Batı Hikmeti
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Türler
14
ذهب شوبنهور إلى الطرف المضاد، ولم يستطع أن يرى خيرا في أي شيء.
ولقد رأى شوبنهور أن حل هذا الوضع الأليم ينبغي أن يلتمس في الأساطير البوذية. فما يسبب الألم فينا هو ممارستنا للإرادة بعينها، ومن ثم فإننا نستطيع، عن طريق تخدير الإرادة، أن نصل في النهاية إلى «النرفانا» أي العدم، فالغيبوبة الصوفية تجعلنا نخترق حجاب «المايا»، الذي يرمز للوهم والبطلان. وهكذا نستطيع أن نرى العالم على أنه واحد، وبعد أن نكتسب هذه المعرفة، نقهر الإرادة. غير أن معرفة الوحدة لا تؤدي في هذه الحالة إلى الاتصال بالله، كما هي الحال لدى الصوفية الغربيين من أمثال إكهارت
Eckhart ، كما أنها لا تؤدي إلى الاتحاد بعالم اسبينوزا الذي كان هو والله شيئا واحدا، بل إن الاستبصار بالكل، والتعاطف مع الله وعذابه، يزودنا - على العكس من ذلك - بمهرب إلى العدم.
إن فلسفة شوبنهور تؤكد أهمية الإرادة، على عكس المذاهب العقلانية في المدرسة الهيجلية. وقد أخذ بهذا الرأي فلاسفة عديدون لم تكن تجمع بينهم نقاط مشتركة كثيرة أخرى؛ إذ نجده لدى نيتشه، وكذلك لدى البرجماتيين. وبالمثل فإن الوجودية تهتم كثيرا بالإرادة في مقابل العقل. أما عن نزعة التصوف التي تشيع في مذهب شوبنهور، فإنها تقف خارج التيار الرئيسي للفلسفة.
والحق أنه إذا كانت فلسفة شوبنهور تسعى في النهاية إلى إيجاد مخرج من العالم وصراعاته، فإن نيتشه
Nietzsche (1844-1900م) يسير في الطريق المضاد، وليس من السهل أن يلخص المرء مضمون تفكير نيتشه؛ إذ إنه ليس فيلسوفا بالمعنى المألوف، ولم يترك عرضا منهجيا لآرائه. وربما جاز لنا أن نصفه بأنه صاحب نزعة إنسانية أرستقراطية بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد كان أول ما يحرص على تأكيده هو علو الإنسان الأفضل، أعني الأوفر صحة والأقوى شخصية. وقد أدى به ذلك إلى إبداء الاهتمام بالصلابة في مواجهة البؤس، وهو أمر يخالف إلى حد ما معايير الأخلاق الشائعة، وإن لم يكن يخالف الممارسات الفعلية بالضرورة. ولقد ركز الكثيرون اهتمامهم على هذه السمات دون أن يضعوها في سياقها الطبيعي، فرأوا في نيتشه مبشرا بالأنظمة القائمة على الطغيان السياسي في عصرنا الحاضر، ومن الجائز بالفعل أن بعض الطغاة قد استمدوا بعض الوحي من نيتشه، ولكن ليس من العدل أن نعده مسئولا عن شرور أناس لم يفهموه في أحسن الأحوال، إلا فهما سطحيا. ذلك لأن نيتشه كان خليقا بأن يعارض بقوة ما طرأ على بلده ذاته من تطورات سياسية، لو كان العمر قد امتد به حتى يشهد هذه التطورات.
كان نيتشه ابنا لقسيس بروتستانتي، مما كان يعني تنشئة عائلية تسودها التقوى والاستقامة. وقد ظل تأثير هذا العنصر باقيا في تلك النغمة الأخلاقية الرفيعة التي نجدها في أعماله، حتى تلك التي يبلغ فيها التمرد أقصى مداه، وقد أثبت منذ شبابه المبكر أنه باحث علمي ممتاز، وأصبح في الرابعة والعشرين أستاذا لفقه اللغات القديمة بجامعة بازل، وبعد عام من هذا التاريخ اندلعت الحرب بين فرنسا وبروسيا. ولما كان نيتشه قد أصبح مواطنا سويسريا، فقد كان عليه أن يكتفي بالعمل ممرضا في الخدمة العسكرية، وبعد أن تدهورت صحته نتيجة لإصابته بالدوسنتاريا، سرح من الخدمة وأعيد إلى بازل. والواقع أن صحته لم تكن أبدا في حالة جيدة، ولم يصل أبدا إلى الشفاء التام من الأمراض التي أصابته أثناء تجنيده، وهكذا اضطر إلى الاستقالة من منصبه في عام 1879م، وإن كان قد حصل على معاش سخي أتاح له أن يحيا حياة مريحة إلى حد معقول، وقد قضى الأعوام العشرة التالية في سويسرا وإيطاليا، مواصلا عمله التأليفي، وكان في معظم الأحيان منعزلا لا يعرف به أحد، وفي عام 1889م أصيب بالجنون، وكانت إصابته نتيجة متأخرة لمرض تناسلي أصيب به أيام دراسته، وظل في حالة الجنون حتى وفاته.
إن أعمال نيتشه مستوحاة في المحل الأول من المثل العليا اليونانية في عصر ما قبل سقراط، وخاصة في إسبرطة، وقد استحدث في كتابه الرئيسي الأول «ميلاد التراجيديا» (1972م)، التمييز المشهور بين الحالتين الأبولونية والديونيزية للروح اليونانية، فالمزاج الديونيزي القاتم الشديد الانفعال مرتبط بالتعرف على حقيقة المأساة في حياة الإنسان، أما البانثيون الأوليمبي فهو نوع من الرؤية الصافية التي تعوض تأثير الجانب الأليم في الحياة البشرية، وتنبثق هذه الرؤية من العنصر الأبولوني في النفس، وهكذا نستطيع أن نصف المأساة الإغريقية بأنها تسام أبولوني على الرغبات الديونيزية العارمة، وقد رأينا من قبل أن أرسطو كانت له آراء مشابهة في هذه المسائل.
وقد استخلص نيتشه، فيما بعد، من هذا العرض الذي قدمه لأصول التراجيديا فكرة البطل المأساوي، فهو، على خلاف أرسطو، لا يرى في المأساة وسيلة بديلة لتطهير الانفعالات، وإنما يرى فيها قبولا إيجابيا للحياة على ما هي عليه. وبينما كان شوبنهور قد توصل إلى نتيجة تشاؤمية، نجد نيتشه يتخذ موقفا تفاؤليا، يعتقد أن من الممكن التوصل إليه إذا ما فسرت المأساة الإغريقية تفسيرا صحيحا، ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذا ليس تفاؤلا بالمعنى الشائع بين الناس، وإنما هو نوع من القبول العدواني لحقائق الحياة الصعبة القاسية؛ إنه يعترف، مثل شوبنهور بأولوية الإرادة، ولكنه يمضي شوطا أبعد، ويرى في الإرادة القوية أبرز سمات الإنسان الحر، على حين أن شوبنهور رأى في الإرادة مصدرا لكل شر.
Bilinmeyen sayfa