مزرعتي.» بل قل إنها عادت إلى مكانها. ولا تقل: «إن من أخذ ممتلكاتي وغد.» فأنت لا يهمك من امتلك الشيء ما دام من أعطاك إياه قد استرده. فما دام قد منحك شيئا فلتعتن به كأنه أمانة بين يديك، بالضبط كحال المسافر مع النزل.
إن أفضل الطرق التي تساعدك على تقبل فكرة القدر هو أن تسافر بحمولة خفيفة، فاعتبر أنك قد فقدت بالفعل الأشياء التي من الممكن أن تفقدها، عندئذ ستجد نفسك في مأمن من صروف الدهر. لقد فرق إبيكتيتوس بين الأشياء الواقعة في نطاق قدرتنا - ألا وهي أفكارنا ورغباتنا - والأشياء التي ليس لنا عليها سلطان مثل الحوادث التي تتعرض لها أجسادنا أو عائلتنا وأهلونا أو ممتلكاتنا أو سمعتنا أو ثرواتنا. وقال إنك لو كبحت مشاعرك أو أعدت توجيهها بحيث تستطيع التركيز على ما يقع في نطاق قدرتك وتجاهل ما عدا ذلك؛ «فلن يتمكن أحد من إكراهك على فعل ما أو صرفك عن فعل آخر، ولن يلحق بك أي ضرر.» «انسحب إلى داخل نفسك.» هكذا يقول ماركوس أوريليوس الذي قضى قسطا كبيرا من عمره إمبراطورا يبعد الغزاة عن مملكته، ويبدو أنه قد رأى في الفلسفة سلاحا للدفاع عن النفس. كما شجع سينيكا على تنفيذ انسحاب تكتيكي إلى مواقع أكثر أمنا في النفس: «إن الرجل السعيد ليس ذاك الذي يحسبه العامة سعيدا؛ أي ليس ذاك الرجل الذي تكتظ خزائنه بالأموال، ولكنه هذا الذي فاضت نفسه ثراء.» وهذا يذكرنا بحديث سقراط الذي كان يرى أن سعادة الروح ورخاءها أهم ما في الحياة قاطبة. والسعادة الروحية تعني السعادة الأخلاقية؛ فالفضيلة هي الشيء الوحيد الذي يزكي النفس، والخطيئة هي الشيء الوحيد الذي يلحق بها الأذى. وقد اعتقد بعض الكلبيين أن هذا يعني رفضا كاملا للحياة التقليدية، عن طريق السخرية من هؤلاء الذين لا يرون معنى للحياة، وكان الرواقيون يتفقون مع الكلبيين في رؤيتهم للأشياء الظاهرية، فيكتب سينيكا: «إنني أنكر تماما أن تكون الثروة أمرا صالحا أو طيبا؛ لأنها لو كانت كذلك لأصلحت أحوال الناس. وبما أن الثروة قد تكون أحيانا في أيدي أراذل البشر؛ فلا يمكن أن نعتبرها شيئا صالحا.» ولكن الرواقيين أخذوا موقفا أكثر جدية وحكمة تجاه الأخلاق مقارنة بالكلبيين. كما حظي موقفهم بقبول شعبي أكثر من موقف سقراط. ولم تكن السخرية من الذين لم يتمكنوا من معرفة أهمية نقاء الروح كافية مثلما فعل ديوجين عندما ارتدى ثيابا بالية، وأخذ يصرخ من داخل حوضه. كما لم يكن كافيا إقناع رجل أو رجلين بهذه الفكرة كما كان يفعل سقراط. بل رأى الرواقيون أنه ينبغي اقتحام الحياة العامة لنشر الفضيلة ودحر الرذيلة.
أما النفس التي قال ماركوس إن على المرء الانسحاب إلى داخلها فهي نفس «عقلانية ذات قوة وسلطان»؛ فهي تشبه العقل الكوني الذي يسير العالم وينظمه، وهي تعد في الحقيقة جزءا من هذا العقل الشامل. فالروح هي الحصن الأمامي لإمبراطورية الطبيعة، تماما كما يتحكم الهواء الساخن في تسيير الكون على الوجه الأكمل؛ ولذلك يجب على الرجل الحكيم الفاضل أن توجهه روحه العاقلة، فإذا استمع إليها ولم ينحرف عن الطريق بفعل العواطف الجانحة، فإن هذا يتفق مع الوصية الأولى من وصايا الأخلاق الرواقية، وهي الحياة في انسجام مع الطبيعة. وبذلك يعرف دوره في خطة عمل الكون وكيف يؤديه على الوجه الأكمل؛ فالإنسان الذي استطاع أن ينسجم مع نوازل القدر، وخاض رحلة الحياة خفيفا دون متاع، واقتصرت اهتماماته على أمور الروح والفضيلة، وأدى دوره وواجبه في خطة العالم؛ يستحق أن يصبح نموذجا وبطلا يفتخر به البشر أجمعون.
وقد ترك الرواقيون من خلفهم إرثا ضخما فيما يتعلق بالتناول السليم لمسألة الموت، شأنهم في ذلك شأن الأبيقوريين. ولكن في الوقت الذي قال فيه الأبيقوريون إن الموقف الأمثل من الموت هو تجاهله حين قالوا: «إن الموت لا يعنينا ولا نلقي له بالا.» فإن الرواقيين وجدوا أن الموت تذكرة للإنسان بالقدر وبانعدام قيمة كل ما هو دنيوي. فرأى ماركيوس أن قصر الحياة من الأمور التي تمنحنا السلوان، حيث قال: «لا تحزن؛ فكل أمر يمضي وفقا لسنة الكون، وعما قريب ستصير عدما تماما كما هو حال هادريان وأغسطس.» وجدير بالذكر أن الرواقيين يرون أنه حين تستحيل الحياة وفق مبادئ الفضيلة الرواقية، فإن الموت يصبح دائما خيارا متاحا. فقد ورث الرواقيون من أساتذتهم الكلبيين الانشغال بفكرة الانتحار؛ فالكلبيون قالوا إن الإنسان الذي لا يقدر على حياة عاقلة رشيدة، له أن يلجأ للموت بوصفه ملاذا نهائيا، وبهذه الطريقة فإن الفضيلة لا تقع إلا في أحد هذين الاختيارين. ويبدو أن بعض معاصريهم حين أخذوا منهم الفكرة غلوا فيها غلوا كبيرا؛ فقد قال بعض الفلاسفة من مدرسة قريبة من الفكر الرواقي إن ثمة طريقة واحدة لا خلاف عليها لتجنب مصاعب الحياة التي لا مفر منها، ألا وهي الانتحار دون تردد. وكان هناك فيلسوف يدعى هيجيسياس لقب ب «خطيب الموت» لتأييده الشديد لهذه الفكرة، وحرمت محاضراته بعد تفشي ظاهرة الانتحار بين الناس. لم يذهب أحد من الرواقيين إلى هذا الحد، وإن كان سينيكا قد انشغل بهذه الفكرة كثيرا، فقال إنها تأكيد على حرية الإنسان. فكان يتساءل عن الطريق المفضي إلى الحرية، ولاحقا توصل إلى إجابة مفادها أن قطع أي عرق في جسدك هو الطريق إليها.
لم يصعب على سينيكا أن يجد الأسباب التي تمنعه من الإقدام على الانتحار - على الأقل في كتاباته - وهو ما جعل فكره لا يتناغم مع فكر الرواقية بشكل عام. وعلى ما يبدو أنه لم يلجأ إليه إلا بعد أن اضطر إلى ذلك، ولكن يبدو أنه آثر الهروب من ساحة القتال ببساطة. أما سلوك إبيكتيتوس فكان أكثر اتساقا بالنسبة للإنسان الرواقي؛ فقد قال إنه ما دام الإنسان لا ينبغي أن ينشغل بما يصيب جسده فإن سائر أشكال المعاناة التي يسببها الجسد لا تمثل مبررا للانتحار، وإن وجدت بعض الظروف التي تغري به، فلا يمكن - في رأيه - أن يقدم الإنسان على مثل هذه الخطوة الخطيرة إلا بأمر من الإله. ولكن يبدو أن إبيكتيتوس كان ينسى هذا الكلام أحيانا فيرى أن الموت هو السبيل للخلاص من المشكلات القديمة المتراكمة. وقد شبه ذات مرة الانتحار بأنه ليس سوى خروج من غرفة مختنقة بالدخان. وهناك قصة قديمة تذكر أن زينون - وهو رائد المذهب الرواقي - أتى على ذكر فكرة الانتحار، فيقال إنه قد تعثر يوما ما وانكسر إصبع قدمه فانتحر لهذا السبب على الفور.
ربما ألفت هذه القصة للتهكم على آراء الرواقية. أما السبب الرئيس الذي جعل الرواقيين مهتمين بقضية الانتحار هو كونها تعد رمزا قويا للفلسفة التي استطاعت أن تعلو فوق أساليب المجتمع الأنانية المسرفة، فالإنسان الرواقي كان يزعم أنه لا يرى أهمية تذكر للمفاضلة بين الحياة والموت إذا ما قورنت بالمفاضلة بين الفضيلة والرذيلة. فوجود الرغبة في الانتحار يبين أن للمرء مثلا عليا لا يمكن التضحية بها تحت أي ظرف، وأن المرء على استعداد دائم لطاعة الإله أو «الطبيعة الكونية»، مهما كانت الأوامر. وإذا كانت قصة زينون صحيحة فلنا أن نعتقد أنه ظن أن تعثره هذا يعد علامة على أنه قد حان أجله.
وهناك العديد من القصص والحكايات التي تدور حول فكرة الانتحار في الأدب الرواقي المتأخر، ومن إحدى قصص البطولة القديمة عند الرواقيين قصة كاتو الأصغر (95-46ق.م.) كما وصفها بلوتارخ في كتابه الشهير «حيوات». أقدم كاتو - الذي كان من أكبر خصوم قيصر وكان يوصف بأنه رجل يحظى بالنزاهة المطلقة - على الانتحار مفضلا إياه على الخضوع لحاكم مستبد، بعدما رأى رجوح كفته عليه. وفي الليلة الأخيرة كما يروي بلوتارخ قام كاتو بالدفاع عن كثير من الأفكار الرواقية أثناء عشائه، ثم ذهب إلى غرفته وقرأ في محاورة أفلاطون «فيدون» - التي يذهب فيها سقراط إلى أن الفيلسوف الحقيقي هو الذي يقضي حياته كلها استعدادا للموت - ثم قام بعدها بقتل نفسه، فأصبح منذ ذلك الحين قديسا رواقيا. وبعد أن أصبحت الرواقية مذهبا فلسفيا عتيقا خلال القرن الثالث الميلادي، كان ينظر إلى كاتو على أنه نموذج للشخصية الصالحة الأبية، كما أصبح رمزا للواجب والإحسان والصبر، وأثبتت رباطة جأشه أن إخلاص الرواقي إلى الفضيلة هو أمر ممكن؛ فقد وضعت الرواقية المبادئ الأخلاقية الرفيعة، أما كاتو فقد برهن على أنه ليس من العسير الوصول إلى هذه المبادئ والتحلي بها.
إلا أن الحديث عن الأخلاق لدى الرواقيين باعث على الحيرة لما فيه من تناقض. فإذا كان كل شيء يعمل وفق القدر فما الفائدة من إسداء النصح أو محاولة إصلاح النفس أو الاقتداء بنموذج صالح؟ فليس بمقدور الإنسان أن يبدل من نفسه أو من أي شيء من حوله، وإذا كانت الأشياء كلها تعمل وفقا لسلسلة من الأسباب والنتائج، وإذا كان العقل نفسه شيئا ماديا كما يرى الرواقيون؛ فكيف إذن لأفكارنا ومشاعرنا أن تتحرر من أغلال هذه الحتمية؟ لا شك أن الرواقيين كانوا متناقضين حين قالوا إن بعض الأشياء تقع تحت تصرفنا وسيطرتنا، وبعضها الآخر ليس كذلك، فإذا صدق قولهم عن القدر، فلم يعد هناك ما يقع تحت تصرفنا.
وقد استغل بعض معارضي الرواقية هذه النقطة وحاولوا أن ينصبوا للرواقية المشانق. فقالوا إنه وفقا لرؤية الرواقيين فإن فكرة القدر تعني أن الإنسان غير ملوم على أفعال الشر التي يرتكبها، وإنه:
من المفترض أن تقع اللائمة على ضرورة حتمية نابعة من القدر تتحكم في كل شيء، ومن خلال هذه الضرورة يحدث كل ما ينبغي له أن يحدث، وعلى هذا الأساس فإن العقوبات التي يوقعها القانون على المجرمين ليست عادلة، ما دام الناس لا يقدمون على ارتكاب الشرور بمحض إرادتهم، لكن القدر يحملهم على ذلك.
ولكن الرواقيين رفضوا هذا التحليل دون أدنى شك. فقد أكدوا على أهمية وجود مسئولية واقعة على الناس فيما يخص أفعالهم وسلوكهم، تماما كما قال الأبيقوريون. فإذا لم يكونوا مسئولين فلا داعي إذن لأن تقدم إليهم النصائح الفلسفية أو العلاج الروحي. وقد أنكر الأبيقوريون ببساطة فكرة القدر مستعيضين عنها بفكرة الانحراف العشوائي للذرات لكسر سلسلة الأسباب والنتائج، فرفضوا فكرة حدوث الشيء لحتمية حدوثه، أما الرواقيون فقد شددوا على هذه الحتمية؛ ولذلك فقد حاولوا البحث عن مخرج يخلصهم من المشكلة التي تستدعيها فكرة القدر. وهنا نجد أن جزءا من إجابتهم عن هذا التساؤل يأتي بشكل مختزل في قصة أخرى صغيرة عن زينون، وتقول القصة إن زينون كان يجلد عبدا بتهمة السرقة، فقال له العبد: «إنما القدر هو الذي جعلني أسرق.» فرد عليه زينون: «وإنما القدر هو من جعلك تجلد.» والمغزى أن وجود القدر ليس من شأنه تغيير كل أنماط السلوك، فيمكنك أن تستمر في العقاب وإلقاء المواعظ ولوم الآخرين ومدحهم بشكل طبيعي، وكل ما في الأمر أنه على الإنسان أن يعترف أن كل شيء يحدث في الوجود - بما في ذلك أفعاله - إنما يقع تحت إمرة القدر. وبهذا فقد كان قدر كاتو أن يصبح بطلا، أما قيصر فقدره أن صار طاغية. أما زينون وكريسيبوس وإبيكتيتوس والفلاسفة الرواقيون الآخرون فقدر لهم أن يبحثوا في مسائل الفضيلة والواجب والعقل وما إلى ذلك.
ولكن حكاية جلد ذلك العبد لا تعطي سوى صورة هزلية لإجابة الرواقيين عن مسألة القدر. وأدرك كريسيبوس أنه من أجل إحراز أي تقدم في هذه المسألة فإنه يجب على المرء أن ينظر بشكل أدق إلى طبيعة عمل القدر والغرض الذي وجد من أجله. فكان يرى أن فكرة القدر تعني أن كل شيء يحدث ما هو إلا نتيجة لسلسلة من المقدمات. وأشار أنه لو كان هذا بالفعل معنى القدر، فإن كثيرا من الهجوم على الرواقية يمكن دفعه وتنحيته جانبا. فعلى سبيل المثال كان كثير من خلفاء أفلاطون في الأكاديمية يسخرون من الرواقية ناعتين إياها باسم «الجدل الخامل»؛ وذلك لأنهم ظنوا أنه ما دام هناك ما يسمى بالقدر فليس من المعقول إذن أن نحاول القيام بأي شيء. واستمر الجدال على هذه الشاكلة، فضربوا مثالا ذكروا فيه أن قدر الإنسان إذا كان مريضا إما أن يشفى أو ألا يشفى دون أن تكون له حيلة في ذلك. فإذا كان قدره أن يشفى فليس من الضروري استدعاء الطبيب، وإذا كان مقدرا له ألا يشفى فاستدعاء الطبيب سيكون ضربا من العبث. ومن ثم ففي كلتا الحالتين ليست هناك ضرورة تستدعي أن يحصل الإنسان على رعاية طبية. وهذا يشبه الفكرة القائلة إنه ليس من داع لحذر الجندي خلال الحرب، فإما كتب عليه الموت أو لم يكتب، فلا يمنع حذر من قدر.
وقد وضع كريسيبوس يده على موضع الخطأ في هذه القضية المنطقية. فقال إنه لا شك أن للإنسان أحد مصيرين: إما شفاء أو سقم. ولكنه أشار إلى أن الرعاية التي يقدمها الطبيب قد تكون سببا في تحقيق الشفاء؛ ومن ثم فلا يصح أن ندعي أن الاستعانة بالطبيب لن تغني عن الإنسان شيئا. ومكمن الخدعة في ذلك «الجدل الخامل» هو أنه يغض الطرف عن أن أفعال البشر - شأنها شأن سائر الأحداث الأخرى التي تقع في العالم - قد تكون لها تأثيرات من شأنها صياغة المستقبل. فالإنسان عندما يستدعي الطبيب لا يعرف إذا ما كان سيبرأ من مرضه أم سيموت، ولكنه رغم ذلك يدرك أن أفعاله يمكن أن ترجح كفة أحد الاحتمالين. وهذه الأفعال قد تكون مقدرة سلفا بشكل من الأشكال؛ وبذلك لا يمكن أن ندعي أن أفعال البشر لا تؤثر ولا تأتي بجديد.
وكذلك يمكننا الرد على فكرة عدم جدوى استدعاء الطبيب بالقول إن هناك أهمية للاستعانة بالطبيب لأن هذا يزيد من نسبة الشفاء. كما أن هناك أهمية لعقاب الناس؛ لأن هذا من شأنه أن يجعلهم يحجمون عن فعل الشر في المستقبل، كما أن هناك أهمية لإسداء النصح وتقديم العلاج؛ لأن هذا يساعد الناس على تحقيق السعادة. بيد أن المسألة لا تحل بهذه البساطة، فلو كانت أفعالنا ستغير من مجريات الأمور فإنه لا يزال من الصعب تصور كيف يمكن أن نكون مسئولين عنها. فكيف أكون مسئولا عن أفعالي وأفكاري ما دامت هي محض نتائج لأسباب سابقة؟ ولكن كريسيبوس قال إن بحث هذه المسألة يتطلب مزيدا من الدقة؛ فقد كان يعتقد كغيره من الرواقيين أننا أحرار ومخيرون من ناحية ومسيرون من ناحية أخرى، فقبل تفكيرنا بأمر أو إقدامنا على فعل، يتوقف ما نفكر فيه أو ننفذه على مسببات سابقة؛ ولهذا فإننا لسنا أحرارا. وعلى الجانب الآخر نجد أن بعض هذه الأسباب يتعلق بشخصياتنا، ومن هذا المنطلق فإننا مسئولون عن أفكارنا وأفعالنا.
وقد شرح كريسيبوس مقصده بمثال بسيط. فقد قال: خذ أسطوانة وادفعها إلى أسفل منحدر. لماذا تستمر في الدوران؟ إن سبب دورانها يعود جزئيا إلى دفعك لها؛ فهي تدور استجابة لهذه الدفعة، ولكن هناك سببا آخر وراء دورانها يتمثل في كونها أسطوانية الشكل وليست مكعبة على سبيل المثال، فلو كانت مكعبة لما كانت دفعتك اليسيرة كافية لدورانها إلى أسفل المنحدر؛ لأن شكلها سيحول دون دورانها، وبذلك فإن جزءا من سبب دورانها يقع في طبيعة تكوينها؛ فهي تدور لكونها أسطوانة وليس لمجرد الدفع، الأمر نفسه ينطبق على أفعالنا وأفكارنا، حيث إن بعضها يعد جزءا من طبيعتنا، ويمكن تفسيرها في إطار شخصيتنا تماما، كما أن سلوك الأسطوانة يمكن عزوه إلى شكلها؛ وبذلك فإن حياتنا لا يمكن تفسيرها فقط من خلال القوى الخارجية.
وبذلك استطاع كريسيبوس أن يصد جانبا من هجوم خصومه، ورغم ذلك نتساءل عن مدى نجاحه في تحرير المسئولية الأخلاقية من شباك القدر. فقيصر قد يكون طاغية بسبب شخصيته، ولكن الرواقيين يرون أن الشخصية من فعل القدر، فكيف يمكن إذن أن نقول إن قيصر كان مسئولا عن شخصيته أو عن تصرفاته؟ نخلص في النهاية إلى أن محاولة الرواقيين الجمع بين الإيمان بالقدر والمسئولية الشخصية ليست مقنعة بشكل تام. فلا يزال هناك تناقض بين الفكرتين. ولكن للإنصاف ينبغي ألا نغفل حقيقة أن الرواقيين لم يكونوا الوحيدين الذين وقعوا في تناقض كهذا. ففي مسرحية أسخيلوس التراجيدية «أجاممنون» تتحدث الجوقة عن زيوس المسيطر على قوى الطبيعة، وتصفه بأنه «فاعل كل أمر ومصدر كل شيء»، وتسأل الجوقة عن مقتل أجاممنون: «هل يمكن أن يحدث هذا دون إرادة زيوس العليا؟» ولكن حتى بعد عزو الفعل إلى مشيئة زيوس - فقد استخدم الرواقيون اسم زيوس كثيرا للإشارة إلى القدر - أدانت الجوقة كذلك كليتمنسترا لمسئوليتها عن الإقدام على قتل أجاممنون؛ فلقد أنشدوا قائلين: «من يمكن أن يغفر لك إراقة هذه الدماء؟» وهنا نرى أنه لو كان زيوس (القدر) هو المسئول عن قتل أجاممنون فلا معنى لإدانة كليتمنسترا، ولكن بالنظر في حقائق القضية نجد أنه لا مفر من إدانتها لتورطها في القتل. «فيا له من لغز مثير للشفقة!» كما تقول الجوقة.
ومما جعل الرواقيين يؤمنون بفكرة القدر إيمانهم بفكرة العناية الإلهية. وفي الحقيقة إن كلتا الفكرتين تنبعان من محيط واحد، وهو أن العقل المدبر للعالم يتصف بالحكمة ويرعى دائما مصلحة الإنسان، فكل شيء مخلوق على الوجه الأكمل. ويوضح الرواقيون أنه حتى إن بدا الأمر خلاف ذلك ظاهريا فإن الفهم العميق للطبيعة يقودنا إلى حقيقة كل شيء. لقد قال سينيكا إن المحن ما هي إلا اختبارات. فالمحن تحمل في باطنها منحا. والمحن والشدائد تساعدنا على تنمية قدراتنا على التحمل والصبر وتساعدنا كذلك على تنمية الفضائل الرواقية، وعن هذا يقول:
لماذا يصيب الرب خيار الناس بالمرض أو بالأسى أو بأي من المصائب الأخرى؟ الإجابة تكمن في أن هذا يشبه تكليف أشجع الرجال بالمهام الخطيرة والشاقة في الجيش. وعلى نفس الشاكلة فإن الشجعان إذا ما تعرضوا لمحنة كتلك التي تبكي الجبناء يقولون: «لقد حبانا الرب أسلحة من لدنه كي يختبر قوة تحمل البشر» ... فالآلهة يتعاملون مع الرجال الصالحين تعامل الأساتذة مع تلاميذهم، فهم يكلفون هؤلاء الذين تنعقد عليهم الآمال بمزيد من الواجبات والمهام.
وبذلك فإن جميع ما ينزل بالإنسان من مصائب هو محض فرص جيدة لتطوير الذات. قال كريسيبوس إن الكائنات البسيطة مثل الفئران أو حشرات الفراش التي قد تزعج الإنسان تعد مثالا على ذلك؛ فالفئران تجعل الإنسان يحافظ على النظافة، وحشرات الفراش تمنعنا من النوم بالقدر الزائد عن الحاجة. وكان يعتقد أن هذه الحشرات قد وجدت عن طريق العناية الإلهية لتحقيق هذه الفوائد الغريبة. ويرى الرواقيون أن جميع الأشياء صممت في الأصل لمصلحة الإنسان وخيره، فقد قال كريسيبوس إن الخنازير قد خلقت ولودة من أجل إمدادنا بالكثير من الوجبات الشهية. وإن هذا الطرح لنموذج دقيق لمنهج التفكير الذي يضع الإنسان في مركز الكون، وهو الفكرة المنسوبة زورا لأرسطو. كان الرواقيون - لا الأرسطيون - هم من رأوا أن العناية الإلهية تتدخل في جميع آليات الحياة، وقد استخدموا الفكرة المتعلقة بوجود نظام للعالم دليلا على وجود الإله.
أيضا لم ير الرواقيون العالم كيانا سيئا على أي حال؛ لأنهم لم يعتقدوا في وجود حياة آخرة يصلح فيها كل ما فسد في الحياة الأولى، فالعناية موجودة بالفعل هنا في الدنيا، وهي تتكفل بإصلاح كافة شئوننا وتهدينا إلى الخير، وبذلك فلا حاجة لوجود حساب في السماء بعد ذلك. والعناية الإلهية لا ترعى مصالح الناس وحسب ولكنها سخية وكريمة كذلك تجاه الصالحين من الناس حتى وهم على قيد الحياة.
ولعل هذه من أكبر الاختلافات بين المسيحية الأولى واللاهوت الرواقي. فالمسيحيون لا يقبلون فكرة تحقق العدالة على الأرض؛ فهم يعتقدون كغيرهم أن الأخيار قد يعانون البؤس أحيانا فيما يتقلب الأرذلون في النعيم، ولكن الرواقيين يعتقدون أن الرب أو العناية الإلهية يحفظ أصحاب الفضيلة من الأمور الأعظم خطرا، فيقولون:
إن الرب يحميهم من جميع أنواع الشرور مثل الخطيئة والجريمة والتضليل والطمع والشهوة العمياء والجشع والإضرار بالغير. وإنه يحقق للإنسان الحماية والخلاص. وهنا يثار تساؤل: هل يطلب الإنسان الصالح من الإله أن يحمي أمتعته له أيضا؟ لا، بل الإنسان الصالح ينوب عن الإله في أداء هذه المهمة.
إن أسوأ شيء قد يحدث للإنسان على الإطلاق هو الإقدام على الشرور التي تتنافى مع سلوك الإنسان الصالح. فالإنسان الصالح لا يلحق به الأذى كما قال سقراط. وربما تنتزع منه بعض الأشياء التافهة التي لن يعيرها اهتماما نظرا لصلاح فطرته. ومن خلال هذا التفسير فإن الرواقية تكفل حياة سعيدة للإنسان الصالح. ولكن المسيحيين لم يكن ليقنعهم هذا الحديث عن وجود منح عادلة على الأرض؛ لذا حبذوا أفكارا أكثر قدما كتلك التي توجد في الديانات اليونانية الغامضة، والتي تقول إن الدار الآخرة هي دار الثواب والعقاب التي يتحقق فيها العدل على جميع الخلق.
ولكن أوجه الشبه بين الرواقية والمسيحية تلفت الانتباه مثلما تفعل أوجه الاختلاف. فبعد استثناء فكرة البعث بعد الموت للحساب، نرى أن الرواقيين استخدموا جميع الأفكار التي يستخدمها المسيحيون في تفسير الألم والمعاناة في العالم الذي يحكمه إله مطلق القوة. وفي الحقيقة إن كثيرا من المبادئ الأخلاقية لدى الرواقيين يشبه إلى حد كبير مبادئ الأخلاق المسيحية؛ حتى إن إحدى أساطير العصور الوسطى تقول إنهما قد صارا شيئا واحدا.
لقد كان العالم الرواقي أكثر قابلية لمبادئ الدين المسيحي قياسا بأي مذهب فلسفي آخر. صحيح أن الرواقيين لم يعتقدوا أن الرب قد خلق الكون من العدم - فهذه مسألة لم تكن ترد على بال أحد من اليونانيين القدماء، حيث كانوا يؤمنون بأزلية الكون - وأن الآلهة ليسوا سوى جزء من هذا الكون، كما أن التفكير المادي الرواقي لا يسمح بفكرة وجود أرواح خالدة. ولكنهم كانوا يرون أن الكون منظم ومحكم الصنع ويعمل وفقا لعناية إلهية ترعى الإنسان على وجه الخصوص وتشجع على التحلي بالأخلاق القويمة. ويمكننا أن نقع على كثير من القواعد الأخلاقية المميزة في المسيحية في كتابات الرواقيين الأخلاقية، فكانوا يقولون إن الثروة والمكانة والسلطة - بل وجميع الأشياء التي من شأنها أن تفرق بين البشر - لا قيمة لها على الإطلاق. فجميع الناس سواسية أمام الرعاية الإلهية، ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالفضيلة التي لا يمكن للجميع التحلي بها. ومن هنا كان الرواقيون يؤمنون بفكرة الأخوة الإنسانية؛ فقد كتب سينيكا قائلا: «جعلتنا الطبيعة مترابطين بخلقنا من مادة واحدة ولمصير واحد، وقد غرست فينا مشاعر حب تجاه بعضنا البعض.» وهذا الحب هو أساس الأخلاق. ويقول إبيكتيتوس إنه لا يجب أن تعتبر مصالحك منفصلة عن مصالح الآخرين.
لم يهتم النظام الرواقي فقط بالإيثار والبذل من أجل الآخرين، بل قام على فكرة زيف الحياة وكذبها، وشدد على أهمية دور الضمير في إرشاد الفرد. وأكد إبيكتيتوس كذلك على أهمية نقاء القلب؛ فعلى سبيل المثال: إن مرت من بين يديك امرأة فاتنة، فينبغي ألا تدع لنفسك المجال كي تحدثك قائلة: «يا لحظ زوجها!» وهذه الفكرة تتناغم مع تراث المفكرين المسيحيين الأوائل شأنها شأن العديد من الأفكار الرواقية الأخرى، كفكرة كبت العواطف الجامحة التي يمكن أن تشتت الإنسان عن حياته الهادئة.
وقد شجع الأبيقوريون كذلك فكرة الحياة الهادئة والبسيطة كما رأينا سلفا. وفي الحقيقة، كان جميع المفكرين اليونانيين يسعون خلف هذه الغاية (إلى الدرجة التي تجعلنا نتساءل إن كان أي منهم قد عاش هذه الحياة بالفعل!) ولكن رغم أن الطبيعة قد أوحت بفكرة الحياة الهادئة تلك إلى الرواقيين والأبيقوريين على حد سواء، فثمة اختلاف بين مفهوم الطبيعة لدى كل من الرواقيين والأبيقوريين. فالطبيعة الرواقية أو الرب أو العناية الإلهية كانت عبارة عن عقل يدير الكون لغاية ما، أما الطبيعة لدى الأبيقوريين فكانت كريمة سخية لا تمانع في وجود قليل من المتعة شريطة عدم الإسراف فيها؛ حتى لا يحول ذلك دون نيل الملذات الأكثر رقيا والمتع طويلة الأمد.
وقد قيل إن كلا من الرواقية والأبيقورية يلائم نوعين مختلفين من الشخصيات:
فهناك في عالمنا أولئك الذين يتصفون بالحزم والاستقامة وضبط النفس والشجاعة، الذين يدفعهم دائما الشعور بالواجب فيقدمون التضحيات، ولا يتسامحون مع ضعف النفوس، ويتعاملون أحيانا بقسوة مع المحيطين بهم، ويصعدون جبال البطولة الشاهقة حيث تخضع لهم الرياح، وهم على استعداد لترك الحياة أكثر من استعدادهم للتخلي عن القضية التي يؤمنون بصحتها. وعلى الجانب الآخر، هناك دائما رجال يتسمون بالوداعة واعتدال المزاج واللطف والطيبة واللين، ويتحلون بمشاعر الصداقة الحارة. فهم يتسامحون مع أعدائهم كما أنهم على استعداد دائم لمشاركة الغير في المسرات، ويمقتون الحماسة والتصوف وأوهام اليوتوبيا والخرافات. وتفتقر شخصياتهم إلى العمق وتعوزهم خصال التضحية من أجل الآخرين. ولكنهم مع ذلك يحرصون على إسعاد الآخرين لتصبح الحياة أكثر راحة وانسجاما؛ فالنوع الأول من الرجال رواقيون بالطبيعة، أما النوع الثاني فهم أبيقوريون.
هذه الأنماط التي وضعت أوصافها في العصر الفيكتوري تجعل محاولة التعرف على الشخصيات الرواقية والأبيقورية في محيط صداقات المرء بمنزلة لعبة مسلية. وهذه التوصيفات تلقي الضوء على جانب من الروح السائدة في هاتين الفلسفتين، ولكنها توصيفات منمقة ونمطية جدا لدرجة لا تعطينا فكرة عن شخصيات المفكرين الحقيقيين الذين عاشوا منذ 2000 عام؛ فعلى سبيل المثال لا شك أن كبار الرواقيين كانوا في الحقيقة من ذوي الشخصيات الطيبة التي تضحي من أجل الآخرين، إلا أن سينيكا الذي جمع ثروة طائلة تحت رعاية نيرون لم يكن كذلك؛ فقد طالب فجأة أعيان البريطانيين برد مبالغ طائلة كانوا قد اقترضوها (بعد أن كان قد ضغط عليهم لقبولها)، وهو ما كان أحد أسباب ثورة الملكة بوديكا وتمردها الشهير على الرومان عام 60م. فقد دافع سينيكا في واقع الأمر عن النظرة الرواقية التي لا ترى في الأغنياء - بالمعنى الدقيق للكلمة - صلاحا أو فضيلة تذكر لأن الفضيلة وحدها هي القيمة العظمى، ولكنه كان حريصا على توضيح أنه ليس ثمة سبب لشعور الإنسان بالاستياء من كونه ثريا - على غرار كرويسوس - ما دام يدرك أن الفضيلة هي القيمة الأسمى، حيث يقول سينيكا بكل فخر: «ضع بين يدي ثروة ضخمة وأموالا طائلة، ولن أشعر أنني ازددت معشارا من السعادة.» ولكنه ينصح كذلك بعدم التعجل في إصدار هذا الحكم؛ ولا يفهم من حديثه أن على الإنسان أن يتخلى عن ثروته، إذ ما الذي قد يدفعه لهذا؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا إذن على سينيكا أن ينبذ الغنى إذا كان باستطاعة الإنسان أن يكون فاضلا سواء أكان غنيا أم فقيرا؟
كان ماركوس أوريليوس - إذا ما قورن بسينيكا - مثالا أكثر نبلا على ذلك الجانب الطيب والمتسامح الذي تتصف به الرواقية، بل إنه كان في بعض الجوانب أيضا نموذجا طيبا للشخصية الأبيقورية بشكل يفوق الأبيقوريين أنفسهم؛ فقد كان شخصا ودودا طيبا متسامحا (لا سيما بالنسبة لكونه إمبراطورا) في حين أن أبيقور نفسه لم يكن يمثل نمط الشخصية الأبيقورية تمام التمثيل. فربما كان أبيقور شخصا لطيفا وطيعا بين تلاميذه وأصدقائه، ولكنه كان سريع الغضب مع خصومه من الفلاسفة، وكانت الشخصية المرحة الهادئة تفارقه عند تناول الأمور الجادة؛ فكان يعد جميع الفلاسفة الآخرين خصوما له، بل كان جلفا غليظا تجاه هؤلاء الذين تعلم منهم الكثير على غرار ديموقريطس. •••
وإذا وجد الرواقيون والأبيقوريون صعوبة في العيش وفقا لفلسفاتهم، فلا بد أن الشكوكيين رأوا استحالة الالتزام بفلسفتهم الشكوكية. فكيف يمكن للإنسان أن يشك في كل أمر ويدعي أنه حائر ومرتبك بشأن كل شيء؟ وكيف يمكن أن يحجم عن إصدار الأحكام على جميع المسائل وأن يعيش متخليا عن كافة المعتقدات؟ بل لماذا قد يرغب أي إنسان في هذا؟
ظهرت المدرسة الفلسفية الشكوكية على يد بيرو الإيلي الذي يسبق مولده مولد أبيقور بعشرين عاما، مع أن وفاته تتزامن تقريبا مع وفاة أبيقور (حوالي عام 270ق.م.) ومن الطبيعي أن يصل إلينا القليل عن إنسان يدعي عدم معرفة شيء، فلم يدون الكتابات والنصوص الشكوكية سوى سيكستوس إمبيريكوس الذي عاش إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين بعد 500 عام من وفاة بيرو؛ أي بعد انتهاء الحقبة الهيلينستية. ولكن حافظت الشخصية الشكوكية رغم مرور هذه الفترة الطويلة على رونقها الهيلينستي. وكانت الشكوكية فلسفة حياة تهدف للوصول إلى حالة التحرر من الحزن، من خلال إرشاد الناس إلى ما يجب عدم الاكتراث به، ويقال إن الشكوكية احتفظت بتأثير بيرو عليها حتى في أطوارها المتأخرة والأكثر نضجا.
أما بيرو نفسه فلم يكتب شيئا، ولكنه كان ذا تأثير كبير على معاصريه في أثينا. ويشهد على ذلك ما يروى في الحكايات المعهودة التي تغيب عنها الموضوعية والمعقولية؛ حيث ركزت هذه الحكايات بشكل كبير على تطرفه المزعوم في حب العزلة والانزواء: «كان دائما في نفس الحالة العقلية؛ لدرجة أنه إذا تركه شخص في منتصف حواره فإنه يستكمل الحوار مع نفسه.» وإذا وقع صديق في حفرة ما، كان بيرو يمر عليه مرور الكرام دون أن يلتفت إليه أو يعيره أدنى اهتمام. ونظرا لأن هذا الصديق يتبع مذهب الشكوكية نفسه، فكان يثني على سلوك بيرو الذي لم يعكر الحادث صفو مزاجه. وتحكي قصة أخرى أن بيرو تجاهل جميع المخاطر التي كانت تتردد في وقته لأنه كان يشك في خطورتها، «كان لا يتجنب شيئا ولا يأخذ حذره من أي أمر، وكان يواجه كل أمر كيفما جاءه وأيا كان، سواء أكان عربات تسري في الطريق أو منحدرات أو كلابا تمر به.» ولكن لحسن حظه كان دائما في صحبة أصدقائه الذين لم يكونوا على نفس الدرجة من عدم الاكتراث؛ وبذلك كانوا يعتنون به فيجذبونه بعيدا عن العربات والمركبات القادمة تجاهه. ولا شك أن مهمتهم كانت صعبة؛ لأنه كان «كثير ... الخروج من بيته دون إخبار أحد، هائما على وجهه دون هدف، ومتجولا مع أي شخص يصادفه في طريقه.»
بيرو.
قام أحد المدافعين عنه بعد مرور قرنين على وفاته بنفي كل هذه القصص، وقال إنه على الرغم من أن بيرو قد مارس الفلسفة على أساس الشك في كل شيء، فإنه لم يمارس عدم الاكتراث في تفاصيل حياته اليومية. ومن المؤكد أن هذه هي الحقيقة؛ فربما كان بيرو شديد الهدوء ما جعل أبيقور يثني على هدوئه وسكينته، كما أنه كان يثير الإعجاب لقدرته «على تفنيد كل الحجج والأساليب الإقناعية». لم يكن بيرو أحمق كما ترسمه هذه القصص، فقد عاش حتى قارب عمره التسعين وهو ما يلقي بظلال الشك على القصص التي رويت عن تهوره. إلا أننا لا يمكن أن نلوم أحاديث السخرية والتهكم التي كانت نتيجة منطقية لفلسفته. أما المحير حقا هو أن القصص التي تناولت حياته بشكل اتسم بالجدية تحكي أنه كان يحث الناس على عدم الالتزام برأي واحد أو الثبات عليه، وكان يحذرهم من فكرة ادعاء معرفة أي شيء. وقد عرض لوقيان في القرن الثاني الميلادي في كتابه الساخر «بيع الحيوات» فكرة بيع الكثير من الفلاسفة في السوق، ووضع سعرا ضئيلا لديوجين الكلبي كسعر حيوان منزلي، وأما عن هرقليطس الفيلسوف الغامض فقال إنه لا يباع أبدا حتى بأبخس الأسعار، أما بيرو فقد صوره وهو يشك في أمر بيعه رغم أنه كان محمولا على ظهر شاريه.
بدت الشكوكية المتطرفة فكرة غاية في الغرابة؛ لدرجة جعلت البعض يظن أنها ليست يونانية الأصل. فلا شك أن بيرو صاحب الإسكندر الأكبر في رحلاته إلى الشرق حتى وصل الهند التي يقال إنه قد اكتسب قدرا من شكوكية من كان يطلق عليهم «الفلاسفة العراة» الذين قابلهم هنالك. وفي الحقيقة نجد أن ثمة خيطا يجمع بين نمط عيش هؤلاء الهنود ونمط الحياة الذي يزكيه بيرو. والفلاسفة العراة هم مجموعة من الحكماء الزاهدين، يتبعون ديانة «جين» - وهي فرع من الهندوسية اختلطت به بعض الهرطقات - وكانت هذه الديانة تعد الطعام والملابس من معوقات التفكير السليم؛ ولذلك كانوا يعيشون في الغابات دائما فرارا من الطعام والملابس، ولم يروا غضاضة في أن تتناقض أقوال المرء عند وصفه للعالم اليومي المعيش (وربما لهذا السبب خفت تأثيرهم على الفلسفة الهندية بشدة)؛ وذلك لاعتقادهم أن العبارات العابرة التي يستخدمها الناس تحتمل الصحة في بعض الحالات والكذب في حالات أخرى. كما رأوا أنه من الأهمية بمكان تقليص الأثر الذي تلعبه الحواس على الروح، وقالوا إنه لا ينبغي للإنسان أن يعبأ بمشاعر الجوع أو الألم، وعليه كذلك ألا يعول على كثير مما يسمع أو يرى. وكانوا يرون أن القديس المثالي هو ذلك الرجل الذي يأخذ على عاتقه هذه المهمة حتى يصل بها إلى أعلى درجات الإتقان، فيحقق السكينة والصفاء والطمأنينة.
وعند النظر إلى بعض تعاليم بيرو نجد أنها تبدو شبيهة بذلك إلى حد بعيد:
لا ينبغي لنا الوثوق في حواسنا أو الاعتماد على آرائنا في التفريق بين الحقيقة والكذب، فلا يمكنهما أن يرشدانا إلى الحقيقة، بل علينا أن نتجرد من الآراء ونتحرر من الانحياز وألا نستقر على أمر واحد بخصوص شيء ما، سواء بالإثبات أو النفي، وسيمتنع كل من يأخذ بهذه النصيحة ويلتزم بها عن الكلام بصفة دائمة؛ ومن ثم سيتحرر من كل ما يجلب له الانزعاج أو الضرر.
ورغم أن فلاسفة الهند العراة «تحرروا من الآراء والانحياز» في العديد من الموضوعات، فإنهم كانوا جامدي الفكر متعصبين بشأن المسائل الدينية والكونية، للدرجة التي لا تجعلهم يدخلون في عداد الشكوكيين على النحو الذي يتفق مع الدلالة اليونانية للكلمة. فقد ادعوا معرفة العديد من الأمور كان منها على سبيل المثال هجرة الروح بعد الموت، ومنها أن الكون أزلي وغير مخلوق، وأن كل الأشياء تحيا حاملة قبسا إلهيا بداخلها، وغيرها من الأمور التي يصر الشكوكي الحقيقي على تقبل جميع الآراء بشأنها.
وليس على المرء الذهاب إلى الهند كي يتتبع آراء الشكوكية؛ فكان لدى العديد من فلاسفة اليونان ميول شكوكية عديدة تمثلت في إخضاعهم كل المعتقدات اليومية الشائعة لسلطان البحث. ففي القرن السادس قبل الميلاد، قال زينوفان: «لا يدرك أحد، ولن يدرك أحد أبدا، الحقيقة بشأن الآلهة أو بشأن ما أقول، حتى لو تبين له صحة ما يقول؛ فليس له أن يدرك ذلك في الحقيقة على وجه اليقين، فالأمر لا يعدو كونه مجرد رأي.» وقد لاحظ زينوفان أن الشعوب المختلفة تصف الآلهة وفقا لرؤيتها وخيالها، «يظن أهل إثيوبيا أن آلهتهم لها أنوف فطساء وبشرة سوداء، وأما أهل تراقيا فيظنون أن آلهتهم لها عيون زرقاء وشعور حمراء.» وما هذه سوى تذكرة بعدم عصمة المعتقدات البسيطة التي يؤمن بها الناس؛ إذ لا يمكن بالبديهة أن تصح معتقدات أهل إثيوبيا وأهل تراقيا في نفس الوقت. وقد مهد كل من بارمنيدس وزينون المجال لظهور الشكوكية؛ فقد قال كل منهما إن المعتقدات العادية التي يؤمن بها الناس بشأن العالم غير صحيحة، فرغم أن الجميع كان يظن أن العالم مليء بالحركة والتغير فإن شيئا لم يتغير وظل كل شيء كما هو على حاله. وقد دفعت هذه العقيدة الراسخة بتيمون الفيلياسي - وهو من أشد المؤمنين بشكوكية بيرو - إلى مديح أهل إيليا؛ لأنهم كشفوا الغطاء عن زيف جميع الظواهر التي نقابلها في عالمنا. (وقد صب تيمون جام نقده على الفلاسفة الذين لم تتوافق رؤيتهم والفلسفة الشكوكية بعدما نعتهم بالثرثرة والهذر، وقال إن مؤسس الرواقية الذي لم يترك مذهبا من المذاهب إلا واعتنقه كان أقل ذكاء من آلة البانجو.)
