156

Batı Hikmeti

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Türler

أما بالنسبة إلى السعي من أجل المعرفة العلمية، بمعناها الصحيح، فإن ما أكده بيكن هو الحاجة إلى منهج جديد أو أداة جديدة للكشف، يحل محل نظرية القياس التي أصبح إفلاسها واضحا للعيان، وقد وجد بيكن هذا المنهج في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء. والواقع أن فكرة الاستقراء لم تكن في ذاتها جديدة فقد استخدمها أرسطو من قبل، ولكن طريقة استخدام الاستقراء حتى ذلك الحين كانت هي التعداد البسيط للأمثلة، أما بيكن فرأى أنه اهتدى إلى طريقة أكثر فعالية، تتمثل في وضع قوائم للظواهر التي تشترك في صفة معينة هي موضوع البحث، وكذلك قوائم بالظواهر التي تفتقر إلى هذه الصفة، وقوائم بالظواهر التي تملك هذه الصفة بدرجات متفاوتة. وعلى هذا النحو كان يأمل في الكشف عن السمة المميزة لصفة ما. فإذا أمكن الوصول بطريقة القوائم هذه إلى الكمال والشمول، فعندئذ نكون قد وصلنا حتما إلى نهاية بحثنا. أما من الناحية العملية فعلينا أن نكتفي بقائمة جزئية ثم نغامر بتخمين ما على أساسها.

هذا، باختصار شديد، هو لب العرض الذي قدمه بيكن للمنهج العلمي، الذي كان يرى فيه أداة جديدة للكشف. ويعبر عنوان الدراسة التي عرض فيها هذه النظرية عن هذا الرأي؛ إذ كان القصد من «الأورجانون الجديد»، الذي نشر عام 1620م، أن يحل محل أورجانون أرسطو. غير أن هذا المنهج من حيث هو طريقة عملية، لم يلق قبولا لدى العلماء، أما من حيث هو نظرية في المنهج، فقد كان مخطئا، وإن كان تأكيده لأهمية الملاحظة قد جعل منه دواء مفيدا يشفي من النزعة العقلية التقليدية المتطرفة. والواقع أن الأداة الجديدة لا تفلح بالفعل في تجاوز أرسطو على الإطلاق؛ فهي تعتمد على التصنيف وحده، وعلى الفكرة القائلة إن مراعاة التدقيق اللازم كفيلة بإيجاد الفئة أو المكان المناسب لكل شيء. وتبعا لهذا الرأي، فإننا ما إن نهتدي إلى المكان الصحيح، ومعه الاسم الملائم، لأية كيفية أو صفة محددة، حتى نكون قد سيطرنا عليها. على أن هذا الوصف يصلح للانطباق على البحث الإحصائي. أما فيما يتعلق بصياغة الفروض فقد كان بيكن على خطأ في اعتقاده أنها مبنية على الاستقراء، الذي تكون مهمته الحقيقية في الواقع، هي اختبار الفروض. بل إن مجرد القيام بسلسلة من الملاحظات يقتضي أن يكون لدى المرء من قبل فرض أولى. أما اكتشاف الفروض فلا يمكن أن توضع بشأنه مجموعة من القواعد العامة. والواقع أن بيكن كان مخطئا كل الخطأ عندما اعتقد بإمكان وجود أداة للكشف، يستطيع المرء عن طريق تطبيقها آليا أن يميط اللثام عن أسرار جديدة مذهلة للطبيعة. ذلك لأن وضع الفروض لا يتم بهذه الطريقة على الإطلاق.

9

وفضلا عن ذلك فإن رفض بيكن للقياس قد أدى به إلى الإقلال من أهمية وظيفة الاستنباط في البحث العلمي. ومن الجدير بالملاحظة، بوجه خاص، أنه لم يبد تقديرا كبيرا للمناهج الرياضية التي كانت قد بدأت تتطور في عصره. ذلك لأن دور الاستقراء في اختبار الفروض ما هو إلا جانب بسيط من جوانب المنهج، وبغير الاستنباط الرياضي الذي يقودنا من الفروض إلى موقف عيني قابل للاختبار، لا تتوافر لدينا معرفة بما يتعين علينا اختباره.

أما العرض الذي قدمه بيكن لمختلف ضروب الخطة التي يتعرض لها الإنسان فهو من أكثر أجزاء فلسفته تشويقا. فنحن، في رأيه، معرضون للوقوع في أربعة أنواع من الخطأ العقلي، أطلق عليها اسم «الأصنام أو الأوهام»

Idols . فهناك أولا أوهام القبيلة (أو النوع البشري) التي نقع فيها لمجرد كوننا بشرا، ومن أمثلتها تحكم أمانينا في اتجاه تفكيرنا، وبوجه خاص توقعنا أن نجد في الظواهر الطبيعية نظاما يزيد على ما هو موجود فعلا. وهناك أوهام الكهف، وهي نقاط الضعف الفردية في كل شخص، وهذه لا حصر لها ولا عدد. أما «أوهام السوق»، وهي الأخطاء الناجمة عن ميل الذهن إلى الانبهار بالألفاظ، وهو خطأ يتفشى في الفلسفة بوجه خاص. وأخيرا فإن «أوهام المسرح» هي تلك الأخطاء التي تنشأ عن المذاهب والمدارس الفكرية، والمثل المفضل لدي بيكن في هذا الصدد هو المذهب الأرسطي.

إن بيكن، على الرغم من كل ما أبداه من اهتمام بالبحث العلمي، قد فاتته جميع التطورات الأكثر أهمية في عصره تقريبا. فهو لم يعرف أعمال كبلر، وعلى الرغم من أنه كان يتلقى العلاج على يد هارفي، فإنه لم يعرف بأبحاث طبيبه عن الدورة الدموية.

والأهم من بيكن، بالنسبة إلى المذهب التجريبي، وكذلك بالنسبة إلى الفلسفة عامة، هو توماس هبز

Thomas Hobbes (1588-1679م) فعلى حين أن هبز ينتمي في جوانب معينة إلى التراث التجريبي، فقد كان في الوقت ذاته يقدر المنهج الرياضي، وهو ما كان يربط بينه وبين جاليليو وديكارت. وهكذا فإن وعيه بوظيفة الاستنباط في البحث العلمي جعل تصوره للمنهج العلمي أنضج بكثير من أي تصور توصل إليه بيكن.

لم تكن حياة هبز الأولى مع أسرته تبشر بخير كثير، فقد كان أبوه قسا شرسا متعنتا اختفى في لندن في وقت كان فيه هبز ما يزال طفلا.

Bilinmeyen sayfa