145

Batı Hikmeti

حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي

Türler

وفي ميدان الفلسفة السياسية، أنجبت النهضة الإيطالية شخصية بارزة، هي شخصية نيكولو ماكيافيلي

Niccolo Machiavelli (1469-1527م)، الذي كان ابنا لمحام من فلورنسة. وقد بدأ اشتغاله بالسياسة عام 1494م، عندما طردت أسرة مديتشي من فلورنسة. في هذا الوقت خضعت المدينة لتأثير سافونارولا

Savonarola

المصلح الدومنيكاني الذي تصدى للرذيلة والفساد المنتشرين في عصره. وقد دفعه حماسه الشديد إلى التصادم مع إسكندر السادس، البابا الذي ينتمي إلى أسرة بورجيا، فأعدم حرقا في عام 1498م. وكان من الضروري أن تثير هذه الأحداث أفكارا عن طبيعة السلطة والنجاح السياسي. وقد كتب ماكيافيلي فيما بعد يقول إن الأنبياء غير المسلحين يخفقون دائما، وضرب مثلا بساقونارولا. وخلال الوقت الذي ظلت فيه أسرة بورجيا منفية، كانت فلورنسة جمهورية، وظل ماكيافيلي يحتل منصبا عاما حتى عودة الأسرة إلى الحكم في عام 1512م. ولما كان قد عارض هذه الأسرة طوال الفترة السابقة، فقد أصبح بعد عودتها غير مرغوب فيه. فأرغم على اعتزال الحياة العامة، وكرس حياته منذ ذلك الحين للكتابة في الفلسفة السياسية وما يتصل بها من موضوعات. ولم تنجح المحاولة التي بذلها لاستمالة آل مديتشي مرة أخرى عن طريق إهداء كتابه المشهور «الأمير» إلى لورنتسو الثاني في عام 1513م. وقد توفي ماكيافيلي سنة 1527م، وهي السنة التي قام فيها مرتزقة الإمبراطور شارل الخامس باجتياح روما ونهبها.

ولقد كان الكتابان الكبيران اللذان ألفهما ماكيافيلي في السياسة هما «الأمير» و«الخطابات

Discourses ». ويأخذ الأول منهما على عاتقه مهمة دراسة الوسائل التي تكتسب بها القوة الاستبدادية ويتم بها المحافظة عليها، على حين أن الثاني يقدم دراسة عامة للسلطة وممارستها في ظل مختلف أنواع الحكم. ولا تنطوي التعاليم التي يقدمها كتاب «الأمير» على أية محاولة لتقديم نصيحة خالصة إلى الحاكم تبين له كيف يكون حاكما فاضلا. بل إن الكتاب يعترف بأن هناك ممارسات شريرة تؤدي إلى اكتساب السلطة السياسية. وكان هذا هو السبب في اكتساب لفظ «الماكيافيلي»، معناه الشرير المذموم، ولكن ينبغي القول، إنصافا لمكيافيلي، أنه لم يكن يدعو إلى الشر من حيث هو مبدأ. فقد كان ميدان بحثه يقع خارج نطاق الخير والشر، شأنه في ذلك شأن أبحاث عالم الفيزياء النووية، وكانت الحجة التي يعرضها هي إنك إذا أردت اكتساب السلطة فعليك أن تكون قاسيا بلا رحمة. أما مسألة ما إذا كان هذا خيرا أم شرا، فهي مسألة أخرى تماما، لا شأن لماكيافيلي بها. وفي استطاعة المرء أن يعيب عليه عدم إبدائه اهتماما كافيا بهذه المسألة، لكن لا معنى لإدانته بسبب دراسته لسياسة القوة كما كانت موجودة فعلا؛ ذلك لأن ما يقدمه كتاب «الأمير» لا يعدو أن يكون تلخيصا للممارسات التي كانت شائعة في إيطاليا خلال عصر النهضة.

ولقد أوفد ماكيافيلي، خلال اشتغاله بالوظائف العامة في خدمة جمهورية فلورنسة، في عدد من المهام الدبلوماسية المتنوعة التي أتاحت له فرصة كبيرة لكي يدرس عن كثب خفايا التآمر السياسي. وقد تعرف خلال عمله الدبلوماسي عن قرب إلى تشيزاري بورجيا