وللسفسطائيين دور كذلك في التمهيد لظهور الشكوكية من خلال هدمهم للأسس التي انبنت عليها آراء العوام من الناس. حيث اشتهر عنهم تبنيهم لنظرة نسبية فيما يخص مسائل الأخلاق والسياسة؛ فيرون أن لكل مجتمع قيمه الخاصة وأنه من السذاجة بمكان أن يظن شخص أن قيم مجتمع ما هي الصحيحة وما عداها خطأ. وقد ثار بعض السفسطائيين - من أمثال بروتاجوراس - على الكم الهائل من النظريات التي دارت حول رؤية العالم والأخلاق ، حيث عارضوا تلك النظريات مؤكدين أن معتقدات كل شخص لا يمكن أن تكون صحيحة ومناسبة إلا لنفسه فحسب، وهو ما يعني أن المعرفة المجردة أمر مستحيل، فليس بالوسع الاستقرار على حقائق واقعية تحدد كنه الأشياء؛ لأن كل اعتقاد قديم لا يختلف كثيرا عن غيره. ونفى زينيادس الكورينثي (الذي عاش إبان عصر بارمنيدس) وجود أي شيء حقيقي. وتبدو هذه الفكرة على نقيض فكرة بروتاجوراس، وإن كان أثر الفكرتين متساويا إلى حد بعيد؛ فسواء أكانت جميع الآراء والمعتقدات جيدة على حد قول بروتاجوراس أم أنها جميعا سيئة كما يقول زينيادس؛ فلا يوجد معيار ثابت يؤكد صحة هذه أو خطأ تلك. وتقول بعض المصادر إن سقراط انتهى إلى نظرة شكوكية في نهاية المطاف على الأقل فيما يتعلق بالأمور والمسائل العلمية، حيث لم يجد ما يبرر له تفضيل آراء إمبيدوكليس على آراء أناكساجوراس إذا ما نحينا كل الأفكار التي تتناول الفيزياء والفلك والأحياء جانبا، ثم أعلن كما هو مشهور عنه أنه لا يعرف أي شيء حتى بشأن المسائل الأخلاقية التي راقت له. ولقد رأينا أنه يجب ألا يحمل هذا الاعتراف على معناه الظاهري، ولكن رغم ذلك نجد على جانب آخر أن طريقة سقراط في البحث ومنهجه في السؤال كان لهما تأثير واضح على مناهج الشكوكيين اليونانيين فيما بعد.
كانت آراء ديموقريطس كذلك من المنابع التي وردها الشكوكيون كما رأينا؛ فقد وافق ديموقريطس على آراء بارمنيدس وزينون الإيلي التي تشير إلى أن العالم ليس في الحقيقة أبدا على الشاكلة التي يتبدى عليها، وأكد على وجه الخصوص أن الألوان والروائح والطعوم التي ندركها لا تعكس حقيقة الأشياء في جوهرها وإنما الطريقة التي تؤثر بها الذرات الداخلة في تكوينها على حواسنا، فعندما نقول إن السماء زرقاء على سبيل المثال، لا يعد ذلك جزءا من المعرفة وإنما تقليد مقبول فحسب. وهذا البون الشاسع بين المظهر والجوهر هو ما استغله الشكوكيون لتقويض أساس أي محاولة للمعرفة، فإذا كانت الحواس لا يعول عليها فعلام يكون الاعتماد إذن؟ من الجلي أن هذا السؤال لم يشغل بال ديموقريطس وإن كان من الأولى أن يشغله قبل أي شيء، فكيف له أن يتحقق من صحة نظريته الذرية؟ وما الدليل القاطع الذي يتجاوز بنا ساحة الشك والرأي إلى أرض المعرفة واليقين؟ والإجابة لدى بيرو وأتباعه أنه «ما من دليل قاطع»؛ ومن ثم فالبقاء في ساحة الشك والرأي أمر لا مناص منه.
ولكن يبدو أن بيرو قد أقدم على فعل ما يتعارض مع آرائه دون وعي، فإذا كانت الشكوكية تضع جميع الأشياء والظواهر قيد البحث؛ فهناك بعض الأمور التي قالها بيرو لا تبدو متسقة مع هذا الرأي. فكما يقول البعض لقد بين بيرو أنه «لا شيء قيم ولا شيء منحط ولا عادل ولا ظالم، وما من شيء موجود في الحقيقة. فسلوك الإنسان وتصرفاته يعتمدان على العادة والتقاليد، فالحكم على الأشياء مستحيل.» وهو ما يعني أنه لا سبيل إلى المعرفة، ولكن الإشكالية الحقيقية هي أن الشكوكية تعني عدم الإيمان بأي أمر بما في ذلك القول إنه يستحيل الحكم على الأشياء. فكيف إذن لشكوكي أن يدعي أن العادات والتقاليد هي أساس كل شيء؟ ألم يكن من الأجدر به أن يقول إن العادات والتقاليد «قد» تكون الأساس الذي تنبني عليه الأمور كلها؟ وأن يستحيل «بحد معرفته» الحكم على الأشياء؟ وعلى نفس الشاكلة نجد أن صديق بيرو الذي يدعى أناكسارخوس (الذي تركه في الحفرة المذكورة في القصة آنفا) قال إن جميع الأشياء التي يراها تبدو كلوحات مرسومة؛ أي إنها أوهام، وهو ما يعني أنها ليست فقط محض أشياء يستحيل التأكد من حقيقتها، بل إنها بالقطع ليست حقيقية أساسا، وهذا أيضا مما لا يتفق مع مبادئ الشكوكي الحقيقي. فأنى له أن يعلم أن الأشياء مثل اللوحات المرسومة؟ أوليس من شأن الشكوكي ألا يقطع بصحة هذا الأمر أيضا وأن الأشياء لا يمكن التأكد من كونها حقيقية أو زائفة بطريقة أو بأخرى؟
وهذا ما قال به بعض الشكوكيين المتأخرين من أمثال سيكستوس إمبيريكوس حيث حاول هؤلاء الشكوكيون الالتزام بمنهج شكوكي أكثر تفتحا واتساقا . فقال سيكستوس إن وظيفة الشكوكي هي جعل الناس يمتنعون عن إصدار الأحكام ويعيشون «بلا آراء». وذلك يتأتى من خلال مقارنة جميع الأسباب التي قد تحمل إنسانا على الإيمان بأمر ما والأسباب الأخرى التي قد تحمله على العدول عنه؛ ومن هنا يصل به البحث إلى طريق مسدود. فالشكوكي لا يقدم أي نظرية ولا رأي للعالم - حتى إن كان هذا الرأي يقول باستحالة الحكم على الأشياء - وإنما عمله هو التوصل إلى علاج لجميع النظريات وتفكيكها، فكما يقول: «الشكوكيون أناس يملؤهم حب البشر ويتمنون معالجة خداع الدوجمائيين جامدي الفكر (ويقصد بهؤلاء كل من يعتنق فكرة أو رأيا بشكل قاطع) وتهورهم، والحوار هو سبيلهم؛ فهم يستخدمونه ما وسعتهم الطاقة .» وفكرة التوقف عن إصدار الأحكام بالشكل الذي يجعل الناس أكثر استقرارا وسعادة تأتي من بيرو، ولكن الطريقة التي يمكن من خلالها الوصول إلى هذه الحياة الخالية من أية اعتقادات والقائمة على تفنيد كل النظريات الظاهرة على الساحة باستخدام الاعتراضات والحجج المضادة؛ تدين بشطر من فلسفتها إلى أكاديمية أفلاطون.
ترأس فيلسوف يدعى أركسيلاوس (حوالي 315-240ق.م.) أكاديمية أفلاطون قبل وفاة بيرو بفترة وجيزة؛ حيث ابتدأ ما يعرف بالمرحلة «الشكوكية» في الأكاديمية. وقد سبق له أن درس في ليسيوم أرسطو، حيث تقول الأسطورة إنه ترك الليسيوم إلى الأكاديمية؛ لأنه أحب أحد رجالها الكبار. وقد عكف كل من سبقه إلى رئاسة الأكاديمية طيلة 75 عاما بعد وفاة أفلاطون على دراسة كل مذاهب أفلاطون واعتناقها، مثل قصة الخلق في محاورة «طيمايوس» ونظرية المثل. ولكن هذا المنهج لم يرق أركسيلاوس؛ فقد رأى أن أفضل طريقة يمكن بها الإخلاص لمذهب أفلاطون هي عن طريق الانكباب على منهج سقراط؛ أي من خلال البحث والاستقصاء. وقد أحب أن يفعل كما فعل سقراط من الجدال الشديد مع الناس حتى يجعلهم ينطقون بمتعارض القول، وعلى هذا المنهج سارت الأكاديمية لمائتي عام من بعد. وقد أضاف هذا بعدا فكريا أكثر عمقا للشكوكية، رغم أن سقراط كان ليدين جانبا كبيرا من هذا المنهج على أنه هراء لا طائل منه.
خصص أركسيلاوس جانبا كبيرا من بحثه واستقصائه لدراسة منهج الرواقيين، لا سيما فيما اعتقدوه بشأن المعرفة والإدراك. وكان زينون على رأس الرواقيين الذين بحث أركسيلاوس في مناهجهم (زينون الرواقي وليس زينون تلميذ بارمنيدس). يرى زينون أن بعض الأفكار والمدركات من الوضوح والجلاء بمكان لا تقوم معه الحاجة للتدليل والإثبات؛ فهي بدهية حيث يمكن للمرء الاعتماد عليها في معرفة العالم من حوله، وبذلك فإن اتباع هذه الأفكار والانطباعات وعدم الشرود بعيدا عنها يمكن الإنسان من أن يحظى بقدر وافر من المعرفة الصحيحة. ولكن أركسيلاوس سرعان ما رفض فكرة الأفكار البدهية، فقال: «إن أي انطباع يأتينا من شيء ما لا يقل صحة أو زيفا عن غيره.» أي إننا يمكن أن نقتنع بالوهم مثلما نسلم بالأمر الصحيح (وهذه هي النقطة التي تجعلنا ندرك الأوهام على أنها حقيقة). ولذلك لا يمكن للمرء أن يدرك الفارق بينهما في الحقيقة. فتفاحة مصنوعة من الشمع الأحمر قد تبدو مثل التفاحة الحقيقية دون أدنى فرق، وبذلك سيكون لها نفس الأثر والانطباع على العقل. ومن هنا لنا أن نسأل كيف لنا أن نسلم بصحة الأمور «البدهية»؟
اشتهرت هذه الطريقة القائمة على تفكيك المذاهب الفلسفية في الأكاديمية. ولم يمض كثير من الوقت حتى خضعت كل النظريات للفحص؛ ومن ثم ظهر الكثير من المشكلات في هذه النظريات، وبرزت متناقضات عديدة أدت إلى عدة استنتاجات غير مرضية. وعمل الرواقيون وغيرهم من ضحايا هذا الهجوم على التعديل في نظرياتهم، فلم يلبث أصحاب الأكاديمية حتى أعادوا الكرة عليهم ليطيحوا بهم مجددا. وهدمت نظرية الرواقيين الخاصة بالقدر من جميع زواياها، ونعني بها «الحوار الخامل» الذي كان يشير إلى أن الإيمان بالقدر يعني أنه لا جدوى من قيام الإنسان بأي عمل. وكان هذا الرأي نتاجا لهذه الفترة من الشكوكية التي تبنتها الأكاديمية يومئذ. ظن الرواقيون كما رأينا أن لديهم ما يقولونه بخصوص هذا «الحوار الخامل»، ولكن الأكاديميين ردوا على حجتهم؛ وهكذا استمر الجدال بينهم سجالا. وعمل الأكاديميون كذلك على الرد على العديد من الحجج التي ساقها الرواقيون للتدليل على سير العالم وفقا للعناية الإلهية؛ فعندما ادعى الرواقيون أن ظواهر الطبيعة والعالم ليس لها أن تكون إلا بحكم إلهي، قام الأكاديميون بمعارضتهم زاعمين أن قوى الطبيعة قد تكون مسئولة عن هذه الظواهر. وزعم الأكاديميون كذلك أن الرواقيين عند حديثهم عن عقلانية الكون لم يكن لديهم أدنى فكرة عما يتحدثون عنه، وهذا صحيح إلى حد كبير. كما قضى الأكاديميون أمدا طويلا يفندون آراء الرواقيين في الفلك والمعارف الإلهية الأخرى، وقد استخدموا حججا قوية لا يزال البعض يستخدمها حتى الآن، واستعان بها القديس أوجستين من قبل، وإن كان لهذه الحجج تأثير بسيط على معتقدات العامة.
ورغم أن أركسيلاوس كان يشن هجومه على آراء الرواقيين فلم يسع إلى تدشين نظرية خاصة به أو معتقد يتميز به. فجل ما يفعله هو التدليل على أن الحقيقة لا تكمن في أي جانب من الجوانب، بل إنه أحجم عن ادعاء أنه بالإمكان معرفة أي شيء، فكان يرى دائما أن أي أمر يمكن أن يتضمن الحقيقة في أي زاوية من زواياه. ويقول بعض النقاد إنه كان ببساطة يسعى إلى استعراض قواه الحوارية عندما يعمد إلى تفنيد أقوال الآخرين؛ فقد قيل: «لم يكن له مثيل في الإقناع، وهذا ما جذب كثيرا من التلاميذ إلى هذه المدرسة رغم أنهم كانوا يتفادون دائما تهكمه اللاذع.» ومن الأوراق القليلة التي بقيت من حياته الشخصية يمكننا معرفة أنه كان مسرفا وكانت له علاقات اجتماعية عديدة، كما كان على علاقات مع المومسات، وكان متعطشا للشهرة دوما. ولكن ليس هناك سبب يجعلنا ندعي أن هذه الشخصية اللامعة لم تكن شكوكية مخلصة، بل إن هناك العديد من الأسباب التي تدعونا إلى الحكم عليه بالإخلاص في شكوكيته؛ وذلك لأنه حاول التدليل على إمكانية أن يحيا الإنسان دون أن يسبب أية مشكلات في الحياة اليومية.
وقد أجمع الفلاسفة منذ عهد أرسطو إلى ديفيد هيوم على أن الإغراق في الشكوكية يجعل الحياة مستحيلة. فقد كتب هيوم عام 1748م:
إن متبع منهج بيرو ... لا بد له من الاعتراف - إذا قدر له الاعتراف بأي شيء - بأن الحياة البشرية لا بد لها من الهلاك عندما تسود فيها كل مبادئه، فسوف تتوقف كل مظاهر الحياة وينعدم الحديث، وسيمكث الناس في سبات عميق، حتى تقوم ضرورات الطبيعة بوضع نهاية لهذه المأساة الوجودية.
رأى هيوم أن أتباع بيرو لا يأكلون ولا يشربون ولا يحفظون أنفسهم من الأخطار؛ لأنه ليس بوسع أحدهم أن يعلم كيفية القيام بهذه الأمور، هل يجب عليه أن يضع الخبز في فمه أم عليه أن ينكب على الحجر فيقضمه؟ فعامة البشر هم من يعتقدون أن الخبز هو الذي يمد الجسد بالغذاء، أما الشكوكي فيفترض أنه لا يقر بتلك الحقيقة. هل عليه أن يتنحى جانبا إذا رأى فرسا قادما نحوه أم يلقي نفسه تحت سنابكه؟ فالشكوكي يجب أن يحجم عن إصدار أية آراء بشأن هذه الأمور وعليه أن يتحمل العواقب. وقد سأل أحد الكتاب قديما سؤالا مشابها: «لماذا لا يقدم إنسان يحجم عن إصدار الأحكام على الدفع بنفسه من فوق حافة الجبل بدلا من إلقاء نفسه في حوض؟ أو لماذا لا يسير ناحية الحائط إذا أراد أن يخرج من بيته بدلا من التوجه ناحية الباب؟»
أما أركسيلاوس ومن على شاكلته من الفلاسفة فكانت لديهم ردود على هذه الأسئلة. فالحوض هو المكان الذي يبدو ملائما لشخص يود أن ينظف جسده، وهذا يفسر لماذا يتوجه شكوكي إلى الحمام إذا أراد النظافة، وإذا كان الجبل يبدو كما يبدو الحوض فسيذهب الشكوكي إليه دون تردد، وبما أنه لا يبدو كذلك فإن الشكوكي لا يتوجه إليه. وكذلك فالباب يبدو هو المنفذ الأنسب للخروج من المنزل، والخبز يبدو أنه يغذي الجسد، وكذلك فإن فكرة الدهس تحت سنابك الخيل لا تبدو جيدة. فأركسيلاوس يرى أنه على الرغم من أن الشكوكي يحجم عن القطع بحقيقة الأشياء فإن له قدر من الحرية يمكنه من الاعتراف بأنها «تظهر» على نحو أو آخر. وكما قال طيمايوس ذات يوم: «لا يمكنني التأكد من حلاوة مذاق العسل، ولكنني أوافق على أنه يبدو كذلك.» فالشكوكي تبدو له الأشياء كما تبدو لأي إنسان؛ ولذلك فهو يتصرف كغيره على الأقل في أمور الحياة الأساسية. فهو يتبع غريزته ويسلك وفقا للعادات ويتصرف في الغالب بشكل معقول، ولكنه لا يتبنى أية آراء عن الحياة أو طبيعة العالم، أو كما يقول سيكستوس فيما بعد: «يتبع الشكوكي القوانين والعادات والمشاعر الطبيعية» ولكنه يعيش «بلا آراء أو أحكام»؛ ولذلك إذا سألته عما إذا كان الخبز بالقطع يغذي الجسد فإنه لن يجيبك؛ لأنه يحجم عن تكوين رأي عن هذا الأمر، ولكنك رغم ذلك ستجده دائما يجلس إلى موائد الطعام.
وكذلك يمكننا أن نسأل كيف لإنسان يحجم عن الحكم على كون الخبز مغذيا للجسد أم لا، ما دام يضعه دائما في فمه؟ ولكننا سنؤجل الإجابة على هذا السؤال إلى موضع لاحق. حتى الآن رأينا كيف حاول أركسيلاوس شرح طبيعة حياة الشكوكي وسلوكه في تلك الحياة. وقد ذهب كارنيادس (حوالي 219-192ق.م.) أحد رؤساء الأكاديمية بعيدا في محاولته شرح حياة الشكوكي إلا أن آراءه كانت أخف وطأة من تلك التي اعتنقها بيرو. فرأى أنه ليس من الضروري ولا من الممكن أن يحجم الشكوكي عن إصدار الأحكام على الأمور كافة؛ فرغم أن الشكوكي لا يمكنه التسليم بصحة أمر أو رأي فمن المسموح له - كما يقول كارنيادس - أن يبدي رأيا حول ما يبدو في بعض القضايا أو يعترف بصحة بعض الأشياء ظاهريا.
كارنيادس.
كانت الأكاديمية تنحو نحوا بعيدا عن الشكوكية خلال هذه الفترة، أو هكذا بدا الأمر في أعين أتباع بيرو، واستمر كارنيادس في التصرف كالشكوكيين ظاهريا، فكان يتحاور ويجادل في كل الأمور والقضايا، وكان ينجح في تفنيد جميع الحجج التي يتسلح بها الآخرون. ولكن رغم استمراره في ممارسة بعض شعائر الشكوكية في حياته فقد تخلى عن الإيمان بها، كما فعل فيلو اللاريسي (حوالي 160-83ق.م.) أحد قادة الأكاديمية، فيقال إنه أكد على صحة عدة أمور وصدقها، كما أبدى اهتماما ببعض النظريات والمذاهب، وهو ما لم يكن ليصدر من أحد أتباع بيرو المخلصين.
وقد كان أنيسيديموس أحد هؤلاء الأتباع المخلصين؛ فقد انفصل عن الأكاديمية في القرن الأول قبل الميلاد ليؤسس اتجاها أكثر التزاما بالشكوكية. ولم يكن لحركة إحياء أفكار بيرو التي قادها صدى واسع أو تأثير كبير، بل لم تؤثر على عالم الفلسفة بشيء ذي خطر، فكتب شيشرون بعد عقدين من الزمان عن أفول نجم بيرو، ثم جاء سينيكا بعد ذلك بقرن من الزمان ليؤكد على انقراضها تماما. ولكنهما كانا مخطئين في هذا الشأن؛ فرغم أن البيرونية لم تكن حركة منتشرة على مستوى شعبي واسع، فقد تطورت بعد عهد أنيسيديموس، بل وصلت إلى ذروتها الفكرية في كتابات سيكستوس إمبيريكوس المولود تقريبا في منتصف القرن الثاني الميلادي الذي كانت كتاباته من أكبر الذخائر التي أثرت على الفكر الأوروبي الشكوكي وشكلته منذ القرن السابع عشر إلى يومنا هذا. فيمكن وصف الكثير من المواقف الفكرية طيلة القرون الأربعة المنصرمة بأنها كانت صدى لهذه الآراء، سواء بمحاولة الرد عليها أو بالاتفاق معها. ولكن سيكستوس لم يدع أصولية آرائه التي اعتقدها، فكثير من آرائه استقاها من أنيسيديموس وشخص آخر غير معروف بالمرة يدعى أجريبا، ولكن لم تصل إلينا آراء هذين الرجلين كما وصلت كتابات سيكستوس. وبما أن أركسيلاوس وبيرو لم يكلفا نفسيهما عناء كتابة أي من أفكارهما، فإن سيكستوس هو الشكوكي الوحيد الذي واتته الفرصة للتعبير عن نفسه.
شهد القرن الأول بعد الميلاد تسمية الفلاسفة الشكوكيين بهذا الاسم، فكانوا في السابق يدعون البيرونيين أو أتباع بيرو، ولكن ابتداء من زمن أجريبا أطلقوا على أنفسهم اسم الشكوكيين. وترجمة الكلمة من اللاتينية تعني «الباحثين» أو «المستقصين». عرف سيكستوس الفلسفة البيرونية التي أحياها في إطار ثلاث نقاط تتبدى لدى البحث في أي موضوع: فإما أن يظن الباحث أنه عثر على الحقيقة، أو أنه لا سبيل للوصول إلى الحقيقة، أو الاكتفاء بالبحث عنها. والشكوكيون هم هؤلاء القوم المنهمكون في بحث دائم عن الحقيقة دون الاهتداء إليها، أما أرسطو وأبيقور والرواقيون فهم نماذج لهؤلاء الذين ادعوا العثور على إجابات على الأقل لبعض الظواهر، ويصفهم سيكستوس ب «الدوجمائيين»، أما بيرو فكان مثالا رائعا على مقاومة إغراء الدوجمائيين في الإجابة عن أي أسئلة.
ولكن لماذا يلجأ الناس إلى الشكوكية ويحجمون عن التسليم ببعض الإجابات؟ يجيب سيكستوس قائلا إن السبب يرجع إلى القدر الهائل من الطمأنينة والاستقرار الذي يوفره الإحجام عن التسليم بالإجابات، وهو ما وقع مصادفة عندما كان الشكوكيون الأوائل (كما يقول سيكستوس) يسعون إلى العثور على حقيقة الأشياء، فلما عجزوا عن الوصول إليها توقفوا عن تبني الآراء القاطعة أو إصدار الأحكام، فشعروا بعدها أنهم يحظون بقدر وافر من الطمأنينة؛ وبذلك وجدوا أن الطمأنينة تكمن في التوقف عن إصدار الأحكام وليس في البحث عن الحقيقة. وقد شرح سيكستوس هذه النقطة من خلال قصة تدور حول رسام يدعى أبيليس كان يرسم حصانا وأراد رسم رغوة تخرج من فمه، فجرب جميع الأساليب والأدوات حتى كاد يفقد أعصابه، فالتقط من الأرض إسفنجة كان يستخدمها في مسح فرشاته، وألقى بها تجاه اللوحة، فصنعت الإسفنجة التي ألقاها الأثر الذي أراده تحديدا في اللوحة على نحو مذهل. وكذلك هو الأمر مع الشكوكيين، فإنهم دائما يلقون الإسفنجة التي تؤتي ثمارها دائما؛ «فعندما يتوقفون عن تبني الآراء تخيم عليهم الطمأنينة بفعل الصدفة.»
تكبد سيكستوس الكثير من العناء في شرح فائدة الإحجام عن تبني الآراء، فوضح أن الخطوة الأولى تكمن في التسليم بأن جميع الشكوكيين لا يتبنون أية نظريات فلسفية، حتى تلك الأقوال التي من قبيل: «لا شيء يمكن معرفته»، أو القول إن «كل شيء نسبي.» فإذا وجدت شكوكيا ينادي بأن «لا يمكن الحكم على شيء ما»، أو يقول «لكل نظرية تدور حول أمر ما، توجد نظرية مختلفة على نفس الدرجة من الصحة تبحث في الأمر نفسه»، فلا يعبر ذلك إلا عن عدم اقتناعه بأي من الآراء المتداولة حول الأمر محل النقاش. وهذا يقودنا إلى أنه ليس بالإمكان وصف الشكوكي بالدوجمائية؛ فلا يمكن أن تحرجه بسؤال مثل: «أنى لك أن تعرف استحالة معرفة الحقيقة؟» أو «كيف لك بمعرفة أن هناك دائما بدائل عديدة وآراء بديلة؟» لأنه في الحقيقة لا يدعي ذلك، فربما يتوصل إلى معرفة حقيقية يوما ما، وربما يأتي يوم يتوصل فيه شخص ما إلى نظرية تبدو مقنعة أكثر من غيرها، إلا أن الشكوكي لا يعتقد وصول هذا اليوم بعد.
وعندما يعارض الشكوكي أحدهم بعرض وجهة نظر معارضة، فهو في الحقيقة لا يتبنى وجهة النظر الأخرى، فكل ما يقوم به هو عرض البدائل على سبيل الجدال، فعندما يستشهد سيكستوس بالعقائد العديدة الموجودة لدى مختلف الأمم، فهو لا يحاول إثبات صحة هذه العقائد أو إثبات خطأ اليونانيين، وإنما يسعى إلى زعزعة إيمان اليونانيين ليجعلهم أكثر استعدادا لقبول آراء الآخرين. وهو ما يفسر عدم نجاح هجوم أبيقور على الشكوكية، فقد قال أبيقور ولوكريتيوس إن الشكوكي الذي يمارس الشك في جميع الأمور لن تكون لديه أرضية ثابتة يقف عليها؛ أي ليس لديه معايير يقيس بها صحة الأمور وبذلك فلا جدوى من ادعائه زيف المعتقدات الأخرى. أما الشكوكي الحق فهو الذي لا يسعى إلى تكذيب المعتقدات والآراء الأخرى، فهو يحاول أن يجعلنا نتساءل بشأنها فحسب، على أساس أن هذا سيجنبنا الوقوع في شرك الدوجمائية؛ وبذلك فالشكوكي لا يحتاج إلى أرضية يقف عليها بل يريد أن يوقف الأحكام والآراء من الذيوع والانتشار وحسب.
وقد حاول سيكستوس كذلك إيضاح كيفية انسجام هذا التحليق الفكري مع الحياة العادية؛ فقال إن هذا التوقف عن تبني الآراء والأحكام لن ينطبق على كل صغيرة وكبيرة في الحياة، وإنما على الأمور التي يكثر الخلاف حولها. كما يرى سيكستوس ضرورة ترك الشكوكي لكل الأمور التي يتجادل الناس بشأنها أو الموضوعات التي تحتاج إلى البحث والتفكير على حالها قيد البحث. إلا أن فكرة عدم إصدار أحكام على الأمور أو القطع بصحة أحدها دون غيره لا تعني نبذ الشكوكي للتعبير عن الأشياء كما تظهر له، فيمكن أن يقول على سبيل المثال إنه «يشعر» بالحر أو البرد (أو كما يقول تيمون: العسل «يبدو» حلو المذاق)، وله أن يقول كذلك إن الخبز «يبدو» مغذيا للجسد، أو أن يقول إن الطقس «يبدو » وكأنه يوشك أن يسوء. ففكرة عدم القطع بصحة دليل ما أو اعتناق رأي ما لا تثني الشكوكي عن الحديث عن أمور بسيطة وتافهة كتلك؛ لأن مثل هذه الأحاديث عن الطقس أو تغذية الخبز للجسد لا تعد من قبيل اعتناق الآراء:
عندما نقول إن الشكوكيين لا يتبنون آراء فإننا لا نعني بذلك ... أنهم يرفضون كل الأمور وينبذون كل شيء، فالشكوكيون يذعنون للمشاعر التي تستقبلها أعضاء حسهم من مختلف الظواهر؛ ولذلك فإنهم عندما يشعرون بالبرد أو الحر لن يقولوا: «أعتقد أنني لا أشعر بالحرارة أو البرودة.» وإنما الشكوكيون هم من يرفضون تبني آراء بخصوص المسائل العلمية التي لا تبدو واضحة وجلية.
والعلوم لا تبحث في الأمور الشخصية مثل شعور الفرد بالحرارة أو البرودة، فهذه الأمور ليست محلا لنزاع أو خلاف، ولا يعتريها غموض ولا التباس يجعل الشكوكي يلقي لها بالا. يقول سيكستوس إن الشكوكيين يسيرون خلف المظاهر اليومية العادية كما يسير الطفل الصغير خلف وصيه، والوصي في هذه الحالة هو الطبيعة التي تمدنا ببعض الأفكار والخبرات والدوافع؛ فللإنسان من الغرائز الطبيعية ما يدفعه إلى السبل التي تمكنه من إشباع هذه الغرائز، فالجوع كما يقول سيكستوس يقودنا إلى الطعام؛ ولهذا السبب يتناول الشكوكي الطعام كأي إنسان، فالإقدام على مثل هذا السلوك يعد من قبيل الاستجابة الآلية للمظاهر، وليس للرأي أو الحكم دور في هذه الحالة، فهذا السلوك يشبه إقدام البقرة على تناول العشب دون تفكير أو اكتراث بأسباب أخرى، وهو ما يعني أنه في هذه الأحوال لا توجد مساحة للآراء ليحجم عن الإدلاء بها.
وكما يكون الشكوكي على استعداد إلى السير خلف المظاهر فيقول إن الخبز يغذي الجسد، فهو كذلك يرى أن السير على المنحدرات أو في وسط الطريق أفكار لا صحة لها، وكما قال أركسيلاوس حينما كان يدافع عن بيرو، فإن الشكوكية لا تحول دون أن يحيا الشكوكي حياة آمنة خالية من الإصابات، بل إن الشكوكي يعيش حياة تقليدية طبيعية وفق القوانين التي يسير عليها المجتمع، كي لا يسبب قلقا أو اضطرابا . ولا شك أن الشكوكي يضطر إلى التصدي لأي محاولة يقوم بها من لا يتحلى بالقدر الكافي من الحكمة، فيحاول الدفاع عن التفسير العقلي لهذه القوانين أو حتى تفنيدها أو معارضتها، فكان الشكوكي ليتصدى بالرد على هذا الشخص أيا كان موقفه من هذه القوانين؛ ليبرهن أن المرء عليه أن يتوقف عن إصدار الأحكام أو تبني الآراء بخصوص صحة أي نوع من القوانين؛ لأن هناك دائما ما يعضد آراء الطرفين، ومن الأفضل ألا يختلق المرء هذه النزاعات من الأساس ليعيش في وفاق مع مظاهر الحياة اليومية دون أن يكدر فكره بها. وليس الدين عن ذلك ببعيد، حيث يقول سيكستوس: «لن يرفض الشكوكي - من منطلق التوافق مع عاداته القديمة والأفكار العامة التي يتبعها الجميع - فكرة وجود الآلهة ما دامت القوانين العامة تعتقد في وجودها، ولكن إذا دخل في نقاش فلسفي بشأن وجودها فإنه لن يتسرع في الحكم.» فالأدلة الدوجمائية والتأملات اللاهوتية لا مفر من مناقشتها. والشكوكيون رغم ذلك سيقدرون مسألة الطاعة والولاء التي يرون أنها أمر طبيعي للإنسان المتحضر من منطلق كونها فكرة شائعة في المجتمع.
ولا يمتد تسليم الشكوكيين ب «المشاهدات اليومية» إلى العادات والتقاليد وأمور الولاء والطاعة فقط أو «الأمور المعتمدة على المشاعر السلبية والأشياء التي لا تقع على طاولة البحث»، وإنما يمتد كذلك إلى بعض أشكال الخبرة في العلوم التطبيقية، فيرى سيكستوس أن على الشكوكي الاعتماد إلى حد ما على بعض نتائج العلوم التطبيقية، بشرط أن تكون هذ العلوم مهتمة بجمع المعلومات والبيانات دون أن تتضمن أي نوع من التنظير الدوجمائي. فبينما تقع التأملات المجردة التي لا تستند إلى أدلة في مجال علم التنجيم في دائرة الشك لدى الشكوكيين، لا يلقى الفلك الذي يدرس بعض الباحثين المهرة سماءه وأفلاكه اعتراضا من جانب الشكوكيين؛ «لأنه يتضمن جمعا للمعلومات عن ظاهرة ما كما يحدث في الزراعة والملاحة حيث يمكن - عبر جمع المعلومات - التنبؤ بالفيضانات والزلازل والعواصف والطاعون»، وكذلك فإن الشكوكي قد يستخدم الهندسة والرياضيات للقياس والحساب (مثل نظرية أفلاطون التي تقول إن الخط المستقيم يتكون من مجموعة من النقاط)، أو الأفكار الفيثاغورية المتعلقة بأهمية الأرقام.
كان سيكستوس طبيبا متمرسا في الطب شأنه شأن كبار الفلاسفة الشكوكيين، وكان من أنصار ما يسمى بالمنهج التجريبي في الطب، الذي يعد مثالا جيدا على نوع المعرفة التي كان الشكوكيون على استعداد لقبوله. كانت التجريبية رد فعل على المأزق الذي ألم بعالم الطب؛ فحين قال الطبيب الكبير أبقراط إن ممارسة الطب يجب أن تعتمد على نظرية تشرح تكوين الجسد وأسباب الأمراض التي تصيبه، ورغم ما في هذه النصيحة من حكمة، فسرعان ما ظهر العديد من النظريات المختلفة المتضاربة في الطب. وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي ضرب فريق من الأطباء صفحا عن هذه النظريات موضحين أنهم ليسوا في حاجة إلى أي منها، وكان هذا الفريق من الأطباء التجريبيين. كان الطب التجريبي الجيد يعتمد على الخبرة في المقام الأول، فعلى الطبيب أن يلاحظ أنواع الدواء التي أثبتت جدارة في علاج أعراض مرض ما في الماضي، فيعتمد على نتائج هذه التجربة دون الاعتداد بأي أمر آخر؛ وبذلك فلا حاجة إلى الانشغال بالنظريات المعقدة التي وضعها الأطباء الدوجمائيون (المعروفون كذلك بالعقلانيين) التي تتضمن مزاعمهم عن التوازن بين «الأخلاط» الأربعة بالجسد وهي: الدم والبلغم والصفراء والسوداء، أو حديثهم عن حركة ذرات غير مرئية خلال ثغرات غير مرئية كذلك بالجلد، وكذلك ليس على الطبيب أن يبحث عن الأسباب الخفية للمرض عند التشخيص، فعلى سبيل المثال إذا حدث أن أصيب إنسان بمرض داء الكلب، وكانت أعراض هذا المرض تظهر دائما عقب عضة كلب مسعور، فليست هناك حاجة لتشخيص المرض ما دامت لدينا تجربة سابقة تقول إن هذه الأعراض لا تظهر إلا مع هذا المرض، واعتمادا على هذه الطريقة يمكن استخدام أي من أساليب العلاج القديمة.
كانت هناك مدرسة أخرى تعارض الآراء الدوجمائية ولكنها كانت تقبل النظريات بصدر رحب، وترى العثور على الأسباب الخفية أمرا ممكنا. وقد توافق الأطباء الذي عرفوا ب «المنهجيين» مع الأطباء التجريبيين على أن الخبرة البسيطة تكفي لعلاج مريض ما، ولكنهم اعتقدوا أن بمقدور الإنسان العثور على الأسباب غير الواضحة المسببة للأمراض ذات يوم. وأشار سيكستوس إلى أن المدرسة المنهجية هي التي وفرت مادة علمية جيدة للفلسفة الطبية التي اعتمدها الشكوكيون، (وربما كان من الأفضل أن يسمى سيكستوس المنهجي بدلا من سيكستوس التجريبي). ففي الوقت الذي كان التجريبيون يعارضون بشدة فكرة أن معرفة الأسباب الخفية أو النظريات الخفية تساعد في العلاج، أحجم المنهجيون عن إصدار حكم معين.
وقد يدعونا هذا إلى التساؤل بخصوص متى يمكن لأحد الأطباء المنهجيين أو التجريبيين التفريق بين الأسباب الغامضة والأخرى الواضحة؟ فكان على الفريقين أن يحددا دور العوامل الداخلة في مجال البحث، كما كان عليهما أن يوضحا الأساس الذي تقوم عليه التفرقة بين الملاحظة المقبولة للظواهر والبحث غير المقبول في الأمور المبهمة، فلا شك أن ما قد يبدو جليا لشخص ما قد يكون غامضا لآخر، فما يمكن أن يدركه أحد الخبراء بسرعة فائقة قد يستدعي من غيره إطالة التدبر والتفكير؛ وبذلك فإن الحد الذي تنتهي عنده حقائق الخبرات الواضحة لتبدأ عنده النظريات القابلة للبحث ليس واضحا. ومثل هذه الألغاز يمكن أن تتسبب في مشكلة للنظرية الشكوكية برمتها؛ لأن الشكوكيين يعتمدون دائما على التفريق بين الخبرة اليومية (أو «المظاهر») وبين المسائل العقلية الفلسفية، ولا شك أن الشكوكيين في حاجة للتفريق بينهما؛ لأنهم يحجمون عن إصدار الأحكام عن الأخيرة فقط. ولنأخذ على سبيل المثال معتقدا دينيا منتشرا إلى حد كبير في أحد المجتمعات، ولنفترض أن بعض الناس يسلمون بصحة هذا المعتقد في حين أن آخرين يتجادلون في أمره، ماذا على الشكوكي أن يفعل في هذه الحالة؟ هل عليه التوقف عن تبني رأي ما بخصوص هذه المسألة أم عليه السير خلف رأي العامة البسطاء؟ وكيف يمكنه تحديد ما إذا كان هذا المعتقد يمت إلى عالم العقل بصلة تكفي للشك فيه؟
يبدو أن الشكوكيين لم يتصدوا لهذه المشكلة، وربما لم تكن هناك حاجة تدعوهم لهذا. تذكر أن الشكوكية ظهرت بوصفها علاجا للتهور والقلق الفكري والعقلي، ولذلك فإن الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تكون عملية؛ فالشكوكية تنطبق على كل من يحتاج العلاج، فإذا تبين للشكوكي أن الناس أصبحوا متعصبين لأمر ما يقلق سكينتهم وطمأنينتهم، فإنه سيسعى إلى علاجهم من خلال تفنيد هذا المعتقد، وكذلك إذا وجد نفسه قلقا بشأن أمر ما فإنه سيستخدم أدواته الشكوكية لعلاج نفسه والتوقف عن تبني هذا الموقف، وإذا كان الأطباء لا يستطيعون التوقف عن الشجار بخصوص أسباب أمر ما، فإن الشكوكي سيحاول إقناعهم بالعدول عن البحث عن الأمور الخفية والاكتفاء بالظاهر منها؛ لأن الحديث عن هذه الأمور يقود إلى نزاع لا نهاية له. وبصفة عامة فإنه سيحدد الأمر الذي ينبغي أن يلقي عليه ظلال الشك بالبحث عما يسبب القلق أو الاضطراب، وربما يبدأ بأسوأ هذه الحالات التي يأتي على رأسها نزاع الفلاسفة والعلماء الذين يسعون إلى إلقاء الضوء على الأجزاء الغامضة التي تكمن خلف الظواهر اليومية، وهذا بلا شك أمر يحتاج إلى علاج؛ ولذلك فإن عقائدهم ستكون محل كتابات الشكوكيين، أما فيما يخص المعتقدات العامة مثل المسائل الدينية فلن يتناولوها إلا إذا سببت نزاعا.
قال سيكستوس إن الحجج التي يستخدمها الشكوكي هي كالعلاج الذي يطهر البدن؛ فهي تخرج جميع الاضطرابات الفكرية من تكوين الإنسان. فعلاج الشكوكي يشبه العلاج الطبيعي لما له من فعالية متفاوتة حيث «يستخدم الشكوكيون حججا قوية تستطيع علاج من أصيب بغرور دوجمائي، وكذلك المصابون بالتهور الشديد، ويستخدمون حججا أقل قوة في علاج المصاب بغرور سطحي نظرا لسهولة علاجه». ومن المهارات الواجب توافرها في المعالج أيا كانت الحالة التي بين يديه المقدرة على صياغة الاعتراضات، بمعنى أنه ينبغي له أن يكون ماهرا في عرض مختلف الأفكار والمعتقدات والسلوكيات والقيم وتوضيحها بكل تنوعاتها واختلافاتها، بالطريقة التي تساعد على توسيع آفاق العقل كثيرا حتى يتوقف عن إطلاق الأحكام.
وكثير من هذه «الاعتراضات» يجب أن يراعي الظروف الخارجية التي تحدث فيها عملية الإدراك، بجانب مراعاة الحالة الفسيولوجية والعقلية للمستقبل، فضلا عن مراعاة الحالة الجسدية له. وقد شدد آخرون على أهمية الدور الذي تلعبه التنشئة والبيئة في تكوين آراء الناس واختلاف أذواقهم، واهتم آخرون بالأساطير والقوانين السائدة في بعض الأماكن، ولكن الهدف كان واحدا من كل هذا؛ فالفكرة من عرض كل هذا الاختلاف هي التدليل على أن ما يعتقده الناس أو يشعرون به - أي ما يبدو لهم حقيقيا أو جيدا أو مرغوبا فيه - يختلف باختلاف الظروف؛ أي كما يقول سيكستوس: «لا شك أنه من السهل أن نقول كيف يبدو أمر ما بالنسبة لشخص ما، ولكن ليس من الممكن القطع بإمكانية معرفته في جوهره.»
وبعد أن يوضح الشكوكي أن المظاهر تختلف اختلافا كبيرا، وأنها تعتمد على الظروف المختلفة التي تنبع منها؛ فإنه يشكك في الأسباب العقلانية التي تجعل أحد الدوجمائيين يقطع بصحة أحد المظاهر ويضعه في مرتبة أعلى من غيره، أو يدعي أن هذه المظاهر تعبر عن الكون حقيقة. حيث يتساءل الشكوكي عن السبب الذي يدفع الدوجمائي إلى القول إن المعتقدات التي يراها من وجهة نظره ووفق ظروفه هي الصحيحة دوما؟ وأيا كانت إجابة الدوجمائي على هذه الأسئلة فإن الشكوكي دائما على استعداد بحجج مضادة. ولنفترض أن هذا الدوجمائي حاول أن يعضد موقفه بشأن حقيقة الأشياء عبر الاستشهاد برأي آخر على أنه دليل على صحة رأيه؛ فإن الشكوكي سيسعى إلى تعجيز هذا الدوجمائي بأن يطلب منه إثبات صحة هذا الدليل، ليسير الجدال على هذه الشاكلة. فالشكوكي يرى أن هذه السلسلة من التبريرات لا بد لها من الوصول إلى نقطة نهاية يعجز بعدها الدوجمائي عن التبرير وسوق الأدلة، فعندما يحاول الدوجمائي أن يستقر على رأي أخير؛ فإن الشكوكي سيثبت أنه لا يستند إلا إلى حجة واهية، بل ويمكن أن يثبت الشكوكي أن الدوجمائي كان على خطأ عندما طرح السؤال للمرة الأولى. وبهذا نرى أن الحوار يسير في دائرة مغلقة، (وقد هاجم أحد الفلاسفة كريسيبوس لاستشهاده بالكهانة على أنها تدل على وجود القدر وأن وجود القدر يعد دليلا على الكهانة.)
لا تخلو جعبة الشكوكي من الحجج التي يستخدمها لعلاج خصمه ليجعله يتوقف عن إصدار الأحكام، فإذا فشلت جميع هذه الحجج فإن الشكوكي يستعين بحقيقة أن البشر لا يمكن أن يجمعوا كلهم على رأي واحد؛ أملا في أن تخفف هذه المحاولة من تسرع خصمه الدوجمائي. فكما يقول سيكستوس حتى إذا وافق الناس جميعا على أمر ما فقد يكون هناك عرق ما أو جنس غريب يرى الأمور من منظور مغاير؛ فأنى له أن يقنعهم أنه على صواب وأنهم على خطأ. والناس لا يختلفون فقط في آرائهم السببية وملاحظاتهم، فالخبراء أنفسهم يظلون في خلاف حتى بعد بذل الكثير من الجهد، وكما يقول أحد دارسي الشكوكية:
إن هؤلاء الذين يجيدون اصطياد الجوهر البين في الأشياء ينقسمون إلى كتائب وفصائل، ويضعون قواعد لا تتعارض فقط مع رؤية شخص ما حول نقطة معينة بل مع جميع النقاط، صغيرها وكبيرها، التي تقع في نطاق أبحاثهم.
ففي آلاف الموضوعات التي تعج بها فروع المعرفة كافة بما فيها العلوم «يوجد العديد من التساؤلات، ولكن حتى هذه اللحظة لم يتوصل إلى اتفاق بشأن أي منها»، وإذا كان الخبراء لا يستطيعون النفاذ إلى باطن الأشياء فكيف يكون الأمر مع العامة؛ ولذلك فالأفضل هو التوقف عن تبني الآراء أو إصدار الأحكام. •••
ومن الحقائق الواضحة التي تعضد جانب الشكوكيين في ادعائهم أن الدوجمائيين لا يعلمون شيئا؛ أنهم كانوا محقين في هذا الشأن. فمن خلال المعايير التي نتبناها الآن نستطيع الحكم على خطأ جميع النظريات القديمة (عدا نظريات الرياضيات)، وهؤلاء الذين ظنوا أنهم يعرفون الكثير من الأشياء لم يكونوا هكذا بالفعل كما قال الشكوكيون. ورغم ذلك سيقال إن الوضع مختلف اليوم؛ فربما كان اليونانيون مخطئين بشأن جميع الأمور، في حين أن الإنسان المعاصر يحظى بقدر وافر من المعرفة، وإذا كان للشكوكيين موقف ما في العصور القديمة فلا بد أن هذا الموقف قد ضعف هذه الأيام.
