Batı Hikmeti
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Türler
ومع ذلك فإن هذه النظرية تعبر عن مسألة هامة؛ هي أننا إذا استطعنا أن نستخدم كلمة ما بطريقة معقولة فلا بد أن يكون لها معنى، ولا بد أن يكون ما تعنيه موجودا بمعنى أو بآخر، أما المفارقة فإنها تختفي لو عدنا بذاكرتنا إلى هرقليطس، والواقع إننا حين نتأمل المسألة بمزيد من الوضوح، لن نجد أحدا يقول بالفعل «إنه لا يكون» (بالمعنى المطلق)، وإنما يقول فقط «إنه لا يكون من نوع ما»، فإذا قلت «العشب ليس أحمر»، فلست أعني أن العشب لا يكون، بل أعني فقط أنه لا يكون على نحو ما تكون أشياء أخرى، والواقع إنني لا أستطيع أن أقول ذلك لو لم تكن لدي أمثلة أقدمها لأشياء أخرى حمراء، كالحافلات (الباصات) مثلا، وهكذا فإن ما يود هرقليطس أن يقوله هو أن ما هو أحمر اليوم، قد يصبح أخضر غدا؛ إذ إنك قد تصبغ الحافلة الحمراء بطلاء أخضر.
وهذه النقطة تؤدي إلى إثارة السؤال العام عن الشروط التي تكون الألفاظ بموجبها ذات معنى، وهو سؤال أضخم من أن يجاب عنه ها هنا، ومع ذلك فإن إنكار بارمنيدس للتغير هو أصل كل النظريات المادية التالية. فضمير الغائب الذي نسب إليه الوجود في عبارة «إنه موجود»، هو ما أصبح يطلق عليه فيما بعد اسم «الجوهر»، أي المادة التي لا تتغير ولا تفنى، والتي يقول الماديون عنها إنها هي التي تتألف منها الأشياء جميعا.
لقد كان بارمنيدس وهرقليطس هما القطبين المتنافرين من بين مفكري العصور السابقة لسقراط، ومن الجدير بالذكر أن الفلاسفة الذريين - فضلا عن أفلاطون - قد أوجدوا مركبا يجمع بين وجهتي النظر المتعارضتين هاتين؛ فمن بارمنيدس أخذوا الجزئيات الأولية الثابتة التي قالوا بها، ومن هرقليطس أخذوا فكرة الحركة التي لا تنقطع. وهذا في الواقع واحد من أوضح وأقدم الأمثلة التي أوحت بالجدل الهيجلي من بداية الأمر، فمن المؤكد أن التقدم العقلي تصدق عليه الفكرة القائلة إنه ينشأ عن مركب من هذا النوع، يأتي بعد بحث دءوب في موقفين متطرفين متعارضين.
ولقد كان النقد الذي وجهه بارمنيدس يستدعي اتخاذ موقف جديد من مسألة تركيب العالم، وهذا ما قام به أنبادقليس
Empedocles
من مدينة أكراجاس
Acragas ، وهو بدوره فيلسوف لا نعرف إلا القليل عن تاريخه، وإن كان قد بلغ مرحلة النضج في النصف الأول من القرن الخامس ق.م، ولقد كان أنبادقليس، من الوجهة السياسية، في جانب الكثرة، وروي عنه أنه كان زعيما ديمقراطيا، وفي الوقت ذاته كان لديه عنصر صوفي يبدو أنه ارتبط بالتأثير الأورفي للفيثاغوريين؛ ذلك لأن أنبادقليس، شأنه شأن بارمنيدس، كان على ما يبدو مفتونا بالتعاليم الفيثاغورية، ثم انشق عنها فيما بعد كما فعل بارمنيدس أيضا، وتحكى عنه روايات ظلت محفوظة حتى الآن، وتدخل في باب الخوارق والمعجزات؛ إذ تقول الأسطورة إنه كان يستطيع التأثير في الطقس، وبفضل خبرته الطيبة نجح في مكافحة وباء الملايا الذي انتشر في مدينة سيلينوس
Silenus ، وقد خلدت ذكرى هذا الحادث فيما بعد على نقود سكت في هذه المدينة.
ويقال إنه كان يعد نفسه إلها، وعندما مات ساد الاعتقاد بأنه رفع إلى السماء، بينما يقول آخرون إنه قفز داخل بركان أتنا، وإن كان هذا يبدو أمرا لا يصدق؛ إذ يستحيل أن يقوم سياسي جدير بهذا الاسم بالقفز في بركان.
ولقد أراد أنبادقليس أن يوفق بين المذهب الإيلي وبين شهادة الحواس المعتادة، فقال بكل المواد التي جرب الفلاسفة من قبله أن يجعلوها أساسية، وأضاف إليها مادة رابعة. وقد أطلق على هذه المواد اسم «جذور» الأشياء، ثم أسماها أرسطو فيما بعد بالعناصر، وتلك هي نظرية العناصر الأربعة المشهورة، وأعني بها الماء والهواء والنار والتراب، وهي النظرية التي سيطرت على علم الكيمياء طوال ما يقرب من ألفي عام، وما زالت آثار منها باقية في اللغة العادية حتى يومنا هذا، كما هو الحال حين نتكلم عن ثورة العناصر، وهذه النظرية هي في حقيقتها مزيج من مجموعتين من الأضداد؛ الرطب والجاف، والحار والبارد.
Bilinmeyen sayfa