Cesar Borgia ، ابن إسكندر السادس، الذي لم يكن يقل نذالة عن أبيه. وقد خطط تشيزاري بورجيا ببراعة وجرأة هائلة لتأمين مركزه عندما يأتي اليوم الذي يموت فيه أبوه. فتم التخلص من أخيه، الذي كان يعترض سبيل هذه الطموحات، ومن الناحية العسكرية ساعد تشيزاري أباه على توسيع الممتلكات البابوية، وصمم فيما بعد على الاحتفاظ بهذه الأقاليم لنفسه. أما بالنسبة إلى الخلافة على منصب البابا، فكان لا بد من عمل كل شيء حتى يشغل هذا المنصب واحد من أصدقائه. وقد كشف تشيزاري بورجيا عن براعة منقطعة النظير، وعن دهاء ديبلوماسي فائق، في السعي إلى تحقيق هذه الأهداف، فكان تارة يتظاهر بالصداقة، وتارة يسدد ضربة الموت. وبطبيعة الحال فمن المستحيل سؤال ضحايا هذه الممارسات السياسية عن مشاعرهم، ولكن أغلب الظن أنهم لو نظروا إلى الأمر بتجرد لأبدوا إعجابهم ببراعة بورجيا المؤكدة، فهكذا كان مزاج العصر. وفي النهاية أخفقت خططه لأنه كان هو ذاته مريضا عندما مات أبوه في عام 1503م. وكان خليفة أبيه على عرش البابوية هو يوليوس الثاني، الذي كان عدوا لدودا لآل بورجيا. ولو سلمنا بالأهداف التي توخاها تشيزاري بورجيا لكان من واجبنا أن نعرف بأنه سعى إليها باقتدار، ومن أجل هذا كال له ماكيافيلي المديح. فهو في «الأمير» يثني عليه بوصفه نموذجا لغيره ممن يطمحون إلى السلطة. ولا شك أن المعايير العامة السائدة في ذلك العصر هي التي جعلته ينظر إلى ممارسات كهذه على أنها شيء يمكن الدفاع عنه. أما في الفترة الواقعة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر فلم يكن من الممكن، على وجه العموم، التغاضي عن مثل هذه الأساليب الممعنة في القسوة، أو لم تكن تمتدح علنا على الأقل، ولكن القرن العشرين أنجب مرة أخرى عددا من القادة السياسيين المنتمين إلى التراث المعروف لدى ماكيافيلي.

ومنذ عام 1513م حتى عام 1521م اعتلى العرش البابوي «ليو العاشر» الذي كان ينتمي إلى أسرة مديتشي. ولما كان ماكيافيلي يحاول عندئذ استمالة هذه الأسرة، فقد تجنب في كتاب «الأمير» أن يخوض في موضوع السلطة البابوية، مكتفيا ببعض العبارات السطحية ذات المسحة الدينية. ولكنه يتخذ في كتاب «الخطابات» موقفا نقديا أقوى تجاه البابوية، ويصطبغ موقفه كله هنا بصبغة أخلاقية أوضح. فهو يبحث في أنماط أصحاب السلطة حسب ترتيب قيمتهم، بادئا بمؤسسي العقائد الدينية ومنتهيا بالطغاة. وقد نظر إلى وظيفة الدين في الدولة نظرة برجماتية (عملية). فليس مهما على الإطلاق أن تكون العقيدة صحيحة أو باطلة، ما دامت تساعد على إضفاء قدر من التماسك الاجتماعي على الدولة. وبالطبع فإن اضطهاد المارقين أو أصحاب البدع يصبح له ما يبرره تماما في ظل رأي كهذا. أما الكنيسة فإنه يهاجمها لسببين: الأول هو أن أسلوب الحياة غير الفاضل الذي يحياه كثير من قساوستها قد زعزع الثقة الشعبية في الدين، والثاني هو أن الاهتمامات الدنيوية والسياسية للبابوية كانت عقبة في وجه الوحدة الوطنية الإيطالية. ولنلاحظ في هذا الصدد أن هذا يتمشى تماما مع اعترافه بأن البابوات السياسيين قد تصرفوا، في سعيهم إلى تحقيق أهدافهم الخاصة، ببراعة فائقة. وعلى حين أن كتاب «الأمير» لم يكن له شأن بالغايات، فإن كتاب «الخطابات» كان أحيانا يوليها اهتمامه.

وفيما يتعلق بالمعايير الأخلاقية التقليدية، يبين كتاب «الأمير» صراحة أن الحكام ليسوا مقيدين بها. فما لم تتطلب المصلحة إطاعة القوانين الأخلاقية، فإن في استطاعة الحاكم أن يخرج عنها كلها. بل إن من واجبه أن يفعل ذلك في كثير من الأحيان إذا ما شاء أن يظل في السلطة. وعليه في الوقت ذاته أن يبدو في نظر الآخرين فاضلا. وبفضل هذه الازدواجية وحدها يستطيع الحاكم أن يحتفظ بموقعه.

Bilinmeyen sayfa