وسواء توصلنا إلى معرفة الحقائق المتعلقة بقضية فلسفية تاريخية أم لا، فإن الجدل والحديث بشأنها لن ينقطع ما دامت الحياة. ورغم ذلك فمن الجدير بالملاحظة أن نوع الخلاف الناشب بين الخبراء من سالف الزمان لا يزال عالقا معنا حتى يومنا هذا. فالكثير من الأمور التي أثارت فضول القدماء وحيرتهم لم نصل فيه إلى نتائج حاسمة، وإن تغير شكل الخلاف حوله بعض الشيء. فالفيزيائيون ربما لا يختلفون هذه الأيام بشأن عدد العناصر أو فكرة وجود العدم بقدر الخلاف بشأن نظرية الأكوان المتوازية أو نظرية الثقوب الدودية في الزمكان وشكل الكون القديم، وكلها أمور لم يتوصل فيها أحد لنتائج حاسمة بشأنها بعد. وبالانتقال من الطب إلى الفلك نقابل العديد من الأسئلة التي تنتظر إجابات. يؤمن خبراء العصر الحالي أنهم باتوا على بعد خطوات من سبر أغوار الحقيقة، ولكن هذا دأب الخبراء والعلماء وديدنهم. ولا يقتصر الأمر على الموضوعات العلمية فحسب، فقد استخدم سيكستوس عدته من حججه الشكوكية ضد علوم الإنسانيات التي ظهرت في عصره (ضد نظريات الموسيقى واللغة على سبيل المثال)، ولكن لم تكن لديه المقدرة على صياغة الكثير من الاعتراضات على العلوم الأحدث مثل الاقتصاد وعلم النفس والاجتماع.
وسواء أكانت حجج الشكوكيين ذات تأثير فعال في التصدي للدوجمائيين المعاصرين أم لا، فإن هناك الكثير من علامات الاستفهام حول الشكوكيين القدماء وأساليبهم، منها على سبيل المثال: كيف يمكن أن يؤدي الدخول في جدال مستمر مع الناس إلى إحداث الهدوء والسكينة؟ فإذا كان الشكوكي يقدر السكينة كما يقول دائما فلماذا يقضي وقتا طويلا في النقاش والجدال؟ كما أن ثمة أمرا يدعونا للتشكك في صدق دعوى البحث والاستقصاء إذا كان الباحث يرفض جميع الآراء. فقد كتب بيير بايل في «القاموس التاريخي النقدي (1697م)» مبينا: «أن (بيرو) بحث طيلة حياته عن الحقيقة، ولكنه كان دائما يصوغ الأمور بشكل يجعله يبدو وكأنه لم يعثر على شيء ولم يهتد إلى بر.»
وقد يجيب أحد أتباع بيرو قائلا إن القلق والاضطراب الذي يحدثه الانشغال بالبحث عن جوهر جميع الأشياء لا يعادل الطمأنينة الناتجة عن التوقف عن إصدار الأحكام وتبني الآراء. ويبدو أن الشكوكيين وجدوا أن لذة الاحتفاظ بعقل متفتح تجاه الأمور كافة تفوق سعادة العثور على الحقيقة. ويرى سيكستوس أن ثمة أخطارا تكمن في الاعتقاد في التوصل إلى حقائق الأشياء؛ فهذا يجعل المرء يدرك الأمور الصالحة من الفاسدة، وهي حالة تجعله في قلق أبدي. فالإنسان الذي لا يعرف الحقيقة يظل ساعيا وراءها، وإذا عثر عليها فإنه لن يكون مطمئنا، فعندما يصل الناس إلى ما كانوا يسعون إليه «فإنهم يسعدون بذلك أيما سعادة، فيبذلون قصارى جهدهم خشية فقدان ما يرونه خيرا وصلاحا». والشكوكية هي الحل الوحيد للخلاص من هذه الدوامة، فالناس الذين يتمتعون بالحكمة التي تجعلهم يحجمون عن إصدار الأحكام بشأن صحة الأشياء أو زيفها «لا تجدهم منشغلين بشدة بهذه القضايا ولذلك فهم ينعمون بالسكينة».
وقد اعترف سيكستوس بأن المنهج الشكوكي لا يمكن أن يخلص الحياة من كافة أشكال المحن وألوان الشدائد، فبما أن الشكوكيين بشر فإنهم سيكونون عرضة لصروف الدهر، «نحن نوافق على أنهم أحيانا يرتعدون ويعطشون وينتابهم الكثير من المشاعر المشابهة لذلك». ورغم ذلك نجد الشكوكيين يقللون من حجم المحن التي تصيبهم بأن ينحوا جانبا جميع الآراء التي قد تجعلهم أسوأ حالا مما هم عليه.
ولكن لسوء الحظ، على الشكوكيين التخلي كذلك عن كثير من الآراء التي تجعل الحياة سعيدة، فبجانب الإحجام عن الحكم على الأشياء بالسوء فإنهم لا يحكمون عليها بالخير أيضا، ويبدو هذا ثمنا غاليا للغاية في مقابل الطمأنينة؛ لأنه يعني التخلي عن الكثير من متع الحياة اليومية. فلن يكون هناك مجال كي يسعد إنسان بحصوله على ترقية في وظيفته؛ فأنى له أن يعرف أن هذه الترقية تحمل له خيرا؟ سيقول الشكوكي إنه من الأفضل التوقف عن الحكم على القضية برمتها ومن ثم يضحي الإنسان بسعادته التي تنشأ عن التفكير في أنه تمكن أخيرا من تحقيق حلمه. فالشكوكي يقول إنه حتى في حالة التأكد من حجم الخير الذي تحمله هذه الوظيفة فإن ذلك سيدفع المرء إلى القلق خوفا على فقدها. ولكن هذا رأي فيه نوع من المغالاة، والكثير من الناس سيعترضون على هذه الفكرة؛ لأنه من المستحيل علينا كبشر تبني موقف منعزل عن آلام الحياة ومتعها.
وربما هذه هي النقطة الرئيسة في الموضوع. ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن العديد من الفلسفات الهيلينستية كان يسعى لسد حاجات الإنسان البسيط، فإن جانبا كبيرا من الأمور التي حاولوا أن يوصلوها له كان أفكارا ملهمة ومثالية. فلم يكن من المفترض أن تكتسب الحكمة بسهولة ويسر، فلكي يحيا الإنسان حياة الحكماء كان لا بد أن يتكبد في سبيل ذلك ألوانا من المشقة والعناء. أما الأفكار المثالية فلم تجعل كي تطبق كما هي بل نتخفف منها بعض الشيء، وقد كانت الشكوكية إحداها. وعندما رجع الناس إلى آراء الشكوكيين القدماء بعد أعوام مؤلفة من الإهمال، كان الفلاسفة والعلماء ينتقون منها ما يمكنهم من معرفة البيرونية في الوقت الذي غضوا الطرف فيه عن أجزاء أخرى من هذه الفلسفة. وقد كانوا بحاجة إلى وراثة خصال التفتح الذهني والتسامح والاحتراس الفكري من الانسياق خلف أي فكرة، وكذلك ترحيب الشكوكيين بالاعتماد على التجربة، ومقاومتهم الصحية للتعصب. في حين أنهم لم يهتموا كثيرا بالفكر البيروني الذي «يؤثر الحياة دون اعتناق آراء». وسنرى في نهاية الفصل التالي كيف نضج هذا الميراث الشكوكي، ولكن لا بد أولا من إلقاء الضوء على ما حدث قبل ذلك.
الفصل الرابع عشر
قلعة الورع: من العصور القديمة حتى
عصر النهضة
في عام 529م - أي بعد وفاة سيكستوس إمبيريكوس بحوالي ثلاثة قرون - وجد أحد الأباطرة المسيحيين سبيلا سريعا لوضع حد للصراعات الفلسفية. ولم يكن هذا الأمر بجديد، فقد حاول سيكستوس وبعض الفلاسفة الشكوكيين الآخرين أن يستدرجوا الفلاسفة المتعصبين لمذاهب معينة إلى صمت هادئ ولكن معظمهم كانوا يتشككون بدرجة كبيرة في مذهب الشكوكية إلى درجة منعتهم من الالتزام بذلك. لكن الإمبراطور جستنيان جرب أسلوبا مباشرا بشكل أكبر، فأغلق المدارس الفلسفية في أثينا، إذ يبدو أنه أراد منع الفلسفة غير المسيحية في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية. لقد كان هدفه الأول هو التخلص من الوثنية - فقد قيل إنه أجبر سبعين ألفا على التنصر في آسيا الصغرى وحدها - رغم أنه كان يرغب أيضا في سحق أثينا بوصفها الخصم الفكري لجامعته الإمبراطورية في القسطنطينية. وبغض النظر عما دفع جستنيان لإغلاق المدارس الفلسفية؛ فقد كانت أيام التساؤلات العقلية المنفتحة معدودة على كل حال. لقد كانت القيود الروحية والدينية على الفكر اليوناني الروماني تزداد قوة لفترة ليست بالقليلة؛ ولذلك كتب بروكليوس - أشهر الفلاسفة الإغريق في القرن السابق - في إحدى ترانيمه للأوثان يقول: «فدعني أحط رحالي أيها الشريد في قلعة الورع.»
وقد بدأت علامات الفلسفة اليونانية التقليدية تخبو حتى بين المفكرين غير المسيحيين. فالصبغة العقلانية التي اتصف بها طاليس وأناكساجوراس وديموقريطس وأبيقور، وعادة التساؤل المتأصلة التي اتصف بها سقراط والسفسطائيون والشكوكيون، وحب أفلاطون للجدال المنطقي، وفضول أرسطو العقلي واسع النطاق، كل هذه الصفات كانت تختفي أو على الأقل تتغير. لقد اهتم بروكليوس بالسحر والعرافة قدر اهتمامه بالهندسة وبأفلاطون، وكان من هذا الجانب نموذجا لفلاسفة عصره. وكانت الأساليب الفلسفية القديمة قد استهلكت قبل محاولة جستنيان القوية للقضاء عليها بوقت طويل.
ولم يكن إغلاق المدارس الفلسفية في أثينا عام 529م أمرا خطيرا في حد ذاته، فقد سبقه حدثان ألحقا ضررا أكبر بالحياة الفكرية؛ أولهما: تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى الغرب اللاتيني والشرق اليوناني في القرن الرابع حيث فصل سريعا بين الأوروبيين وبين تراثهم الإغريقي، وثانيهما: تدمير الإمبراطورية الغربية وحضارتها على يد البربر في القرن الخامس. ومع ذلك يعد عام 529م علامة فارقة في تاريخ الفلسفة؛ فمنذ ذلك التاريخ ظلت الفلسفة في الغرب بشكل أو بآخر أسيرة للديانة المسيحية قرابة ألف عام.
وإذا نظرنا إلى الأمر بعين الفكر الحديث، فمن المغري أن ننظر إلى ذلك الفاصل الزمني الطويل وكأنه يشبه حكاية الجميلة النائمة. فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات عميق قرابة ألف عام حتى أيقظها ديكارت. وقد آمن العديد من المفكرين في زمن ديكارت بذلك أيضا، رغم أنهم نزعوا إلى إرجاع تدهور الفلسفة إلى تأثير أرسطو عليها الذي بلغ ما بلغته الكنيسة (ولم ينسبوا لديكارت بعد أنه هو من أحياها). وفي عام 1651م كتب توماس هوبز أن الفلسفة في جامعات العصور الوسطى «لم تكن إلا خادمة للديانة الرومانية، وبما أن نفوذ أرسطو كان هو السائد فيها لم تكن الدراسة فيها دراسة لعلم الفلسفة بشكل سليم (إذ لم تعتمد طبيعة هذه الدراسة على المؤلفين) بل كانت دراسة لأرسطو.» وبالمثل تحدث فرانسيس بيكون في عام 1605م عن «نوع التعليم المتدني» فقال:
لقد ساد بشكل كبير في أوساط أساتذة رغم اتصافهم بالذكاء الحاد، ووفرة وقت الفراغ لديهم، وعدم تنوع قراءاتهم، واقتصار معرفتهم واطلاعهم على القليل من المؤلفين (وعلى رأسهم أرسطو حاكمهم المطلق) لأن شخوصهم انعزلت في الأديرة والكليات، وبمعرفتهم القليل عن التاريخ سواء تاريخ الطبيعة أو تاريخ الزمن؛ فقد نسجوا لنا من مادة غير وفيرة، وباستثارة عقولهم طويلا هذه الشبكات الغزيرة من المعرفة الموجودة في كتبهم، وهي شبكات معرفية تثير الإعجاب في عملها وفي جمال خيوطها ولكن بلا مضمون أو فائدة.
وبعد ظهور بيكون بقرنين من الزمان - في الوقت الذي أصبح ينسب فيه الفضل لديكارت في إزالة هذه الشبكات العنكبوتية - أدان هيجل فلسفة العصور الوسطى، ولم يدنها بما قاله بل بما لم يقله. فمن بين ألف وثلاثمائة صفحة رصد فيها تاريخ الفلسفة رصدا زمنيا خصص مائة وعشرين صفحة فقط للحقبة الوسطى التي استمرت ألف عام، وأفرد ثمانمائة صفحة للفكر القديم الذي امتد عبر ألف ومائتي عام، وأربعمائة صفحة للفلسفة الحديثة التي استمرت لمائتي عام.
ولن يختلف غالبية القراء المعاصرين مع تصنيف هيجل كثيرا؛ فالنتاج الفلسفي للحقبتين القديمة والمعاصرة بشكل عام ليس أكثر إبداعا فحسب، بل أسهل فهما بالنسبة للقارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى. وفي ظل ضيق الوقت والمساحة فمن الأفضل أن نترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غابتها المظلمة التي تغطيها الأشواك.
وليس هناك داع لأن نأخذ كلام هوبز أو بيكون على محمل الجد بخصوص السبب في اختلاف فلسفة العصور الوسطى بصورة غير محمودة، فلم يكن السبب هيمنة أرسطو أو هيمنة الدين عليها فحسب، كما أن القول إن أفضل عقول العصور الوسطى في الغرب لم تنتج شيئا له «مضمون أو فائدة» هو قول مبالغ فيه.
صحيح أن الفلسفة في العصور الوسطى كانت خادمة للاهوت المسيحي، ولكن من المؤكد أن فلاسفة العصور الوسطى أنفسهم الذين كانوا جميعا رجال دين وكان معظمهم يتكسب من تدريس اللاهوت لم يعارضوا هذا الوصف، ولكن تلك الخادمة كانت تتحصل على عطلات أحيانا. وقد جرت العادة على دراسة فروع عديدة من الفلسفة دون النظر إلى حصة اللاهوت من تلك الدراسات. هذا بخلاف أن العديد من الموضوعات الدينية قد أفضى بطبيعته إلى موضوعات فلسفية. فقضية الروح مثلا يمكن أن تتحول سريعا إلى دراسة لكيفية اكتساب العقل لمعرفته عن العالم المادي وكيفية ارتباط العقل بالجسد. وبالمثل قد تتحول مناقشة موضوع الخطيئة إلى معالجة لمسألة الإرادة الحرة، كما يمكن لمسألة العلم السابق للرب أن تفضي إلى دراسة طبيعة الزمن . والحق نقول إن الكثير من عقائد الديانة المسيحية في العصور الوسطى كان في أمس الحاجة للمعالجة الفلسفية؛ فقد كان على المسيحيين أن يؤمنوا مثلا أن قطعة من الرقاق يمكن أن تتحول إلى قطعة من اللحم بينما لا تزال تبدو كقطعة من رقاق، وأن الرب يمكن أن يكون ثلاثة أشخاص في وقت واحد. ولذلك كانت النظريات المعقدة بخصوص المادة والصورة وجوهر الأشياء - والتي تقدم تفسيرا لهذه الألغاز - تلقى ترحيبا كبيرا.
لقد كان لتزاوج الفلسفة بالدين الذي سيطر على جوانب كثيرة من الحياة في العصور الوسطى مميزات عدة، فرغم أن ذلك فرض قيودا على دراسة الفلسفة نراها الآن غير مقبولة، فقد جعلها محل اهتمام راع واسع النفوذ. ولأن الكنيسة كانت مهتمة بالفلسفة كان على كل من أراد الترقي في مناصبها أو حتى الحصول على تعليم مناسب أن يهتم بالفلسفة أيضا. وعلى عكس الحال اليوم كان كل المتعلمين يدرسون الفلسفة عمليا بقدر ما تحت اسم اللاهوت أو الفلسفة الطبيعية أو المنطق على الأغلب. وكان الفلاسفة - رغم أنه كان من الممكن أن يحملوا ألقابا أخرى من الناحية الرسمية على ما يبدو - رجالا من الأهمية بمكان. اليوم، قد يطمح أحد الفلاسفة المشهورين في تقديم النصح لإحدى اللجان الحكومية بخصوص مسألة صغيرة نسبيا، أما في العصور الوسطى فقد كان يمكن أن يكتسب نفوذا كبيرا بأن يتولى منصب كاردينال أو مطران أو حتى البابا.
وكان يمكن أيضا أن يسجن أو يعزل أو أكثر من ذلك إذا وصل إلى استنتاجات خاطئة. ولكن الإدانات والتحريم اللذين حددا مسار الفلسفة في العصور الوسطى لا يمكن أن نأخذهما على عواهنهما، فهما يبينان أن الفكر المستقل لا يمكن التخلص منه بسهولة، وإلا فلم كان على الكنيسة أن تحاول باستمرار التخلص منه؟ فقد فعلت الكنيسة كل ما بوسعها ولم تجن من ورائه إلا القليل في عصر النهضة عندما تحولت الأفكار غير التقليدية من قطرات إلى سيل من الأفكار. وحتى عندما كانت الكنيسة في أوج قوتها لم تتمكن الأحكام الكنسية إلا من إبطاء وتيرة التغير الفكري وليس تغيير مساره. ففي عام 1210م منع الطلاب في جامعة باريس من دراسة أعمال أرسطو العلمية حتى على المستوى الخاص، وكانت العقوبة الحرمان الكنسي، وبعد عقود قليلة أصبحت دراستها إلزامية.
ولم تكن قبضة الكنيسة على الفلسفة في العصور الوسطى بشدة مثيلتها التي فرضتها الماركسية واللينينية في أوروبا الشرقية قبل انهيار الشيوعية. وثمة العديد من الفروق بين الحالتين، ربما أهمها أن الأنظمة الفكرية البديلة لم تمنع في أوساط الطلبة والمعلمين في بداية العصور الوسطى كما منعت أحيانا في ظل الشيوعية. ولم تمنع هذه الأنظمة لأنها لم تكن موجودة على الأقل في أية صورة قابلة للتطبيق. ولنفترض لوهلة أن أحد المفكرين الخياليين في أوائل القرن الثاني عشر قد تحرر فجأة من قيود المجتمع والنظام التعليمي اللذين تحكمهما الكنيسة. ولنفترض أيضا أنه كان يملك الوقت والمال اللازمين للبحث في أي موضوع يريده، ويمكنه الوصول إلى أحدث الأعمال المكتوبة بلغة يفهمها، ولديه من الزملاء البارعين المتحررين بالقدر نفسه من يستطيع التحدث إليه. فكيف كان سيستغل هذه الحرية؟ وما هي قبلته التي يتلمس فيها الإلهام والأفكار؟ ليس هناك سوى أعمال قدماء الإغريق وتعليقات العرب عليها. وهذا هو ما فعله تماما المفكرون الحقيقيون في القرن الثالث عشر عندما شرعوا بعد وقت طويل في استعادة تراثهم الإغريقي وترجمته. فهل عرقلت الكنيسة إذن ما تبع ذلك من فهم وتطور لما جرى اكتشافه؟ بل على العكس ربما كان مفكرو الغرب سيتباطئون في تعديل التراث القديم وتحويله كاملا ما لم تجبرهم مطالب المسيحية على دراسته بعين نقدية للغاية. ولنأخذ على سبيل المثال ما حدث عام 1277م عندما أدان أسقف باريس 219 مؤلفا مستمدا من الكتابات الإغريقية والعربية المكتشفة حديثا أو مدعوما بها على الأرجح. وكما سنرى لاحقا، لم يكن التأثير بعيد المدى لهذه الإدانات (التي سرعان ما وقع مثلها في بريطانيا) لتقيد المفكرين بالكنيسة، بل جعلتهم يفكرون بأساليب جديدة.
ولذلك ليس ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن البعد عن المسيحية في القرن الثاني عشر مثلا كان سيحدث تطورا جذريا في الحياة الفكرية في الغرب اللاتيني. والحقيقة أن التعليم قد وصل إلى حالة مزرية في أوائل العصور الوسطى بدرجة جعلت الكنيسة المستبدة أدنى مشكلات المفكرين في العصور الوسطى. فبحلول عام 1000م كانت علوم الطب والفيزياء والفلك والأحياء وجميع فروع المعرفة النظرية باستثناء اللاهوت قد انهارت من الناحية العملية. وحتى القليلون ممن حصلوا على قدر من العلم الذين فروا إلى الأديرة كانت معرفتهم أدنى بشكل ملحوظ من معرفة من عاش من الإغريق قبل ثمانية قرون. ولم يكن معظم الأدب القديم - بما فيه الأدب الروماني - معروفا إلا لحفنة من الرهبان، وكانت الملاحظات الرياضية القليلة الموجودة معظمها شديد التفاهة، وكانت النصرانية باختصار غارقة في الجهل (بينما حقق العرب تقدما كبيرا في الطب والعلوم والرياضيات والفلسفة منذ أن بدءوا في ترجمة الأعمال الإغريقية إلى السريانية والعربية في القرن الثامن).
لم يختف التراث الإغريقي بسبب قمعه، بل لأنه ترك ليذهب أدراج الرياح. وربما تورطت المسيحية في بعض هذا الإهمال. فعلى كل حال اعتقد العديد من المسيحيين الأوائل ذوي التأثير الكبير أن الشيء الوحيد المهمة معرفته عن العالم هو أن الرب خالقه، وأن أية تفاصيل أخرى لم تكن ضرورية. وقد أدان القديس أوجستين «شهوة العيون» و«الإدراك عن طريق اللحم، وحب الاستطلاع غير المجدي الذي تزينه نسبته للمعرفة والعلوم.» واعتبر تشريح جسم الإنسان بغرض معرفة تركيبه فسقا يخالف تعاليم الدين؛ لذلك توقف البحث الطبي الجاد. وقد اعتبر بعض الباباوات الأكثر انفتاحا أن قدماء الإغريق هم أبناء الرب لذا علينا الاستماع لهم، ولكن الأصوات الأكثر تأثيرا قالت إن الإغريق جاءوا في مرحلة مبكرة جدا فلم يعرفوا الأشياء المهمة في الحياة؛ لذا كان يمكن تجاهل «معرفتهم». ولم تكن الأمور لتتحسن في ظل هذه الظروف ولا في ظل سقوط الإمبراطورية الرومانية واندثار الحياة المتحضرة والمدارس بالتبعية في ذروة العصور المظلمة في أوروبا (من عام 450م إلى 750م تقريبا). هذا بخلاف ضعف اهتمام الرومان نوعا ما بالتراث الإغريقي قبل تحول الإمبراطورية إلى المسيحية بوقت طويل، وكذلك صار حال الإغريق أنفسهم بحلول القرن الثالث الميلادي.
وإذا لم تكن الكنيسة قد أضرت بالحياة الفكرية بالقدر نفسه الذي صورت به في بعض الأحيان، فماذا عن منبع الشر الوارد في تلميحات هوبز: «أرسطو»؟ فهيمنة فكر أرسطو على العصور الوسطى لها شرط لم يتحقق؛ فجميع أعماله لم تكن معروفة من الناحية العملية في معظم تلك الحقبة. وباستثناء رسالتين صغيرتين عن المنطق لم تنتشر أعمال أرسطو حتى القرون الثلاثة الأخيرة من العصور الوسطى (1150-1450م). ومع ذلك كان هذا الجزء الأخير من تلك الحقبة هو ما شهد معظم الحراك الفكري، فمعظم المؤلفات العلمية والفلسفية المعقدة قد كتبت في تلك الحقبة إثر ترجمة أعمال المؤلفين الإغريق والعرب التي بدأت من منتصف القرن الثاني عشر تقريبا. وفي الواقع انحصر أشهر فلاسفة العصور الوسطى من ألبرت الكبير إلى ويليام الأوكامي في مدة زمنية قصيرة امتدت لمائة وخمسين عاما. وقد تطورت صورة العالم في العصور الوسطى كما نعرفها - عالم دانتي وتشوسر - لتأخذ شكلها النهائي بين عامي 1200م و1350م. وفي هذه المرحلة كان تأثير أرسطو قويا بالفعل.
لقد وفر ما قدمه أرسطو من مفاهيم ومصطلحات بعد ترجمتها إلى اللاتينية الأدوات اللازمة للتبادل العلمي. فإذا كتب أرسطو عن أي موضوع - وعادة ما كان يكتب - كانت نظرياته نقطة البداية لأية مناقشة عميقة لهذا الموضوع. ودائما ما كان هذا العصر يبحث عن سلطة إرشادية تنير له الطريق. وبالنسبة للشئون العلمية لم يكن أحد لينازع أرسطو الخبير في عمله. وكان أحد أسباب ذلك أن الجامعات في القرن الثالث عشر كانت في حاجة لما يملأ مناهجها، وكانت مقالات أرسطو مناسبة لذلك الغرض. وكان التعليق عليها أحد الأشكال الرئيسة للنشاط الفلسفي في الجامعات. وقد كتب ألبرت الكبير حوالي 8000 صفحة من هذه التعليقات.
ولكن لم يكن ألبرت ليجد الكثير ليقوله لو اتفق دائما مع أرسطو. فالعقيدة المسيحية جعلت الاتفاق التام ضربا من المستحيل. لقد قال أرسطو إن العالم كان موجودا على الدوام، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنه لم يكن موجودا. وقد قال أرسطو إن الروح لا تبقى بعد الموت، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنها تبقى. وما قاله أرسطو عن المادة تضمن أن القربان المقدس كان أمرا مستحيلا من الناحية المنطقية، وهو ما لم يكن مقبولا. ولم يكن رب أرسطو مهتما تماما بما يفعله الإنسان، ومن الواضح أن هذا كان مشكلة في حد ذاته.
دائما ما كانت أفكار أرسطو يتلقاها الجمهور بحذر وجدية، فقبل كل شيء كان يجب توفيقها مع تعاليم الإيمان، ولم يعن هذا حذف بعض الفقرات المسيئة فحسب بل التوفيق بين مبادئ المسيحية والمبادئ الأرسطية. وكان العمل المتوج لهذا التوفيق هو «الخلاصة اللاهوتية» الذي ألفه أفضل تلاميذ ألبرت القديس توماس الأكويني (1225-1274م). كما وجب مقارنة أفكار أرسطو بالإسهامات الجليلة الأخرى على قلتها مثل الإسهامات الأفلاطونية. (ولم تكن أعمال أفلاطون باستثناء قصة الخلق في محاورة «طيمايوس» معروفة على نطاق واسع حتى القرن الخامس عشر، ولكن هناك أفكارا متنوعة اعتبرت أفلاطونية وردت عن مؤلفين مرموقين منهم القديس أوجستين). إضافة إلى ذلك وصلت مقالات أرسطو إلى الغرب مصحوبة بتعليقات ضخمة ومثيرة ألفها الباحثون العرب. وبالكاد شرع أساتذة الجامعة المسيحيون في تعلم كل هذه الحكمة ونقلها دون أن يكون لهم رأيهم الخاص؛ ولذلك لم تستقبل أفكار أرسطو وتقدم كما هي بأي شكل. فعندما يتفق معه مفكرو العصور الوسطى فهم لا يرددون آراءه فحسب بل يؤكدون أنهم وصلوا إلى الاستنتاجات نفسها.
ولكن حتى عندما يعارضون أرسطو كانوا يفعلون ذلك على طريقته. وهذا ما انتقده نقاد عصر النهضة المتخصصون في علم اللاهوت في العصور الوسطى. لا يمكن تحميل أرسطو نفسه المسئولية عن انقطاعه عن ساحة العلم بعد وفاته بستة عشر قرنا، ولكن المشكلة كانت في تعامل أتباعه في أواخر العصور الوسطى مع منهجه الفلسفي وكأنه حي يتحدث إليهم. ربما أضفى هؤلاء الأتباع المتأخرون صبغة مسيحية ولكنهم ظلوا يتحدثون بلغة أرسطو. وربما كانت نظرتهم مختلفة في بعض الأحيان ولكنهم ظلوا يعيشون في عالم أرسطو. وحتى عندما شككوا في استنتاجاته كانوا أسرى مفاهيمه وتصنيفاته ومناهجه.
لم يكن أرسطو ليرغب في مثل هذا التأثير بعد وفاته؛ فقد اعتبر نظرياته كما رأينا تفسيرات مؤقتة تستحق البقاء ما دامت توافق الحقائق التي أثبتتها التجربة. وقد حركته هو نفسه روح التساؤل الحر، فلم يكن هو من سمح لمجموعة المفاهيم الجديدة والمتحررة أن تصبح سجنا للعقل. وهذا يقربنا من المشكلة الحقيقية للتعليم في العصور الوسطى، فقد كان أساتذة العصور الوسطى هم من سمحوا لأنفسهم بأن تستعبدهم الكتب. ولم تكمن المشكلة في كتب أرسطو أو في الكتب المقدسة بل في موقفهم تجاه الكتب عامة، فبدلا من اختبار الأفكار في ظل المعارف الجديدة، نزعوا إلى اختبارها في ضوء الكتب القديمة.
ويشبه هذا الوضع المتحفظ الحال في القرون الخوالي من العصور القديمة حينما تقلصت الرغبة في اكتساب المعرفة الجديدة وتحقيق الفهم، إلى الاهتمام بحفظ المعرفة المكتسبة من قبل ونقلها فحسب. وربما تزايد هذا الاهتمام في بداية العصور الوسطى بسبب قلة المادة المتبقية للنقل. وقد وصف أحد النقاد الأدبيين المفكر في العصور الوسطى بأنه:
رجل متعلم فقد قدرا هائلا من كتبه ونسي كيف يقرأ كل كتبه الإغريقية ... ولنضرب مثالا على ذلك فيه قدر من المبالغة لا الكذب بركاب سفينة منكوبة شرعوا في العمل على بناء حضارة على جزيرة غير مأهولة معتمدين في ذلك على مجموعة غريبة مما تبقى من الكتب التي تصادف وجودها على متن سفينتهم.
ولا يمكن تفسير السبب الأصلي في غرق السفينة وفي هذه الرغبة المتقدة في التمسك بالحطام الأدبي في هذا الموضع. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه عندما يأخذ إخراج كل نسخة من كل كتاب وقتا أطول من قراءتها، فبقاء أي نص كان أمرا محفوفا بالمخاطر، وكان يحظى بحفاوة بشكل أكبر مما يمكننا تصوره.
ليس من الصعب أن نرى كيف يؤدي الهوس بالنصوص ومصادر السلطة القديمة إلى صورة من المعرفة تتجه بلا انحراف إلى كل ما هو مجدب ومعقد فكريا. وما إن يفحص عاشق الكتب المنكوب التراث الذي ورثه حتى يدرك أن هذا التراث لا يقول الشيء نفسه. وإضافة إلى مشكلة توفيق نصوص الكتاب المقدس مع بقايا التعليم الوثني، كانت هناك مشكلة التوفيق بين باباوات الكنيسة وبعضهم، وفيما بين نصوص الكتاب المقدس ذاتها، وبين المعلقين بعضهم البعض، وكان هذا عملا لا ينتهي. وكان من الأفضل محاولة إظهار التوافق بين الجهات المختلفة متى أمكن ذلك. ومتى استحال التوصل إلى تركيبة متناغمة بين هذه الجهات فقد يفيد البحث عن طريق وسطي أو أرض مشتركة. وإذا كان هذا مستحيلا أيضا فعلى المرء أن يقبل الأمر برمته مقدرا الإيجابيات والسلبيات ويغلب بالمنطق أحد الطرفين. ولحسن الحظ - أو ربما لسوء الحظ إن لم تتفق معه فيما يفعله - فإن أحد الأشياء التي نجح مستكشفنا في الحفاظ عليها هو المنطق القديم. لقد قدم هذا النظام نظرية كاملة عن التحليل والحجاج بدءا من وضع نظام فني للتعريف والتصنيف وحتى دراسة مشكلات الحجاج. وعلى عكس المنطق المعاصر، لم يقتصر على مبادئ الاستنتاج السليم رغم أنه تناولها هي الأخرى. وبذلك نرى أن المنطق بهذا المعنى الواسع كان أحد أركان التعليم في العصور الوسطى، وطبقت أدواته باصطناع متزايد في معالجة النصوص وتنقيحها.
وفي الجامعات تحول العمل على التوفيق بين السلطات المختلفة إلى أسلوب جديد للتعليم والتعلم. وقد أعد علماء اللاهوت في القرن الثاني عشر آلية تدعى
quaestio
أو «التساؤل» وفيها تقارن الآراء المختلفة لكتاب معروفين حول قضية ما ببعضها وتخضع للتحليل. ويبدو أن هذه الآلية قد ظهرت في صورة تمرين كتابي، يعرض القضية المتناولة بالإضافة إلى بعض الأدلة المختصرة المؤيدة والمعارضة لمختلف الأجوبة المحتملة وتعليقات على هذه الأدلة، وبعدها يقدم الحل. كما أن هذه الآلية قدمت فيما بعد إطارا للمجادلات الشفوية أو «المناظرات» التي شكلت جزءا كبيرا من دراسة طلاب الجامعة. وقد كانت هذه المسابقات تسير وفق نظام محدد مسبقا رغم أنه تغير بتغير الأزمنة والمواقف. ففي كلية اللاهوت في باريس في منتصف القرن الثالث عشر على سبيل المثال، كان الحدث الذي يستمر لمدة يومين يجري كما يلي: في اليوم الأول يؤدي الطلاب المختارون إما دور المعارض أو المدعى عليه، حيث يجيبون بالإيجاب أو السلب على أطروحات بسيطة يختارها المعلم، ويستعان في ذلك بأقوال السلطات المختلفة عن جزأي السؤال المطروح، فيقدم المعارض البراهين على بطلان الأطروحة ويرد المدعى عليه ببراهين مضادة ويتدخل المعلم من آن لآخر. وفي اليوم الثاني يلخص المعلم القضية ويقدم لها الحل بتقديم إجابته وبيان كيف توصل إليها. وفي المناسبات الخاصة مثل عيد الفصح وعيد الميلاد يسمح للطلاب باختيار الموضوعات بأنفسهم. وكانت تعقد كذلك مناظرات للطلبة الأصغر سنا الذين لم يصلوا بعد لدراسة المواد الأصعب مثل اللاهوت، وكانت هذه المناظرات تدور حول أسئلة بخصوص العلوم الطبيعية أو بخصوص المنطق بشكل أكبر، وورد أنها كانت تخرج عن السيطرة أحيانا. وطبقا لبعض المصادر لم يكن الصفير والرشق بالحجارة أمورا غير مألوفة في هذه المناسبات. وتظهر بقايا هذه الأنواع المختلفة من المناظرات في العديد من الأعمال الفلسفية في تلك الحقبة، كان بعضها سجلات منشورة ترصد تلك المسابقات الفعلية وبعضها الآخر مثل الخلاصة اللاهوتية لتوماس الأكويني كتبا مدرسية تتبع آلية «التساؤل» بصورة ما، بحيث تنتقل من الإجابة الثانية إلى الدليل المضاد الرابع إلى السؤال الثالث وهكذا. وقد يرى القارئ المعاصر أن هذا الأسلوب في المعالجة مصمم بحيث لا يمكن استيعابه، ولكنه وضع في الحقيقة ليكون معينا. لقد شكلت ظروف التعليم الجامعي هذا الأسلوب وعززته؛ ففي ظل فرص الطالب المحدودة للاطلاع على الكتب بمفرده وتدوين الملاحظات كان ينبغي أن يتجرع المادة العلمية في صورة كتل سهلة التذكر. كما كان التقدم الذي يحرزه الطالب يقاس عامة بأدائه في المناظرات المباشرة؛ ولذلك كان الطالب يسجل أهم الاقتباسات والحجج المتراكمة ومناورات الحجاج الأساسية في ذاكرته. وقد كان هذا التقسيم والتصنيف الصارم للمادة العلمية أداة مفيدة لتقوية الذاكرة. وقد تبنت المحاضرات التي صبت جل تركيزها على النص بدلا من الموضوع نموذجا منظما يسهل معه تذكر السؤال والحجة المضادة والحل.
وبغض النظر عن البدايات الدقيقة والمميزات الأصلية لهذا الأسلوب التعليمي، فقد سيطرت عليه الرداءة التعبيرية. وقد ازداد الاهتمام بالقدرة على «تمييز» فرضيات الحجة؛ أي إثبات التباسها، وأنه يمكن الإقرار بصحتها من أحد الجوانب دون الآخر. وأصبح استخراج معان مختلفة من الأطروحة الواحدة مهارة يحتفى بها. وقد سيطر القياس الأرسطي الذي يتكون من ثلاث خطوات على دراسة المنطق، فوظف المفكرون العباقرة عبقريتهم بشكل كبير في فرض القضايا المهمة على قوالب هذا القياس المنطقي الذي لم يكن مناسبا لهم. وبمرور الوقت أصبحت المناظرات الشفهية وأدبها أقل حيوية وأكثر جمودا. وفي بداية القرن السادس عشر زال شغف انتظار الإجابة «الصحيحة» في المناظرات وحل محله نموذج آخر تقدم فيه الإجابة في بداية المناظرة، ولكن كان يجب الاستمرار في تقديم الحجج والأدلة الداعمة والمناهضة. ويبين هذا النظام المقلوب ميل تلك المناظرات لأن تكون ممارسة للمهارات المنطقية لذاتها. وكان من الصعب أحيانا مقاومة إغراء تناول نقطة معينة، ليس لأنها مشوقة في حد ذاتها، ولكن لأن أحد المتناظرين لديه إجابة ذكية لها.
ثمة فكرة شائعة مغلوطة تقول إن الأسلوب العلمي لدراسة الفلسفة قد اندثر في أواخر القرن الرابع عشر تقريبا. كثيرا ما يدفع تاريخ الفلسفة لذلك الاعتقاد، ولكن في الحقيقة احتفظت الفلسفة بحيويتها في العديد من الجامعات حتى القرن السابع عشر. وما حدث هو أن الجامعات ومناهجها لم تعد تروق للمؤرخين اللاحقين. وبعد ظهور الكتب المطبوعة من منتصف القرن الخامس عشر ونتيجة لعوامل أخرى كذلك، ابتعدت الحياة العلمية كثيرا عن قيود المؤسسات التعليمية. وفي العلوم والفلسفة على وجه الخصوص عمل معظم المبتكرين خارج النطاق الأكاديمي، وتحولت الأنظار إليهم. ولم يكن لأي من الفلاسفة الكبار في مرحلة ما بعد العصور الوسطى وحتى كانط الذي توفي عام 1804م علاقة بأية جامعة (مع أن لوك درس الطب في جامعة أكسفورد لبعض الوقت).
لقد كرس فلاسفة العصور الوسطى أنفسهم لكشف النقاب عن الجوانب الغامضة من التاريخ الفلسفي؛ إذ كان موت الفلسفة محدقا منذ وقت طويل. ورغم أن مذهبهم الشاق وأفقهم الضيق واهتماماتهم الدينية قد أعاقت انجذاب القراء اللاحقين لهم، فلا ينبغي القول إن أعمالهم الفلسفية لم تكن إلا تصيدا هامشيا للأخطاء. والشيء الوحيد الذي سمعه الجميع تقريبا عن الفلسفة في العصور الوسطى هو أن ممارسيها كانوا يجادلون في أمور تافهة تماما، كالسؤال عن عدد الملائكة التي تستطيع أن ترقص على سن إبرة. وتحتاج هذه القصة لنظرة أكثر تفحصا وتعمقا لأن العبرة الواردة فيها هي عكس المتوقع.
قد تكون الحكايات الخاصة بالمحاولات الجادة لتحديد عدد الملائكة الراقصة لطيفة، ولكن لا يمكن أن تكون حقيقية. فلم يكن اللغز صعبا ليشغل الفكر لوقت طويل، ولكن في ظل الاعتقاد بأن الملائكة لم تكن لها أجسام، فإجابة السؤال عن عدد الملائكة التي تستطيع الرقص على سن الإبرة هي «لا أحد»، فأنى لها أن ترقص إن لم يكن لها جسد. ولذلك لم يكن غريبا عدم وجود دليل على أن أحدا قد بحث في هذه القضية بجدية. ومع ذلك أجريت بعض مسابقات المنطق في الجامعات للترفيه فحسب. وتشبه هذه المسابقات المناظرات التي تجرى بين الطلبة في نهاية كل فصل دراسي في الوقت الحالي: «تعتقد إحدى مجموعات الطلبة أن الملوك يفضلون الكرنب»، وليس من المستبعد أن تكون الحكاية القديمة بخصوص الملائكة ناتجة عن موقف فكاهي مماثل، وفي هذه الحالة سيكون المنتقدون - لا فلاسفة العصور الوسطى - هم من افتقدوا روح الدعابة. ولكن من المرجح أن الحكاية بدأت في عصر النهضة في صورة رسوم ساخرة تعرض نقاشا حول السماء والملائكة وقد رسمت بريشة جون دونز سكوتس (حوالي 1266-1308م ) وهو أحد أهم فلاسفة العصور الوسطى. وإن كان هذا صحيحا فما زالت الدعابة تتحدث عن مفكر عصر النهضة - كائنا من كان - الذي وضع هذه الحكاية؛ ذلك أن هذه القضية التي تناولها سكوتس شبيهة في جوهرها بالقضية التي أقلقت نيوتن بعدها، وظلت قضية مثيرة للاهتمام في أساسيات الفيزياء.
تعرف هذه القضية بقضية الفعل عن بعد. فكيف لجسم ما أن يؤثر على شيء دون وجود تلامس مادي بينهما؟ لم يكن نيوتن سعيدا بأن قوى الجاذبية التي افترضها انطوت على مثل هذا الفعل اللامترابط؛ فقد بدا أن الأرض تؤثر على تفاحته الشهيرة دون وجود وسيلة اتصال بينية. وبالمثل لم يكن سكوتس سعيدا بشأن أن الملائكة التي شاع الاعتقاد بأنها تتسبب في حوادث مادية عندما يأمرها الرب، لم يكن لها أجسام ولم تستطع لذلك التواصل مع أي شيء، فكيف لها إذن أن تنفذ ما أمرها به ربها؟ ولحل هذه المشكلة كان على سكوتس أن يعيد النظر فيما قاله أرسطو عن مفهوم المكان، فكان الحل الذي قدمه هو أن الملائكة يمكنها أن تتخذ موقعا في الفضاء دون أن يكون لها شكل أو حجم، فكما هو الحال مع النقاط في الرياضيات (رغم أن سكوتس لم يقل ذلك) يمكن وضع إحداثيات للملائكة؛ ومن ثم يمكن للملائكة أن تكون «حاضرة» أو قريبة من الأشياء التي تؤثر فيها، وبذلك نتفادى الظاهرة المحيرة للفعل عن بعد، أو هكذا ظن سكوتس.
ثمة الكثير من الأشياء الغامضة في تفسير سكوتس، ولكنه مع ذلك كان يحاول حل لغز كبير آنذاك. وإن كان هناك ما هو سخيف في تفسيره للطبيعة المادية للملائكة؛ فالخطأ يكمن في الإيمان بالملائكة وليس في منطقه بخصوصها.
وعند الانغماس في كتابات العصور الوسطى من الممكن أن نرى ذكاء كبيرا ورغبة في التعلم والفهم. وكلما أمعنا النظر وجدنا مزيدا من الأدلة على ذكاء حاد يتخطى ظروفه المحيطة. علاوة على ذلك، في ظل عدم طباعة معظم مخطوطات العصور الوسطى بخلاف المترجمة من اللاتينية، من المرجح توافر الكثير من الباحثين الذين يعلنون بحماس عن اكتشافهم شيئا مفيدا وسط هذا الحطام. ومع ذلك فإن مثل هذا التمحيص يجب أن يكمله رؤية من منظور أوسع. وإذا نظرنا إلى تراث العصور القديمة وتراث العصور الوسطى في ضوء ما سبق وتلا كلا منهما، فلن تكون المقارنة بين ما جاء أولا وما جاء ثانيا مدعاة للسرور.
سيرصد باقي هذا الفصل أجزاء قصة الفلسفة والعلم منذ اندثار العالم القديم حتى مولد العالم الجديد، وسنقف عند بعض الشخصيات ونقاط التحول. وليس المقصود رسم صورة كاملة عن هذه القصة أو ذكر الجميع. •••
لنرجع إلى زمن سيكستوس إمبيريكوس آخر من ذكرناهم من الفلاسفة في الفصل السابق، والذي لم يعرف للسعادة طعما في حياته. في بداية القرن الثالث الميلادي عندما كان سيكستوس يكتب دفاعه عن مذهب الشكوكية لبيرو تحول المشهد الفلسفي إلى كابوس للمتشككين؛ إذ كان هذا العصر عصر مؤمنين لا متشككين، ونجح الناس في الوصول إلى أقوى مراتب الإيمان. وبينما حاول سيكستوس وحفنة من المتأخرين مقارنة عقائد أفلاطون وأرسطو وأتباع المذهب الأرسطي ببعضها؛ فضل معظم المفكرين محاولة الجمع بينها وتقبلها دفعة واحدة. وتضمن الأمر الديانة المسيحية والروحانيات الوثنية وسحر تحضير الأرواح وهراء التنجيم الفيثاغوري وخليطا من الديانات الشرقية.
