Batı Hikmeti
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Türler
من ساموس، الذي كان معاصرا لزينون، ونحن لا نعرف عن حياته سوى أنه كان قائدا عسكريا خلال التمرد الذي حدث في ساموس، وأنه هزم الأسطول الأثيني في عام 441ق.م، ولقد أدخل مليسوس تعديلا إيجابيا في نقطة هامة؛ فقد رأينا من قبل أن زينون اضطر إلى إعادة تأكيد رفضه للفراغ، ولكن لو صح ذلك لكان من المستحيل أن يوصف الموجود بأنه فلك كري متناه؛ إذ إن هذا الوصف يوحي بأن ثمة شيئا خارجه، هو المكان الخالي. وهكذا فإن استبعاد الفراغ يحتم علينا أن ننظر إلى الكون المادي على أنه لا متناه في جميع الاتجاهات، وهذا هو الاستنتاج الذي انتهى إليه مليسوس.
ولقد ذهب مليسوس في دفاعه عن «الواحد» الذي قالت به المدرسة الإيلية، إلى حد استباق النظرية الذرية؛ فهو يرى أنه لو كانت الأشياء كثيرة، لوجب أن يكون كل منها مماثلا «للواحد» عند بارمنيدس؛ ذلك لأنه لا شيء يظهر من العدم أو يفنى فناء تاما. وهكذا فإن النظرية الوحيدة المقبولة، والتي تقول بوجود الكثرة، هي تلك التي نتوصل إليها بتفتيت الفلك الكري الذي قال به بارمنيدس إلى أفلاك صغيرة، وهذا بعينه هو ما فعله الذريون.
لقد كان جدل زينون في أساسه هجوما هداما على آراء الفيثاغوريين، وقد وضع هذا الجدل في الوقت ذاته أسس الجدل عند سقراط، ولا سيما بالنسبة لمنهج الفرض، الذي سنتحدث عنه فيما بعد. كذلك فإن المرء يجد ها هنا للمرة الأولى استخداما منهجيا لحجة مكثفة في مسألة محددة، وأغلب الظن أن الإيليين كانوا متبحرين في الرياضيات الفيثاغورية؛ لأن هذا هو الميدان الذي يتوقع المرء أن يجد فيه تطبيقات لهذه الطريقة المنهجية، غير أننا للأسف لا نعرف إلا القليل عن الطرق الفعلية التي كان الرياضيون اليونانيون يجرون بها تحليلاتهم، ولكن يبدو من الواضح أن النمو السريع للرياضيات خلال النصف الثاني من القرن الخامس، كان مرتبطا بقدر ما بظهور قواعد راسخة للحوار وتبادل الحجج.
كيف نستطيع على أي نحو تفسير العالم المتغير من حولنا؟ من الواضح أن من طبيعة التفسير ألا تكون أسسه ذاتها متغيرة، ولقد كان أول من طرحوا هذا السؤال هم الملطيون الأوائل، وقد رأينا كيف عملت المدارس التالية بالتدريج على تحوير المشكلة وزيادة دقتها. وفي النهاية كان مفكر آخر من ملطية هو الذي قدم الرد النهائي على هذا السؤال، لقد كان ليوقبوس
Leucippus
الذي لا نعرف عنه شيئا آخر ذا أهمية، هو أبو المذهب الذري. والنظرية الذرية نتيجة مباشرة للمدرسة الإيلية، وقد كاد مليسوس أن يهتدي إليها خلال مساره الفلسفي.
إن النظرية إنما هي توفيق بين الواحد والكثير؛ فقد أدخل ليوقبوس فكرة الجزئيات المكونة التي لا تحصى، والتي يشترك كل منها مع فلك بارمنيدس في أنه جامد، صلب، لا ينقسم. هذه هي «الذرات»، وهي تعني (في أصلها اليوناني) الأشياء التي لا يمكن تجزئتها، هذه الذرات تتحرك دوما في فراغ. وكان يفترض أن تركيب الذرات جميعا واحد، وإن اختلفت في الشكل. ولقد كان معنى عدم قابلية الانقسام في هذه الجزئيات هو أنها لا يمكن أن تتفتت ماديا، أما المكان الذي تشغله فهو بالطبع قابل للانقسام رياضيا بغير حدود. والسبب الذي يجعل الذرات لا ترى بالطريقة العادية هو أنها صغيرة إلى حد هائل، وبذلك أصبح من الممكن الآن تقديم تفسير للصيرورة أو التغير؛ فالطابع المتغير دوما للعالم، ينشأ من إعادة ترتيب الذرات وتشكيلها.
ولو عبرنا عن موقف الذريين بلغة بارمنيدس، لقلنا إن رأيهم مفاده أن ما لا يكون يماثل في حقيقته ما هو كائن، وبعبارة أخرى فإن الفراغ موجود. أما ما هو هذا الفراغ فأمر يصعب التعبير عنه. وفي هذه الناحية لا أعتقد أننا اليوم تقدمنا كثيرا عن اليونانيين؛ فكل ما يمكننا أن نقوله عن ثقة هو أن المكان الخالي هو ما يصدق عليه علم الهندسة بمعنى ما. والواقع أن الصعوبات السابقة للمذهب المادي إنما نشأت من إصراره على أن كل شيء ينبغي أن يكون جسميا.
والوحيد الذي كانت لديه فكرة واضحة عما قد يكونه الفراغ هو بارمنيدس، الذي أنكر وجوده بالطبع. ومع ذلك فمن المفيد أن نتذكر أن عبارة «ما لا يكون كائن» لا تنطوي على تناقض في الألفاظ في اللغة اليونانية. ويكمن الحل في وجود كلمتين يونانيتين تعبران عن النفي؛ إحداهما: تقريرية (خبرية)، كما في قولي: «لا أحب س»، والأخرى: فرضية (إنشائية)، وتستخدم في الأوامر والرغبات وما شاكلها. وأداة النفي الفرضية (الإنشائية) هذه هي التي تستخدم في عبارة «ما لا يكون» أو «اللاوجود»، كما يستخدمها الإيليون. ولو كانت أداة النفي التقريرية (الإخبارية) هي التي استخدمت في «ما لا يكون كائن» لكان ذلك بالطبع تناقضا صارخا. أما في الإنجليزية
5
Bilinmeyen sayfa