إذا تميز القرنان الأول والثاني بعد وفاة أرسطو بروح التنافس بين الاتجاهات الفلسفية المختلفة؛ فإن المفكرين في العصور القديمة تميزوا بروح التصالح. ولا يعني هذا أن الجميع كانوا متفقين أو أن الفلاسفة امتنعوا عن سب بعضهم بعضا، ولكن خيرة الفلاسفة من بعد القرن الأول قبل الميلاد كانوا لا يزالون يهتمون بتبجيل فلاسفة الماضي العظام أكثر من مواجهة معاصريهم. وكان القليل من فلاسفة الرومان المعروفين قد اكتفوا بمذهب فلسفي واحد، فتبنى لوكريتيوس الأبيقورية وتبنى سينيكا وإبيكتيتوس وماركوس أوريليوس الرواقية. وبالرغم من تمسك لوكريتيوس بكتابات أبيقور فقد أمطر أتباع الرواقيين الرومان الأفكار الأصلية للرواقيين الإغريق بإضافات من مصادر أخرى. وكان هذا التوجه الانتقائي سمة أساسية لهذا العصر. وكان التوجه الرئيس وخاصة بين الإغريق ينصب في نظرية عن الحكمة القديمة حاولت إثبات مدى التشابه بين الفلسفات المختلفة . وأعلن أنطيوخوس الأسكالوني الذي شغل منصب رئيس الأكاديمية في أثينا من عام 86ق.م. إلى 68ق.م. أن المذاهب الأفلاطوني والأرسطي والرواقي متماثلة في مضمونها. وكان شيشرون الخطيب الذي حضر محاضرة أنطيوخوس باحثا آخر بدت كتاباته الفلسفية وكأنها كتابات فيلسوف أفلاطوني يعمل بالقطعة، وأحيانا مثل كتابات فيلسوف رواقي قد ضل سبيله. ومما يزيد الأمر بعثا على الحيرة أنه قد وصف نفسه بالمتشكك.
وعادت الفيثاغورية للظهور من جديد في زمن شيشرون، وحاول أتباعها إثبات أن أفلاطون استقى كل أفكاره الجيدة من فيثاغورس. وادعى هؤلاء الأتباع المجددون أيضا أن أرسطو جاء بكل أفكاره من أفلاطون، جامعين بذلك قدرا كبيرا من الفلسفة الإغريقية القديمة في مذهب واحد. وكان ثمة مشروع آخر أكثر طموحا للتوفيق بين المذاهب لصاحبه الفيلسوف اليهودي فيلو السكندري (حوالي 25ق.م.-45م). وشجعت شروحه الضخمة والمتضاربة أحيانا للسبعونية (ترجمة إغريقية للعهد القديم والكتب المنحولة) على المزاوجة بين الكتب المقدسة والفلسفة الإغريقية التي أضاف إليها فيما بعد علماء العقيدة اليهود والمسيحيون والمسلمون. وبحلول القرن الثاني الميلادي كان قد جرى الجمع بين أفكار فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو والرواقيين وغيرهم في فسيفساء أبهرت الوثنيين والمسيحيين على السواء.
وقد جمع أحد الكتب المدرسية الفلسفية لمعلم وثني يدعى ألسينوس كثيرا من هذه الأفكار، وقد قال فيه إن الكون خلقه صانع أكبر من خلال الوسائل الواردة في محاورة أفلاطون «طيمايوس». وقال أيضا: «لقد صممه الرب عندما نظر إلى فكرة ما عن الكون كانت هي نموذجه وكان هو نسخة لها.» ورغم أن أرسطو لم يكن لديه من الوقت ما يكفي لقصة خلق كهذه، فقد استعان ألسينوس بمفهومه عن المحرك الذي لا يتحرك في تفسير الحركة المتواصلة في السماء فقال: «دون أن يتحرك بذاته يصرف الرب العلي الكون كما ... يثير الشيء المرغوب فيه الرغبة في النفوس دون أن يتحرك بنفسه.» وكما هو الحال عند أرسطو قال ألسينوس إن هذا الرب يجب أن «يتأمل نفسه وأفكاره إلى أبد الآبدين»؛ ذلك أن لا شيء سوى ذلك من العظمة بمكان بحيث يشغله عنه. فما هي إذن هذه الأفكار بالتحديد؟ لم يستطع أرسطو أن يجيب على هذا السؤال ولكن ألسينوس عرفها بالصور الأفلاطونية المثالية التي كانت نموذجا لخلق العالم. وبينما اعتبر أفلاطون الصور قيما مستقلة قائمة بذاتها هرع ألسينوس على آثار الفيلسوف فيلو في قوله إن الأفكار في عقل الرب. وقد كان هذا التعديل مناسبا للمسيحيين والمسلمين واليهود؛ لأنه استبعد فكرة أفلاطون عن أن الصور أعظم من الرب. وفي ظل هذه المواءمات الغنية والاقتباسات من الأعمال السابقة استعمل ألسينوس مفهوم الرواقيين عن «العناية الإلهية الباهرة» التي توجه العالم بما يحقق أعظم فائدة للإنسان. وذهب هذا إلى جعل الرب أكثر اشتراكا في العالم من ذلك الرب المحرك الذي لا يتحرك الذي اقتصر على التأمل عند أرسطو.
وقد قال ألسينوس إنه لتكوين صورة واضحة عن الرب يجب التسامي عقليا بالطريقة التي ذكرتها الكاهنة ديوتيما عندما تحدثت على لسان سقراط في محاورة أفلاطون «المأدبة» (انظر الفصل الحادي عشر). وفي رواية ألسينوس جاء ما يلي:
يتأمل المرء أولا جمال الجسد، ثم ينتقل إلى جمال الروح، ثم إلى الجمال الموجود في العادات والقوانين، ثم إلى بحر الجمال الواسع، وبعدها يدرك المرء الخير المجرد نفسه؛ إذ تظهر غاية الحب والرغبة كالضوء الساطع على الروح في صعودها. ويضاف إلى هذا مفهوم الرب لعظمته المطلقة.
لقد بلغت ديوتيما الذروة وارتقت «سلم السماء» وصولا إلى «روح الجمال المطلق»، ولكن نجح ألسينوس هنا في أن يتجاوز ذلك بدرجتين؛ فهو يقفز من صورة الجمال الأفلاطونية مباشرة إلى صورة الخير، وهي الصورة الأسمى لدى أفلاطون، والتي شبهها في «الجمهورية» بالشمس التي تسطع على كل شيء، ثم يقفز ألسينوس من صورة الخير إلى الرب. وفي الواقع كان الرب وصورة الخير يعدان شيئا واحدا في القرن الثاني الميلادي، رغم أن أفلاطون نفسه كان مصرا على أنهما شيئان مختلفان تماما؛ إذ اعتبر الرب قبل خمسمائة عام روحا لا صورة مجردة. وكانت الفلسفة تهتم بالصور بينما اختص الدين بالأرواح والآلهة، أما الآن فقد امتزجت الموضوعات الفلسفية والدينية ببعضها، فما كان يوما مجردات فلسفية تحول إلى آلهة محددة وما يخصها من أفكار مقدسة.
لقد اقتفى قليل من مفكري القرن الثاني الميلادي أثر الرواقيين في وصف الرب بالنار التي تتخلل الكون، ولكن هذا كان مخالفا للعرف آنذاك؛ إذ كان الوضع السائد في هذا الوقت معاديا للمادية، وبدت فكرة الرب الناري شديدة المادية. وكان من تأثر بالفيثاغورية يشير إلى الرب ب «الواحد»؛ لأنه لو كان معدودا فذلك هو أفضل الأرقام له. ومع ذلك لم يكن هؤلاء المتأخرون من أتباع فيثاغورس موحدين، فقد اعتقدوا أن هناك آلهة أدنى مرتبة كان لكل منهم رقمه الخاص، وهو ما اقتبسوه غالبا من الأساطير. ويبدو أن نومينيوس الأوبامي - وهو أحد أتباع المذهب الفيثاغوري ممن عاصر ألسينوس - كان يعتقد بوجود إلهين رئيسين على الأقل، فكان هناك الإله الصغير الذي قام ببناء العالم، ونظيره الكبير الذي لم يرد أن يلوث يديه بمثل هذا العمل. وقد تمكن نومينيوس من اقتباس بعض من النصوص اليهودية والمصرية والفارسية والهندية المقدسة دعما لأفكاره الفيثاغورية والأفلاطونية. وتساءل ذات مرة من يكون أفلاطون إن لم يكن موسى الإغريقي؟
لقد احتلت صورة أفلاطون مكانة خاصة بين هذه المصنفات من الحكمة القديمة، كما سيطرت على مشهد الحياة الفكرية المتفكك بالكامل. بالطبع قدم ألسينوس كتابه بوصفه «ملخصا لتعاليم أفلاطون الأساسية» رغم ما يحويه بين دفتيه من اقتباسات واضحة من عدة مصادر أخرى. وفي الواقع اعتبر كل الفلاسفة الإغريق أنفسهم بدءا من القرن الثالث الميلادي فصاعدا أفلاطونيين بشكل أو بآخر؛ فقد طغت فكرة أفلاطون التي تقول إن العالم المادي كان محض ظل لحقيقة أسمى على كل النظريات البديلة تدريجيا. أما آراء أرسطو الواقعية والنزعة المادية المتشددة للرواقيين الأوائل ولأبيقور، فلم تجد صدى لها في حضارة سيطرت الغيبيات على اهتماماتها الدينية والفلسفية.
وفي حياة ألسينوس (على الأرجح في عام 120) شيد نصب يعبر عن التأثير المتراجع لمذهب أبيقور المادي في مدينة أونواندا بجنوب غرب تركيا. وقد جعلت النقوش المحفورة عليها هذه الوثيقة أغرب وثيقة في تاريخ الفلسفة. وبالمثل أنشأ مواطن معروف يدعى ديوجين صفا من الأعمدة بطول 100 ياردة حفر عليها رسالة من حوالي 25000 كلمة في مدح أبيقور والدفاع عنه. ولم يكن من المقصود أن تكون هذه الأعمدة ضريحا تذكاريا كبيرا، ولكنه صار كذلك. وظهر أتباع معدودون لأبيقور على مدار القرون القليلة التالية، ولكنهم لم يخرجوا إلى النور إلا ليكونوا هدفا لهجوم المسيحية؛ إذ قام أهل أونواندا بهدم الضريح في وقت ما في القرن الثالث واستخدموا أحجاره في بناء منازلهم. وتم استخراج ما يقرب من ربع الرسالة وإعادة تجميعه، وتضمن هذا الجزء نبوءة بعهد ذهبي قادم يجلبه اعتناق مذهب أبيقور. وقد ساعدت إعادة إنتاج نظريات أبيقور الفيزيائية في القرن السابع عشر على الترويج لها في ظل الثورة العلمية، ولكن ديوجين كان يأمل أن لو حدث هذا في وقت مبكر عن هذا.
وتتحدث تلك النقوش عن «الخلاص» الذي قد تأتي به الأبيقورية. وعلى الأقل في اختياره لهذا المصطلح اقتبس ديوجين روح عصره. وكانت الفلسفة آنذاك يراها الناس طريقة للخلاص الروحي لا وصفة للسلام النفسي أو النشاط الفكري. وقد عرفت مجموعة من الكتابات الروحية الفلسفة بأنها الاشتغال ب «تعلم معرفة الإله عن طريق التأمل المنتظم والتفرغ الورع.» وقد ركزت الحركات الدينية المعاصرة مثل الأدرية على الطبيعة الدنيا والخادعة للعالم المادي، وعلى العديد من الطرق غير العقلية للبحث عما هو أفضل.
أضف إلى ما سبق أن ديوجين اعتبر فلسفة أبيقور دليلا على أن العلوم الطبيعية تعود بعظيم الفائدة على البشرية، إلا أن هذه الفكرة لم تلق تجاوبا ولا قبولا على الإطلاق؛ إذ لم يكن ثمة أي اهتمام بالعلم بين مفكري القرن الثاني إلا قليلا. فقد أشاد ألسينوس وزملاؤه «الأفلاطونيون» بعلوم الحساب والهندسة والفلك سيرا على نهج أفلاطون، ولكن يبدو أن جهدهم قد ذهب أدراج الرياح. أما المسيحيون كما رأينا فكان لديهم ما يشغلهم وكانوا على كل حال يشككون في العلوم الإغريقية. وكان الطبيب العظيم جالين البرجامومي (129-199م) ومعاصره بطليموس السكندري من أكبر علماء الحضارة الإغريقية القديمة كلها وأوسعهم تأثيرا، ولكنهما كانا نهاية السلسلة، فلم يظهر من يخلفهما لمدة طويلة. كان بطليموس أشد علماء الفلك تأثيرا حتى الثورة العلمية، حيث ظلت روايته لنظرية أرسطو عن أن الأرض مركز الكون خارج نطاق المناقشة لألف ومائتي عام. أما كتابات جالين المبنية على تشريح الحيوانات فكانت فعليا مصدر كل العلوم الطبية حتى العصور الحديثة؛ فقد كان عالما موسوعيا على الطراز القديم، أضاف الكثير إلى الفلسفة وبخاصة المنطق ومحاولاته الرد على الشكوكية. ولكن لم يكن بطليموس وجالين ليتمكنا من ترك هذا الأثر طويل الأمد إن لم يكونا آخر جنسهما المندثر، حيث لاحظ جالين أن معرفة الناس بالعالم المادي أقل بكثير من معرفتهما به، ربما لأنهم لم يعودوا مهتمين به.
لم تزدهر العلوم الإغريقية لعدة أسباب في ظل الحكم الروماني؛ فالطبقات الرومانية الحاكمة كانت تشعر بخليط غريب من الازدراء والإجلال تجاه ما حققه رعيتهم وخدمهم الإغريق من إنجازات. فمن ناحية، لم يستطع أي متعلم من الرومان أن ينكر تفوق الإغريق في الفنون والعلوم، فبغض النظر عن أي شيء آخر كان أدب الإغريق أكثر اتساعا وتعقيدا من أدب الرومان، كما كان المعلمون الإغريق هم الأفضل لمن يطيق أجرهم، وكانت اللغة اليونانية القديمة هي المستخدمة في التعليم الراقي. ورغم أن الإمبراطور ماركوس أوريليوس كان يجري أعماله الإدارية باللغة اللاتينية بشكل طبيعي، فقد كان أيضا من الطبيعي وقتها أن يكتب تأملاته الفلسفية باليونانية القديمة. ومن ناحية أخرى فرضت الكبرياء الرومانية أن تظل ثقافة العرق المهزوم في محلها، كما كان للرومان مواهبهم الخاصة التي استحقت أن تتقدم على ما سواها. وقد كانت الاهتمامات والمهارات الرومانية عملية أكثر منها نظرية، فمن الواضح أنهم كانوا يفضلون شق القنوات على الدخول في مناقشات. وقد جعلت إنجازاتهم الاعتراض على هذا السلوك صعبا. فنظام الصرف الروماني على سبيل المثال أنقذ بالتأكيد أرواحا أكثر من تلك التي أنقذتها علوم الطب اليونانية العظيمة.
لم تتجاهل الطبقات المتعلمة التقاليد الفكرية الإغريقية برمتها، ولكنها كذلك لم تتمسك بها جميعا، فكانت النتيجة أن كانت فلسفتهم فلسفة تقليد ومحاكاة وكذلك علومهم، وهو ما يعني عدم وجود علوم حقيقية على الإطلاق. لقد وضع الرومان موسوعات ومصنفات لحقائق مهمة وقرءوا مثلها، ولكن على المستوى العام لم يكن لديهم دوافع الإغريق للملاحظة والفهم والتنظير والاستنتاج والحفاظ على روح التساؤل؛ فقد كانوا مصنفين مجتهدين لا مفكرين مبدعين. وفي كتابه «التاريخ الطبيعي» تباهى بليني الكبير (23-79م) بأنه جمع «حوالي 20000 حقيقة تستحق التسجيل لمائة مؤلف أجرى عليهم بحثه»، وأضاف قائلا: «لا أشك أن العديد من الحقائق قد فاتني.» ومن الاختلافات العديدة بين هذا النوع من الجمع وبين دراسات أرسطو أنه لم يكن ليخطر ببال أرسطو أن يحصي عدد الحقائق في جعبته.
قال بليني أيضا إنه ضمن كتابه بعض المعارف القيمة التي استقاها من تجاربه الشخصية، فيقول على سبيل المثال: «إليكم هذه الحقيقة المذهلة التي من السهل اختبارها: حينما يندم المرء على ضربة ضربها فيبصق في راحة اليد الباطشة؛ فإن الشخص المضروب يقل سخطه.» ولم ير بليني أي فرق بين العلم ورواية الحكايات؛ فهو يروي قصة لؤلؤة كليوباترا الذائبة، ويتحدث عن القدرات العجيبة للدلافين، ويصف كيف رأى امرأة تتحول إلى رجل في ليلة زفافها. وكذلك ثمة قدر كبير من الملاحظات والتصنيفات الواقعية نسبيا في الجغرافيا وعلوم الحيوان والنبات والطب والأحياء، ولكنه يبقي على بعض الأمور الغريبة فيقول مثلا: «تتفق المصادر المدروسة بعناية على أنه أثناء عمل ماركوس ليبيدوس وكوينتوس كاتيولوس قنصلين، لم يكن هناك منزل في روما خير من منزل ليبيدوس نفسه، لكن بعد خمسة وثلاثين عاما لم يكن هذا المنزل ضمن أفضل مائة منزل.»
وتوضح محتويات موسوعة كتبها أولوس جيليوس (130-180م) قبل قرن تقريبا كيف أن مذهب الرومان في المعرفة اتجه نحو الهاوية وزاد اضطرابا وتقلبا. وهذه عينة نموذجية من رءوس فصول أولوس جيليوس:
لماذا أدخل أجدادنا حرف الهاء الحلقي في بعض الأفعال والأسماء؟
ليس مؤكدا أي الآلهة يجب تقديم القربان له عند وقوع زلزال.
في الكثير من الظواهر الطبيعية لوحظت قوة وفاعلية معينة للرقم سبعة.
قال كبار العلماء إن أفلاطون ابتاع ثلاثة كتب من فيلولاوس الفيثاغوري وإن أرسطو ابتاع بعض الكتب من الفيلسوف سبوسيبوس بأسعار خيالية.
أغرب ما عرف عن طائر الحجل ما سجله ثيوفراستوس، وأغرب ما عرف عن الأرنب البري ما دونه تيوبومبوس.
بعض الملاحظات المفيدة والمشوقة في فرع علم الهندسة المسمى باسم «البصريات» وفي فرع آخر باسم «التناغم» وفي فرع ثالث باسم «القياس».
مخطئ من يظن أنه عند الكشف عن الحمى يفحص نبض الأوردة وليس الشرايين.
أظرف ردود أنطونيوس يوليانوس على بعض الإغريقيين في مأدبة.
وتحظى هذه الموسوعة الآن بأهمية أكبر من تلك التي حظيت بها وقت كتابتها، فهي مصدر لجميع أنواع المعلومات والقصص العتيقة التي لا توجد في سواها بدءا من بعض أفكار الفيلسوف الرواقي المتقدم كريسيبوس عن القدر إلى الحكاية المشهورة حاليا عن أندروكليس والأسد المسالم. ولكن الشيء الأكثر دلالة على الأرجح مما تبينه الموسوعة عن العالم القديم هو كيف أن الواقع العلمي أصبح هشا يعتمد على المصادفة والنقل.
وحتى المؤلفات القليلة المتخصصة في الرياضيات والطب والفلك التي وضعها مفكرو الإغريق بدءا من القرن الثالث فصاعدا، كانت في أغلبها تصنيفات وشروحا لأعمال سابقة بدلا من الرسائل الأصلية. وكذلك كانت معظم الكتابات الفلسفية البحتة على مدار القرون الثلاثة التالية في شكل شروح. وظهر في بعض هذه الأعمال فكر قوي وجديد، ولكن تقديمها في صورة تعليقات على نصوص ذات مكانة هو حقيقة ذات دلالة، ففي معظم الأحوال بدا أن الفلسفة والعلم يفقدان الشجاعة. •••
كان أكبر فلاسفة القرن الثالث وأقواهم تأثيرا استثناء لهذه القاعدة ولم يكن يكتب محض شروح، إلا أن معظم تعليمه الشفوي كان يرتكز حولها، كما أنه تأثر حتما بجميع الاتجاهات الفكرية التي لاحظناها. إنه أفلوطين (205-270م) المعلم الوثني الذي تلقى العلوم في الإسكندرية ودرس في روما. اصطبغت فلسفة أفلوطين بصبغة غيبية وبنزعة دينية عميقة لم تتأثر قط بالفضول العلمي. وجريا على العادة وقتها فقد حاول الجمع بين أفكار المفكرين الأوائل مع وضع أفلاطون فوق الجميع. ودشنت أفكار أفلوطين ذات النزعة الروحية المرحلة الأخيرة من الفلسفة الإغريقية في ظل سقوطها من عالم العقل والمنطق إلى عالم القوى الخفية والدين. وقد كانت هذه الأفكار مثالية للقديس أوجستين (354-430م) الذي قال إنها ضمت كل شيء ذي أهمية في الديانة المسيحية باستثناء شكل المسيح نفسه، بل إن شئت فقل إن علم اللاهوت المسيحي تبنى العديد من أفكار أفلوطين، ويرجع الفضل في جزء من ذلك لجهود القديس أوجستين.
يقول تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته فرفريوس (232-305م) إن أفلوطين «كان يشعر بالخزي من وجوده الجسدي»، فقد رأى أفلوطين أن الحياة الدنيوية نوع من الوجود الأدنى مرتبة، تماما كالسجناء المصفدين في كهف أفلاطون المظلم. ولتأثره بحديث أفلاطون عن الأرواح غير المادية وعن الصور المثالية التي تعكسها الكائنات الأرضية على نحو باهت، حث أفلوطين تلاميذه على التركيز على عالم روحي أسمى. وكان ما حاول تحقيقه أكثر من أي أفلاطوني آخر هو الوقوف على حقيقة العلاقة بين الحقائق الأدنى والأسمى، فلم يقدم أفلاطون نفسه ما يزيد على تلميح بوجود عالم أسمى، أما أفلوطين فقد حاول أن يرسم خريطة توضح نقطة التقاء العالمين، فأعيد إحياء النظرية الناتجة بما قدمته من توصيفات شعرية للتسلسلات الهرمية المبهمة بشكل متقطع في الفكر الأوروبي فيما بعد. ومنذ القرن التاسع عشر أطلق المؤرخون على هذه النظرية اسم «الأفلاطونية الجديدة» لبيان أنها تجاوزت كل ما اكتشف عن أفلاطون.
لقد علم أفلوطين أنه كان يحاول وصف ما لا يوصف، وكان هدف فلسفته الاتحاد بما يشبه الرب الواحد، وهو ما ادعى حصوله معه من حين لآخر. ورغم أنه تمكن من وصف حالات الاتحاد العابرة، فإن طبيعتها تبين أنه لم يكن لديه الكثير ليقوله عنها. لقد رأى أن هذا الواحد يتجاوز قدرات العقل الإدراكية، وكان أسمى مما سواه بحيث لا يوجد مفهوم ينطبق عليه. فمن ناحية أقر أفلوطين أن الإشارة إلى هذا الرب ب «الواحد» أمر مضلل؛ إذ إن هذا يثير التساؤل: «واحد من أي شيء؟» فالواحد (أو أيا ما كان) لا يمكن أن يكون كائنا لأنه «يتجاوز الوجود» على حد وصف أفلاطون. وقد كتب أفلوطين أنه «لا يمكن الجزم بأي مما له، لا الوجود ولا الذات ولا الحياة، لأنه يسمو فوق كل هذا.»
إن الواحد يسمو فوق كل شيء لأنه أصل كل شيء ومصدره. وكانت إحدى صور أفلوطين المفضلة لاستحضار الطريقة التي لا توصف والتي جاء كل شيء فيها من الواحد هي «الانبثاق»، فالوجود ينبعث من الواحد كما ينبعث الضوء من الشمس، ولكن هذه الصورة معيبة لأنها لا تعبر عن فكرة أفلوطين عن التسلسل الهرمي للحقائق. وربما من الأفضل أن نستخدم صورة النافورة المندفعة حيث يندفع كل شيء من قمة عالية - أي الواحد - إلى ما دونها من طبقات. ومع ذلك لا يجب النظر إلى هذا الفيض القادم من الواحد بوصفه حدثا ماديا. وفي الحقيقة هو ليس حدثا على الإطلاق لأنه خارج حدود الزمان، فما يحاول أفلوطين وصفه يتعلق بما وراء الطبيعة كلها؛ فهو لا يصف ظاهرة طبيعية معينة يمكن تفسيرها في ضوء السبب والنتيجة.
وتتكون هذه النافورة المجازية عند أفلوطين من ثلاث طبقات «يفيض» كل منها بشكل ما لتخلف ما دونها، وتحت ينبوع الواحد هناك طبقة العقل، وتليها طبقة الروح. في طبقة العقل نجد الصور الأفلاطونية المثالية التي تعد عقولا حية بشكل ما، فالعقل فيض الواحد والروح فيض العقل. ويمكن تقسيم الروح ذاتها لعدة طبقات ثانوية تفيض أدناها مخرجة لنا العالم المرئي. أما المادة على الأرض فهي أدنى ما في المرتبة الدنيا، فهي الأبعد عن «الواحد»، الذي يسميه أفلوطين «الخير»، وهذا يعني أنها شريرة. ويحمل مفهوم الشر لدى أفلوطين دلالة سلبية تماما، ويشير إلى أبعد مسافة ممكنة عن الواحد أو الخير.
وللحقيقة عند أفلوطين درجات، كما للخير درجات. فهناك أشياء حقيقية أكثر من غيرها، وكلما زاد قربها من الواحد كانت إلى الحقيقة أقرب. ولا يقصد أفلوطين بهذا التعبير الغريب على سبيل المثال أن الخيول «حقيقية أكثر» من الحصان وحيد القرن؛ لأن الخيول موجودة بينما الحصان وحيد القرن منعدم، وإنما يقصد أن هناك عدة درجات للحقيقة حتى بين الموجودات. فحتى إن كان الحصان وحيد القرن موجودا فعلا فسيعتبره أفلوطين في أدنى درجات سلم الحقيقة؛ لأن الحصان وحيد القرن لن يتعدى كونه شيئا ماديا، وهذه الدرجة الأخيرة لم تحظ من اهتمام أفلوطين بالكثير. وتعد هذه الفكرة نوعا من مذهب الكمال في أكثر صوره تشددا؛ إذ لا يمكن اعتبار أي شيء حقيقيا بشكل كامل إلا إذا كان كاملا مكتملا من جميع النواحي، وهو ما لا يتوافر في أي من الأشياء المادية. ويرى أفلوطين أن ليس كاملا كمالا مطلقا إلا الواحد، فيقول: «هو غني في سموه، قائم بذاته، أكبر من كل شيء، لا يشوبه نقص أو احتياج.» ولذلك فهو الحق المطلق. أما العقل فهو أقل في حقيقته من الواحد، وكذلك الروح، أما نحن فلسنا في كامل الحقيقة على الإطلاق.
ولكن لا داعي لأن يحزننا هذا، فلسنا في قاع بحر الحقيقة؛ فبفضل الأرواح التي في أبداننا وقوة العقل فينا يمكننا أن نسمو إلى مرتبة الواحد في بعض الظروف. وليست هذه الرحلة رحلة مادية بالطبع؛ لأنه من المفترض أن لا شيء مادي في نافورة أفلوطين ومستويات الحقيقة المندفعة منها، فالرحلة نقوم بها بعقولنا. وحيث ندرك مدى اعتماد كل من مستويات الحقيقة على الذي يليه، فنحن نسمو إلى هذه الطبقات العلى وربما نصل في النهاية إلى مرتبة الواحد. إن فكرة الصعود العقلي هذه التي تأخذنا فيما وراء أجسادنا قد تشبه حديث الكاهنة ديوتيما عن الصعود التأملي من خلال صور الجمال التي تزداد تجردا إلى «الجمال المطلق»، (أو «الجمال الذي يفوق الجمال»، وهو الوصف الذي أطلقه أفلوطين على الواحد أحيانا). فإذا حققنا هدفنا ورأينا لمحة من الواحد فإن:
الروح تطلع على مصدر الحياة ومصدر العقل وبداية الوجود ومنبع الخير وأصل الروح.
ويكتمل وجودنا هناك، فهذا هو النعيم ... وهذا هو سلام الروح بعيدا عن الشر، وهذا هو الملاذ حيث لا خطيئة.
إن رحلتنا إلى الواحد هي رحلة عودة كالمسافر يعود إلى موطنه ومأواه. فهي ليست رحلة نزور فيها مصدر وجودنا فحسب، بل هي رحلة تتضمن اكتشاف أنفسنا الحقيقية. ويقول أفلوطين إنه «عندما تصعد الروح مرة أخرى فهي لا تذهب إلى ما هو غريب عنها بل إلى ذاتها المطلقة.» ذلك أن هناك تشابها بين أسمى الأجزاء في أرواحنا وأعلى درجات الحقيقة. وقد اعتبر أفلوطين أن درجات الحقيقة العليا درجات عقلية وليست مادية، كما اعتقد أن الحقيقة تنبع من الواحد مثلما تنبع الأفكار من العقل. أي إنه اعتقد أن قدرتنا على التفكير تعكس عملية «الفيض» الغامضة التي تخرج لنا العالم؛ وبذلك فنحن نشبه الإله الواحد. ويذكرنا هذا بالفكرة الأورفية التي تقول إن الروح داخلنا إنما هي انعكاس باهت للألوهية لا يزال فيه بعض الحياة، كما يذكرنا برأي أرسطو أن نشاط الجزء العاقل من الروح هو نفسه نشاط الرب.
وثمة شيئان ضروريان للرقي إلى مرتبة الواحد، وهما الاجتهاد العقلي وفضائل الأخلاق. ويرى أفلوطين أن هذين الأمرين صورتان من الجهاد في سبيل الصعود من الشواغل الدنيوية إلى الاهتمامات الإلهية أو السامية. ولكن ليس واضحا إلى أي مدى يفترض بالمرء أن يزهد في الحياة الدنيا. وقد تخلى عضو في البرلمان الروماني عن اشتغاله بالسياسة من أجل الفلسفة حينما سمع ما قاله أفلوطين. ولكن أفلوطين بالطبع لم ير أنه على الإنسان أن يكره العالم أو يتجاهل من يعيش فيه، بل يجب عليه أن يجاهد ليرى الجمال في العالم المرئي؛ لأن هذا العالم كما قال أفلوطين ليس إلا مرآة للواحد، فيجب التحلي بالأخلاق الحميدة مع الجميع؛ لأن كل روح تتبع الرب. ولا ينبغي للناس الاعتقاد أنهم سيتمكنون من الوصول إلى الواحد من دون فضائل الأخلاق. وقد عارض أفلوطين فكرة أن سمو الروح وارتقاءها إلى مرتبة الواحد لا يعتمد إلا على معرفة أسرار العالم، فهذا وحده لا يكفي لأن الواحد هو الخير كذلك، ولا يمكن الاتحاد مع الخير دون أن يتحلى المرء نفسه بالخير.
وكأية فلسفة تركز على السلوك الأخلاقي والغيبيات يسير فكر أفلوطين في اتجاهين متضادين في آن واحد. فما هو نطاق الحياة الفاضلة القويمة وما هو مداها إن عاش الإنسان «وهو يشعر بالخزي من وجوده الجسدي»؟ ألم يكن باستطاعة تلميذ أفلوطين السابق ذكره أن يقدم المزيد من الخير للعالم إن بقي في منصبه عضوا في البرلمان؟ وثمة نقطة تعارض أخرى عند أفلوطين تكمن في الجاذبية المتعارضة للتصوف والمنطق؛ فهو متصوف وعقلاني في آن واحد، فأفلوطين عادة ما يحاول إثبات آرائه ويعتمد في ذلك على معرفة الفلسفة القديمة بطريقة تضعه في دائرة أسلافه من أتباع المذهب العقلي. وقد يعبر أفلوطين عن حججه وبراهينه بشكل رديء (حتى إن تلميذه المتفاني فرفريوس أقر بأنه لم يكن كاتبا متمكنا)، وقد تعاد وتتكرر بشكل لا نهاية له (فحتى هيجل اكتشف أن قراءتها يمكن أن تكون مرهقة)، كما أنها لا تقنع الكثيرين في يومنا هذا. ومع ذلك ففي داخل نثر أفلوطين المتشابك ثمة شيء منطقي يجاهد ليتحرر من أسره ويفك قيده، فهو مثلا لا يكتفي بالتأكيد على أن المادة غير حقيقية، بل يحاول بيان أن هذا يستنتج من معرفة أننا ننخدع بسهولة في خصائصها ومن بعض الحقائق الأخرى. وقد لا يكون هذا الاستنتاج مقنعا في النهاية، ولكنه يظهر الجانب العقلاني لدى أفلوطين. ومن ناحية أخرى يقر أفلوطين أنه يحاول أخذنا إلى ما وراء العقل والمنطق فيقول: «عندئذ يأخذنا الطريق إلى ما وراء المعرفة.»
قال أرسطو ذات مرة إن كل إنسان لديه رغبة طبيعية للمعرفة. أما أفلوطين فكان يصبو إلى شيء أكثر من المعرفة، وكان على استعداد للتخلي عن أساليب أرسطو الرزينة في سبيل الحصول على هذا الشيء. وقبل أن يستقر في روما ليشتغل بالتدريس اشترك أفلوطين في حملة عسكرية إلى الشرق، أملا في الحصول على المعرفة من حكماء فارس والهند. ولسوء الحظ ألغيت الحملة قبل أن تقطع مسافة كبيرة، لكن أفلوطين نجح بطريقة ما أن يرسو على شواطئ الصوفية الشرقية على أية حال. وقال أفلوطين إنه من أجل الاتحاد مع الواحد يجب التخلي عن «البرهان ... والدليل ... وعملية الاستنتاج التي تخضع لتقاليد العقل»، وأضاف أن «هذا النوع من المنطق لا يرد عليه من خلال ما نراه مناسبا من أفعال؛ فليس العقل هو ما يرى بل ما هو أعظم من العقل.» وتحذو كتابات المتأملين المسيحيين مثل مايستر إيكارت (1260-1327م ) والقديس يوحنا (1542-1591م) وكتابات بعض المتصوفين المسلمين والرهبان اليهود حذو أفلوطين. لقد تاق أفلوطين مثلهم للسماء وتطلع إلى «زمن الرؤيا غير المنقطعة؛ الروح غير المقيدة بقيود الجسد» عندما يتمكن من الهرب من الحياة وطرق التفكير التقليدية. فالتفكير العقلاني له مآربه، ولكنه وسيلة وليس غاية.
ولأن فلسفة أفلوطين تلونت برغبة محمومة في وصف ما لا يوصف والوصول إلى ما يستحيل الوصول إليه؛ فهي من ناحية فلسفة دينية، ولكنها من الناحية الأخرى بعيدة تماما عن أي دين. لم يهتم أفلوطين بالطقوس السحرية أو أية وسيلة تقليدية أخرى للتضرع للآلهة أو استرضائها. وكان يحترم المعتقدات والممارسات الوثنية، وآمن على الأرجح بفاعلية بعض التعاويذ السحرية، ولكنه رأى أن كل هذا لا يمت للواحد بصلة. وقد اعتقد كذلك أن الاستعانة بالعبادة أو السحر أو الصلوات بوصفها طرقا مختصرة لفهم الواحد إنما هي طرق مضللة لا طائل منها، كما أنه لم يهتم حتى بذكر المسيحية. ربما كانت فلسفة أفلوطين ذات نزعة دينية بطريقة غير عادية، ولكن من الصحيح أيضا أن دينه كان ذا نزعة عقلية بطريقة غير عادية كذلك.
ولا ينطبق الأمر نفسه على تلاميذ أفلوطين وأتباعه، فبمجرد رحيل أفلوطين نفسه سرعان ما استسلموا لبعض الأفكار التي لا تمت إلى العقل بصلة في ظل تطلعهم لنظرة إلى الواحد، فلم يتمكن فرفريوس من مقاومة فكرة أن الممارسات والتعاويذ السحرية قد تمثل خطوات أولية مفيدة في الطريق إلى العوالم الأسمى؛ إذ كان ضعيفا أمام الكهنة رغم علمه أنه بوصفه أحد أتباع مذهب أفلوطين كان عليه ألا يلتفت إليهم كثيرا. وفي كتابه «الفلسفة من منظور الكهنة» تمكن فرفريوس من أن يجد مكانا في مخطط أفلوطين للأشياء لجميع آلهة جبل أولمبوس بجانب أرواح الأبطال المقدسين ونصف المقدسين مثل أورفيوس وفيثاغورس. كما وصف فرفريوس المسيح بالمعلم الروحاني المستنير، رغم أنه كان معارضا شديدا للمعتقدات الرئيسة للمسيحية وكتب مقالا يهاجم فيه هذا الدين الجديد. وقد رأى في مذهبه أن الديانة المسيحية ارتكبت خطأ مكانيا بوضع المسيح عيسى موضع الواحد. وبوصفه أحد أتباع فيثاغورس دعا فرفريوس إلى الطعام النباتي لأنه طعام رخيص وسهل التحضير؛ وبذلك يشكل مصدر إلهاء أقل عن الأمور الروحية. واقترح في بعض الأحيان أن الأفضل عدم تناول الطعام أصلا. وكغيره من أتباع مذهب فيثاغورس آنذاك اهتم فرفريوس بالقوى الروحية للأرقام وكتب عدة رسائل عن الفيثاغورية. (كما أن له أعمالا أكثر تقليدية تضمنت شروحا لهوميروس وأفلاطون وبطليموس ومقدمة لجزء من المنطق الأرسطي، وستتضح أهمية هذا العمل الأخير فيما بعد.)
وقد زاد إمبليكوس - وهو أحد تلاميذ فرفريوس وكان قد أنشأ مدرسة في سورية وتوفي عام 330م تقريبا - من تداخل تقاليد أفلوطين مع السحر والخرافة. وفي مخالفة لروح مذهب أفلوطين العقلي في جوهره رأى إمبليكوس أن جزءا مهما من الفلسفة يكمن في أداء الطقوس التي لا يجب حتى محاولة فهمها، فالاتحاد مع الواحد يمكن تحقيقه بلا مجهود، وفي ذلك يقول:
وذلك من خلال فعالية «الممارسات» التي لا توصف والتي تؤدى بشكل سليم ، ممارسات تتجاوز حدود الفهم، ومن خلال فعالية الرموز التي لا توصف والتي لا يفهمها إلا الآلهة. وبدون بذل أي مجهود عقلي يذكر تؤدي الطقوس المهمة من تلقاء نفسها.
وقد كان إمبليكوس مهتما بشدة بمجموعة من الكتابات الروحية عرفت باسم «الكهنة الكلدانيون»، وكانت هذه الكتابات تتكون من بعض النصوص المقدسة بجانب شروح مثيرة مكتوبة بتفعيلة سداسية. وقد كتبت هذه الكتابات على يد رجل يدعى يوليانوس عاش جزءا من حياته في ظل حكم الإمبراطور ماركوس أوريليوس في النصف الأخير من القرن الثاني. وقد أصبحت هذه الكتابات نوعا من الإرشادات للتضرع إلى الآلهة، وهو طقس يسمى «الثيورجي» عرفه فيما بعد أحد أتباع مذهب إمبليكوس بأنه «قوة تتجاوز الحكمة البشرية وتضم كل امتيازات الألوهية وقدرات الاستهلال والبدء المطهرة.» ويبدو أن يوليانوس كان يعرف بعض التعاويذ لاستحضار أشباح للإله كرونوس والصواعق والحصول على خبرات من خارج النفس. ومن الواضح أن هذه الأشياء متوارثة في عائلته لأن والده استحضر شبح أفلاطون ذات مرة.
كان إمبليكوس كذلك باحثا ذا شأن عظيم عندما لم يكن يؤدي «الطقوس التي لا توصف». وبجانب شرحه ل «الكهنة الكلدانيون» فقد كتب شروحا للعديد من محاورات أفلاطون ورسائل أرسطو و«مقدمة علم الحساب» لنيكوماخوس (وهو أحد الفيثاغوريين، وقد ظل كتابه العمل الرئيس في هذا الموضوع لألف عام). كما كتب إمبليكوس رسائل رياضية عن علم الصوت والفلك. وقد أعلن عن رغبته في «أن يمخر عباب كل ما في الطبيعة بسيف الرياضيات.» ورغم أنه على الأرجح لم يكن سببا في أية إنجازات بنفسه فقد كان مثل هذا الإيمان الفيثاغوري بأهمية الأرقام بمنزلة إلهام لعلماء مثل كبلر في القرن السادس عشر.
ويذكرنا هذا المزيج بين الساحر والعالم البدائي الذي نراه في إمبليكوس بالرموز ذات الأعمال الباهرة مثل إمبيدوكليس فضلا عن فيثاغورس نفسه. وقد تحدث بعض أتباع أفلاطون المتأخرين عن إمبليكوس بوصفه إلها، مثلما قدس بعض أتباع فيثاغورس أستاذهم. ولكن الأهمية الكبرى لإمبليكوس في تاريخ الفلسفة تكمن في كونه عالم لاهوت لا إلها. وقد حاول إمبليكوس كما حاول فرفريوس من قبله أن يحول المفاهيم الجافة في نظام أفلوطين إلى آلهة حية عن طريق مطابقة القيم المجردة مثل العقل والروح بالآلهة من البانتيون الإغريقي والمصري. وقد ساعد بذلك على وضع لاهوت فلسفي للوثنية كان له كبير الأثر في تطور الفكر المسيحي. وقد نتج عن هذا المشروع أعمال بروكليوس (410-485م) الذي رأس مدرسة أفلوطين الفلسفية في أثينا، التي تعد أثرا باقيا لأكاديمية أفلاطون.
كان كتاب «أركان اللاهوت» لبروكليوس آخر محاولة في العصور القديمة لتوضيح النظام «الأفلاطوني» الذي ترعرع بعد وفاته. وينبع المنهج الذي اتبعه هذا الكتاب غير التقليدي من هندسة إقليدس، حيث يبدأ إقليدس ببعض الافتراضات والتعريفات عن الخطوط والمستويات والزوايا وغيرها، ثم يستنبط بعدها سلسلة من الفرضيات حولها. وبأسلوب مشابه يهدف كتاب «أركان اللاهوت» لتوضيح 211 افتراضا بخصوص البناء الهرمي للحقيقة وطبيعة الزمن والروح والوجود والواحد وجميع أنواع الآلهة الثانوية. ولا يزال عمل إقليدس (بعد تنقيحه) أساسا لمدرسة الهندسة، أما كتاب «أركان اللاهوت» لبروكليوس فيبدو الآن عبثا لا طائل منه؛ ذلك أن العالم بالنسبة له حديقة حيوان سرية تتقابل فيها الآلهة الوثنية مع مجموعة من المفاهيم المجردة صعبة الإدراك. وفي محاولة لتنزيه الواحد المقدس والمتصف بالكمال عن دنس الموجودات الأدنى أضاف بروكليوس عدة مستويات بينية جديدة للحقيقة لصورة كانت معقدة بما فيه الكفاية. وقد جمع الكثير من ابتكاراته في ثلاثيات، وهو ما أعطى المسيحيين انطباعا أنه كان يتحدث فعلا عن الثالوث المقدس.
ورغم أن الصورة الهرمية التي رسمها بروكليوس عن العالم تعود إلى أفلوطين، كان مذهبه في الفلسفة يدين بقدر أكبر لإمبليكوس والطقوس الواردة في «الكهنة الكلدانيون». وقد استبدلت رؤى أفلوطين الروحية السلبية للواحد بمحاولة إيجابية لاستغلال الروابط الخفية بين مستويات الحقيقة وكل ما فيها. باختصار كان بروكليوس ساحرا، وكان يؤمن بجميع أنواع الطقوس التي تتضمن استخدام الأعشاب والأحجار والتعاويذ لاستحضار الآلهة، كما كان يؤمن بالتنانين وعرائس البحر، وبأن أوثان الآلهة قد تتحرك عند قول الكلمات المناسبة.
لقد تغيرت الميول الفلسفية الأولى في أثينا كثيرا منذ العصور الأولى. فأين كان ورثة أناكساجوراس وبريكليس اللذين حاربا المعتقدات الخرافية وبحثا بدلا منها عن التفسيرات الطبيعية للمعجزات الإلهية؟ وأين كان ورثة بروتاجوراس الذي قال إنه لم يعرف شيئا عن الآلهة لأن هذه الأمور كانت أشد غموضا من أن يفهمها الإنسان؟ وأين كان ورثة سقراط الذي لم يكن ليتحدث إلى تمثال إلا إذا كان شارد الذهن؟ من الواضح أن بروكليوس كان مصابا بجنون من نوع آخر. ربما كان ينظم أروع الأبيات في شرح أعمال أفلاطون وأرسطو، وربما كان مجتهدا في العديد من فروع المعرفة؛ فقد كتب مؤلفات في الرياضيات والفلك والطبيعة والنقد الأدبي، ولكن العلم الذي كان أشد رغبة في تعلمه هو الخلاص. لقد كان هدفه الأسمى هو بناء جسر بين الآلهة الناظرة إلى العالم والأرواح الناظرة منه، وهي مهمة كانت تتحقق بشكل أفضل من خلال السحر والدين. ولم تتعد وظيفة الفلسفة حينئذ تفسير الحقائق الروحية التي توصل الناس إليها بالفعل عن طريق وسائل أخرى.
وقد تعامل بروكليوس مع الفرضيات الأساسية لنظريته في اللاهوت كما لو كانت مسلمات لا تقبل المناقشة، مثلها كمثل مسلمات نظرية إقليدس. ولم يكن هذا بسبب أنها بدهية مثل مسلمات إقليدس التي تقول إن «الكل أكبر من الجزء» بل لأنها جاءت بإيعاز من السلطة المقدسة أي سلطة أفلاطون وأفلوطين و«الكهنة الكلدانيون». لقد كانت أعمال بروكليوس الفلسفية محاولات لشرح ما جاء في النصوص المقدسة، وفي ذلك قال أحد الشارحين المعاصرين إن نظام بروكليوس «لم يكن ليولد لو لم يكن هناك دين يفسره.» ولاستكمال الاستنتاجات البحتة في كتابه «أركان اللاهوت» كتب بروكليوس أيضا ترانيم تشبه الصلوات تلخص ما جاء فيها في صورة أكثر شعبية حيث التزم بالشعائر والصلوات الوثنية في وقت دانت فيه الإمبراطورية بالمسيحية، وهو ما أوقعه في المشكلات عدة مرات.
لقد حول إمبليكوس وبروكليوس فلسفة أفلوطين إلى عقيدة وثنية كما حولها فرفريوس من قبل، فتحولت هذه العقيدة بالتبعية إلى عقيدة مسيحية. وقد لعبت تعاليم بروكليوس دورا مهما في تطور الفكر المسيحي بسبب عملية تزوير جريئة بالدرجة الأولى. فقد كتب كاتب مسيحي مجهول الهوية كان على علم بأعمال بروكليوس وربما كان أحد تلاميذه بضعة كتب ادعى أنها لديونيسيوس المزيف وهو رجل ذكر في الإنجيل أنه تنصر على يد القديس بولس. وقد أكسب هذا الادعاء هذه الكتب وزنا كبيرا لكنه غير شرعي. وكانت تلك عقيدة يعود أصلها على ما يبدو إلى المسيح نفسه. وبعد ترجمة هذه الأعمال من اليونانية إلى اللاتينية في القرن التاسع على يد يوهانز سكوتس إريجيا، وهو عالم أيرلندي كان من بين القلائل في الغرب اللاتيني الذين لم يزالوا يعرفون اليونانية، وقد كتب عن هذه الأعمال أغلب من كانت لهم علاقة باللاهوت في العصور الوسطى. وقد اهتم القديس توماس الأكويني على وجه التحديد بهذه الأعمال اهتماما شديدا. وتعود المراتب السماوية الهرمية الواردة في أشعار دانتي وميلتون أساسا إلى «ديونيسيوس المزيف» الذي انكشف تزويره أخيرا في القرن التاسع عشر، وكذلك حال العديد من الأفكار الرئيسة في اللاهوت المسيحي.
لقد كانت عقيدة بروكليوس الوثنية تنقصها بعض التغييرات قبل أن يمكن استخدامها في المسيحية. ورغم ذلك لم يكن اعترافها بآلهة عديدة - بل إن شئت فقل بجميع الآلهة تقريبا - مشكلة كبيرة؛ فقد كان من السهل اعتبار أن الواحد هو الإله الحقيقي، ولكن كانت هناك مصاعب أخرى. فالتسلسل الهرمي الأفلاطوني الجديد للواحد والعقل والروح على سبيل المثال يبدو أنه خصص جزءا كبيرا من العمل للعقل والروح. وتبدو فكرة أن كل مستوى بيني للحقيقة «يفيض» لينتج المستوى الذي يليه متعارضة مع المعتقد المسيحي بأن الرب (أي الواحد) قد خلق كل الأشياء بنفسه؛ ولذلك يعطي ديونيسيوس المزيف الكائنات البينية أدوارا أقل أهمية؛ فالآلهة الثانوية في العقيدة الأفلاطونية الجديدة على سبيل المثال أصبحت الآن ملائكة بقدرات محدودة بشكل أكبر، كما أنهم خلقوا على يد الرب مباشرة ولا يقدرون على خلق أي شيء بأنفسهم. وقد واءم ديونيسيوس المزيف البناء الهرمي الثلاثي لبروكليوس لتحديد ترتيب المراتب التي تلي مرتبة الرب، وتتكون كل مرتبة منها من ثلاث مجموعات ثلاثية. وقد كان هناك ترتيب في السماء وآخر على الأرض. وتضمن التسلسل الهرمي السماوي سيرافيم وتشيروبيم وثرونز ومنطق النفوذ والقوى والسلطات والإمارات وكبار الملائكة والملائكة، أما الهرم الأرضي الذي يترأسه المسيح فيشمل مناصب الكنيسة.
لقد أدهش ما قاله ديونيسيوس المزيف عن معرفة الرب علماء اللاهوت المتأخرين على وجه الخصوص؛ إذ قدم حلا معقدا لمشكلة وصف كائن من المفترض أنه يتجاوز حدود الفهم والإدراك. وقد أكدت الأفلاطونية الوثنية الجديدة أن صفات مثل «الخير» و«الحكيم» لا يمكن استخدامها لوصف الواحد الذي لا يوصف بل لوصف العناصر الأدنى منه في التسلسل الهرمي للحقيقة فقط. ومن الواضح أن هذا لم يتوافق مع العقيدة المسيحية التي تقول إن الرب نفسه خير وحكيم. وكان رد ديونيسيوس المزيف أنه على الرغم من أن الرب لا يمكن وصفه بالخير أو الحكيم كما هو الحال مع البشر، فإنه يمكن إطلاق وصف خاص من الحكمة والخير عليه؛ انطلاقا من أنه هو خالق هذه الصفات في البشر. وطبقا لهذه النظرية فأية صفة إيجابية تتجسد في الخلق بأي شكل يمكن أن تنطبق على الخالق نفسه (شريطة أن تتفق مع طبيعته غير المادية ، فلا يمكن وصفه بالبدانة أو أن نقول إن عينه زرقاء مثلا). وبالطبع سيكون خير البشر وحكمتهم ناقصين معيبين ما دامت السموات والأرض، ونحن لا نعرف إلا هذه الصور الناقصة التي تعطي معنى للمصطلحات «خير» و«حكيم» التي نستخدمها. ولذلك للدلالة على أن كرم الرب وحكمته أكبر من نظيريهما لدى البشر يقترح ديونيسيوس المزيف أن نصف الرب ب «الحكمة المطلقة» و«الخير المطلق» وهكذا.
وبتبنيه فكرة وضعها بروكليوس في الأساس فرق ديوجين المزيف بين الطرق الإيجابية والسلبية لمعرفة الرب. فالطريقة المذكورة أعلاه والتي تقضي بالانطلاق من القيم المعروفة في الخلق وإثبات الصور الكاملة منها للرب هي الطريقة الإيجابية لتكوين صورة عنه. ولهذه الطريقة أغراضها، ولكن ثمة طريقة أخرى وهي الطريقة السلبية (كما سماها علماء اللاهوت اللاتينيون فيما بعد) والتي يمكن أن تقرب الإنسان من الرب بدرجة أكبر. وهي تعني استبعاد كل المفاهيم التقليدية من فكرتنا عن الرب، فلنستبعد مثلا فكرة المحدودية التي تنطبق على كل المخلوقات فيتبقى انعدامها أو اللامحدودية والتي يمكننا عندها أن ننسبها إلى الرب. فصحيح أننا لا ندرك حقا معنى اللامحدودية، ولكننا نعرف عكسها تمام المعرفة، فنحن محاطون بصور المحدودية كالفناء والنقص وعدم الكمال. ونحن بذلك نتعلم شيئا عن الرب من خلال معرفة أن لا صفة من هذه الصفات تنطبق عليه. ويقول ديونيسيوس المزيف إنه يمكننا معرفة الرب بشكل أفضل عن طريق «نفي كل الأشياء الكائنة أمامنا أو استبعادها»، والهدف من ذلك هو أن ننغمس في «ظلام كامل» نتجرد فيه من طرق تفكيرنا التقليدية ونحاول أن نتجاوزها إلى ما وراءها. وسيجعلنا هذا الحرمان الفكري في حالة أنسب لاستقبال النور الروحي عن طبيعة الرب. وتتناول «سحابة المعرفة» - وهي إحدى الروائع الأدبية عن الروحانيات المسيحية ظهرت في القرن الرابع عشر ولا يعرف لها مؤلف حتى الآن - وغيرها من الأعمال المشابهة هذه الطريقة السلبية للوصول إلى معرفة الرب.
بالعودة إلى الطريقة الإيجابية للمعرفة والتي يوصف فيها الرب ب «الخير المطلق» و«الحكمة المطلقة» وغيرهما، قد يتساءل متسائل عن كيفية تجنب ديونيسيوس المزيف وصفه ب «الشر المطلق» كذلك. فإن كان الرب يتصف بالخير المطلق لأنه خلق الأخيار، فلم لا يتصف بالشر المطلق لأنه خلق الأشرار؟ ولتجنب هذه المشكلة استخدم ديونيسيوس المزيف فكرة أفلوطين أن «الشر» لا يعني إلا البعد عن الواحد، فهو ليس موجودا كصفة حقيقية في العالم وإنما هو انعدام الخير؛ ولذلك فمن الخطأ تماما أن نظن أن الشر جزء من الخلق؛ ومن ثم فما من سبب لوصف الخالق ب «الشر المطلق». وقد اتفق العديد من المسيحيين بعد ذلك مع هذا المذهب، مثلما فعل القديس أوجستين وآخرون مثله ممن تأثروا بأفلوطين حتى قبل ظهور ديونيسيوس المزيف.
على الرغم من أن تناول ديونيسيوس المزيف لفكرة الشر كان إسهاما لاقى ترحابا كبيرا في اللاهوت المسيحي فقد نحا إلى الهرطقة أحيانا، فقد كان يحاول على سبيل المثال البحث عن واحد لا ينقسم فيما وراء الثالوث المقدس المكون من الأب والابن والروح القدس. وقد أفضى هذا العبث بالحسابات اللاهوتية إلى منطقة خطرة؛ إذ إن ثلاثة أشخاص في واحد هي الثالوث، أما ثلاثة أشخاص بجانب الواحد فهي هرطقة قطعا. لقد كانت قضية الخلق الإلهي قضية أخرى قادت فيها روح الأفلاطونية الجديدة ديونيسيوس المزيف إلى طريق الضلال. فرغم أنه جرد العقل والروح من قدرتيهما على الخلق وجعلهما في يد الرب وحده، فلم يزل ديونيسيوس المزيف يجعل الأحداق الواردة في سفر التكوين تبدو وكأنها عملية «الفيض» التلقائية لدى الواحد الذي قال به أفلوطين. ويرى أفلوطين أن الخلق يحدث لأن طبيعة الواحد شديدة العظمة لدرجة أنها تؤثر على ما يقع تحتها من مراتب في سلم الحقيقة. وهذا يجعل الأمر كله يبدو شديد التجرد ولا يعدو مجرد قطرة في بحر عميق. أما بالنسبة للعقيدة المسيحية الأرثوذوكسية فإن الخلق كان عملا إراديا تطوعيا كان فيه الرب قادرا على ألا يختار القيام به، لكنه اختار أن ينجزه لحسن الحظ.
كان ديونيسيوس المزيف دائم الاتفاق مع العقيدة المسيحية في مثل هذه الأمور؛ فليس هناك ما يدعو للشك في صدق إيمانه وقوته، ولكن لم يزل جزء منه يعيش في العالم الأفلاطوني الجديد حيث وظف أحيانا معتقدات الدين الجديد لتلائم أفكاره الفلسفية السابقة رغم أنه على الأرجح لم يكن على علم بذلك، فبدون سلطة عمله الزائفة لم يكن ليكون له مثل هذا التأثير في المسيحية كما حدث.
أما القديس أوجستين فعلى النقيض لم يكن في حاجة إلى اسم مستعار ليسرب أفكاره إلى الشريعة المسيحية، فإخلاصه المطلق للقضية المسيحية يتضح في كل ما كتبه بعد تحوله إلى المسيحية عام 386م، فكتب يقول إن الفلاسفة «يقولون أشياء حقيقية لكنها في ذاتها ليست ذات قيمة في اعتقادي.» ورغم أن أوجستين قد أعجب بالكثير فيما اعتقد أنه فلسفة أفلاطون فهو لم يحاول أن يمزج بين مذهب أفلاطون والمسيحية كما فعل ديونيسيوس المزيف، فلم ينظر أوجستين لمذهب أفلاطون على أنه مصدر للحكمة ينافس الدين الحقيقي ليوفقه معه، بل اعتبره نبوءة جزئية غير كاملة. وقد شكر أوجستين العناية الإلهية على هدايته ل «الكتب الأفلاطونية» (التي كانت في الحقيقة أعمالا لأفلوطين وفرفريوس) إذ قال إنها علمته «كيف يفرق بين من يعرفون الهدف لكن لا يعرفون الطريق إليه وبين من يعرفون السبيل المؤدي إلى جنات النعيم.»
عندما رأى أوجستين تعارضا بين أفلاطون والرب لم يكن لديه شك إلى أيهما يكون ولاؤه. ومع ذلك فقد كتب: «ليس هناك من هم أقرب إلينا من الأفلاطونيين.» وأوضح أنه «لو عاد هؤلاء إلى الحياة مرة أخرى لأصبحوا مسيحيين مع اختلاف في بعض الكلمات والعبارات.» وقد كان تصنيف أوجستين - وهو أكبر المفكرين المسيحيين الأوائل - لأفلاطون وتلميذه أرسطو على أنهما أعظم الفلاسفة الإغريق أحد الأسباب في علو مكانتيهما في الغرب منذ ذلك الحين.
ولد أوجستين في شمال أفريقيا عام 354م؛ أي قبل حوالي ستين عاما من مولد بروكليوس، لأم مسيحية وأب وثني. وقد وصف طريقه المتقلب من الغرور إلى الانحراف ثم إلى الأفلاطونية ومنها إلى المسيحية في كتابه «الاعترافات». ولكونه دارسا للبلاغة ومعلما لها بعد ذلك قرأ أوجستين بعض التفسيرات القديمة للفلسفة الإغريقية في أعمال شيشرون الذي تأثر أوجستين مثله بمذهب الشكوكية الذي درسه أرسيسيلاس وكارنيادس اللذان قالا إنه لا يمكن معرفة أي شيء بشكل مؤكد. وبعد اعتناقه المسيحية وعندما تأكد من أن الرب قد ملأ عقله بالحكمة زعم أوجستين أنه قادر على دحض حجج المتشككين. أما التأثير الأكبر لاختلاطه بالفلسفة في شبابه فيتمثل في إثارة تطلعات لم يكن ليتمكن من إشباعها، فها هو ذا يقول: «أيتها الحقيقة كم أتوق إليك من أعماق فؤادي!» وقد عمل كذلك بنصيحة شيشرون التي تقول: «لا تدرس اتجاها بعينه بل اسع إلى الحكمة وتمسك بها أينما وجدت.» في البداية بحث أوجستين عن الحكمة في النصوص المقدسة لكنه لم يألفها؛ إذ بدت له «بلا قيمة مقارنة بشيشرون، فقد نفر غروري الزائف من قيود الإنجيل فلم يدخل إلى قلبي»، واتبع بدلا من ذلك مذهب «الرجال المعتزين بحديثهم المبتذل وانشغالهم بالدنيا وثرثرتهم الزائدة؛ ففي أفواههم تكمن مكائد الشيطان.» وكان هؤلاء من أتباع المانوية، وهي ديانة اعتنقها أوجستين لنحو عقد من الزمان.
عاش ماني - وهو حكيم فارسي اعتبر نفسه رسول الرب - في جنوب بابل في منتصف القرن الثالث الميلادي. وتتضمن ديانته التي أنشأها الكثير من عقائد ديانة الزرادشتية الفارسية القديمة التي تحدثت عن معركة أبدية بين الخير والشر، ومعتقدات من الديانات الإغريقية الغامضة مثل الديانة الأورفية بحديثها عن التطهير وتناسخ الأرواح. وكان جوهر العقيدة المانوية أن الخير والشر قوتان كبيرتان في صراع متكافئ تقريبا. ومن الناحية العملية يمكن اعتبار كل شيء في الحياة تجسيدا لهذه المعركة، فعوالم النور والروح التي يمثلها إله الخير تشن حربا على عوالم الظلام والمادة التي يمثلها إله الشر. وقد خلق إله الشر الأرض ودفن أرواحنا - التي هي بمثابة أشعة الضوء - في سجون داخل أجسامنا. وبالنسبة لأوجستين أبرزت هذه الصورة وجود الشر بشكل أفضل من أية نظرية أخرى صادفها، فقد قدمت إجابة صريحة للغز ترك الرب للشر كي ينتشر، وتقول هذه الإجابة إن الرب لا يملك الكثير ليفعله لأنه ليس بتلك القوة التي عادة ما يظن أنه عليها.
ولم تكن المانوية بأي شكل من الأشكال رخصة للفسوق، ولو حتى من الناحية النظرية، بل على العكس كان هدفها تطهير الروح من خلال حياة زاهدة وطعام نباتي وانقطاع عن ممارسة الجنس، فكان لا بد من اجتناب التناسل لأنه يوسع إمبراطورية إله الشر عن طريق إخراج المزيد من الأجسام. وكان من المفترض أن يذكر أتباع ماني في زمرة أهل الخير والنور من خلال قمع شهواتهم الدنيوية. ومع ذلك اعتبر أوجستين أن المانوية وصفة للخطيئة، فربما تقبل هو وأصدقاؤه نسخة مرنة منها على غير المعتاد يكون فيها الزهد واجبا على بعض القديسين من أتباعها. وربما كان تأكيدها على التطهير قد ترك مجالا واسعا لارتكاب الخطيئة ليكون هناك ما يطهر (لقد قدمت المانوية عذرا مناسبا للخطيئة لأنها أشاعت أن خطيئة البشر تحددها النجوم). أو ربما لم تنتشر المانوية بشكل كاف لتلهي أوجستين عن الأعمال الحقيرة والتافهة. وعلى أية حال وصف أوجستين هذه المرحلة من حياته قائلا:
كنت في حالة تخبط بين الإغراء والفتنة وبين الخداع، وكان لدي العديد من الرغبات، فعلانية كنت مدرسا للفنون التي يسمونها فنونا متحررة (أي علوم النحو والبلاغة والمنطق والرياضيات والهندسة والموسيقى والفلك)، وسرا كنت أعتنق دينا زائفا تافها في كل أموره. من ناحية كنت أسعى إلى الشهرة ومجدها الأجوف تواقا إلى تصفيق الجماهير، تلهيني الحماقات التي تتردد في أماكن الترفيه العامة، وكنت منغمسا في الشهوات لا رقيب علي، ومن ناحية أخرى كنت أسعى لتطهير نفسي من تلك البذاءة.
ونتيجة لغرقه فيما اعتبره لاحقا تخبطا في المانوية قبل أوجستين أن ينزل المسيح منزلة الابن لإله الخير في المانوية قبولا فاترا، وأدان أن يكون الرب المذكور في العهد القديم الرب الشرير في المانوية متخفيا. وفي تلك الأيام العسيرة انخرط أوجستين في علم التنجيم وقراءة الطالع. وعندما آن الأوان لأوجستين أن يخرج على كل الخرافات والدين المزيف وجد في بعض نصوص المناظرات الشكوكية التي عثر عليها في الفلسفة اليونانية خير عون له، وبخاصة النصوص التي تتحدث عن الهجوم الذي كان شيشرون قد شنه على التنجيم من قبل. ولكن الفضل كل الفضل في تحرير عقل أوجستين يرجع إلى الرسالة الأفلاطونية التي قادته إلى ما هو أفضل.
وكان أكثر المعتقدات التي سر أوجستين بتخلصه منها وهو في طريقه إلى التعافي هو المعتقد الذي يقول إن الرب والروح شيئان ماديان. لقد كانت المانوية مشوشة إزاء ما يعد ماديا وما لا يعد كذلك، فمن جهة رفضت الأشكال الأثقل للمادة المتمثلة في الكرة الأرضية وجسم الإنسان، ومن جهة أخرى رأت أن الرب الخير والروح يتجليان في النور والنار، وهما ظاهرتان ماديتان بلا ريب. بيد أن المانويين اعتبروا الروح نوعا مخلخلا وثانويا من أنواع المادة وليس شيئا مختلفا تمام الاختلاف عنها، شأنهم في ذلك شأن الرواقيين. وقد آمن بعض المسيحيين المحدثين الذين جاءوا في عصر كانت عقائد الدين الجديد فيه قيد التوطيد بمثل ما آمن به المانويون. وعلى سبيل المثال كان ترتليان (حوالي 155-222م) - وهو أول عالم لاهوت مسيحي يكتب باللاتينية - مقتنعا بالفلسفة الرواقية التي تقول إن الرب والروح يتكونان من المادة. ومن المفارقة أن ترتليان نفسه قد كتب إحدى سلاسل الإدانات المفرطة التي تهاجم تلك الاقتباسات من الفلسفة يقول فيها:
على الرغم من كل المحاولات لإخراج دين مسيحي يجمع بين الرواقية والأفلاطونية والكتابات الجدلية، فنحن لا نريد أية مناظرات فضولية بعد الآن؛ لأننا نتبع المسيح عيسى، ولا نريد تحقيقات لأننا ننعم بنعمة الإنجيل! فبوجود إيماننا لا نرغب في مزيد من الاعتقادات.
ويبدو أن ترتليان قد نسي من أين استقى بعض أفكاره، إلا أنه كان يرحب بنسب الفضل متى كان نسب الفضل واجبا. وقد أقر أن الفضل كل الفضل يرجع إلى الأفلاطونية التي جعلته يزهد في كل ملذات الحياة المادية بكل أشكالها.
لقد أقنعته «مؤلفات أفلاطون» أن العالم في حقيقة الأمر يتكون من جانب مادي وآخر روحي؛ أي إنه لا يتشكل من الخير والشر. وثمة قوة واحدة خارقة وهي الرب الذي خلق كل ما في العالم من أشياء مادية ولم يكن هو بأي حال من الأحوال ماديا. والشر ليس قوة خارقة منافسة تتجلى في أقوى صور المادة، ولكنه كما قال أفلوطين هو غياب خير الرب. وفجأة بدأ أوجستين يفهم كل شيء، وقد قال في ذلك:
في طريقهم لمعرفة الرب أدرك الأفلاطونيون السبب في نظام الكون، وتعرضوا للنور الذي يرون به الحقيقة، وعاشوا الربيع الذي فيه كأس السعادة. ويتفق جميع الفلاسفة الذين يحملون ذاك المفهوم عن الرب على أنهم في تناغم مع فكرتنا عنه.
شرع أوجستين في دراسة أعمال أفلوطين وفلاسفة المذهب الأفلاطوني الآخرين في أثناء تدريسه في ميلان وحضوره مواعظ القديس أمبروز. وعلى الرغم من أن بعضا من الأفكار التي كان يحملها أوجستين حول مذهب أفلاطون كان مبنيا على سوء فهم للمذهب؛ فقد رأى أن هناك أوجه تشابه بارزة بين الرب (أو الواحد) لدى أفلاطون وبين رب القديس أمبروز؛ فكلاهما اتصف بالسمو والخير المطلق والبعد المطلق عن المادية. وكان أوجستين على يقين أن هذا ليس من قبيل الصدفة، فاستنتج أن أفلاطون لا بد وأن يكون قد تناقلت إليه بعض آيات العهد القديم شفاهة. وعلى الرغم من ذلك أدرك أن مذهب أفلاطون لم يحد بعيدا عن الدين المسيحي؛ لأنه كما قال أوجستين قد بين الغاية دون أن يرسم طريق الوصول إليها.
لم يتعرض المذهب الأفلاطوني للمسيح ولا لدوره في خلاص البشرية، ولم يدرك كذلك أهمية الإحسان والتواضع، والأهم من ذلك هو أن هذا المذهب قد افترض خطأ أن الإنسان يمكنه الحصول على أي شيء بمجهوده الفردي دون مساعدة. وبغض النظر عن مدى التأمل الفلسفي أو التفكر الروحي الذي يمكن للإنسان أن يذوب فيه فإنه عجز عن الوصول إلى الرب حتى اختار الرب أن يناديه فلبى. إن الخطأ الرئيس الذي وقع فيه سائر أصحاب الفكر اليوناني هو اعتقادهم أن الإنسان لا يحتاج إلى أية مساعدة خارجية حتى يرى الحقيقة أو يفعل الخير، بينما يرى أوجستين أن الرسالة الأساسية التي جاءت بها المسيحية هي أن الإنسان في حاجة ماسة إلى المساعدة.
وبعد أن وجد أوجستين نفسه يسقط في براثن الرذيلة والإثم كلما أوكل إلى نفسه واتبع هواه؛ توصل إلى أن هذا الحال هو حال البشر كافة، فبدون مساعدة الرب لا قيمة للإنسان ولا وزن، ولا يستطيع فعل أي شيء ولا يعرف أي شيء. وقد خفف بعض المفكرين المسيحيين الأواخر من حدة هذه النظرة المتطرفة بقولهم إن الإنسان يمكنه التوصل إلى معرفة بعض الأمور بمفرده. ففي القرن الثالث عشر باين القديس توماس الأكويني بين الحقائق التي يمكن لقوة الحدس الطبيعية لدى الإنسان أن تتوصل إليها والحقائق التي لا يمكن للإنسان معرفتها إلا عن طريق الوحي الإلهي. أما أوجستين فلم يكن لديه هذا الاختلاف بين الحقائق؛ إذ إن جميع المعارف كانت نتيجة لنوع من التنوير الإلهي بث الرب فيه الحقيقة في عقول مخلوقاته.
وقد بحث أوجستين في عقله عما أودعه الرب فيه من حقائق. وكانت أولى الحقائق التي توصل إليها هي وجوده هو نفسه حيث كانت دربا خاصا من دروب الحقائق؛ إذ لا يمكن لأي منطق تشكيكي أن يجعله في ريب منها. وإذا كان من المحتمل أن ينخدع أوجستين في كل الأمور كأن يعتقد على سبيل المثال أنه كان يقظا في حين أنه كان يحلم، فمن المستحيل أن ينخدع في حقيقة وجوده هو نفسه. وأنى له أن يؤمن بوجود نفسه لو لم يكن هو نفسه موجودا؟ وقد قال أوجستين بصوت المنتصر: «إذا كنت مخدوعا فأنا موجود.» (وقد عبر ديكارت بعد ذلك عن الفكرة نفسها بقولته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود») لقد قاد الاستنباط أوجستين إلى أن ثمة عدة أمور لا يمكن أن يكون مخطئا فيها مثل حقيقة وجود مشاعره، فكيف له أن يخطئ على سبيل المثال في تصوره لحقيقة أنه يحب بعض الأشياء؟ بالإضافة إلى ذلك كان هناك بعض الحقائق الخالدة المتعارف عليها عالميا والتي لا يمكن الشك فيها مثل الحسابات الرياضية كأن تقول إن 6 + 1 = 7. وقد تساءل أوجستين من أين أتت كل هذه الحقائق، وانتهى إلى أنها لم تأت إلا من عند الرب. وهكذا بعد تمحيصه لما احتواه عقله وجد أوجستين عدة حقائق لم تجنبه شك المتشككين من الفلاسفة فحسب بل أوصلته إلى حقيقة وجود الرب.
وحالما ارتضى أوجستين بأن هناك حقائق أخطأ الشكوكيون في الشك فيها، انتهى إلى أن الشكوكية لم تكن لتستحق منه كل هذا القلق على الإطلاق؛ ذلك أنه افترض ببساطة أن الرب مكننا بطريقة ما من معرفة العالم ومحتوياته. وقد كتب أوجستين كتابا كاملا حول موضوع الشكوكية، بيد أن هذا العمل المفكك لم يقدم أي إثبات سوى أن أوجستين قد فقد حماسته لحب الاستطلاع. كما كتب في عمل آخر له أن المخلص قد جاء الآن؛ وبذلك آن الأوان لكل الفلاسفة أن يتوقفوا عن الشك. ولم يعد أوجستين يميل إلى التحقق مما تخبره به حواسه أو ما يخبره به الناس أو ما تمليه عليه الكنيسة على وجه الخصوص؛ لأنه توصل إلى الحقيقة بالفعل.
ويقول أوجستين عن أيام شكه القديمة: «لطالما أردت أن أتأكد من حقيقة أشياء لم أكن أراها كتأكدي من حقيقة أن 7 + 3 = 10.» ولكن سرعان ما ذهبت هذه المعايير القاسية السامية أدراج الرياح حينما اعتنق أوجستين المسيحية. لقد انبهر بقوة ما تستحثه كلمة الرب من إيمانيات حتى أصبح على استعداد أن يتقبل الأمور كافة على أساس الإيمان فقط. ومن غير المعقول أن تتمتع مبادئ العقيدة المسيحية مثل الثالوث والخطيئة الأصلية وبعث المسيح والوصفة المسيحية للخلاص، بمثل ما تتمتع به حقائق علم الحساب التي لا تقبل الشك، إلا أن كل هذا لم يمنع أوجستين من الإيمان بها. ورغم أن أعماله تؤكد نظرته الفلسفية الثاقبة وفضوله الفكري فقد كان شغله الشاغل هو الدين كما يتبين من تلك الأعمال. وقد كانت مناقشاته الفلسفية تنشأ عن سؤال ديني أو ما شابه، فتحليله للزمن على سبيل المثال قد دفعه إليه التساؤل حول ما كان الرب يفعله قبل أن يخلق العالم، وكذلك مناقشته لقضية الإرادة الحرة تدفعه فيها رغبته في إخلاء الرب من المسئولية عما يقترفه البشر من آثام. لكن للأسف، دائما ما تنتهي هذه المناقشات حالما يفرغ أوجستين من معالجة القضايا اللاهوتية التي أثارتها. ومتى وجد أوجستين حلا يظن أنه سيتوافق مع العقيدة المسيحية فإنه يغلق أبواب تفكيره ونوافذ فضوله لينتقل إلى موضوع آخر.
لقد حقق أوجستين ما لم يحققه أحد من معاصريه حيث قدم إطارا مميزا من الدين المسيحي يجمع بين القيم الاجتماعية والسياسية، ولكن بعد اعتناقه المسيحية لم يخرج أوجستين أبدا عن هذا الإطار الذي وضعه ليختبره بموضوعية، فلم يتحقق بجدية من أسس الدين المسيحي ولم يحاول تبريرها. وفي النهاية يبقى هناك العديد من القواسم المشتركة بين أوجستين وساردي الأساطير أكثر مما يشترك فيه مع علماء الطبيعة (الفلاسفة الطبيعيين) الذين اعتبرهم كل من أفلاطون وأرسطو جديرين بتوجيه دفة الاهتمام إليهم. ومن ناحية حرك أوجستين عقارب ساعة التاريخ الفكري إلى الوراء حيث ركن إلى إحدى النسخ المسلية من القصص الخارقة للطبيعة التي سعى معظم الفلاسفة الأوائل إلى الاستغناء عنها أو إيجاد تفسيرات منطقية لها. وبهذا لا يمكن اعتبار أي شخص مثل أوجستين يؤمن بعدم مواءمة العقل البشري وبحاجة الإنسان الملحة إلى دفقات الإيمان ملتزما بالفلسفة بمعناها الإغريقي الأصلي. إلا أن هذا الحكم لم يكن ليزعجه لأنه أول من يوافق على أنه مسيحي قبل كل شيء. •••
وبحلول الوقت الذي توفي فيه أوجستين عام 430م كان نصف سكان الإمبراطورية الرومانية قد اعتنقوا المسيحية، ولم يكن هذا العدد يزيد في بداية القرن السابق عن عشرة في المائة. وسرعان ما رجح ميزان القوة لصالح المسيحية في حياة أوجستين، وفي نهايتها ربما أصبح شغل المسيحيين الشاغل قمع آراء النقاد أكثر من القمع الذي كانوا هم أنفسهم يتعرضون له. وفي عام 448م تقريبا أحرق المسيحيون على الملأ مجادلة مناهضة للمسيحية كتبها الفيلسوف فرفريوس. كما كتب العديد من الفلاسفة الوثنيين أعمالا نقدية تتحدث عن أفكار مسيحية، إلا أن أيا منها لم ينج من محاولات تفنيدها بإحراقها. وقد لعبت هيباتيا السكندرية دور الشهيدة لدى الفلاسفة الوثنيين المراقبين في تلك المرحلة إثر تعرضها للتعذيب والقتل على أيدي مجموعة من الغوغاء المسيحيين في عام 415م. بيد أن المسيحيين في العصور الوسطى استكثروا أن تذهب حادثة هيباتيا المرعبة هباء منثورا على شخصية وثنية؛ ولذلك بدلوا عناصر هذه الحكاية المخزية بأسطورة القديسة كاترين السكندرية، فزعموا أن هذه السيدة قد استشهدت بعد أن دحضت دعوى خمسين فيلسوفا وثنيا كانوا قد أرسلوا إليها ليصدوها عن دينها في نوع من أنواع المبارزات الجدلية. ويبدو أن حكاية هذه الشهيدة عمل من نسيج الخيال يجمع بين قصة هيباتيا ومسيحيين غير معروفين. وفي العصور الوسطى كانت القديسة كاترين تعرف بأنها القديسة الراعية للفلاسفة، ولكن جردت هذه القديسة المزعومة من هذا اللقب بدعوى عدم وجودها من الأساس.
وفي القرن السادس عشر بدأ نصف حقيقة هذا الخلط التاريخي يتضح بعد أن بطلت أسطورة القديسة كاترين. وفي الوقت ذاته بدأت أسطورة هيباتيا في جذب المزيد من مؤلفيها الذين ظلوا في نشاط إلى يومنا هذا. وتناقلت عشرات المسرحيات وقصائد الشعر والروايات أسطورتها العاطفية، كما حملت صحيفتان أكاديميتان تتخذان من الدعوة النسائية سبيلا لهما اسم هيباتيا. ومنذ أن حظيت هذه الأسطورة بوصف تفصيلي على يد فولتير وفي كتاب «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» لجيبون ظهرت هيباتيا بصورتها العلمانية المقدسة. وقد كانت هيباتيا مثل والدها عالمة رياضيات معروفة وفيلسوفة أفلاطونية رائدة في عصرها، كما حازت في الإسكندرية على مكانة معلم ومثل أعلى في الاستقامة بالإضافة إلى كونها مستشارة حكيمة في الشئون المدنية، ولكن لسوء حظها كان الأسقف المحلي الذي لقب فيما بعد بالقديس كيرلس يكرهها، فقام رجاله بجرها إلى إحدى الكنائس وسلخ جلدها من جسمها ثم قطعوها إربا إربا. ولأنها لم تكن مسيحية واستحوذت العلوم على جانب كبير من اهتماماتها ولأنها عاشت على أعتاب نهاية حضارة قديمة وصفت هيباتيا بأنها المدافعة عن العلم في مواجهة الدين، وأنها تمثل الماضي البعيد قبل المسيحية، وأنها شمعة الاستقصاء الحر الأخيرة المكتوب لها أن تنطفئ قبل ليل طويل من المدرسية الكنسية. وقد كتب برتراند راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» عن «الإعدام الغوغائي لهيباتيا، تلك المرأة المتميزة التي ظلت مستمسكة بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة وكرست مواهبها لعلم الرياضيات في ظل عصر من التعصب الأعمى ... وبعد هذه الحادثة لم يعد هناك من يسبب القلق من الفلاسفة في الإسكندرية.»
في الواقع لم ينته أي شيء بنهاية هيباتيا، فقد استمرت مسيرة العلم والفلسفة في الإسكندرية قرنا كاملا من الزمان بعد موتها (وتمثلت هذه المسيرة تحديدا في شخصية يوحنا النحوي - المعروف أيضا بجون فيلوبونوس ويوحنا السكندري - الذي نحن بصدد الحديث عنه بعد قليل). ولا يبدو كذلك أن هيباتيا كانت شهيدة للوثنية، فرغم أنها لم تؤمن بالمسيحية إيمانا قويا فإنها لم تكن تتعبد في المعابد الوثنية ولم تنضم إلى هؤلاء الذين رفضوا تغيير دينهم. وقد كان بعض تلاميذها مسيحيين حتى إن اثنين منهم قد صارا أسقفين فيما بعد. ولذلك يبدو أن اغتيال هيباتيا كان لأسباب سياسية حيث إنها تورطت في صراع على السلطة بين الأسقف كيرلس وأورستيس حاكم مدينة الإسكندرية الذي كانت على علاقة طيبة به. وقد خشي الأسقف كيرلس من أن يقوي تأييد هيباتيا لأورستيس شوكته ويجعل منه خصما لا يقهر فعمل على نشر الشائعات التي تتهمها بممارسة السحر وإثارة القلاقل، فقامت عصابة من المجرمين - الذين وظفهم كيرلس على الأرجح - بأخذ زمام المبادرة وقررت إزاحة هيباتيا عن الطريق. باختصار، لقد عاشت هيباتيا في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب ومع الصحبة غير المناسبة.
نتحول الآن إلى يوحنا النحوي (حوالي 490-530) الذي كان أبرز فلاسفة الإسكندرية في القرن التالي وله مؤلفات في الطبيعة والفلسفة، كما كان نابغة يسبق عصره حتى إنه كثيرا ما يجري إغفال اسمه من أجل الحفاظ على بساطة السرد التاريخي. لقد أظهر يوحنا النحوي براعة منقطعة النظير في نقده لصورة العالم التي رسمها أرسطو، كما تبنى آراء في عدة أمور مهمة في الفيزياء لم يكن من الشائع أن يقول بها أحد حتى أيام جاليليو، فقد هاجم على سبيل المثال نظرية أرسطو التي تقول إن الأرض والسموات عوالم منفصلة تعوزها مبادئ فيزيائية مختلفة تمام الاختلاف حتى يمكن تفسيرها. وقد رفض يوحنا النحوي فكرة خلود النجوم وعدم تغيرها؛ ومن ثم فقد رفض من الأساس ما كان سيعرف بعلم الكونيات المعياري في العصور الوسطى. بالإضافة إلى ذلك فند يوحنا النحوي حجج أرسطو وبراهينه تفنيدا دقيقا مبينا أنه لا معنى لها في حد ذاتها وأنها تتناقض مع بعض ما قاله أرسطو في غيرها. وأبرز ما كان يتميز به يوحنا النحوي هو اعتماده المفرط على الملاحظات والتجارب الشخصية لدعم نظرياته الفيزيائية. ولنضرب مثالا على ذلك بما قاله يوحنا النحوي في تأكيد أرسطو على أن الأجسام الهائمة تسقط على سطح الأرض بسرعات تتناسب بصورة طردية مع وزنها؛ أي إن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة، فنجده يرد قائلا:
ولكن هذا خطأ تماما، ووجهة نظرنا تؤكدها الملاحظة الفعلية أكثر من الجدال اللفظي. فإذا رميت جسمين يزيد أحدهما في الوزن عن الآخر بعدة أضعاف من الارتفاع نفسه، فستجد أن نسبة الوقت الذي تحتاجه سرعة الحركة لا تعتمد على النسبة بين الوزنين، بل على فروق التوقيت الضئيلة بين سقوط الجسم الأول وسقوط الجسم الثاني.
ورغم أن نظرية يوحنا النحوي حول الأجسام الساقطة لم تكن صحيحة تماما، فالتجربة التي وصفها فيها (التي على الأقل تدحض وجهة نظر أرسطو) قد ذاع صيتها باعتبارها إنجازا علميا مشهودا عندما تكررت هذه التجربة في القرن السابع عشر. وينسب الفضل في هذه التجربة في وقتنا الراهن إلى العالم جاليليو الذي جاء بعد يوحنا النحوي بألف عام (والذي درس كل أعماله جيدا). وإذا نسبنا الفضل إلى جاليليو فنحن أكثر دقة لأنه لم يكن فيلسوفا في حين أن يوحنا النحوي كان كذلك، ويفترض أن هذه التجربة هي اكتشاف «علمي». وليست ظاهرة «فلسفية».
كان يوحنا النحوي آخر حبة في عقد جيله، وعلى حد ما نذكر لم يمارس أحد في أوروبا الغربية من بعده طريقة تحليله للطبيعة حتى القرن الرابع عشر حيث انتقلت روح الاستكشاف اليونانية إلى العالم العربي، وانتشرت تعاليم الإغريق الطبية والعلمية والرياضية والفلسفية في الأراضي العربية في أواسط القرن الثامن تقريبا، وظلت هناك لمدة تتراوح بين ثلاثمائة وأربعمائة عام حينما ترجمت الأعمال المكتوبة بأيدي العرب إلى اللاتينية. ظلت للحضارة العربية الريادة بكل وضوح في كل هذه المجالات حتى نهايات القرن الثاني عشر، ولم يكن لدى الغرب من يقارن بعظماء الباحثين الموسوعيين أمثال الكندي (حوالي 812-873م) والفارابي (حوالي 870-950م) وابن سينا (حوالي 980-1037م) أو بالعديد من الأطباء المتخصصين أو علماء الطبيعة، أو بخاصة علماء الرياضيات الذين كانت أعمالهم تنتظر في الغرب بفارغ الصبر لتدرس فور توافرها. وقد كان الباحثون العرب على دراية تامة بكتابات أبيقور وجالين وإقليدس وبطليموس وأرشميدس بالإضافة إلى أعمال أفلاطون وأرسطو. كما أنهم قدموا أبحاثا أصلية وقدموا ضمن العديد من الأشياء الأخرى نظرية البصريات المتطورة في القرن الحادي عشر. استعرضنا حتى الآن بعضا من الأسباب التي أدت إلى سقوط روح البحث العلمي لدى الغرب في الهاوية، أما أسباب ازدهارها لفترة من الزمان في العالم العربي فهي موضوع طويل للغاية لا يمكن حصره في هذا العمل.
رغم أن يوحنا النحوي لم يحظ بالاهتمام الذي يليق به لفترة طويلة فقد كان لأحد معاصريه كبير الأثر على مسار الفلسفة الغربية ألا وهو بوئثيوس. كان بوئثيوس (حوالي 475-524) فيلسوفا ورجل دين مسيحيا من أسرة أرستقراطية رومانية، وقد شغل وظيفة الوزير الأول لدى ثيودوريك ملك القوط الشرقيين وحاكم إيطاليا في الفترة من 493 إلى 526م. وقد أصيب بوئثيوس بالإحباط من جراء الانحطاط المتسارع للفكر الغربي ومن حقيقة أنه لم يعد يقدر على قراءة روائع الأعمال الإغريقية إلا القليل؛ ولذلك عقد العزم على ترجمة جميع أعمال أفلاطون وأرسطو إلى اللاتينية حتى لا تضيع هذه الثروة على الأجيال القادمة. ولكن لسوء الحظ أعدم بوئثيوس إثر اتهامه بالخيانة قبل تنفيذ هذا المشروع الطموح. وكانت الثمرة الوحيدة الناجية من هذا الحادث هي النسخ اللاتينية من أعمال أرسطو في المنطق والتي قد تساعد في تفسير ظاهرة شغف الفلاسفة الأوائل في العصور الوسطى بالمنطق القديم؛ إذ لم يكن لديهم ما يدرسونه إلا القليل. ومن المثير أن نرى كيف أن العالم اللاتيني سيكون مستنيرا إن لم تقتطع أعمال بوئثيوس سريعا بهذه الطريقة القاسية. ومن جانب آخر لم يكن لإدانته المبنية على اتهامات ملفقة على الأرجح سوى نتيجة سعيدة واحدة ولكن ليس لبوئثيوس، فبينما كان بوئثيوس في غياهب السجن محكوما عليه بالإعدام ألف كتابه «عزاء الفلسفة» المشبوب بالعاطفة. كما أن موته الوشيك جعل من عقله آية في التركيز، فجاء هذا العمل في أعلى مراتب الروعة وظل من أوسع الكتب قراءة في العصور الوسطى. وكان من بين الذين ترجموا هذا الكتاب إلى الإنجليزية الملك ألفريد العظيم وتشوسر والملكة إليزابيث الأولى. ولم يكن هذا العمل ليرى النور لو عاش بوئثيوس وصار شيخا عجوزا لا تحفل حياته الأكاديمية بكثير من الأحداث ولم يقع ضحية للسياسة في إيطاليا.
ويأتي «عزاء الفلسفة» على هيئة محاورة بين بوئثيوس الذي يتحدث بلغة نثرية وصاحبة الجلالة «السيدة فلسفة» التي ترد بالشعر في أغلب الأوقات. وتجيب «السيدة فلسفة» على تأملات بوئثيوس القنوطة التي تدور حول آلام الحياة وظلمها بإجابات تجمع بين الحكمة الرواقية والأفلاطونية. وتقول إن المحن بوجه عام والحكام الأشرار بوجه خاص لا يملكون القوة ليؤذوا رجلا سويا؛ لأن النفس الطيبة ستظل بمنأى عن «الثروة الفاسدة»، وتقول أيضا إن عدالة السماء قد وسعت كل شيء. وتبتعد «السيدة فلسفة» ببوئثيوس عن الطرق الخاطئة للسعادة وتحاول أن تهديه إلى سبيل الرشاد؛ أي إلى الرب، منشدة الأبيات التالية:
هب لنا يا أبانا أن تصعد عقولنا إلى عرشك الأجل.
وأن نرى نبع الخير الحق.
واجعل لنا نورا ننظر إليك بعيون مبصرة.
بدد الغيوم الثقال لهذا العالم المادي.
تجل لنا في بهائك كله فأنت العدل وأنت السلام والسكينة للعابدين.
رؤيا جلالك هي منتهى أمانينا.
أنت مبدئنا وبارئنا ومولانا وطريقنا وغايتنا.
ولم يذكر الكتاب المسيحية صراحة، إلا أنه نجح في أن يعالج على نحو غير مباشر العديد من المشكلات الفلسفية التي تضل الإنسان المؤمن. على سبيل المثال، يتضمن هذا العمل إجابة على سؤال كيف يمكن أن يكون للإنسان أي اختيار حقيقي في أفعاله إذا كان الرب العليم قد أحاط علما بما سيفعله قبل أن يفعله؟ وتنطلق إجابة بوئثيوس من فكرة أنه ليس ثمة اختلاف بين الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للرب، فالأزل كله إنما هو حاضر بالنسبة له؛ ولذلك حينما يعلم الرب ما الذي سأفعله فإن ذلك لن يقيد حريتي على الإطلاق قدر ما يقيدها شخص يراقب أفعالي في الوقت الذي أنفذها فيه. وقد تبنى هذا الحل القديس توماس الأكويني ورجال الدين الذين جاءوا في أواخر العصور الوسطى.
ويضع كتاب بوئثيوس «عزاء الفلسفة» الخطوط العريضة لأشهر طرق التفلسف، ويبين الفلسفة على أنها نوع من أنواع المسكنات التي تعالج جروح الحياة، وأنها مصدر من مصادر الحكمة الخالدة التي يمكنها توضيح بعض القضايا الدينية. وقد ساهم هذا العمل في توصيل صورة العالم الأفلاطونية إلى حضارة لم تكن تعلم أي شيء عن كتابات «خادمي أفلاطون» كما كانت تناديه «السيدة فلسفة». وقد كان لعدة موضوعات وصور من أدب العصور الوسطى التي كانت مأخوذة عن أعمال أفلاطون أو أرسطو حضور قوي في هذا الكتاب.
ولم يقتصر تأثير بوئثيوس بأي حال من الأحوال على الفلسفة والأدب بوجه عام، فقد امتد هذا التأثير ليصل إلى الفلسفة المتخصصة واللاهوت بالقدر نفسه الذي كان عليه في السابق؛ وذلك بفضل ابتكاره لألفاظ وتوليفه لمصطلحات لاتينية في شرحه لبعض المبادئ الأرسطية. وقد انتشرت لغته الاصطلاحية الجديدة كالنار في الهشيم حيث استخدمها الباحثون من رجال الدين في العصور الوسطى وفيما بعد المحاضرون في أولى الجامعات، حيث استعملوا هذه المصطلحات الفنية في تحليل مبدأ الثالوث والموضوعات الأخرى المعقدة. ولا شك أنهم استخدموا هذه المصطلحات بهدف توضيح الأمور في حين أنهم في بعض الأحيان لم يحققوا سوى العكس تماما.
لقد طرح بوئثيوس أيضا قضية منطقية شغلت عقول كثير من الفلاسفة لعدة قرون لاحقا، وعرفت هذه القضية باسم القضايا الكلية، وقد ورد ذكرها أول مرة في نص للفيلسوف فرفريوس حظي بدراسة واسعة بعد أن ترجمه بوئثيوس إلى اللاتينية. وتتعلق هذه القضية بالمصطلحات أو المفاهيم العامة التي يمكن أن تنطبق على العديد من الأشياء في آن واحد مثل الألفاظ «أحمر» و«جميل» و«مربع». ويدور السؤال المطروح في هذه القضية حول ماهية الوجود الذي يمكن أن تكون عليه هذه الصفات العامة؛ أي الحمرة أو الجمال أو التربيع. هل هذه الصفات لا توجد إلا في العقل أو في اللغة، أم أن لها وجودا خارجيا له مغزى مثل الأشياء المادية التي تنطبق هذه الصفات عليها؟ من الواضح أن الأجسام المربعة موجودة بالفعل، ولكن هل صفة التربيع نفسها لها وجود؟ لقد طرح فرفريوس هذا السؤال جانبا نظرا لصعوبته، إلا أن بوئثيوس ناقشه بشكل مفصل واعتبره أكبر المشكلات الفلسفية أمام المهتمين بالأسئلة المنطقية المجردة. وبحلول القرن الثاني عشر كان هناك ما يقدر بأكثر من ثلاثة عشر رأيا مختلفا في هذا الصدد.
وقد أظهر اهتمام بوئثيوس بالمنطق شغفه بما كانت عليه «الفنون المتحررة» السبع والتي أطلق عليها هذا الاسم لأن الرومانيين اعتبروها أنسب الدراسات للرجل الحر. وهذه الفنون السبعة هي النحو والبلاغة والمنطق والرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى. وقد رأى بوئثيوس أن هناك مجالا للتطوير في معظم أقسام هذا المنهج التعليمي النموذجي. وقد كان راضيا تمام الرضا عما هو متاح من أعمال مكتوبة باللاتينية في مجالات النحو والبلاغة والمنطق البسيط، إلا أنه اقترح كتابة أعمال جديدة في المجالات الأربعة الأخرى ومعالجة الموضوعات المتقدمة في المنطق مثل مسألة القضايا الكلية بشكل أفضل. وليس معروفا ما إذا كان بوئثيوس قد ألف في الهندسة أو الفلك، وإن كان قد ألف فيهما فإن أعماله لم يكتب لها النجاة، في حين أن أعماله في الرياضيات والموسيقى والمنطق ظلت محل الاستفادة على نطاق واسع لعدة قرون. وبعد ذلك بنحو سبعة قرون عندما بدأ أول الطلاب الجامعيين دراساتهم في القرن الثالث عشر كانت الفنون المتحررة لا تزال تشكل المحتوى الأساسي لمنهجهم الدراسي، وظلت بعض أعمال بوئثيوس نصوصا مقررة عليهم آنذاك.
وليس من الغريب أن المواد التعليمية لم يطرأ عليها سوى تغير طفيف في تلك الأعوام؛ ذلك أن التعليم لم يكن التجارة الرابحة في تلك العصور المظلمة. وحتى بعد العصر الذي جاء فيه بوئثيوس بنحو 300 عام ظل النشاط الدراسي مقتصرا على الأديرة وانحصر بالكامل في الموضوعات اللاهوتية والأمور الكنسية. ولم يتغير العالم الفكري آنذاك إلى الأفضل إلا بالإصلاحات التي أدخلها شارلمان في نهاية القرن الثاني عشر، ولكن كان ثمة العديد من التغييرات للأسوأ. فبعد وفاة بوئثيوس التي جاءت في العقد نفسه الذي مات فيه يوحنا النحوي وأغلقت فيه المدارس الأثينية، لم يعد هناك ما يمكن وصفه بالفلسفة في أوروبا إلى أن وصلت حقبة شارلمان. •••
بدأ شارلمان فترة حكمه بتوليه مملكة الفرنجة وانتهى حاكما لمعظم أجزاء فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا ومواقع حيوية في ألمانيا الحديثة والنمسا. وقد اتسعت إمبراطوريته المسيحية حتى ساوت الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، وأراد لمن يعمل على إدارة شئون بلاده أن يكون متعلما؛ ولذلك أنشأ قصرا مدرسيا لتعليم أفراد الأسرة الملكية ورجال الدين المتوقع لهم أن يكونوا أساقفة في المستقبل والموظفين الحكوميين، ثم أقام مدارس وألحقها بالأديرة والكاتدرائيات في جميع أرجاء البلاد. وقد حققت هذه الشبكة من المدارس الكنسية التي كانت تدرس الفنون المتحررة القديمة نجاحا في نشر العلم أعظم مما وصل إليه الغرب اللاتيني منذ أيام الإمبراطورية الرومانية. وقد اهتمت هذه المدارس في المقام الأول برجال الدين ولم تقدم أية منح دراسية أو أبحاث عظيمة إلا أنها كانت على الأقل البداية نحو تحقيق هذا الهدف.
ومن بين الباحثين الذين ساهموا في هذه النهضة المحدودة في القرنين التاسع والعاشر كان يوهانز سكوتس إريجيا - وهو باحث أيرلندي قام بترجمة أعمال ديونيسيوس المزيف - هو الوحيد الذي أنتج أعمالا فلسفية ذات وزن. التحق إريجيا بالمحكمة التي أنشأها الملك شارل الأصلع حفيد الملك شارلمان والذي كلفه بترجمة العديد من الكتب اللاهوتية المكتوبة باللاتينية. وقد وضع إريجيا نظرية معقدة نسبيا عن الطبيعة تقوم على المبادئ المسيحية حاول فيها التوفيق بين الأفلاطونية الجديدة واللاهوت الأرثوذكسي، كما ساهم في تطوير العديد من الفنون المتحررة. وقد بلغت شهرته الآفاق باعتباره المفكر الرائد في عصره حيث ابتكر نوعا من القصص انجذب إليه المشهورون من الفلاسفة. وقد جلبت مكانته المرموقة عليه وبال الشائعات والأقاويل، فقد أذيع عنه أن الملك ألفريد العظيم قد دعاه إلى إنجلترا حيث مات مطعونا بأقلام تلاميذه.
توفي إريجيا في أواخر عقد السبعينيات من القرن التاسع الميلادي (ولا يعلم أحد أين ولا كيف مات)، وفي ذلك الوقت وضعت حالة الفوضى السياسية وضعف الكنيسة الإصلاحات الحضارية التي عمل شارلمان وخلفاؤه من بعده على إدخالها تحت ضغط هائل، فمن ناحية عطل غزاة الفايكنج والمجريون والسلاجقة الحياة المدنية، وعطلت الكنائس نفسها بوقوعها فريسة للفساد الذي استشرى في كل جسدها حتى وصل إلى البابا، وانزوت مسيرة العلم إلى الأديرة مرة أخرى. وفي القرن العاشر أجرى بعض البندكتيين دراسات جادة في علم المنطق ودخلوا في مناظرات بخصوص مسألة القضايا الكلية التي كان بوئثيوس قد عرضها من قبل. ولم تبدأ الفلسفة في العصور الوسطى في إحراز أي تقدم حتى قامت أوروبا نفسها بذلك، فمنذ حوالي منتصف القرن الحادي عشر بدأت الحضارة الأوروبية في جني ثمار الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية والتكنولوجية (وبخاصة في مجال الزراعة) والتحضر الذي وصلت إليه الشعوب.
وقد ازداد تعداد السكان في أوروبا حتى وصل على الأرجح إلى الضعف بل إلى أربعة أضعاف في الفترة بين عامي 1000م و1200م. ومع نمو التجارة والاقتصاد انتقل خلق كثير للعيش في المدن والمناطق الحضرية. وقد صاحب هذه التغيرات الجديدة في تركز الثروات زيادة الطلب على التعليم والتوجه نحو النشاط الفكري. ولم يتضاعف عدد المدارس الكنسية فحسب، بل انتشرت المدارس العلمانية خارج النظام الكنسي لتقدم خدمات تعليمية لكل شخص قادر على تحمل مصروفاتها. وكانت «المدارس» تنتقل أحيانا من مكان لآخر، حيث كان التلاميذ يصاحبون معلمهم الموهوب في رحلاته، كما كان الحال مع السفسطائيين اليونانيين المتجولين في القرن الخامس قبل الميلاد. بالإضافة إلى المنهج التعليمي التقليدي المكون من الفنون المتحررة والتدريب على الطقوس اللاهوتية أصبح الإعداد لمهنة المحاماة والطب متاحا في ذلك الوقت. ونظرا لحاجة الطلاب الجدد إلى دراسة مواد تعليمية فقد كانت هناك محاولات عازمة لاستعادة التمكن من الروائع اللاتينية حيث صارت أعمال الموسوعيين اللاتينيين والأجزاء المترجمة من محاورة «طيمايوس» التي كتبها أفلاطون مراجع في علم الكونيات والفلسفة الطبيعية، كما أن بعض الترجمات للنصوص العربية في مجالات الرياضيات والطب قد انضمت إلى هذا المنهج بجانب ترجمات بوئثيوس لأعمال أرسطو في المنطق وتعليقاته عليها وشروحه لها والتي حفظها الدارسون عن ظهر قلب. ويذكر أن أهم ما طرأ على الفلسفة من تطوير جاء في صورة محاولة بعض المغامرين من المفكرين تطبيق الوسائل العقلية في علم المنطق على القضايا الشائكة في اللاهوت. بيد أن الخلط بين الدين والمنطق قد يكون أمرا مثيرا للخلاف بل عملا خطرا، ولكنه كان في الطريق ليصبح أمرا حتميا لا مفر منه.
وقد تمثلت أشهر محاولات ربط الدين بالمنطق في تلك العصور فيما يسمى بالدليل «الوجودي» المتعلق بوجود الرب والذي قدمه القديس أنسلم (1033-1109م)، وهو رجل إيطالي انضم إلى نظام القديس بندكت في مقاطعة نورماندي وانتهى به المطاف رئيسا لأساقفة كانتربري. لطالما أراد أنسلم أن يعثر على «حجة واحدة لا تحتاج إلى أي إثبات آخر» يمكنها أن تثبت وجود الرب وطبيعته. وبعد بحث طويل فقد أنسلم الأمل في العثور على ضالته، ولكن جاءه الإلهام على حين غفلة وهو يتلو صلواته في صبيحة أحد الأيام. ويقول أنسلم إننا نؤمن أن الرب هو «الكائن الذي يستحيل علينا أن نتصور ما هو أعظم منه.» ومن هذا التعريف المجرد ظن أنه يمكننا استحضار وجود الرب. ويقول أنسلم كذلك إنه لما كان هذا الكائن الأعظم على الإطلاق الذي يمكننا تصوره موجودا على الأقل في عقولنا فإن السؤال المتبقي هو ما إذا كان الرب موجودا في الواقع أم لا. ويجيب على هذا السؤال قائلا إن الرب موجود بالتأكيد لأنه إذا لم يكن الرب موجودا إلا في العقل فإنه لن يكون أعظم كائن يمكن تصوره في نهاية المطاف؛ ذلك أنه يمكن تصور شيء أعظم منه؛ أي الرب الموجود في الواقع. ولما كان تعريف الرب هو «الكائن الذي يستحيل علينا أن نتصور ما هو أعظم منه» إذن فالرب موجود.
استتبع هذا الاستنتاج المنطقي العديد من الأشياء الأخرى، أو هكذا تبين لأنسلم، ولكن المرحلة الأولى من جداله المنطقي التي تسعى لإثبات وجود الرب هي التي لفتت انتباه من جاء بعده من المفكرين. وقد انهار هذا الإثبات العبقري بل المضلل ثم أعيد بناؤه عدة مرات على مر تاريخ الفلسفة. وقد ألمح أحد المعاصرين لأنسلم إلى أن هذا المنطق يتضمن أنه في بقعة ما من أحد المحيطات تقع جزيرة هي أعظم الجزر التي يمكننا تصورها، الأمر الذي يعد سخيفا بالمرة. وقد رد أنسلم على هذا الناقد، إلا أن رده لم يكن مقنعا بما فيه الكفاية. وفي القرن الثالث عشر رفض القديس توماس الأكويني الدليل الذي قدمه أنسلم، وبعد ذلك لم يناقش هذا الدليل طويلا في العصور الوسطى. ولكن بعد أربعة قرون أحيا ديكارت هذا الدليل بشكل مختلف اختلافا طفيفا، وكذلك فعل الفيلسوفان سبينوزا ولايبنتس. لقد هاجم كل من كانط وهيوم هذا الدليل في القرن الثامن عشر في حين حاول هيجل أن يعيده مرة أخرى. وفي بداية القرن العشرين دحض برتراند راسل هذا الدليل، إلا أن ذلك لم يعن نهاية الأمر؛ فقد عمل منذ ذلك الحين الكثير من الناس على بعثه من جديد بمن في ذلك كيرت جودل وهو أحد أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين، والذي كانت آراؤه غريبة بعض الشيء. وقد استحسن العديد من علماء اللاهوت في القرن العشرين هذا الدليل.
لم يقدم أنسلم دليله الوجودي ليحاول إقناع غير المؤمنين بل ليثبت نفسه على ما هو عليه، فقد نظم هذه السلسلة من الحجج والبراهين (التي قدمها في صورة صلوات أو تأملات) لأنه أراد أن يصل إلى فهم فكري أعمق للرب فنراه يرتل: «إلهي! ليست هيبتك هي ما أريد أن أدركه لأن عقلي ليس أهلا لها، ولكنني أرغب في فهم بعض الشيء عن حقيقتك.» لقد استعان أنسلم ببعض الأساليب المنطقية للتعاطي مع بعض التساؤلات الدينية متى رأى ذلك مجديا. ولهذا السبب كان يطلق عليه في بعض الأحيان لقب «أبو الفلسفة المدرسية.» ولكن على الرغم من أن تأثير أنسلم انعكس على العلاقة بين الفكر واللغة والواقع فقد كان يخوض في تلك الموضوعات ما دامت هناك رؤية واضحة للمسيحية تدعو إلى الخوض فيها. وعلى غرار معظم الفلاسفة المعاصرين له كان اهتمام أنسلم بالموضوعات الفلسفية لذاتها محدودا، وبالتأكيد لم تكن لديه رغبة في التشديد على أي من المفاهيم العقائدية للاستفادة منها بشكل أفضل. وعلى عكس بيتر أبيلار (1079-1142م) - وهو أول الفلاسفة المهمين في العصور الوسطى ورجل من نوع مختلف تماما - لم يجلب المنطق على أنسلم أية متاعب على الإطلاق.
لقد أطلق أبيلار على سيرته الذاتية اسم «تاريخ مصائبي». وكان أشهر هذه المصائب هو حادثة إخصائه التي تعرض لها على يد الأقارب الغاضبين لمحبوبته إلواز. وقد ذكر هذا الحادث المؤسف على نحو غير مباشر مستغلا شجاعته الأدبية وارتباطه الشديد بالمنطق وهو يروي حكايته فيقول:
لما كنت قد فضلت ارتداء درع المنطق سوى باقي تعاليم الفلسفة فإنني قد استغنيت به عن كل الدروع الأخرى، واخترت خوض المناظرات الكلامية مترفعا عن غنائم الحرب. لقد كنت أتجول في مختلف البلدان ممارسا المنطق أينما سمعت أن السعي وراء هذا الفن كان حيا بين الناس.
وبعد فترة قصيرة أصبح أبيلار محاضرا ناجحا في باريس حيث طرأت على عقله فكرة استعرضها قائلا:
دائما ما يدفع النجاح الحمقى إلى الغرور وتدفع الراحة في الدنيا قوة العقل نحو الضعف والوهن، وتجعل أنسجته ترتخي بسرور استجابة للإغراءات الجسدية. وفي الوقت الذي تأملت فيه أنني كنت الفيلسوف الأوحد في العالم ولم يكن هناك ما أخشاه من الآخرين، بدأت أطلق العنان لأحاسيسي الجياشة التي تسري في عروقي.
وفي هذا الوقت صادف أبيلار محبوبته إلواز وهي فتاة «ذات جمال لم يكن عاديا» لها من البراعة الأدبية الأخاذة والنزعة الفلسفية الفريدة من نوعها ما لم يكن مألوفا على النساء آنذاك. ويصف أبيلار هذا اللقاء قائلا:
فها هو ذا اسمي على كل لسان، وأملك من مزايا الشباب وآيات الجمال ما لا أخشى معه أن ترفض امرأة أيا كان شأنها أن أتعطف عليها بحبي. شعرت أن هذه الفتاة ستكون أقرب ما يكون إلي نظرا لعلمي بما كانت تحمله من معرفة أدبية وتعتز به.
أقنع أبيلار عم الفتاة أن يؤويه في بيته ورتب ليكون معلما لها. ولم يصدق أبيلار حسن طالعه فيقول: «لقد وضع ابنة أخيه تحت تصرفي. ولقد ذهلت من سذاجة الرجل إزاء هذا الوضع، ولو أنه عهد بحمل وديع إلى عناية ذئب مفترس لما كنت أشد من ذلك دهشة وذهولا.»
وقد أفضى هذا الوضع إلى مولد طفل أسمياه أسطرلاب. وترهبنت إلواز وصارت بعد ذلك رئيسة لدير من الراهبات كان أبيلار قد بناه في أحد المصليات. وظل أبيلار وإلواز مخلصين لبعضهما وتبادلا العديد من الرسائل والخطابات التي بسببها أصبحت قصتهما من أشهر قصص العصور الوسطى.
وتسببت موهبة أبيلار التي نضجت قبل الآوان في العديد من المشكلات له طوال حياته المهنية، فقد أهان معلمه الأول وأذله ثلاث مرات في مناظرات جمعت بينهما غالبا حول مسألة القضايا الكلية. وقد كان أبيلار ميالا لوصف وجهات نظر زملائه المتفوقين ونعتها ب «المجنونة» عندما كان يتشاجر مع كل من حوله. وكلما زاد عدد الطلاب الذين يأخذهم أبيلار ممن هم أكبر منه سنا أو من رجال الكنيسة البارزين تعاظمت روح الحسد ضده وتزايدت نزعة المنافسة له. وفي إحدى المناسبات انتخب أبيلار رئيسا لأحد الأديرة بمنطقة بربرية في إقليم بريتاني، وكان رهبان هذا الدير يكيدون له على الدوام حتى إنهم حاولوا سمه في إحدى المرات. وقد وجه إليه مجلس الكنيسة النقد اللاذع مرتين، وتآمر أعداؤه عليه ليجعلوا البابا يصدر عليه حكما يدينه بالابتداع ويحرم على تابعيه دخول الكنائس ويأمر بحرق كل مؤلفاته (وقد أبطل هذا الحكم فيما بعد). قد نتعاطف أحيانا مع مضطهدي أبيلار الذين عانوا من غطرسته وتعجرفه الدائمين إلا أنهم لم يكونوا أقل منه عجرفة، فقد كان عدوه اللدود القديس بيرنارد الكليرفوني واحدا من أشد الناس قسوة وأوسعهم إثارة لسخط الجماهير وأكثرهم معاداة للسامية في عصره. وقد عارض بشدة الصورة المحترمة لليهود التي ظهرت في كتاب أبيلار المعنون «حوار بين فيلسوف ويهودي ومسيحي» بسبب عدم تسامحه وضيق أفقه.
كانت أفضل أعمال أبيلار مخصصة لعلم المنطق، ولم تتضمن هذه الأعمال في تلك الأيام دراسة طرق التفكير فحسب، بل تناولت قضايا اللغة والمعاني مثل مسألة القضايا الكلية. وحتى هذه الموضوعات التي تبدو هادئة قد أثارت مجادلات حامية الوطيس في تلك الأيام ليس لأنها كانت أرضا خصبة للمناظرات الفكرية فحسب، بل لأن نظريات المنطق قد تكون لها تبعات دينية (كقضية الثالوث على سبيل المثال). وقد تجاوز فضول أبيلار الفكري وشجاعته الأدبية في مثل هذه الأمور حدود اللاهوتية وأخرج لنا عملا من أشد الأعمال تأثيرا بعنوان «مع وضد»، وقد حوى هذا العمل بين دفتيه 158 تناقضا صارخا من الكتاب المقدس ومن أعمال كهنة الكنائس، ثم وضع طرقا لتقييم الحجج المستخدمة في هذه التناقضات وصولا إلى القول الفصل في الأخير. وكان الهدف من تلك الممارسات الجدلية أن تكون نموذجا للإجراءات المدرسية المتبعة في التعليم الجامعي.
وتصور بعض كتابات أبيلار الأخرى كاتبها على أنه أول فيلسوف أخلاقي حضر بجدية في العصور الوسطى حيث جاوز أبيلار العادات المتعارف عليها في الوعظ الديني والمنطوية في أغلب الأحيان على بعض الاقتباسات من الكتاب المقدس والسير الدينية المتواترة، كما حاول تطبيق التحليل المنطقي على طبيعة الخير الأخلاقي. ولاكتشاف ما تصبو إليه الخطيئة والفضيلة بدأ أبيلار في تمييز المعاني المختلفة التي يمكن أن يوصف أمر ما على أساسها بأنه خير أو شر، فهناك استخدامات لكلمة «خير» لا يقصد بها أي معنى أخلاقي مثل عبارة «خير يوم للصيد» و«خير سكين للتقطيع»، وثمة استخدامات أخرى لكلمة «خير» تبدو أخلاقية ولكن أبيلار قال إنها ليست كما تبدو في ظاهرها مثل عبارة: «من الخير أن حدث كذا وكذا.» ويرى أبيلار أنه عندما نقول إنه من الخير أن حدثا معينا قد وقع فإننا نقول إن هذا الحدث لعب دورا بالفعل في الخطة الإلهية. ونحن لا نصدر أحكاما أخلاقية عليه لأننا بذلك نصدر أحكاما على الرب. ونجمل القول في أن كل شيء عند الرب الحكيم بقدر؛ ولذلك فالأمر كله خير. ويستنتج أبيلار من ذلك أن الاختلاف بين الفعل الخير والفعل الشرير من الناحية الأخلاقية لا يمكن أن يكمن في عواقب الأمور لكل منهما؛ ذلك أن كل فعل في نهاية المطاف فيه خير من وجهة نظر الرب البصير الذي يتصف بالخير المطلق.
لقد استنتج أبيلار أن الخير الأخلاقي يجب أن يكون بالأحرى متعلقا بمسألة النوايا الحسنة؛ فالنوايا هي الشيء الوحيد الذي سينظر إليه الرب حينما يضع الناس على الميزان يوم الحساب (ورغم ذلك علينا أن نكون على ظهر الأرض أشد قسوة وأكثر استعدادا في أحكامنا الأخلاقية ما دمنا لا نستطيع أن نطلع على ما في قلوب البشر أو أن نعرف نواياهم، كما أننا نحتاج إلى تشجيع بعض السلوكيات وردع أخرى). وفيما يتعلق بالسؤال عن كيفية تحديد النوايا سواء بالخير أو بالشر فقد أجاب عليه أبيلار إجابة لاهوتية خالصة قائلا إن الاختلاف يكمن في اتباع أوامر الرب أو بالأحرى ما نؤمن أنها أوامر الرب؛ فالرجل يأثم عندما يستهين بما يعتبره أوامر الرب ويكون عبدا شكورا عندما يعظم هذه الأوامر. وهكذا نجد أن فلسفة أبيلار الأخلاقية مستقلة بالكلية عن دينه، فلا يستعين ببعض النصوص الدينية إلا قليلا مثلما فعل من هو أقل منه شأنا من الفلاسفة السابقين والمعاصرين له. وقد استغل أبيلار العديد من الفرص لينقي الفكر الأخلاقي المسيحي من خلال لفت الانتباه إلى أن التبعات الدينية ترتكز على النية باعتبارها المفتاح الذي يحدد معالم ارتكاب الخطيئة. ويقول أبيلار على سبيل المثال إن اليهود الذين اضطهدوا المسيح لن يكونوا آثمين إن كانوا قد آمنوا أنهم ينفذون مشيئة الرب، وهو ما كانوا يفعلونه على الأرجح. وقد كان التعبير عن مثل هذه الآراء والنظريات وبخاصة في القرن الثاني عشر في شمال أوروبا يعد أمرا شجاعا وخطيرا، إلا أنه خرج من أبيلار في إطار مقدماته المنطقية المدروسة جيدا فلم يتردد في قوله.
وقد كان تحليل أبيلار للمبادئ الأخلاقية أقل تعقيدا من تحليل أرسطو، ولكن انتهاج مناهج التفلسف القديمة يعد إنجازا مدهشا بما فيه الكفاية في تلك الأيام؛ حيث إننا لو نظرنا إلى ما تبقى من التراث العلمي على قلته لوجدنا أن المفكرين في عصر أبيلار كانوا في كفاح من أجل إعادة اكتشاف ما تعلمه الآخرون منذ زمن بعيد. ومع ذلك كانت هذه المرحلة المؤسفة في تاريخ الفكر الغربي على طريق الإصلاح، ولكن أبيلار مات بعد ذلك بقليل. ولو أنه عاش بعد ذلك الزمان بقرن واحد لوجد فيضا غامرا من علوم القدماء. وتقريبا في الوقت الذي مات فيه أبيلار في منتصف القرن الثاني عشر بدأت تهب على أوروبا الشمالية رياح ترجمة الأعمال اليونانية والعربية واليهودية في علوم الأخلاق والمنطق والطب والفلك والكيمياء والرياضيات والعلوم الطبيعية. وقد قوى ذلك معايير الجدال في العديد من الموضوعات. وعلى الرغم من أن الغرب اللاتيني كان متأخرا ببضعة قرون عن المرحلة التي يمكنه فيها إعلان لحاقه بما توصل إليه القدماء من إنجازات؛ فإنه قد كان يشق طريقه إليهم في نهاية المطاف.
لقد انتعشت حركة الترجمة نتيجة لعدة أسباب كان من أهمها استعادة المسيحيين للأندلس من العرب، حيث استطاعوا أن يطلوا بسهولة على الثقافة الإسلامية والحضارة الإغريقية التي عمل المسلمون على حمايتها وحفظها. وقد سافر العديد من الباحثين المسيحيين إلى إسبانيا ليتعلموا اللغة العربية وليبحثوا عن كتب العلماء العرب ليترجموها إلى اللاتينية. وقد كان بعض هذه الكتب أصولا عربية وأخرى ترجمات سريانية لنسخ عربية من الأعمال اليونانية. وكان جيرارد الكريموني من بين هؤلاء العلماء الذين سافروا حيث سافر إلى إسبانيا وترجم سبعة عشر عملا في علمي الحساب والبصريات واثني عشر أو أكثر في علم الفلك وأربعة عشر في المنطق والطبيعة، كما ترجم أربعا وعشرين رسالة في الطب. وترجمت بعض الكتب التي أتي بها من صقلية والقسطنطينية بوجه عام مباشرة من اليونانية على أيدي باحثين لاتينيين كانوا لا يزالون يمسكون بناصية اللغة. وقد أدى الازدياد المطرد في أعداد المدارس وأحجامها وإنشاء أول جامعات في باريس وأكسفورد في الربع الأول من القرن الثالث عشر إلى زيادة محفزات البحث عن هذه المؤلفات وترجمتها ونشرها.
في الوقت الذي أصدرت فيه جامعة باريس ميثاقها عام 1210م واجه مفكرو الغرب تحديا جديدا لم يكن مألوفا لديهم، فبدلا من سعيهم جاهدين لاستعادة بعض فتات العلم أصبحت مهمتهم احتواء نهر غامر منه. ولم يمثل معظم ما أتيح حديثا من أعمال علمية مثل كتاب العناصر لإقليدس وكتاب المجسطي لبطليموس وكتاب قانون الطب لابن سينا وكتاب الجبر للخوارزمي أية مشكلات عقائدية، في حين برز العديد من هذه المشكلات في أعمال أرسطو. وكما رأينا كان لأرسطو بعض المعتقدات التي من الصعب التوفيق بينها وبين المسيحية. وقد أثارت كتابات ابن رشد (1126-1198م) وهو أعظم من شرح أعمال أرسطو من العرب مشكلات أكثر من سابقتها. وعلى الرغم من حظر أجزاء من أعمال أرسطو في بعض الأماكن في بادئ الأمر؛ فإن ذلك قد تصاعد حتى وصل إلى حد الانتحار الفكري، الأمر الذي لم يدم طويلا؛ فقد شرع مفكرون أمثال القديس توماس الأكويني في مشروعه الضروري وإن كان فيه ما يشوبه من تخويف ورعب، محاولا الجمع بين الديانة المسيحية وآخر اكتشافات عصره؛ أي مذهب أرسطو. وقد وجهت أشد الانتقادات لذاعة إلى هذه المجهودات التي تتميز بحسن النية وشدة التقوى في بعض الأوساط في بدايتها الأولى، بينما أيد مجمع ليون الكنسي تعاليم القديس توماس الأكويني عام 1274م. وقد كانت التوماوية - وهو الاسم الذي اشتهرت به نظرية توماس الأكويني - هي الإنجاز الذي توج رأس الفلسفة المسيحية واعترف الجميع بها على هذا النحو ولو مؤخرا عندما أصبحت هذه النسخة المعدلة من المذهب الأرسطي الفلسفة الأساسية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالتعيين البابوي عام 1879م. (وكان هذا هو العام الذي ولد فيه أينشتاين؛ فالكنيسة لا تبت في القضايا الفلسفية وهي في عجلة من أمرها.)
كان معظم ما يسمى حاليا بالفلسفة يدرس في العصور الوسطى تحت مسميات المنطق أو اللاهوت أو «الفلسفة الطبيعية» (أي: العلوم). ونظرا لقلة فرص ممارسة الفلسفة خارج الحصار الذي فرضته المناهج الجامعية التي تتحكم فيها الكنيسة، كان أي باحث يميل إلى فلسفة القدامى أو يتبنى آراء الفلاسفة العرب في بعض القضايا الشائكة يجد نفسه في موقف لا يحسد عليه. ولم يكن الحظ ليحالف كل شخص ويفوز بالتوافق الذي قال به القديس توماس الأكويني إذا ما حاول التوفيق بين العقل والوحي. ولم يستطع ذوو العقول المستقلة من المفكرين أن يدرسوا صراحة أي شيء يتناقض مع الدين مباشرة؛ ولذلك كانوا يلجئون إلى غامض الأمور والكلمات. لقد قدموا حججهم العقلانية بينما كانوا يؤكدون على وجه السرعة أن جميع الاستنتاجات المبتدعة المبنية على هذه الحجج قد دحضها الدين المسيحي، فالفلسفة توضح كذا وكذا، ولكنها لا تعبر بطبيعة الحال عن كل الحقيقة. هكذا كان يسير الجدال في خلق الكون على سبيل المثال. ويبين المذهب الأرسطي أن العالم كان بالتأكيد موجودا على الدوام. أما الدين المسيحي فيقول إن العالم قد خلق من العدم في نقطة محددة من الزمان؛ ولذلك يجب أن نؤمن أن العالم قد خلق حتى لو استطعنا أن نثبت إثباتا واضحا أنه لم يخلق. وكان هذا النوع من التقديم المزدوج يعد أحيانا حيلة من أجل إدخال المعتقدات غير الأصولية على المناهج الدراسية، وأحيانا أخرى كان بمنزلة تعبير صادق عن الحيرة والارتباك، ولكن دائما ما كان يحدث اللبس بينهما. وقد أدانت الكنيسة إدانة لا رجعة فيها كل محاولة لإثبات أن للحقيقة وجهين أحدهما ديني والآخر فلسفي، فالعالم إما أن يكون قد خلق أو لم يخلق، ولا سبيل لحقيقتين في هذا الشأن أو أي شأن آخر.
وفي نهاية القرن الثالث عشر وجه المحافظون من أهل الكنيسة رسالة تحذير إلى فلاسفة المذهب العقلي الذين يقتفون أثر الإغريق. لقد قال هؤلاء المحافظون إن استخدام الإنسان لملكة عقله الفطرية أمر حسن إذا توصل إلى الاستنتاجات الصحيحة. وفي عام 1277م رصد أسقف باريس 219 استنتاجا غير مسموح التطرق إليها آملا أن يكون في هذا الأمر حل للمشكلة. لكن فطرة العقل لم تكن لتقيد في هذه الحدود المصطنعة. وقد رد بعض المفكرين الذين لم يرضوا سرا عن محاولات وضع قيود تعسفية على تفكيرهم بالتعبير عن أنفسهم بطريقة ساخرة. وبعد شرح الحجج والأدلة والبراهين التي تثبت استحالة الخلق المذكور في الإنجيل أقر أحد الفلاسفة الفرنسيين في القرن الرابع عشر على مضض بوجود الخلق في الماضي، ولكنه حاول تضييق الفجوة المنطقية الموجودة في نقاشه فكتب يقول: «فلنضف أن الخلق نادرا ما يحدث وأنه لم يحدث إلا مرة واحدة منذ زمن بعيد.»
تجاوزت محاولة التوفيق الصعبة بين الإيمان والعقل حد المزاح حيث ساهمت الإدانات التي حدثت عام 1277م في انهيار الصورة التي رسمتها النظرية الأرسطية الجديدة للعالم بشكل نهائي ومولد نهج جديد أقل تمسكا بالكتب في دراسة الطبيعة. وقد كان هذا الأمر محدقا منذ أمد بعيد، ولكن فلسفة التمسك بالتعاليم التقليدية التي احتوتها الكتب كانت في أوج عظمتها، ولم تخرج صورة جديدة للعالم إلا بعد ثلاثة قرون، وقد كان ذلك من قبيل المصادفة؛ لأن المهاجمين كانوا يستهدفون البدع الدينية وبعض الأجزاء في المذهب الأرسطي التي كانت تؤدي إليها. ومع ذلك استحدث التعارض بين الإيمان والعقل في نهاية القرن الثالث عشر أفكارا ساعدت على تقويض النهج المتبع في العصور الوسطى في العلوم والمعارف.
وقد انصب جل هذه الإدانات على «ابن رشد» الذي لقب بعد القرن الثاني عشر بالشارح الأكبر لأعمال أرسطو . وقد عد ابن رشد الفلسفة المصدر الوحيد للحقيقة بمعناها الحرفي واعتبر اللاهوتية مجموعة من الأقوال المجازية. وقد اعتمد مذهب ابن رشد على بحث كل موضوع في ضوء المنطق الطبيعي - كما فعل أرسطو من قبل - وعلى محاولة إيجاد دور للرب في هذه الصورة. وقد اهتم بألا يبدأ بغير هذا الترتيب ويضع الدين في المقدمة، فيقول في ذلك إن ما تحتويه نصوص الوحي المزعومة لا يمكن أن يسمح لها أن تطيح بما توصلنا إليه من استنباطات حول العالم وما تحملناه من مثابرة في سبيل ذلك. بالإضافة إلى ذلك يشير افتراض ابن رشد السابع والأربعون بعد المائة الذي أدانه الأسقف إلى أنه إذا كانت مسألة ما قد ثبت أنها في خلاف مع الطبيعة فلا يستطيع الرب نفسه أن يغير من ذلك شيئا. أما المحافظون المسيحيون فقد أصروا على أن حرية الرب ليست لها حدود. وقد كان لهذا التأكيد على تمتع الرب بالقوة المطلقة عواقب عظيمة.
يقضي المفهوم الإغريقي القديم بأن الرب جزء من الطبيعة ومن ثم يخضع لقوانينها. ويزيد أفلاطون أن الصانع الأكبر لم تكن يداه حرتين تماما عندما ركب العالم؛ فقد كان عليه أن يستعمل مواد ثابتة خصائصها. وحتى هذا الرب لم يكن باستطاعته أن يجعل النار باردة أو أن يخلق الأنهار من الهواء. وكذلك كان رب أرسطو ملتزما بمبادئ الطبيعة، إلا أن الرب في الإنجيل كتب مبادئ الطبيعة بنفسه ومن ثم فإنه قادر على فعل أي شيء أراده، فإذا أراد أن يجعل الصخور أخف من الهواء أو أن يخلق أجنة الدجاج فتنمو في أحشاء البقر أو أن يجعل القمر مركز الكون فلا راد لأمره. ويكمن التأثير الأساسي لهذا التأكيد المربك والمتحرر على حرية الرب في أن يجعل الناس يتساءلون عن كم الصور التي من المحتمل أن يرسموها للعالم. وقد يعتقد البعض أن على الطبيعة أن تسير على وتيرة معينة، في حين أن الرب قد يكون لديه أفكار مختلفة. ويقول أرسطو إن كذا وكذا هو أبسط شرح لظاهرة ما، ولكن ماذا لو فضل الرب أن يفعل الأشياء بطريقة معقدة؟ عندئذ يمكن أن تكون أكثر النظريات منطقية خاطئة. وقد بدأ بعض المفكرين في القرن الرابع عشر من جراء هذه الفكرة في استكشاف الاحتمالات التي رفضها أرسطو بما في ذلك احتمالية أن تكون النجوم غير أزلية ولا تتغير وأن الأرض تدور وأنه قد يكون ثمة عوالم أخرى كعالمنا.
كان من أهم الفلاسفة الذين تأملوا ما تتضمنه حرية الرب ويليام الأوكامي (1285-1349م) الذي ألقى محاضرات في اللاهوت في أكسفورد وكتب الكثير من المؤلفات في علم المنطق وحرم كنسيا عام 1326م بسبب مشكلة متعلقة بسياسة الكنيسة. وقد قال ويليام الأوكامي إن الرب يمكنه فعل أي شيء لا ينطوي على تناقض (فلا يستطيع الرب أن يخلق أعزب متزوجا لأن الأعزب بحكم طبيعته يجب ألا يكون متزوجا، ولكن أوكام قال إن الضروريات اللفظية لا تعد قيودا على قدرات الرب). ويقول ويليام الأوكامي إن ذلك يستتبع أنه ما دام لا يوجد تضارب في افتراض وجود شيئين بشكل منفصل فالرب يمكنه فصلهما فعلا، فيمكن للإله على سبيل المثال أن يسبب سببا دون نتيجته، وباستطاعته أن يجعل الشمس تشرق غدا ولا تغرب أبدا؛ لأن شروق الشمس دون غروبها هو ظاهرة غريبة ولكنها لا تعد تناقضا في المصطلحات. وقد توصل ويليام الأوكامي من ذلك إلى أن من تبعات ذلك أن العلم لا يمكنه إلا أن يصف ما يحدث بالفعل وليس ما يجب أن يحدث، فليس ثمة ما يجب أن يحدث ما دام الرب قد يتدخل في أي وقت.
وقد قوضت هذه الفكرة إحدى ركائز المنهج المدرسي في العلم، حيث كان الرأي المجمع عليه في العصور الوسطى في الحقل المعرفي أن العلم يعمل على اكتشاف «ضروريات الطبيعة» أو «جواهر الأمور»؛ فالبحث العلمي - بالنسبة للمعلمين في القرن الثالث عشر الذين شغلتهم قراءة الكتب القديمة - يوضح لنا الخصائص الأساسية للشيء، ومن خلال معرفة هذه الجواهر يمكن للإنسان أن يستنتج السبب وراء تصرفها بهذه الطريقة؛ فجوهر النجوم على سبيل المثال يقتضي أن تدور في دوائر تامة الاستدارة، وهكذا فإن النجم لا بد أن يدور في دائرة تامة الاستدارة. وهكذا كان العلم في ذلك الوقت، ولكن ويليام الأوكامي قال إن الحديث عن مثل هذه الجواهر حديث مفرط لأنه لا يضيف أي شيء إلى فهمنا للظاهرة، بل يضلنا حيث يجعلنا نظن أنه بمقدورنا إثبات بعض الأمور التي لا يمكن إثباتها. ويبين ويليام الأوكامي أيضا أنه لا تثريب على الرب إن لم يراع أيا من «ضروريات الطبيعة» عندما يحدد شكل الكون، إذن لماذا علينا أن نهتم نحن بها؟
وهذا النقد القاسي غير مستغرب من جانب ويليام الأوكامي؛ فقد اعتبر الفيزياء وكذلك الفلسفة بشكل عام مليئة بالأفكار المجردة التي يمكن الاستغناء عنها، بل ويجب الاستغناء عنها، وقد كانت «ضروريات الطبيعة» مثالا ضمن العديد من الأمثلة الأخرى على المفاهيم الزائفة. ولكي يتخلص من مثل هذه الأفكار استخدم ويليام الأوكامي ما يعرف ب «موس الأوكامي» وهو عبارة عن مبدأ ينص على أن «الكيانات لا يجب أن تتضاعف فوق ما هو ضروري.» لا وجود لهذا المبدأ الجدير في كتابات ويليام الأوكامي وإن كان بالتأكيد يعكس منهجه الاقتصادي القائم بدقة متناهية، فقد قال إن النظريات يجب أن تبسط قدر الإمكان وألا تثير من الأسئلة إلا القليل. فمن السهل أن تضلل التقلبات والتغيرات الغريبة في اللغة الإنسان فتدفعه إلى الاعتقاد أن العالم أكثر تعقيدا مما هو عليه في الحقيقة. فقد أخفق الفلاسفة على سبيل المثال في إدراك أن الأسماء المجردة لا توجد إلا «من أجل الإيجاز في الكلام أو لتنميق اللغة» ولا تشير إلى أي شيء في الواقع؛ ولذلك يجب أن نكون على استعداد دائم وأن نستعد لاستخدام الموسى إذا ما عن مصطلح مجرد هنا أو هناك. وبذلك نرى كيف سعى ويليام الأوكامي إلى توضيح أن كثيرا من المفاهيم المستخدمة في الحجج المدرسية ليس في الحقيقة أكثر من محض تنميق لغوي بل إنه يفتقد حتى صفة الجاذبية.
وربما كان يجدر بويليام الأوكامي استخدام هذا الموسى على نفسه؛ لأن كتاباته ليست إلا سلسلة من التعبيرات الغامضة والأساليب غير الضرورية. ويتسم نقده لمن سبقوه بالقوة لا سيما في الأمور الدينية؛ فقد قام بكل دقة بدحض البراهين المعيارية الخمسة التي صاغها توماس الأكويني لإثبات وجود الرب، حيث انتهى إلى استحالة وجود كيان يتمتع بالخلود والكمال، فوجود الرب يمكن أن يعرف بالإيمان ويمكن إثباته عن طريق العقل. كما هاجم الحجج التقليدية التي تقول بخلود الروح حيث وضح أنه بما أن الرب حر في أفعاله فباستطاعته اختيار أي مخلوق من خلقه ليمنحه الخلود، وليس مجبرا على منحه لكل مسيحي صالح. وبشكل عام لم يكن ثمة الكثير مما يمكن أن يثبته الإنسان عن شكل الرب أو أفعاله؛ ولذلك فإن التأكيد على حرية الرب التي أشير إليها في إدانات عام 1277م صار على يد ويليام الأوكامي يثير احتمالات مقلقة ليس في علم الطبيعة وحده وإنما في اللاهوت أيضا.
وشملت إنجازات ويليام الأوكامي كذلك العديد من الإنجازات في علم المنطق الذي يعد أحد أكثر فروع الفلسفة دراسة في القرن الرابع عشر؛ فقد درس هو وبعض خلفائه الكثير من طرق الاستدلال التي تجاهلها أرسطو، كما تناول بالبحث الكثير من المفارقات بطريقة جديدة أكثر تعقيدا. ولكن هذا العمل لم يترك أثرا كبيرا لأنه مع حلول النصف الثاني من هذا القرن كان المفكرون قد سئموا النقاش في هذا الموضوع؛ فقد كان المنطق بمنزلة العمود الفقري للتعليم العالي لمدة طويلة، حتى رأى المصلحون من أرباب الفكر أن الحديث فيه قد بلغ حد الكفاية. وبذلك لاقت أشكال القياس الخاصة بويليام الأوكامي البالغ عددها 1368 المصير ذاته الذي لاقته أشكال القياس الأرسطي القديمة البالغ عددها 192.
ورغم أن المنطق في القرن الرابع عشر اتضح أن مآله طريق مسدود فإن الوضع كان مختلفا مع علوم الطبيعة، فقد قام بعض المفكرين باستخدام القياس والحساب في مسائل الطبيعة وهو ما لم يكن شائعا آنذاك. وقد كان هذا مذهبا جديدا في فلسفة العصور الوسطى، وهو ما أرسى الأسس التي شيد عليها جاليليو أفكاره فيما بعد. وقد استغل مجموعة من الفلاسفة في كلية ميرتون بجامعة أكسفورد عرفوا ب «محاسبي أكسفورد» أحد التحليلات الرياضية للحركة ووضعوا مصطلح السرعة الحديث. وقد كان عملهم من الروعة بمكان دفعهم إلى استخدامه في قياس كثير من الأشياء التي لا يمكن وزنها أو قياسها كالرذيلة والفضيلة (وقد أصبح أحدهم رئيس أساقفة كانتربري ولكن ليس بسبب هذا العمل الذي أخطأ الناس فهمه). وفي عمل آخر أقل غرابة من عملهم الأول فرق المحاسبون بين مفهومي شدة الحرارة ومقدارها، سابقين بذلك التفرقة المعاصرة بين مفهومي الحرارة ودرجات الحرارة، ولكنهم ما كانوا ليدركوا كيفية قياس أي من هذه الأشياء. لقد كانت جهودهم بصفة عامة تعاني من الاهتمام بشكل أكبر بالجدال المنطقي أكثر من البحث في الطبيعة؛ فقد تناولوا المشكلات المادية كما لو كانت مفارقات منطقية مجردة، كما كانوا مفتونين بالألغاز النظرية عن فكرة اللانهائية أكثر من التحديات العملية للتنبؤ بالظواهر الطبيعية والتحكم فيها. ورغم ذلك فإنهم ساروا على الطريق الصحيح بخطوات متعثرة حتى حبط عملهم وبار مسعاهم في نهاية المطاف.
وقد أردف ذلك الفيلسوف والأسقف الباريسي نيكولاس أوريسم (1325-1382م) ببحوث مشابهة بعقل أكثر فهما وأفق أرحب، فابتكر طريقة لتقديم أفكار المحاسبين في ديباجة هندسية، وهو ما مكنه من الوصول إلى أدلة على الكثير من النظريات الرياضية الهامة عن السرعة والعجلة (وكانت الرسوم البيانية التي وضعها هي خير سلف لما هي عليه الآن). وقد قدم أوريسم كذلك تفسيرات مؤيدة للرسائل الغريبة المعارضة للمذهب الأرسطي كفكرة دوران الأرض وفكرة وجود عوالم أخرى غير عالمنا هذا. وبذلك فقد كان التفكير العلمي لأوريسم سابقا لعصره بطريقتين؛ إحداهما: أنه أولى الأساليب الرياضية اهتماما أكبر مما كانت عليه في علم الطبيعة في العصور الوسطى، والأخرى: أنه بحث في بعض العقائد الرئيسة للصورة التي رسمها أرسطو للعالم، ولو نظريا على الأقل.
وبذلك ظلت أفكاره تسبح في الفضاء النظري، فما توصل إليه أوريسم بشأن بدائل الحكمة القديمة قد تراجع عنه في آخر لحظة. ولم يكن نيكولاس أوريسم هو وحده من فعل ذلك؛ فقد استمر مفكرو القرن الرابع عشر بصفة عامة في الاعتقاد في أزلية النجوم وثبات الأرض وعدم وجود عوالم أخرى، بالإضافة إلى معظم ما تبقى من الميراث الأرسطي. وقد كانوا ينظرون بعين العجب إلى الإمكانيات المتنافسة إلا أنهم لم يؤمنوا بها أو يعتنقوا أيا منها. وربما قام أوريسم بتفنيد الحجج التقليدية التي استخدمت للتدليل على ثبات الأرض ولكن انتهى به الأمر إلى الدفاع عن النظرة التقليدية. ولكي يتمكن من تحديد الموضوع قام بالاستشهاد بالمزمور الثالث والتسعين الذي يقول: «أيضا تثبتت المسكونة. لا تتزعزع.»
ولم يكن الدين وحده الذي منع أوريسم ومن على شاكلته؛ فقد كان باستطاعة المفكرين في القرن الرابع عشر استخدام نظريات أرسطو وكانوا يميلون لذلك، ولكن لم يكن لديهم نظام بديل يقاربها في الإحكام. لقد تناول أرسطو بالشرح جميع الأشياء تقريبا، فلم نخلخل البناء المتناسق؟ لقد كان عبثا بالنسبة لهم أن ترفض الأفكار القديمة دون تقديم أى بديل شامل مناسب، لا سيما أن هذه الأفكار نالت رضا السلطات التعليمية (أي الكنيسة ) بل وربما الكتاب المقدس أيضا. ومع ذلك كان من المقبول التفكير في بدائل على سبيل المران العقلي المحض، وهذا تحديدا ما كان يفعله رجال مثل نيكولاس أوريسم.
وقد ساعدت الإدانات التي وقعت عام 1277م على تحفيز البحث في الطبيعة وإعاقته في الوقت نفسه؛ لأن تأكيدها على حرية الرب كان له تأثيرات معوقة في مجال العلم وتأثيرات أخرى محفزة. فمن جهة كان باستطاعة الرب أن يفعل كل ما يريد حال تنظيمه للعالم؛ وبذلك فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما فعله هي فحص الحقائق، فكان هذا دافعا للبحث العلمي المتفتح ومحفزا له؛ لأن هذا يعني ضمنيا أن النظريات التي تبدو صحيحة بحاجة إلى التأكيد. ومن جهة أخرى يطالعنا سؤال يقول ما دام الرب قد صاغ الأشياء معقدة وغامضة فأي أمل كان موجودا في الوصول إلى الحقيقة؟ وقد تشير بعض الأدلة إلى نتيجة معينة مثل الاستنتاج القائل بدوران الأرض على سبيل المثال، ولكن على أي شيء يبرهن ذلك؟ لقد كان الرب قادرا على أن يجعل الأرض ثابتة وأن تبدو لنا في الوقت ذاته متحركة، فقد كان يتمتع بالحرية والقدرة المطلقة، وعليه فلن يؤكد لنا أي تأكيد واضح أننا قد فهمنا طرق الرب الغامضة؛ ولذلك أصبح العلم ضربا من ضروب اللهو والعبث، فيمكن للإنسان أن يضع كافة أنواع النظريات موضع البحث والتمحيص، ويميط اللثام عن نتائجها ويقارنها بما يلاحظه، أما الوصول إلى حقيقة الرب فهو قصة مختلفة تماما. وقد جعلت هذه الفكرة البسيطة أناسا مثل نيكولاس أوريسم يراجعون أنفسهم مرارا قبل ادعاء الوصول إلى حقيقة الأشياء. •••
لم يكن لدى رواد الثورة العلمية في القرن السادس عشر مثل تلك الظنون، فعندما أعلن كوبرنيكوس في عام 1543م نظريته حول دوران الأرض حول محورها وحول الشمس، كان أحد المظاهر الثورية في نظريته يكمن في ادعائه صحة ما توصل إليه، فقد قدم اكتشافه الجديد في علم الفلك لا على أنه محض حسابات كوكبية افتراضية وإنما على أنه وصف حقيقي لشكل النظام الشمسي كما كان عليه. وقد حاول بعض أصدقائه إخفاء هذه الحقيقة الصادمة، حيث خرج كتابه «عن ثورة الأجرام السماوية» إلى النور أول مرة بمقدمة غامضة تحاول أن توضح أن كوبرنيكوس لم يقصد ما قاله تماما. فوفقا لما ورد في هذه المقدمة التي أدخلها أحد أصدقاء كوبرنيكوس المتعصبين - والذي رأى عمل صديقه الذي يشارف على الموت على صفحات الجرائد والمجلات - لم يقصد كوبرنيكوس أن يضمن كتابه أي شيء عن مواقع الأجرام السماوية وحركاتها الفعلية، إنما كان الكتاب يحاول توضيح كيف يقدم نموذجه البديل عن السموات أساسا مفيدا للحسابات.
ولم تنطل هذه المقدمة على أحد؛ فأفكار كوبرنيكوس ظلت متداولة لعدة أعوام قبل نشر كتابه «عن ثورة الأجرام السماوية» ولاقت هجوما ضاريا من المصلحين البروتستانتيين بوصفها انحرافا عن تعاليم الكتاب المقدس، فقد نعت مارتن لوثر (1483-1546م) - الذي أصر على القراءة الحرفية للكتاب المقدس بوصفها عودة إلى المسيحية الأصلية - كوبرنيكوس بأنه منجم أحمق ومغرور. وأما الكنيسة الكاثوليكية فكانت أقل التزاما بالأصولية الكتابية، وبذلك تأخرت إدانتها الرسمية. ولكن بنهاية القرن السادس عشر أدى تعاظم التهديد البروتستانتي إلى أن أصبح التسلسل الكاثوليكي أكثر حساسية تجاه التحديات التي واجهت سلطته الفكرية، فقد مثلت أفكار كوبرنيكوس إحدى هذه التحديات ولذلك لزم القضاء عليها. وكانت النتيجة أن حرم على الكاثوليكيين قراءة أعمال كوبرنيكوس عام 1610م (وفي الحقيقة رفضت الكنيسة الكاثوليكية طباعة أي من أعمال كوبرنيكوس حتى عام 1822م، رغم أن هذا لم يكن ليحول دون الوصول لأفكار كوبرنيكوس). وبحلول ثلاثينيات القرن السابع عشر ذهب كثير من رجال العلم الثقات إلى أن الأرض تدور حول الشمس، ولكن هذا الإجماع لم يزد الكنيسة الكاثوليكية إلا إصرارا في التأكيد على حقها في تحديد ما يجب أن يؤمن به أتباعها. وفي عام 1633م أجبرت محاكم التفتيش جاليليو في الحادثة المشهورة على التخلي عن دعمه لأفكار كوبرنيكوس، وهو ما فعله.
وترجع نجاة أفكار كوبرنيكوس من إدانة الكنيسة الكاثوليكية في بداية عهدها في أحد أسبابها إلى أن معانيها أخذت وقتا طويلا ليفهمها الناس ويؤمنوا بها. وما كان حجم المشكلات التي كان من الممكن أن تتولد جراء أفكار كوبرنيكوس لتتضح للعيان إلا عندما تبنى علم الفلك الجديد مجموعة من المفكرين الذين تحدثوا بصراحة ووضوح. وربما كان أسوأ الأمثلة على ذلك هو ما حدث مع جوردانو برونو أحد الرهبان البارزين الذي تعرض للحرق على الخازوق عام 1600م. لقد كانت آراؤه من الشناعة بمكان حرمه فضل الموت شنقا قبل إشعال النيران في جسده. وبذلك إذا خالج أي شخص الشك في أن النظريات الفلكية المجردة يمكن لها أن تقضي على الأفكار الدينية فما عليه إلا أن ينظر في الهراء الغامض الذي آمن به برونو.
وبذلك نرى كيف شب مذهب كوبرنيكوس في بيئة فاسدة، فقد فقدت أوراق محاكمة برونو؛ ومن ثم فلا يعرف أي شخص البدع التي اختارتها محكمة التفتيش أساسا لمحاكمته. وكم في أعماله الكثيرة من أمثلة على الأفكار الغريبة غير التقليدية، فكان يلقي محاضرات في اللاهوت والفلسفة الطبيعية بالإضافة إلى فرع غريب من فروع المنطق وفن الحفظ والكثير من العلوم الأخرى، كما كتب رسائل تناولت السحر وخطبا لاذعة ضد أرسطو ونقدا للكتاب المقدس وقصائد تتحدث عن الكون، بالإضافة إلى بعض المحاورات الفلسفية التي شكك فيها صراحة في العقائد المسيحية، وكان أحيانا يعلن أنه من أتباع لوثر وأحيانا من أتباع كالفن، ولكن مذهبه لم يكن مسيحيا خالصا كما يبدو، وقد كان مهووسا بالسحر ومولعا بالأمور التي تدور حول الأوهام الغامضة، وكان يولي اهتماما خاصا بالديانات المصرية القديمة، وقد قاده اهتمامه بالديانات التي تعبد الشمس إلى تبني آراء كوبرنيكوس.
كما حفزه حماسه لأفكار لوكريتيوس الغامضة وأتباع المذهب الذري اليونانيين إلى المضي قدما ليضع نظام كوبرنيكوس الشمسي المتعارف عليه في كون لانهائي حيث يقول:
ثمة ... مساحة ضخمة واسعة يمكننا أن نطلق عليها اسم الفراغ، وفيه ما لا يحصى من العوالم المشابهة للعالم الذي نحيا فيه، وأنا أعلن أن هذا الفضاء لانهائي؛ فلا سبب أو عيب فيما تهبه لنا الطبيعة يجعلنا ننكر وجود عوالم أخرى خلال الفضاء.
وكما رأينا فقد استغل بعض مفكري القرن الرابع عشر فكرة وجود عوالم أخرى دون أن يؤمنوا بها، بينما رأى برونو أن علم الفلك المليء بالحقائق يمثل اكتشافا عظيما وأنه أحد الحقائق المدهشة التي كشف النقاب عنها في عصره، فقال إن كونا يكتظ بمثل هذه الأشياء لهو أكبر تجل لعظمة الرب التي لا يمكن قياسها أبدا. وقد كتب يقول إن الرب يظهر إجلاله وتعظيمه «ليس في شمس واحدة وإنما في شموس كثيرة وليس في أرض واحدة وإنما في أرضين كثيرة، بل إن شئت فقل في أرضين لا عد لها.»
ولكن ما أشد ما سببته هذه الفكرة من إزعاج! فقد يعظم الرب كون فيه الكثير من العوالم، ولكن ما هو موضع الإنسان من كل ذلك؟ فلم يعد موطن الإنسان هو مركز الكون وإنما بقعة ضئيلة في الفراغ، فهل يمكن أن يكون إذن أعظم الموجودات والمخلوقات؟ وأين تقع السماء تحديدا في هذه الصورة الجديدة للأشياء؟ لا يعد برونو واحدا من جيل العلماء الجديد الذي يضم جاليليو، فقد كان كثير الاستشهاد بمخطوطات زائفة أو قصاصات من الأفلاطونية الحديثة، ولم يعتمد على أي نوع من التجارب أو الحسابات أو الملاحظات في سبيل دعم نظرياته. ولكن بعض أفكاره كانت شبيهة بأفكار جاليليو وأتباعه، إلا أنه عبر عنها بطريقة أكثر اضطرابا وغموضا، فلم يكن ثمة تشابه كبير بين الكون الذي وصفه برونو وغيره من العلماء وبين الكون الذي كان الإنسان في العصور الوسطى متأكدا أنه يحيا فيه.
وقد تحدث الشاعر دن عن الإنسان العادي المتحير بالقدر نفسه الذي تحدث به عن رجال اللاهوت الذين يعدون للمعارك، عندما كتب عن الشكوك التي أظلت العالم في بدايات القرن السابع عشر فنجده يقول: ... تلقي الفلسفة الحديثة بظلال الشك على كل شيء، ...
فقدت الشمس وكذلك الأرض، ولا حيلة لعقل الإنسان،
كي يرشده إلى سبيل البحث عنهما.
ويعترف الإنسان الحر صراحة بانقضاء عالمه،
حيث يبحث في الكواكب والسماء.
عن أجرام جديدة كثيرة ...
ويتلاشى التناغم ليفسح للفوضى مكانا.
لا ريب أننا لم نفقد الشمس ولا الأرض بالفعل، فقد عثر عليهما على الأقل بفضل ذكاء كوبرنيكوس. وكما أخطأ الناس فهم حركة الشمس الظاهرة فظنوا أنها حركة حقيقية؛ فإن المتحفظين من أهل القرن السابع عشر الميلادي خلطوا بين شروق الشمس وغروبها. فكانت شمس التناغم تشرق على العالم ببداية تشكيل صورة جديدة للكون. وربما يعزى عدم ظهور هذا الوجه المشرق بجلاء آنذاك إلى أن التغير العنيف الذي كان يعصف بالعالم حينئذ جعل من الصعب أن يدرك كل إنسان حقيقة ما يحدث. •••
أما الوقت الذي ولد فيه كوبرنيكوس في النصف الثاني من القرن الخامس عشر فقد كان أكثر هدوءا، فالدراسة العلمية لم تكن بعد ساحة قتال في الأروقة اللاهوتية. كان انتشار الكتب المطبوعة والتوالد الرهيب للأفكار الذي نتج عنه قد بدأ للتو، ولعل النقطة الأهم تتمثل في أن النزاعات التي كانت تدور في الوسط الثقافي لم تكن علقت في شرك الحروب الدامية التي دارت رحاها بين البروتستانت والكاثوليك. ورغم ذلك فإن العديد من مجالات الحياة الثقافية كان يشهد حالة من الغليان الإبداعي، فقد كان الأوروبيون في ذلك الوقت على مشارف سبر أغوار عوالم جديدة لم تكن كواكب جديدة أو كشوفات فلكية وإنما قارات جديدة ومهارات جديدة وطرق جديدة في التعامل مع الطبيعة وأساليب تعليمية جديدة، بالإضافة إلى عوالم المؤلفين الجدد، بل بالأحرى الذين طوتهم غياهب النسيان.
وبدأت الحياة تعود رويدا رويدا إلى دراسة اللغة اليونانية مع عدد من اللغات القديمة التي أهملت لوقت طويل، معيدة بذلك فتح نافذة للإطلال على الماضي ظلت موصدة لما يقارب ألف عام. ولم يقف الأمر عند حد مطالبة الباحثين بنصوص وترجمات أفضل للأعمال القديمة التي كان يعرفها أسلافهم جيدا في العصور الوسطى (أو التي اعتقدوا أنهم كانوا يعرفونها) بل إنهم طالبوا باسترداد أجزاء من تراثهم الفكري الذي تجاهلته الموجة الكبيرة من الترجمات العلمية والفلسفية في القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر. كانت هناك أوبة إلى الكتب الأدبية والسياسية والأخلاقية والتاريخية وغيرها من الكتب القديمة التي لم يكن لها من الاهتمام نصيب في المناهج الضيقة التي درست في العصور الوسطى؛ ففي إيطاليا ثم في شمال أوروبا أكد نموذج جديد من التميز الفكري على أهمية الدراسات الأدبية وفقه اللغة التاريخي والخطابة والشعر والتاريخ، وبذلك فإن دراسة ما يعرف اليوم بعلم «الإنسانيات» تطورت جزئيا من أجل إعداد الرجال للعمل في مجالس الأمراء ومكاتب محفوظات المدن والولايات، بالإضافة إلى المكاتب الباباوية. واهتمت هذه الطبقة الجديدة من الموظفين والباحثين العلمانيين بتطوير طريقة كتابتهم وتهذيبها بدلا من الاهتمام بالدخول في نزاعات لاهوتية، وكانوا يبتغون من ذلك أن يتعلموا كيفية كتابة الخطابات والرسائل المقنعة بدلا من حل الألغاز المنطقية. وقد كان لهذه التطورات التي جرت خارج الجامعات كبير الأثر على ما كان يدور داخل أروقتها.
ومن الآثار التي خلفتها هذه الحركة «الإنسانوية» في الفلسفة زيادة الاهتمام بالأخلاق والسياسة، فحظيت رسائل أرسطو في الأخلاق وكتابه «فن الشعر» بدراسة واسعة، كما ذاعت كذلك أعمال أفلاطون بأسلوبها الأدبي الرفيع الذي لا يضاهى. ومن الآثار المترتبة على المذاهب الإنسانوية كذلك العداء الصريح للغة الفظة والأساليب الشكلية التي كانت منتشرة في الحجج المدرسية. وقد عبر لورنزو فالا، وهو أحد المفكرين الإيطاليين، عن إحباطه من منطق العصور الوسطى قائلا: «ليس كل إنسان حجرا، وبعض الناس حيوانات؛ إذن بعض الحيوانات ليست حجارة.» لا أستطيع أن أتمالك نفسي عن الصراخ: هل سمعتم أحدا من قبل يناقش بطريقة كتلك يا أمة المجانين؟
وقد اهتم لورنزو فالا وأتباع المذهب الإنسانوي بالمؤثرين من أهل الخطابة أكثر من اهتمامهم بأشكال القياس المجردة والاصطناعية لدى أرسطو. وزاد الإقبال الشره على قراءة أعمال الكتاب اللاتينيين القدماء أمثال شيشرون من أجل اكتساب المهارات الأسلوبية التي غابت عن اللغة اللاتينية التي كتبت بها الشروح المدرسية، وهي الحقيقة التي لم يكن لدى شيشرون ما يقوله عنها إلا أنها كانت قليلة الأهمية، مهما قال ذلك بأسلوب جميل ومنمق. وقد كان أتباع المذهب الإنسانوي ينظرون إلى خطبه بوصفها نموذجا لكيفية طرح قضية، كما اهتموا بأعماله الفلسفية بوصفها مصادر سهلة القراءة تصف الفلسفة الهيلينستية التي تتحدث عن حياة ما كان ليعرفها المعلمون في جامعات العصور الوسطى أبدا.
وكان إراسموس الروتردامي (1469-1536م ) من أهم الباحثين أتباع المذهب الإنسانوي وأكثرهم تأثيرا، ويذكرنا نقده لفلاسفة الجامعة في كتابه «في مدح الحماقة» بهجوم أفلاطون على السفسطائيين الذين انشغلوا بسفاسف الأمور في بريكلين بأثينا. وقد جعل إراسموس المدرسية تبدو سخيفة وحقيرة. وقد كانت مهمته بسيطة وسهلة في إقناع قرائه بأن علماء اللاهوت آنذاك لم يكونوا إلا مجموعة من المهرجين الجهلة الفاسدين كما فعل فرانسوا رابليه الذي جعلهم أضحوكة في روايته «جارجانتوا» عام 1534م. وربما كان إراسموس محقا عندما قال إن كثيرا من علماء اللاهوت لم يكونوا يفهمون النصوص التي زعموا أنهم يدرسونها. وقد أدى الموت الأسود إلى تقليص المصادر التي استقت منها الكنيسة مهاراتها الفكرية إلى حد بالغ. وقد مهد هجوم إراسموس على الكنيسة المترفة التي كانت تعاني من فقر روحي الطريق للمصلحين البروتستانتيين لوثر وكالفن. وقد اتضحت أهمية المهارات الأدبية بوصفها سلاحا قويا في يد الخبير الإنسانوي في مثل تلك المعارك إذ قدم عمل إراسموس الحصيف في الكتاب المقدس والكتابات المسيحية الأولى المساعدة له على إظهار إلى أي مدى كانت الكنيسة المعاصرة بعيدة عن المسيحية الأصلية.
وقد قام نيكولا مكيافيلي (1469-1527م) (الذي كان معاصرا لإراسموس) بتقويض سلطة علماء اللاهوت على نحو مغاير حيث قام بتطوير طريقة جديدة للكتابة عن السياسة كانت ببساطة تتحاشى القضايا الدينية. فبدلا من تقديم مبررات لاهوتية للمؤسسات والممارسات السياسية قدم طرقا واقعية تبرز كيفية اكتساب القوة وأساليب ممارستها. وقد اشتهر كتابه المختصر «الأمير» بتصويره للحاكم الناجح على أنه رجل يدرك متى يتغاضى عن القيود الأخلاقية ويشرع في فعل ما يريد. أما عمل مكيافيلي الرئيس وهو «الخطابات» فهو أقل فظاعة من كتابه الأول، ويتميز بكبر حجمه عنه بشكل كبير يفسر عدم شهرته وذيوعه. وبسبب كتابه «الأمير» اشتهر مكيافيلي بنصرته لفكرة استخدام القسوة. وبصفة عامة لا تعد كتاباته ساخرة بقدر ما هي كتابات اجتماعية، فهي توضح كيفية ممارسة السياسة في الواقع، فكانت النتيجة ميلاد نوع جديد من الدراسات الاجتماعية تنأى عن المناهج الدراسية التي كانت تخضع لسلطان الكنيسة في العصور الوسطى.
وفي عصر النهضة أخذ البحث في الطبيعة وجهة جديدة حيث أصبح عمليا بصورة أكبر. وقد ظهر ذلك جليا واضحا في البداية في الجامعات الإيطالية حيث كانت الفلسفة الطبيعية تدرس في كنف الطب بدلا من دراستها ضمن علم اللاهوت، كما كان الحال في باريس وأكسفورد. وينبع كثير من أفضل الأعمال الطبية التي كتبت في عصر النهضة من هذا التقليد الطبي الذي يتسم بالبرجماتية وروح التجربة بصورة أكبر (فقد كان كوبرنيكوس، مثلا، طبيبا متمرسا اشتهر طوال حياته بعمله الواسع في مجال الطب أكثر من الفلك). ويمكن رؤية المذهب العملي الجديد الخاص بعلم الطبيعة في أعمال رسامي عصر النهضة، حيث بدءوا يهتمون بفن الملاحظة لتصير أعمالهم أقرب إلى الواقع. وقد حظي ليوناردو دافينشي (1452-1519م) بمكانة كبيرة في تاريخ العلم والتكنولوجيا ليس بفضل اختراعاته التخطيطية التي تنوعت بين الطائرات المروحية والبنادق سريعة القذف فحسب، بل بفضل نصائحه التي كان يسديها لتلاميذه من الفنانين بين هذه السطور، فقال إن عليهم دراسة المناخ من أجل المناظر الطبيعية، ودراسة الرياضيات من أجل مراعاة المنظور البصري الذي اكتشفت قوانينه مؤخرا على يد المعماري صاحب الثقافة الموسوعية ليون باتيستا ألبيرتي، ودراسة علم الأحياء ليتمكنوا من رسم الجسد البشري بشكل صحيح. كما أكد دافينشي على أهمية ملاحظة العالم ودراسته في سعيهم لتحقيق اكتشاف لأنفسهم، وألا يعولوا على الأفكار القديمة المستهلكة. وكما حث الباحثون الجدد من أتباع المذهب الإنسانوي على العودة إلى النصوص الأصلية للحصول على المعرفة القديمة دون الصبغة التي اكتسبتها من العصور الوسطى فإن ليوناردو دافينشي قد حث على شيء آخر قائلا:
إنه لأكثر أمانا أن نلجأ مباشرة إلى الطبيعة بدلا من الأعمال المقلدة من أصولها، التي أصابها الكثير من التدهور فنكتسب بذلك منهجا فاسدا، فمن يستطيع أن ينهل من النبع ليس بحاجة إلى ورود البرك.
وقد قدم لويس فيفيس (1492-1540م) - وهو أحد أتباع المذهب الإنسانوي وأحد كبار نقاد التقاليد المدرسية في مجال العلم - نصيحة مشابهة ولكنه وجه هذه النصيحة إلى الفلاسفة بدلا من الفنانين، فشدد على أهمية تعويل الإنسان على ملاحظاته الخاصة، وبين أن طريق التقدم في مجال الفلسفة الطبيعية يتمثل في دراسة الحرف اليدوية والأساليب العملية، ولم يكن يعني أن يلقي الفلاسفة أقلامهم ويتحولوا إلى آلات، ولكنه قصد أنه يمكن للفلاسفة أن يتعلموا الكثير من الأساليب التي يستخدمها الفنانون والمهندسون والمعماريون وصناع الآلات الذين كانوا يمدون الفلكيين والموسيقيين والملاحين بما يحتاجونه من آلات؛ أي أن يتعلموا من رجال عصر النهضة الذين انشغلوا بالملاحظة والتسجيل والتحليل ومعالجة الظواهر الطبيعية متى أمكن ذلك. وقد قال إن الأساليب العملية التي يستخدمها المتخصصون في المجالات اليومية تأتي بنتائج عن معرفة الطبيعة أكثر دقة من الأساليب التي كان يستخدمها الباحثون التقليديون في الجامعات.
ومن الحقائق المدهشة عن الطبيعة في عصر النهضة اتساع نطاق دراستها خلال هذا العصر. فقد شهد القرن الخامس عشر رحلات جريئة لسبر أغوار العالم، فانطلق العديد من الرحلات خاصة من إسبانيا والبرتغال ليرجع محملا بأخبار عن أنواع غير معروفة ومناظر غير مألوفة، ولم يكن في كتابات الأقدمين ما يفسر للمكتشفين ما يرونه بأعينهم. وبعد زيارة القارة التي سميت باسمه فيما بعد قال أمريجو فيسبوتشي إن كتاب «التاريخ الطبيعي» - الذي كتبه بليني والذي لا يزال أحد الأعمال المعيارية حتى بعد مرور 1400 عام - لم يضم أقل القليل من الكائنات التي اكتشفها بالقارة الجديدة؛ وبهذا بدأ يتضح التنوع الهائل في الكائنات وهو «ما لم يكن معروفا لدى القدماء وأصبح معروفا لدينا الآن.»
وكتب فيسبوتشي في رسالته الشهيرة «رسالة عن العالم الجديد» عام 1503م يقول: «لقد رأيت أشياء في هذا الجزء من العالم تتضارب مع آراء الفلاسفة.» ولم تسحره أنواع النباتات والحيوانات الجديدة أو الظواهر الجوية والعجائب الطبيعية الأخرى فحسب، بل العادات والتقاليد الغريبة التي كان يمارسها السكان الأصليون، فبدت الطبيعة الإنسانية أيضا مختلفة في العالم الجديد. وكتب فيسبوتشي واصفا كيف لا يدين هؤلاء الناس بدين ويعيشون بلا قيود كما تعيش الحيوانات؛ فهم في أعلى مراتب السعادة غير عابئين بمفاتن الحضارة وزخارفها؛ فهم أقرب ل «الأبيقوريين» منهم إلى «الرواقيين» على حد قول فيسبوتشي، قاصدا بذلك أنهم كانوا منشغلين بالملذات والملهيات عن الالتزام بالواجبات. ولا ريب أن فيسبوتشي أساء تفسير كثير مما رآه وبالغ في وصفه؛ فقد زعم على سبيل المثال أن هذه الأرواح الحرة تعيش حتى سن 150 عاما. ولكن ثمة حقيقة لا مراء فيها وما ظهرت من خلال التفاصيل التي تحدثت عنها اكتشافاته واكتشافات غيره من المستكشفين؛ وهي أن ما كان ينظر إليه في أوروبا في العصور الوسطى على أنه يمثل معرفة العالم لم يكن كاملا على أفضل الاحتمالات وكان خاطئا على أسوئها. ومن هنا برزت أهمية التخلي عن الكثير من الأفكار القديمة وفتح صفحة جديدة بالعودة إلى النبع الصافي للطبيعة نفسها كما قال ليوناردو دافينشي وعدم الاعتماد على الماء الراكد في البرك القديمة.
وبهذه الروح نظر كثير من مفكري القرن السادس عشر إلى رجال العلم القدماء بعين الاحتقار والامتهان، وكان ذلك أحيانا بالطرق المسرحية. وكان فيليبوس أوريولس ثيوفراستوس بومباستوس فون هونيم المشهور ب «باراسيلسوس» (1493-1541م) يبدأ محاضراته في الطب أحيانا بحرق نسخ من أعمال جالين وابن سينا. ومن المفترض أن هذه الإشارة الجريئة قد آتت أكلها، فيقال إن الفيلسوف الباريسي باتروس راموس (1515-1572م) أيد علانية الرأي القائل إن «كل ما قاله أرسطو مزيف ومختلق.» وإن افترضنا أنه لم يقل هذا بالفعل فإن كثيرين غيره كانوا يعتقدون في صحة هذا القول. (وقد قبض على راموس وقتل في مذبحة عيد القديس بارتولوميوس عام 1572م، وهو الحدث الذي صوره كريستوفر مارلو بطريقة غريبة في إحدى مسرحياته التراجيدية حيث قال أحد الجنود في المسرحية لراموس: «هل أنت من هزأ بأرسطو؟» فأجاب راموس: «نعم.» فأمر بقتله.)
ولم يخضع باراسيلسوس الذي اشتهر بحرقه للكتب لأية سلطة عدا سلطة الكتاب المقدس على حد زعمه؛ ففضل الاعتماد على خبراته وتجاربه بدلا من الاعتماد على حكمة الأقدمين البالية، ولكنه في الحقيقة اعتمد كثيرا على مصادر قديمة دون أن يقر بذلك، ولم تكن هذه المصادر والتقاليد مألوفة آنذاك. ربما أنكر باراسيلسوس الكيمياء الإغريقية بعناصرها الأربعة والطب اليوناني بأخلاطه الأربعة، لكنه استقى كثيرا من آرائه في الطب الكيميائي (الذي لعبت فيه العناصر الثلاثة الضارة وهي الزئبق والكبريت والملح الدور الأبرز) من الخيميائيين العرب منذ أكثر من 800 عام. كما اهتم باراسيلسوس بجانب الخيمياء بعلم التنجيم والقبلانية اليهودية فضلا عن العديد من الموضوعات الغريبة الأخرى. وقد كان هذا الاهتمام الانتقائي بكل ما هو خارق للطبيعة أمرا طبيعيا ومألوفا في هذه العصور. ولم ير كثير من مفكري عصر النهضة اختلافا كبيرا بين ما نسميه اليوم العلم وما نسميه السحر، وفي حقيقة الأمر يدين تطور بدايات العلم الحديث بالكثير إلى السحر إبان عصر النهضة.
ولم ينته الأمر بالدور الذي لعبه الخيمياء والتنجيم في التمهيد لظهور الكيمياء والفلك من خلال تطوير الأساليب التي وجدت طريقها في عمل علمي أكثر تقدما، ولم تنته القصة بتحمل التصوف المبني على علم الأعداد لدى فيثاغورس وأتباع القبلانية المسئولية عن إلهام أناس أمثال كبلر بتفسير الطبيعة بطرق رياضية، بل اشتدت العلاقة بين العلم والسحر وصارت أكثر عمقا مما قد تصوره هذه الأمثلة، فالسحر في الحقيقة كان الحافز الرئيس لمن يتقصى الطبيعة ويستكشفها من باحثي عصر النهضة، فكان الساحر في تلك الأيام يعمل على التحكم في القوى الخفية في الأشياء واستغلالها في صنع العجائب، فكان يسعى وراء المعرفة المخادعة التي ينتج عنها أثر عملي، وكان تواقا إلى العثور عليها إلى الدرجة التي جعلته يبحث في الأماكن التي نعتبرها اليوم غير ذات نفع كتحضير الأرواح من خلال معاني الأعداد السحرية في القبلانية أو في عالم الأرواح المتهامس.
ولقد رأينا من قبل أن الفارق الأهم بين مذهب أرسطو تجاه المعرفة العلمية ومذهب رجل مثل فرانسيس بيكون - رسول العلم الحديث - يكمن في تعلق آمالهم بالتطبيق العملي لهذه المعرفة؛ فأرسطو لم تكن لديه تلك الآمال بالمرة في حين كان فرانسيس بيكون مفتونا بها، فقد كتب يقول: «إن المعرفة والقوة الإنسانيتين تقودان كلاهما إلى الشيء نفسه، فمتى غاب السبب غابت النتيجة.» وفي عشرينيات القرن السابع عشر أيد بيكون إقامة ناد للباحثين يكون هدفه الرئيس «معرفة العلل وإلقاء الضوء على الحركة الخفية للأشياء وتوسيع حدود المملكة الإنسانية وتفعيل جل ما يمكن تفعيله.» وبعد ذلك بأربعين عاما أدى اقتراح بيكون إلى تأسيس الجمعية الملكية التي ضمت بين أعضائها روبرت بويل وإسحاق نيوتن، وقد كان أعضاء هذه الجمعية هم ورثة سحرة عصر النهضة الذين أرادوا تحويل الدراسة السلبية للطبيعة إلى إدارة إيجابية فعالة لقواها. وقد حول أعضاء الجمعية الملكية أحلام السحرة إلى حقيقة أو على الأقل بذلوا كل ما في وسعهم لتحقيق ذلك.
وقد كال بيكون النقد لبعض السحرة الهواة في عصر النهضة لكن لم تكن شكواه من عدم جدوى سحرهم، بل لأنه يؤتي أكله دون أن يبذلوا فيه أدنى جهد، فكان يرى أنه فن كسول وبليد لا نضج فيه وأنه في كل الأحوال يسير في الطريق الخاطئ. إلا أن هذه التحفظات التي سجلها بيكون على السحر لم تكن لتحول دون تبنيه رؤية سحرية روحانية للعالم، فقد أقر على سبيل المثال بفعالية التعويذات الصوفية حيث قال: «ثمة العديد من الأشياء ... التي لها مفعولها على حياة البشر بفعل الحب أو الكراهية الخفية ... مثل فضائل الأحجار الكريمة ... التي تنطوي على أرواح مرهفة صافية.» وبشكل عام أراد بيكون أن يبني على علوم التنجيم والسحر والكيمياء لا أن يقوض أساسها ويهدمها؛ حيث رأى أن هذا الهدف المعرفي لهذه العلوم إذا ما اقترن بالقوة فسيكون صيدا ثمينا وهدفا جيدا في حد ذاته. (وكذلك كان نيوتن الذي يعد وفقا لمعاييرنا الحديثة مهووسا بالقوى الخفية، فقد كتب في الخيمياء ما يقارب المليون كلمة في ثرثرة لا طائل من ورائها، ولكن في أواخر النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث عاش نيوتن أولى العلماء ظهورهم لمثل هذه المسائل؛ وبذلك ظلت ثرثرة نيوتن حبيسة جدران هوسه.)
وقد فرق مفكرو عصر النهضة جيدا بين ما يسمى «السحر الطبيعي» والسحر الشيطاني؛ فالأول ينسجم مع المسيحية، فلا بأس من الاشتغال به، حتى إن القديس توماس الأكويني خصص إحدى رسائله لهذه الممارسات تصفها بأنها تعد استخداما ضارا للتعويذات السحرية ولكنه يراها استخداما فعالا لها. وبينما كان السحر الشيطاني يتضمن محاولات فاوستية لإثارة القوى المحرمة والاتصال بشكل غير مشروع بعالم الموتى؛ فقد كان السحر الطبيعي يسعى إلى استغلال الظواهر غير المرئية وغير الملموسة والطبيعية في الوقت نفسه. وقد قيل في ذلك:
إن الطبيعة كالساحر الذي ينصب المصائد في كل مكان ويزودها بأنواع معينة من الطعام للإيقاع بأنواع معينة من المخلوقات؛ فالمزارع يحرث أرضه ويضع فيها البذور وينتظر هبة من السماء ... كما أن الفيلسوف المتمرس في الأمور الطبيعية والفلكية والذي اعتدنا أن نسميه ساحرا يغرس الأشياء السماوية في الأشياء الأرضية من خلال تعويذات معينة جذابة تستخدم في وقتها المناسب والصحيح.
هذا ما كتبه مارسيليو فيتشينو (1433-1499م) وهو مفكر من فلورنسا كان مسئولا عن الترجمات اللاتينية لما أصبح بعد ذلك أكثر النصوص الغريبة تأثيرا في عصر النهضة. وقد عرفت هذه النصوص باسم الكتابات «الهرمسية»، وهي مجموعة من الكتب وضعها كتاب يونانيون غير معروفين فيما بين عامي 100 و300م والتي كان يعتقد في عهد فيتشينو أن كاتبها هو هرمس الهرامسة، وهو عراف صوفي مصري عاش بعد عهد النبي موسى بفترة قصيرة. وقد نجح السحر الطبيعي الذي دافع عنه فيتشينو وآخرون في أواخر القرن الخامس عشر في الجمع بين التقاليد الغريبة المتنوعة والتعاليم الدينية المألوفة . وفي الحقيقة كان ينظر إلى الإيمان بالقوى الخفية والمسيحية على أن كلا منهما يكمل الآخر، فكتب جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا - وهو أحد زملاء فيتشينو في عام 1486م شاركه آراءه نفسها - يقول: «ليس ثمة نوع من المعرفة يمكن أن يهبنا اليقين بألوهية المسيح أكثر من السحر والقبلانية.»
وبحلول منتصف القرن السادس عشر بدأت تتحول الأفكار الغريبة عن السحر الطبيعي - والتي كانت قاصرة في السابق على فئة قليلة - إلى فلسفة جديدة متكاملة للطبيعة، فقام رجال من أمثال باراسيلسوس وبرونو بوصف عالم مسحور من التماثلات الخفية والتعاطف الروحاني والذي يمكن التعاطي معه من خلال الوصفات السحرية الصحيحة، وبدا هذا عالما مثيرا مفعما بالحيوية والنشاط أكثر من ذلك العالم المذكور في النصوص الأرسطية التي تدرس في الجامعة؛ لأنه كان مناسبا لنشاطات هذا العصر. وهذه الرؤية السحرية رأت الطبيعة مليئة بالأشياء التي يمكن استغلالها، وهو ما أغرى رجال عصر النهضة أرباب الحيل وأصحاب الطموح. ورغم وجود بعض العلماء الذين لم يهتموا بعلوم السحر والتنجيم فقد كانوا حالات استثنائية ولم تكن كتبهم ذائعة الصيت كتلك التي كتبها السحرة ومن على شاكلتهم، ففي الفلسفة الطبيعية في القرن السادس عشر «لم يكن المرء ليميز متى تبدأ جلسات العلم ومتى تنتهي جلسات استحضار الأرواح» كما ذكر في أحد كتب التاريخ الحديث.
ومن أفضل الأمثلة على تضافر العلم والسحر في حومة الارتباكات الإبداعية التي شهدها عصر النهضة هو جون دي (1527-1608م)، الذي ربما كان النموذج الذي أوحى لشكسبير بشخصية بروسبيرو في مسرحية «العاصفة». لقد كان جون دي أحد أكبر علماء الرياضيات في إنجلترا في العصر الإليزابيثي، حيث قام بعمل دراسات مسح جغرافية وهيدروجرافية للأراضي المكتشفة حديثا، كما قام بإنجازات تذكر فتشكر في علم المثلثات والملاحة وإصلاح التقويم، ومع ذلك فقد كرس جزءا كبيرا من وقته لمناجاة الملائكة مستخدما في ذلك الصلوات والبلورات والمرايا والأرقام الغامضة فضلا عن الأدوات السحرية الأخرى. وكثيرا ما كانت محاولاته تحقق النجاح الذي كان ينشده، ولكن يبدو أن الملائكة أوحت له بالكثير من أفكار كتبه عبر اتصاله الروحي بها كما يزعم. والحق نقول إن جون دي ما كان لينال ما ناله من سمعة بوصفه ساحرا عظيما بما بذله من جهد للتواصل مع عالم الأرواح ولا بحرصه على الدخول في التنجيم والخيمياء والقبلانية، بل ببعض المؤثرات المسرحية التي قدمها خلال أحد العروض المسرحية لأحد الأعمال الهزلية اليونانية في كلية ترينيتي في جامعة كامبريدج عام 1546م، فكانت الآلات الحديثة (وهي عبارة عن خنفساء صناعية ضخمة تطير في الجو) تعد من الظواهر «الخارقة للطبيعة» لكونها غير مألوفة وأكثر غرابة من تعويذات حسن الحظ أو الحديث إلى الملائكة.
ربما كانت اختراعات السحرة والمهندسين في عصر النهضة أمرا جديدا بالأساس على عكس حماسهم للسحر الذي كانت له جذور قديمة. فبينما كانت الكتابات الإغريقية أو الرومانية القديمة ينظر إليها بعين الاحتقار إذا ما تطرقت للحديث عن التاريخ الطبيعي أو الفيزياء، فإن ثمة مجالات معرفية أخرى ضرب فيها الأقدمون مثالا ليقتفي خلفهم أثرهم، وقد كانت علوم السحر والتنجيم إحدى هذه المجالات مثل علوم الإنسانيات. كان السحرة الطبيعيون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر يرجعون إلى العلوم التي تهتم بكل ما هو خارق للطبيعة والتي كانت منتشرة آنذاك، إضافة إلى حالة تنوع أوجه الورع التي أصابت العالم اليوناني القديم. وكان العديد من ترجمات مارسيليو فيتشينو يحتوي على أعمال لبعض من يؤمنون بالقوى الخفية من أتباع الأفلاطونية الجديدة من أمثال يامبليكوس وفرفريوس وبركلوس، وكذلك الكهنة الكلدانيون والتي ألهمت هؤلاء الرجال ببعض أوهامهم التي تقتصر عليهم. ومن بين الخيوط المتشعبة لفكر فيتشينو كانت الأفلاطونية الصوفية لدى أفلوطين وأتباعه هي الأبرز، وكانت فكرة فيتشينو المؤثرة عن الحياة الدينية بوصفها طريقا يأخذك تدريجيا نحو عالم روحاني طاهر تدين لهذا التقليد القديم أكثر من أي شيء آخر.
وقد عاد أفلاطون مرة أخرى إلى حلقات البحث بفضل فيتشينو الذي أنتج الترجمة الأولى الكاملة لأعماله في الغرب فجعلها في متناول أيدي جميع المتعلمين وليس فقط ذلك العدد القليل المتزايد ممن كانوا يعرفون اليونانية واللاتينية. ولأن اسم أفلاطون كان يتردد دائما على ألسنة الناس، فمن السهل أن ننسى أن قليلا مما قال لم يكن معروفا قبل ذلك الحين حتى أواخر القرن الخامس عشر، فما أقل الأوروبيين الذين لم يعرفوا عن أفلاطون منذ بداية العصور الوسطى إلا شيئا يسيرا! فكانوا عادة ما يعرفون قصة الخلق التي ذكرت في محاورة «طيمايوس» بالإضافة إلى بعض الشائعات عن مستوى أعلى من الواقع يتميز بكونه مجردا ورياضيا في كماله ويقبع فوق العالم المادي. أما الآن فقد صارت آراء أفلاطون واسمه يجريان من ابن آدم مجرى الدم. ولقد لاقت طبعة فيتشينو نجاحا كبيرا بمجرد صدورها حتى حققت أعلى مبيعات بين الكتب آنذاك، رغم أن بعض شروحه ولدت لدى القراء شعورا أن فلسفة أفلاطون تتسم بالتناسق والتجانس والعقائدية أكثر مما كانت عليه في الواقع. وبمعاونة أحد أتباعه يدعى كوسيمو دي ميديتشيني أنشأ فيتشينو ما يشبه الأكاديمية الأفلاطونية في مدينة فلورنسا على أساس الأصل الأثيني لها، إلا أن الحقيقة الوحيدة المعروفة عنها هي أن نشاطاتها كانت تحتفل بأعياد ميلاد أفلاطون من خلال إقامة الولائم.
وقد رأى فيتشينو أن الأفلاطونية تنطوي على أمور حدسية مهمة تتعلق بالمسيحية كما قال القديس أوجستين، ولكن فيتشينو ذهب إلى أبعد من ذلك فرأى أن كتابات أفلاطون لا تقل في سلطتها عن تعاليم الكتاب المقدس، فالفلسفة يمكن أن يوحي بها الرب كالكتاب المقدس تماما، والأمر نفسه ينطبق على فلسفة أفلاطون أو كذلك اعتقد فيتشينو، فرأى أن ما سماه أفلاطون اتصال العقل ب «الخير نفسه» (أو صورة الخير) هو نفسه ما يسميه المسيحيون المعرفة بالرب. وبزواج الأفلاطونية بالمسيحية رفع فيتشينو الإيمان إلى المراتب العلى للفلسفة وهبط بالفلسفة إلى الأرض. كان أفلاطون يرى أن الاتحاد الروحي مع فكرة «الوجود وراء الوجود» - وهي الفكرة التي تحدث عنها أتباع الأفلاطونية الجديدة - يمكن تحقيقه في الحياة الفانية إذا ما اتبع الإنسان إنجيل الحب. وبالطبع يمكن العثور على هذا الإنجيل في الكتاب المقدس وكذلك في حديث ديوتيما في كتاب أفلاطون «المأدبة» بصورته الشهيرة عن صعود الروح إلى عالم المثل السماوي. وقد كتب فيتشينو تعليقا مؤثرا على هذا الكتاب ساعد على انتشار فكرة «الحب الأفلاطوني»، فقال إن الحب الحقيقي لشخص ما هو نوع من الاستعداد لحب الرب، فإذا ما كان هذا الشعور بالحب متبادلا بين الطرفين وإذا ما تعلم المحب أن يسمو فوق رغباته المادية لينفذ إلى الروح فهذا يرتقي إلى شكل من أشكال الإخلاص الديني. وقد أصبحت فكرة الحب الأفلاطوني واحدة من الأفكار الأثيرة لدى الشعراء وكتاب المقالات وعمرت لفترات وعصور طويلة تجاوزت عصر النهضة الذي ولدت فيه حتى إن بعض النقاد تتبع أثرها حتى وصلوا إلى شعراء القرن العشرين أمثال ييتس وريليك ووالاس ستيفنز. أما اليوم فقد أصبح المصطلح يشير ضمنا إلى العزوبة لا أكثر.
وقد ظل علم أفلاطون يرفرف على سارية العلم والشعر في عصر النهضة، فبينما كانت النظريات التي تدرس في الجامعات هي نظريات أرسطو ومن ثم لم تعر اهتماما كبيرا لمسألة الكميات وطرق قياسها، كانت أعمال كثير من المنشغلين بالدراسة العملية للطبيعة والباحثين فيها غير المنتمين للجامعات تتميز بنزعة رياضية. ولم يتسبب ذلك في إعادة أفلاطون والفيثاغوريين إلى المشهد فحسب، بل كان غالبا ما ينبع من كتاباتهم مباشرة. وقد كان الفنانون الذين درسوا قوانين المنظور وأصحاب الحرف الذين اشتغلوا بالحساب وحتى السحرة برموزهم ذات الأرقام التي لها دلالات روحية يسيرون على درب أفلاطون في استخدام الرياضيات لإماطة اللثام عن أسرار الطبيعة. وكثيرا ما حاول من كانوا يسعون أن يصبحوا من أهل الرياضيات الجري والركض قبل تعلم المشي، فقد قال نيكولاس الكوزي (1401-1464م) - وهو من أنصار استخدام الرياضيات على طريقة أفلاطون - إنه من الممكن توقع حجم المحصول من خلال وزن الماء وحبات الذرة في شهر مارس. ولكن هذا الحماس المتعثر للأرقام وتطبيقاتها مهد الطريق أمام نجاح العلم الذي أتى به جاليليو، فكان لإعادة إحياء الأفلاطونية أشد الأثر على جاليليو وكوبرنيكوس وكبلر حيث قال جاليليو: «ألم يكن أفلاطون مصيبا عندما قال إن تلاميذه يجب أن يكونوا على دراية جيدة بالرياضيات في المقام الأول؟»
ومن بين سمات الأفلاطونية في عصر النهضة التي ساهمت قدرا في تمهيد المجال للاكتشافات في القرن السابع عشر نظرة الإجلال والوقار للشمس، فتشبيه أفلاطون للشمس على أنها «الخير نفسه» جعل أتباع أفلاطون في عصر النهضة يصفونها بطريق جعلت نظرية كوبرنيكوس تبدو صحيحة إلى حد كبير، فكتب فيتشينو على سبيل المثال يقول:
لا شيء يظهر طبيعة الخير أكثر من ضوء (الشمس)، فالضوء أولا هو أكثر الأشياء المحسوسة لمعانا ووضوحا، ثانيا ليس ثمة شيء ينتشر أسهل من الضوء وأوسع منه وأسرع، ثالثا يخترق الضوء جميع الأشياء بلطف وسلاسة من دون ضرر يسببه وكأنه يعانقها، رابعا تعمل الحرارة المصاحبة للضوء على إنعاش جميع الأشياء وتغذيتها فهي المنشئ والمحرك الأول للأشياء، فنظرة في السماء تطلعك على حقيقة الرب ...
ولم يكن لدى فيتشينو اهتمام بتطوير الفلك إلى علم مستقل، ولكن هذه الفكرة التي جعلت من الشمس شبيها بالرب جعلت من اللائق أن تكون الشمس مركز الوجود كله. واستعان كوبرنيكوس نفسه بهذه المقارنة الأفلاطونية بين الرب والشمس لتدعيم عقيدته الثورية فقال: «تجلس الشمس متوجة وسط جميع الأشياء. وهل ثمة موضع في هذا المعبد الرائع أفضل من هذا الموضع نضع فيه هذا النجم الساطع ليمد الأشياء جميعها بالضوء مرة واحدة؟ فالشمس تستوي على عرشها الملكي بين أطفالها من الكواكب السيارة حولها.» كما أن يوهانز كبلر الذي طور أفكار كوبرنيكوس في التنجيم من خلال عدة وسائل من بينها اكتشاف أن مدارات الكواكب ليست دائرية بل بيضاوية؛ استغل الفكرة القائلة بأن مركز الكون يعد مكانا مناسبا لكائن إلهي. •••
ولم يكن ما أبلاه فيتشينو من بلاء حسن في ترجمة أعمال أفلاطون ليحقق الأثر الذي حققه لولا تزامن مهنته مع تطور ملحوظ شهده هذا الوقت، ففي الوقت الذي ولد فيه فيتشينو كان عدد الكتب المطبوعة في أوروبا لا يتجاوز بضعة آلاف وكان الوصول إليها صعبا نسبيا، وكانت الكتب والمجلدات الكبيرة تحفظ في أرففها بالسلاسل. ولكن عندما توفي فيتشينو عام 1499م كانت الطباعة موجودة في أوروبا في مواقع يتراوح عددها بين 200 و300 موقع حتى وصل عدد الكتب المتداولة إلى 10 ملايين كتاب، فكان بإمكان أحد جامعي الكتب أن يحصل على حوالي ألف عنوان مختلف. وأنتج جوتنبرج إنجيله الشهير لأول مرة في تاريخ الطباعة بحروف يمكن تحريكها وتغيير أماكنها عام 1454م عندما كان فيتشينو لا يزال في ريعان شبابه. ولم يتوقف الأثر الذي حققه استخدام هذه التقنية الجديدة على زيادة أعداد الكتب فحسب، بل زيادة انتشار القراءة والكتابة بين الجميع؛ وبهذا استطاع جوتنبرج ورفاقه أن يحرروا الكتاب من أغلاله.
وفي بداية القرن السادس عشر لم تكن الجماهير القارئة في زيادة عددية فحسب، بل كانت تتميز كذلك بتنوع قراءاتها أكثر مما كانت عليه عندما كانت الحياة الثقافية رهن ما تمليه الكنيسة. وقد أدى اتساع الآفاق في عصر النهضة إلى جانب رعاية رجال الأعمال ورجال الدولة والأسر الغنية الحاكمة إلى تشكيل نخبة مثقفة من العلمانيين. وانتشرت مجموعة متنوعة من الكتابات والمنشورات لتشبع كل الأذواق الأدبية بداية من الأعمال البسيطة مثل خرافات إيسوب مرورا بقصص بوكاتشو الإغرائية وانتهاء بالطبعات المدرسية للأعمال الإغريقية في الرياضيات. أما الآداب العملية والفلسفية فقد ظلت بمنأى عن الأساليب التي كانت تخدم مصالح الرهبان والمعلمين في العصور الوسطى وأنشأت نماذج وطرقا جديدة لتلبي احتياجات طبقة أوسع من القراء. وقد كتب الكثير من الأعمال الجديدة باللغات العامية بدلا من اللاتينية، وفي نهاية القرن السادس عشر طفقت الرسائل والمقالات تحل محل الأسلوب الأكاديمي الرسمي للشروح والتعليقات. أما الأدب الفلسفي المعاصر (ككتابات ديكارت وهوبز المعروفة لدينا اليوم على سبيل المثال) فلم تك تلقى أي اهتمام في ذلك الوقت.
وقد استفاد أرسطو وشارحوه كذلك من الثورة التي أحدثها جوتنبرج، فأعيدت طباعة أعمال أرسطو بغزارة في بدايات القرن السادس عشر حتى وصلت إلى قاعدة أوسع من الجمهور ما كانت لتصل إليها من قبل، ولكن فات الأوان، فرغم أن الأرسطية كانت لا تزال تدرس بشكل كبير في الجامعات والمعاهد الدينية فإن التاريخ قد بدأ يولي ظهره لها، وكان الدافع الرئيس لما عرف بعد ذلك ب «الفلسفة الحديثة» ينبع بشكل كبير من مذهبي الشكوكية والأبيقورية اللذين كانا من قدامى المنافسين للفكر الأرسطي وهما اللذان دفنا تحت التراب لأكثر من ألف عام حيث لم ينتسب لأي من هذين المذهبين سوى عدد ضئيل من مفكري القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلا أن هذه المذاهب الفلسفية الإغريقية بعد أن صارت متاحة على نطاق واسع هي ما وجه هؤلاء المفكرين إلى وجهات جديدة.
ومن بين الأعمال التراثية التي جرى إحياؤها في أواخر القرن السادس عشر وترجمتها إلى اللاتينية كتاب «حياة الفلاسفة» لديوجين ليرتيوس الذي يحوي بين صفحاته السيرة الذاتية للشكوكي الأكبر بيرو، وبعض الكتب لشيشرون التي دافعت عن المنهج الوسطي للشكوكية الذي طبق قديما في الأكاديمية الأثينية. ومن هذه الكتب عرف الناس عن الفلاسفة الذين أبوا بشكل مبهم وعلى نحو يثير الضيق أن يتقيدوا بأسلوب محدد في كتاباتهم. وبطبيعة الحال اجتذبت هذه الفلسفة بعض السفهاء، ففي ثلاثينيات القرن السادس عشر قام رابليه برسم شخصية خيالية لفيلسوف بيروني يدعى تريجولان في كتابه «جارجانتوا وبانتاجرويل»، فصور عجز البطل عن الحصول على إجابة صريحة من تريجولان حول وجوب زواجه من عدمه، بل لم يستطع أن يعلم حتى ما إذا كان هذا «الفيلسوف» يحيا حياة زوجية سعيدة أم لا. وقد دار الحوار على النحو التالي: «هل أنت متزوج؟» «أعتقد ذلك.» «لقد سبق لك الزواج قبل هذه الزيجة. أليس كذلك؟» «محتمل.» «هل حالفك الحظ في زيجتك الأولى؟» «ليس بالأمر المحال.» «وما مدى نجاح زيجتك الثانية؟» «مثلما يشاء قدري المحتوم.» «ولكن قل لي بصراحة هل تسعد بحياتك معها؟» «محتمل.» «باسم الرب، إني لأقسم بالقديس كريستوفر أن مهمة استخراج ريح من بطن حمار ميت أسهل من الحصول على إجابة واضحة وقاطعة منك.»
لعلها كانت ستصبح أمرا فكاهيا إذا أفرط فيها، ولكن الشكوكية القديمة بدأت تثير حالة من التعاطف في القرن السادس عشر؛ فقد حفلت هذه العصور بتساؤلات شتى تعلو أهميتها أمورا أخرى آنذاك كالرغبة في الزواج، وكان الإحجام عن اتخاذ مواقف بشأن هذه التساؤلات بدافع من الشك فيها يبدو إجابة مناسبة على هذه التساؤلات. وألقيت ظلال الشك على كافة الحقائق القديمة جراء ظهور اكتشافات عديدة في التنجيم والجغرافيا والتشريح وبعض فروع العلم الأخرى لتولد هذه الشكوك مزيدا من الشكوك. ومع هذا الهجوم العنيف على كثير من الأفكار القديمة كان على الإنسان الذكي أن يستفسر عن مدى صحة الأفكار الجديدة. فكما يقول الكاتب مونتين (1533-1592م): «أليس من الحماقة أن نثق في آراء المفكرين المعاصرين بعدما ثبت أن بطليموس كان مخطئا في آرائه؟»
وفي وجه سيل من النظريات زعم بعض الانهزاميين أنهم يرفضون جميع المحاولات لفهم العالم، بل ذهبت إحدى الخطب اللاذعة المعادية للفكر والمنشورة في عام 1526م إلى حد القول إن المعرفة «هي الطاعون ذاته الذي يسعى إلى تدمير البشر أجمعين فقد جعلتنا عرضة للوقوع في كثير من الخطايا.» كما استرسل الكاتب قائلا: «إنه من الأفضل أن يكون الناس حمقى لا يعرفون شيئا» بدلا من حشو عقولهم بالأفكار الضارة. ورغم أن الشكوكية الخالصة كانت رد فعل مفهوما للكم الهائل من «المعرفة» التي كانت مطروحة آنذاك فقد كانت فلسفة يصعب الالتزام بها، ولم يلتزم بها أحد بالفعل. (حتى إن كاتب تلك الخطبة السابقة وجد فيما بعد جميع أنواع العقائد التي يمكن أن يؤمن بها.) وكان من الطبيعي حينئذ توظيف الأسلحة الشكوكية بصورة محدودة جدا، فالحجج الشكوكية كانت تستخدم من أجل تقويض أسس الادعاءات المعرفية التي عفى عليها الزمن، وكذلك الادعاءات المعرفية جامحة الطموح وليس لمهاجمة النشاط الفكري برمته.
وقد قام إراسموس على سبيل المثال بالاستشهاد بالشكوكيين القدماء لتقويض ادعاءات علماء اللاهوت الدوجمائيين، ومن أجل الدفاع عن منهج أكثر حذرا في التعامل مع النزاعات الدائرة في ذلك الوقت، وقد حذر قائلا: «إن الشئون الإنسانية معقدة وغامضة ولا يوجد شيء يقيني بشأنها كما قال الأكاديميون التابعون لي وهم الشكوكيون الذين وصفهم شيشرون.» وكتب إراسموس يقول: «إن عقل الإنسان مشكل بطريقة معقدة حتى إنه أكثر عرضة إلى الزيف منه إلى الحقيقة.» ولذلك فإنه من الحكمة أن يعترف الإنسان أن ليس بإمكانه التوصل إلى نتيجة إلا بأن يضحك على نفسه. وقد كان الجدال الذي دار بين علماء اللاهوت حول حرية الإرادة في الإنسان ضمن المسائل المطروحة، وخالج الشك صدر إراسموس تجاه بعض المحاولات التي قام بها لوثر مؤخرا لحل هذه المشكلة المتأصلة مع الوضع في الاعتبار أنها كانت من القضايا شديدة التعقيد التي اختلف بشأنها المتعلمون من علماء اللاهوت لقرون طويلة، فهل من الممكن حقا أن نقول إن لوثر عثر على الحقيقة التي غابت عمن سبقوه طوال هذه المدة؟ وقد قال إراسموس إنه من المعقول أن يقتفي الإنسان أثر الشكوكيين القدماء ويحجم عن إصدار أحكام بخصوص هذه القضية، إلا أن هذا الموقف الذي اكتنفه الغموض أثار غضب لوثر فحذر إراسموس من أن روح القدس ليس شكوكيا وأنه لن يرضى عن هذا الموقف الضعيف يوم القيامة.
أصر لوثر على أن المسيحيين لا يمكن أن يقبلوا الرفاهية الفاسدة للشكوكية، فكان عليهم أن يلتزموا بمسئوليات محددة وألا يتخذوا موقفا محايدا حيال ذلك، وفي ذلك يقول: «ليس هناك شيء يميز المسيحيين أكثر من اليقين، فإذا ما أضعت اليقين فأنت تقضي على المسيحية.» ورغم ذلك فإن من سخرية القدر أن نجد لوثر نفسه والمصلحين البروتستانتيين هم من أطلقوا شبح الشكوكية من عقاله أكثر ممن عداهم؛ لأنهم هم من تحدوا السلطة الدينية وعارضوها بشدة طارحين السؤال التالي: «أنى لك أن تعرف؟»، وهو السؤال الأكثر استخداما في هذا العصر. لقد رفض لوثر فكرة أن تكون سلطة الكنيسة على حق دائما فقال: «إنني لا أثق في سلطة البابا أو مجالس (الكنيسة) التي لا يدعمها أي دليل؛ لأن حجم أخطائهم وتناقضهم مع أنفسهم لا يخفى على أحد.» وإنما وثق لوثر بالضمير الإنساني بوصفه حكما في المسائل الدينية فقال إن المسيحي المخلص يجب أن ينظر في الكتاب المقدس ويفسره في ضوء ما يمليه عليه ضميره وخبراته وتجاربه الدينية الشخصية لكي يجد ما يؤمن به، هذا هو جوهر البروتستانتية. ولكن تحدي لوثر للكنيسة أثار سؤالا لا مفر منه، ألا وهو: أي ضمير يجب أن يتبع في ظل ما في العالم من اختلافات عنيفة؟ بمن تثق إذا كنت لا تثق في البابا؟
وسرعان ما قلب المدافعون عن المعتقدات الكاثوليكية سحر لوثر عليه، فإذا كان بإمكانه أن يطرح أسئلة حول «السلطة التي لا دعم لها» فإن بإمكانهم أن يفعلوا الشيء ذاته. وقد ذهبوا أنه لا ضير أن تهاجم سلطة البابا ومجلسه ورجاله، ولكن إذا كنت تنوي مخالفة التقاليد والأعراف فلا بد من إيجاد بديل لها، ومهما كان هذا البديل فإنه لن يسلم من أسئلة مماثلة. فإذا كان حكم البابا يمكن التشكيك فيه فإن حكمك يمكن التشكيك فيه بالمثل؛ ومن ثم فإن التقليديين وجدوا أنه عندما يؤتي الهجوم على السلطة أكله فإن هذا الهجوم يمكن استغلاله لدعم التقليدية وتدعيمها. ومن خلال وضع العراقيل في وجه لوثر يمكن تقويض ادعاءات الخارجين على الكنيسة لتئوب الأرواح التي أصابتها الحيرة إلى أحضان الكنيسة حيث تشعر باليقين، فالشكوكية يمكن أن تجعل الناس «يشعرون بالظلام الذي يعيشون فيه فيطلبون العون من السماء ويذعنون لسلطة الإيمان.»
بطبيعة الحال لم يستسلم المصلحون البروتستانتيون بهذه السهولة، وكان ردهم أنه حتى لو لم يكن لنا خيار سوى الإذعان للسلطة فكيف لنا أن نعرف أن سلطة الكنيسة المعاصرة هي السلطة الصحيحة للخضوع لها؟ وكيف لنا أن ندرك من هو البابا الأصح؟ فقد كان هناك الكثير من مدعي الباباوية في الماضي، بل إنه في عام 1409م لم يكن ثمة أقل من ثلاثة يسعون لمنصب البابا في وقت واحد. وبهذا نجد أن كلا الفريقين البروتستانتيين والكاثوليك استخدموا الشكوكية ضد بعضهم البعض، إلا أن هذا الصراع لم يسفر عن حل، فبمجرد أن شك لوثر في أسس المعرفة الدينية لم تكن ثمة إجابة بسيطة على اللغز يمكن تحويلها لدعم أي من الفريقين.
ولكن التقليديين كان بمقدورهم على الأقل أن يزعموا أنهم يسيرون على خطى الشكوكيين القدماء أكثر من البروتستانتيين، فقد قال كل من بيرو وسيكستوس إن الإنسان يجب أن يسير وفقا للمعتقدات والأعراف السائدة في زمانه، فقد كانوا يرضون بالأفكار المحافظة على أساس أنه لا سبيل إلى وجود تغيير مقنع تمام الإقناع، وهو ما كان في مصلحة الكاثوليك في معركتهم الإيمانية؛ إذ لم يكن ثمة شك في أن البابا - حتى وإن لم يكن هو البابا «الأصح» - هو الشخص الذي يحظى بالإجماع. ولأن الشكوكية القديمة كانت ترضى بشكل ما بالوضع الحالي؛ كان المفكرون الكاثوليكيون هم أفضل من استغل أفكارها في الحروب اللاهوتية التي اندلعت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وسرى السؤال الذي لا مناص منه ولا إجابة له: «أنى لك أن تعرف؟» إلى خارج مجال اللاهوت دون جواب. وعندما نشرت أعمال سيكستوس في ستينيات القرن السادس عشر باللغة اللاتينية كانت الذخيرة القوية من الحجج الشكوكية المصممة لإظهار ما في العقل البشري من ضعف وعدم التعويل على الفهم والإدراك إلى جانب الطبيعة النسبية للقيم والأفكار الإنسانية قد وضعت تحت تصرف الفلاسفة . وبعد ذلك العهد بقليل لفتت مقالات مونتين (التي كتبت بالفرنسية) نظر كثير من الجماهير إلى هذه الحجج، وركز عمل مونتين على الطبيعة المحدودة والمنحازة للخبرة الإنسانية وجميع الأفكار اللايقينية التي نسفت جميع المحاولات الساعية للوصول إلى الحقيقة. وقد كان بيكون وديكارت من هؤلاء الذين قرءوا أعماله وقرروا خوض التجربة من خلال وضع المعرفة الإنسانية على قدم أكثر رسوخا.
درس فرانسيسكو سانشيز (1552-1623م)، وهو أحد أبناء عمومة مونتين، الفلسفة والطب في جامعة تولوز، ولعب دورا كبيرا في تقديم الشكوكية إلى مجال الفلسفة. وعندما كان مونتين لا يسعى إلا إلى توضيح أن الإنسان يجب عليه ألا يصدر أحكاما على بعض الأمور وأن العقل يجب أن يستند إلى الإيمان، قدم فرانسيسكو سانشيز درسا أكثر إيجابية وذا دلالة أعظم؛ يهدف من ورائه إلى إظهار أن هناك حدودا واضحة للمعرفة الإنسانية، وأن طبيعة هذه الحدود كانت تتطلب تغييرا شاملا في منظور العلم. وقد قال فرانسيسكو سانشيز في رسالته «لماذا لا يمكن معرفة أي شيء؟» عام 1581م إن أفضل طريقة يمكن أن يدرك بها الإنسان العالم الطبيعي تكون من خلال إصدار ادعاءات اعتمادا على الملاحظة والتجريب. وقد سمى هذا المنهج التجريبي الذي يقوم على توخي الحذر باسم «المنهج العلمي»، وهو الاستخدام الأول لهذا المصطلح الذي أصبح شائعا هذه الأيام. وأشار إلى أن الطبيعة الجوهرية للأشياء لم تكن متاحة إلا للرب ولم تكن متاحة بالتأكيد لأرسطو الذي كان وقتئذ حديث الساعة في التعليم العلمي في مختلف الجامعات.
وإذا كانت شكوكية سانشيز تعني أن المعرفة التامة الكاملة ليست بالأمر المتاح للإنسان؛ فإن لها وجها مشرقا كذلك، فالفكرة القائلة إن الدراسات العلمية من شأنها أن تقدم تفسيرا مؤقتا للأشياء يساعد على فهم الحياة العادية كانت تتناسب مع المذهب العملي التجريبي تجاه الطبيعة، والذي امتدحه بعض علماء عصر النهضة واتبعه جاليليو وآخرون في ذلك الوقت. وقد قدم مصطلح «المنهج العلمي» ذا الصبغة الشكوكية يد العون للعلم الحديث بطريقتين: أولاهما أن الحجج الشكوكية كانت أداة جيدة في تفنيد الأفكار القديمة وإفساح المجال للأفكار الجديدة حيث قام سانشيز نفسه بشن هجوم حاد على مذهب أرسطو ومسائل السحر والتنجيم، والأخرى أن الشكوكية بدت بشكل ما تساند الفيزياء الحديثة (التي كانت تسمى في ذلك الوقت «الفلسفة الجديدة») عند جاليليو. ولكي نعرف كيف حدث ذلك علينا أولا أن ننظر بعين ثاقبة إلى الصورة التي رسمها جاليليو للعالم وهي صورة العالم المعاصر.
في أيامنا هذه نتذكر جاليليو دائما بما قاله من بدع فلكية أدخلته في صراعات مع محاكم التفتيش، وبالتحديد اعتناقه لآراء كوبرنيكوس التي تقول بدوران الأرض حول الشمس، واعتقاده فيما يخالف المذهب الأرسطي في أن السماء تخضع للقوانين الفيزيائية نفسها التي تخضع لها الأرض، وهي الحقائق الصادمة التي أكدها منظار جاليليو المكبر والتي جعلت بعض المتحفظين يرفضون على الملأ النظر في هذه الآلة الشيطانية. ولكن ثمة شيئا آخر في كتابات جاليليو كان سببا مهما في إدانته، وهو دعمه للفلسفة الذرية لدى ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس التي تقول إن الكون كله يمكن فهمه في إطار التفاعلات الميكانيكية الحادثة بين الجزيئات الصغيرة، وهذه الذرات كان يعتقد أن لها خصائص يمكن قياسها مثل الحجم والموضع والوزن، ولكن ليس لها أي من الخصائص الحسية أو «الثانوية» مثل اللون أو النسيج أو المذاق؛ إذ يرى ديموقريطس وجاليليو أن هذه الصفات الثانوية ذاتية وليست إلا تأثير الذرات على أعضاء الحس لدينا. وبهذا فإن «الفلسفة الطبيعية» كان من شأنها الاهتمام بالجوانب الميكانيكية والرياضية للطبيعة. وكان من رواد هذا المجال كل من جاليليو وديكارت وبويل، وكذلك نيوتن الذي ساعد على تطوير هذا الفرع المعرفي بشكل أو بآخر.
بيد أن هذا لم يلق رضا الكنيسة وقبولها، فالنظرية الذرية تنبت في أرض يحيط بها الشك من كل جانب، فلم يعترف ديموقريطس كثيرا بالرب الذي لم يكن له مكان بالمرة في عالم لوكريتيوس، بالإضافة إلى اشتهار أبيقور بفجوره وانحرافه، أضف إلى ذلك ما قاله رجال اللاهوت من أن النظرية الذرية للمادة لا تتماشى مع عقيدة القربان المقدس، وهو ما لم يكن بالأمر الهين.
وتقول هذه العقيدة إنه عندما يقدس الخبز والخمر على يد القس في الطقوس المناسبة الصحيحة فإنهما «يتغيران» ويأخذان المادة التي خلق منها جسد المسيح ودمه، ورغم أنهما يحتفظان بمظهر الخبز والخمر (وذلك مثلا من خلال الاحتفاظ بنسيج هذه الأشياء ولونها ومذاقها وهي الأشياء التي سماها الذريون الخصائص الذاتية «الثانوية») فيعتقد أنهما افتقدا الطبيعة الأساسية للخبز والخمر؛ أي إنهما لم يعودا خبزا وخمرا بأي حال من الأحوال، وهو ما يراه الذريون أمرا مستحيلا، فهم يرون من وجهة نظرهم أن مظهر الشيء المادي لا يمكن فصله عن جوهره بهذه الطريقة، فالمادة التي صنع منها الخبز - أي طبيعته الأصلية - تتوقف على نوع الذرات الداخلة في تركيبها وطريقة تنظيمها، ومظهرها هو ببساطة انعكاس تأثير هذه المواد على حواسنا، إذن كيف للخبز أن يغير المادة التي صنع منها دون أن يتغير ظاهره؟ فإذا كان الخبز بالفعل يحتوي على ذرات من جسد المسيح فيجب أن تأخذ شكل جسد المسيح، وإذا كان له شكل الخبز - وهو الأمر الواقع فعلا - فليس ذلك لسبب إلا أنه يتكون من جزيئات الخبز. وبذلك انتهى علماء اللاهوت إلى أنه وفقا لنظريات جاليليو «فإن ثمة أجزاء جوهرية من الخبز أو الخمر في القربان المقدس وهو الخطأ الذي أدانه المجلس المقدس، الجلسة 13، القانون 2».
ولم يكن لفيزياء جاليليو الذرية آثار لاهوتية سيئة فحسب ، بل إنها رفضت الفلسفة الطبيعية التقليدية رفضا شاملا. وقد ورثت العلوم في العصور الوسطى نموذجا عضويا للعالم ربما لولع أرسطو بالأحياء، فأرسطو كان يرى الجزء من منظور الكل ويرى الكل كما لو كان يمثل كائنا حيا، وحتى سلوك الأجسام غير الحية كان يصوره أرسطو كما لو كان سلوك مخلوقات حية، فعلى سبيل المثال رغم أن أرسطو لم يعتقد أن الحجر الساقط «يريد» الوصول إلى الأرض عند اندفاعه نحوها، فقد وصف هذه الحركة على أنها أوبة الحجر إلى «مكانه الطبيعي» أو إلى بيته، تماما كما لو كان أرنبا يرجع إلى جحره. وقد استبدل بهذه التفسيرات التي تشبه علم الأحياء تفسيرات ميكانيكية خالصة؛ ومن ثم وصف بويل العالم على أنه «إنسان آلي كبير» وشبهه بالساعة الضخمة سيرا على خطى جاليليو والذريين اليونانيين.
ولكن العالم لا يبدو على السطح كما لو كان ساعة، فالأجزاء الداخلة في تكوين هذه الآلة - ونعني بها الجزيئات أو الذرات التي كانت محل اهتمام علم جاليليو - لا يمكن ملاحظتها مباشرة لأن حجمها صغير جدا لدرجة يستحيل معها رؤيتها. وقد كان علم جاليليو يتعامل مع المادة بطريقة مجردة ورياضية بدت بعيدة كل البعد عن الفطرة والسليقة؛ وبذلك فقد اختار علم جاليليو أن يتجاهل بعض ما تراه عيوننا أو تسمعه آذاننا عن الأشياء الموجودة في حياتنا اليومية، وهو ما يحاكي الشكوكية إلى حد كبير. كان الشكوكيون اليونانيون يصرون على أن الإدراك الحسي في الإنسان أمر ذاتي لا يعول عليه، وهو ما صدق العلم الذري الحديث على صحته، فما تدركه حواسنا ليس الحقيقة الكاملة عن العالم؛ وبذلك فإن النظرية الذرية لدى جاليليو استبدلت بفكرة الفارق الكبير بين السماء والأرض التي كانت تميز العلم الأرسطي فارقا آخر بينهما يختلف تمام الاختلاف عن سابقه حيث يفصل بين العالم اليومي ذي الألوان والمذاقات والروائح وبين العالم الهندسي الذي يتكون من جزيئات لا يمكن رؤيتها والذي يجب على الباحثين الجادين في الطبيعة الاهتمام به.
كان تفسير الكيفية التي تقع بها تلك الصورة المحدثة للنظرية الذرية الأبيقورية في قلب «المنهج العلمي» العملي هو العمل الرئيس لبيير جاسندي (1529-1655م)، وهو أستاذ فرنسي في الرياضيات والفلسفة وباحث نشط في مجال الفلك والتشريح وفيزياء الحركة. كان بيير جاسيندي كذلك قسا كاثوليكيا مهمته الرئيسة هي أن يفسح مجالا للرب وللأرواح الخالدة في العالم الميكانيكي في النظرية الذرية القديمة، فقد حاول أن ينصر أبيقور تماما كما حاول توماس الأكويني أن ينصر أرسطو. ولم يحقق بيير جاسيندي الشهرة التي حققها توماس الأكويني نظرا للطول المبالغ فيه في أعماله، ولكن بفضل بيير جاسيندي تبدد شك الإلحاد الذي كان ملقى على «الفلسفة الميكانيكية» في نهاية القرن السابع عشر حتى قبلها كل رجال العلم آنذاك. وقد كان بيير جاسيندي وصديقه مارين ميرسين (1588-1648م) - الذي كان أيضا قسا - الأبرز من بين مجموعة من علماء الرياضيات والمفكرين الطليعيين تضم جاليليو وكبلر وديكارت وهوبز، الذين قاموا بتطوير أفكار العلوم الميكانيكية الحديثة وشرحها.
ووفقا للنظرية الذرية المعدلة لدى بيير جاسيندي فإن الذرات التي يتكون منها العالم غير خالدة وفانية وهي من خلق الرب، وليست عشوائية الحركة بشكل تام كما زعم أبيقور وديموقريطس، بل إن الرب هو من ابتدأ حركتها ويقوم بتوجيهها في بعض الأحيان. ويمكن تفسير جميع الأشياء المادية من خلال الذرات التي يحركها الرب، وحتى التفكير الإنساني نفسه يمكن تفسيره أيضا في ضوء التشوهات المادية الحادثة في مادة المخ، أو هكذا زعم بيير جاسيندي. ولكن بالإضافة إلى العالم المادي فقد كان ثمة عالم روحي يضم الرب والأرواح الإنسانية الخالدة؛ وبذلك فإن بيير جاسيندي قد نقح صورة الكون التي رسمها أبيقور لكي تتواءم بشكل أكبر مع أفكار الكتاب المقدس. وقد شكلت هذه النظرية الذرية المسيحية الإطار الذي تبناه كل من نيوتن وبويل فيما بعد.
ولم يأخذ جاسيندي من أبيقور آراءه الفيزيائية فحسب، بل إنه تبنى فكرته القائلة إن سكينة الروح هي الفضيلة المثالية، كما حاول أن يصبغها بصبغة مسيحية، (ويبدو أن هوبز الذي تأثر ببيير جاسيندي كثيرا قد استمد الأهمية الكبرى التي أولاها للسلام من أفكار بيير جاسيندي الأبيقورية). وقد قام بيير جاسيندي بمحاكاة النظرية التجريبية لدى أبيقور حيث يقول: «إن التجربة هي الميزان الذي تقاس به حقيقة الأشياء.» ورأى أن العلم الحقيقي يجب أن يولي اهتماما كبيرا بالملاحظة لا بالنواحي النظرية، وقد أبلى علم جاليليو في هذا الصدد بلاء أفضل بكثير من بلاء أسلافه الأرسطيين. ومع ذلك فقد كان بيير جاسيندي يؤمن أن مجال المعرفة الإنسانية محدود للغاية، فالملاحظة والتجربة يمكن أن تمدانا بكل المعلومات الصحيحة عن العالم المادي، ولكن الأمر ليس كما يقول تماما؛ فما يستطيع العلم أن يمدنا به هو بعض المعرفة المؤقتة عن الظواهر السطحية وليس عن حقيقة الأشياء وجواهرها، وفي ذلك يقول: «لا يمكن تأكيد أية آراء تؤكد طبيعة الأشياء بالاعتماد على نفسها فحسب.»
وقد عظم أمر شكوكية بيرو على بيير جاسيندي وميرسين ولم يدر أي منهما كيف يجيب على قضاياها مباشرة. وعلى الجانب الآخر كانا مقتنعين بصحة علم جاليليو، فلا شك أنهما رأياها «منهجا علميا» في التنبؤ بالظواهر ومعالجتها؛ ولذلك فقد اعتنقا ما سمياه نوعا مخففا أو بناء من الشكوكية تعامل الشكوكية وفقا له على أنها نوع من الافتراض أو النموذج الذي يؤتي أكله. وبهذا كان العلم الحديث أداة مفيدة بل أفضل الأدوات المتطورة التي يمكن أن يستعين بها الباحثون العمليون في الطبيعة، ولكنها لم تتعد ذلك الحد بالضرورة. وبسبب ضعف العقل الإنساني الذي كشفه البحث الجاد لدى الشكوكيين لم يعد هناك من يدرك على وجه اليقين ما إذا كانت النظرية الذرية الميكانيكية صحيحة أم لا سوى الرب.
وقد خاض جميع المفكرين الكبار في القرن السابع عشر معارك مع الأسئلة التي أثارها العلم الحديث مثل: كيف يمكن تحليل النشاط العقلي في إطار جزيئات المادة؟ وما هو مكان الإنسان والرب في العالم الميكانيكي؟ وما نوع المعلومات التي تمدنا بها الفيزياء والرياضيات؟ وإذا كانت النظرية الذرية صحيحة في قولها إن العديد من إدراكاتنا الحسية ذاتي فما هو حجم الحقيقة التي يمكن استنتاجها من خلال حواسنا؟ وكيف يمكن للإنسان أن يمنع المذهب الحذر الذي يتميز باتباعه «منهجا علميا» من الرسوب إلى قاع الشكوكية المتطرفة؟ لقد كانت هذه القضايا هي الوقود الذي أشعل نار الفلسفة منذ ذلك الحين، فاختلفت الفلسفة المعاصرة عن نظيرتها القديمة في اهتمامها بالقضايا التي يثيرها العلم الحديث.
كان توماس هوبز (1588-1679م) هو أول من سعى إلى وضع نظرية شاملة عن الإنسان والكون في ضوء العلم الحديث، وحدثت له صحوة مفاجئة في أوائل الأربعينيات من عمره انتقل على إثرها من دراسة الأدب إلى الرياضيات والفيزياء ومنها إلى الفلسفة العامة. وبدأ يولي الهندسة اهتماما خاصا فانضم إلى صاحب عمله حاكم نيوكاسل في إجراء تجارب في مجال البصريات، كما قام برحلة طويلة من أجل زيارة جاليليو. ولسوء الحظ لم تكن براعته في العلوم على قدر حماسه، فلم يكف عن إجراء محاولات من أجل تربيع الدائرة على سبيل المثال حتى وإن تبين له استحالة ذلك من الناحية الهندسية. ولكنه ترك بصمته بمحاولة تطبيق المنهج الميكانيكي والرياضي الخاص بالطبيعة والذي تعلمه من كبلر وجاليليو على الإنسان. وكما رأينا من قبل فإن هوبز صاغ النظرية الثورية التي تقول إن التفكير هو نوع من أنواع الحساب؛ أي إنه عملية ميكانيكية مثل تلك العمليات التي كان علماء الطبيعة يحاولون وصفها في الظاهرة الطبيعية. وهكذا اعتنق هوبز الرؤية الميكانيكية للعالم وعممها بكل شوق وولع حتى أدينت فلسفته بشدة بادعاء أنها تبتعد عن الدين وتعاليمه ابتعادا شديدا، وهو ما حدا ببعض الأساقفة إلى اعتبار آرائه أحد أسباب الحريق العظيم في لندن عام 1666م.
وفي الكتابات السياسية التي تخلد اسمه حتى هذه الأيام، لا سيما كتابه «اللوياثان» (1651م)، قدم هوبز نظرة للمجتمع لا يلهمها العلم الميكانيكي فحسب، بل تحدي الشكوكية ومناهضتها، فقد كانت تحاكي النظرية الميكانيكية في أنها قدمت علم النفس الإنساني على أنه مجموعة من الرغبات ومشاعر الكراهية التي تدفع الإنسان وتوجهه. وقد سعت هذه الرؤية إلى إرضاء الشكوكيين بتقديم مبادئ عملية يمكن حتى لمن يشك في اكتشاف الحقيقة أن يتبناها ويعيش وفقا لها. يرى هوبز أن الدافع الأساسي للنشاط الإنساني هو حفظ النفس، وبما أنه ليس من الممكن أن يحفظ كل إنسان نفسه في معزل لأن هذا سيجعل الحياة كما يقول هوبز: «فقيرة وقاسية وقصيرة.» فإن الإنسان يسعى إلى العيش في مجتمعات مع أقرانه من البشر، وهذا ما يعرضه إلى مخاطر الصدام الناجم عن محاولة الآخرين حماية أنفسهم والتي قد تتعارض مع محاولاته هو نفسه في هذا الشأن؛ ومن ثم فإنه يرى أن مصلحة الجميع تقتضي الخضوع لسلطان ملك قوي تكفل قوته المطلقة حماية كل إنسان من أذى جاره. وقال هوبز إنه يجب على الكنيسة كذلك أن تتلقى تعاليمها من الملك الذي يملك من القدرة ما يمكنه من حل المشكلات والنزاعات اللاهوتية من خلال إصدار مرسوم ملكي، وبذلك يحدد ما ينبغي للناس أن يؤمنوا به. وقد رأى هوبز أيضا أن الرب ذاته عبارة عن كيان مادي كأي شيء آخر وإن اعترف هوبز رغم ذلك أنه غير مرئي. كما أقر هوبز أن الرب نفسه كان كائنا ماديا كسائر الأشياء الأخرى رغم أن هوبز نفسه أذعن على الأقل إلى أن الرب كان غير مرئي. ولا عجب من أن يصدع الأساقفة بذلك.
لقد قال هوبز إن ما توصل إليه من نتائج سياسية ولاهوتية غير معتادة إنما هي نتائج حتمية «للفلسفة الجديدة» التي نشأت على يد جاليليو. ولم يدرك كيف يمكن لعلم يكون موضوعه الإنسان أن يتطور على شيء آخر غير المبادئ الميكانيكية الصلبة كتلك التي توجد في علم الحركة. لقد أراد أن تخضع الدولة لنظام حكم رياضي تكون فيه الديكتاتورية المطلقة هي الضامن الأساسي للتوزيع الصحيح للواجبات والأدوار. كما توفر هذه الفكرة بعض الحلول لبعض الأمور غير المؤكدة التي كانت تأكل عليها الشكوكية المعاصرة وتشرب إذا لم تعد هناك حاجة للإجابة على العديد من المسائل الصعبة من خلال تقديمها إلى الملك للبت فيها بإصدار مرسوم ينهي الخلاف حولها. وثمة جوانب أخرى ذات أهمية أكبر في فلسفة هوبز، فقد كان هوبز حلقة في سلسلة «التجريبيين» البريطانيين التي تبدأ بويليام الأوكامي مرورا بلوك وهيوم وراسل إلى يومنا هذا، ولكن طموح هوبز الرئيس كان تقديم فلسفة عامة تحظى بالقبول على مستوى واسع وتتسق مع العلم الحديث، وهو ما فشل في تحقيقه.
ولكن رينيه ديكارت (1596-1650م) كان أكثر منه نجاحا، فإجاباته على الأسئلة التي أثارتها صورة العالم الجديدة صادفت قبولا لدى أبناء عصره على الأقل لحين من الدهر، كما كان ديكارت أعظم شأنا من هوبز بين المفكرين؛ لأن ديكارت - الذي كان بعيدا كل البعد عن كونه هاويا غريب الأطوار مثل هوبز - كان عالما رياضيا ورجل علم كان من الأهمية بمكان وضعه في المرتبة الثانية بعد جاليليو، كما أنه كان متمسكا بدينه أكثر من هوبز وأدار أذنا صماء للأمور السياسية المشتعلة حينذاك.
لقد استشعر ديكارت أهمية السؤال الذي طرحه مونتين والذي يقول: إذا كان العديد من الآراء القديمة غير صحيح فكيف لنا أن نتأكد بدورنا من صحة الآراء الجديدة؟ واعتقد ديكارت مثل فرانسيس بيكون من قبل ضرورة القيام بفحص شامل لمبادئ التحقق والاستقصاء القديمة ليتأكد من صحة طرق التفكير الحديثة. وقد كان إسهام بيكون الرئيس - مجموعة القواعد التي أرساها لجمع النتائج التجريبية وفحصها ومقارنتها - يتميز بكثير من الصحة ولكنه لم يقدم ما فيه الكفاية، فمن ناحية لم يعالج قضية الشكوكية المتطرفة، فكيف يمكن للإنسان أن يدافع عن العلم الحديث أو عن أي شيء آخر على الإطلاق في وجه ناقد يشكك في كل شيء؟ فقد اعتقد ديكارت أنه إذا استطعنا أن نجد طريقة نرضي بها هذا الخصم يمكن حينئذ تأسيس العلم الحديث على أرضية ثابتة راسخة. لقد كان نظام جاليليو هيكلا رائعا وبناء جذابا حتى لم يراود ديكارت أي شك في صحته ولكنه ارتأى أن «بناء «جاليليو» ينقصه الأساس» وأمل أن ينشئ هو أساس هذا البناء.
وقد كتب بيكون ذات مرة أن «المرء إذا ما بدأ باليقينيات فسينتهي إلى الشك، ولكنه إذا رضي أن يبدأ بالشك فسينتهي إلى اليقين.» ورسم ديكارت سبيلا لتحقيق هذه المقولة - أو هكذا ظن - فقد حاول من خلال مواجهة أكثر أنواع الشكوكية تطرفا وكذلك استغلال بعض الجوانب الجيدة فيها تشييد بناء الحقيقة في العلم الحديث للأبد. وقد حاول كذلك أن يبين أن العلم الحديث لا يتعارض مع الدين ولا يصطدم به، بل على العكس يعتمد العلم الحديث في حقيقة الأمر على الدين. وتلتحم في كتابات ديكارت الفاتنة عناصر الفلسفتين الإغريقيتين وهما شكوكية بيرو وميكانيكية أبيقور لتقديم توضيح جديد للصورة العلمية للعالم. وبهذا استعاد الفكر الغربي قوته وعافيته التي فقدها في نهاية العصور القديمة عندما آوت الفلسفة إلى أحضان التقوى والورع.
Bilinmeyen sayfa