Hikmat al-Ishraq ila Kitab al-Afaq wa Bidheeliha: Tamimah fi Naqd al-Athar al-Marfoo'ah an al-Khatt wal-Kitabah
حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق وبذيله: تتمة في نقد الآثار المرفوعة عن الخط والكتابة
Araştırmacı
عبد السلام هارون
Yayıncı
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
1411 AH
Yayın Yeri
القاهرة
Türler
Dilbilim
حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق
جمع العبد الفقير إلى الله تعالى محمد مرتضى الحسيني عفى عنه بمنه آمين
2 / 49
مقدمة
وهذا كتاب في تاريخ الخط والخطاطين، هو امتداد لمؤلفات قديمة، من أشهرها كتاب أدب الكتاب لمحمد بن يحيى الصولي المتوفى سنة ٣٣٦، وفصول طوال في فهرست ابن النديم المتوفى سنة ٣٨٥، وصبح الأعشى للقلقشندي المتوفى سنة ٨٢١.
وقد ألف السيد مرتضى الزبيدي هذا الكتاب مشتملا على «فضيلة الخط والقلم وما جاء فيهما من الآثار، وما للحكماء فيهما من الأسرار، وبيان من وضع الخط أولًا وألف الحروف، وألبسها حلل التفصيل وأحلها في أحسن الظروف، ثم بيان الأجلة من الكتاب والأعيان من أهل الفن».
وقد جعل هذه الرسالة هدية إلى خزانة نابغة الخط الأمير حسن أفندي الملقب بالرشدى (^١).
وقسمها إلى عشرة فصول وخاتمة:
الفصل الأول: في ذكر من وضع الخط وأصله، ووصله وفصّله.
الفصل الثاني: في فضل الخط وما قيل فيه.
الفصل الثالث: في القلم، وما لهم فيه من الحكم.
_________
(^١) هو حسن أفندي بن عبد اللّه، الملقب بالرشدى، الرومي الأصل، توفى في السنة التي توفى فيها الزبيدي. قال الجبرتى في ترجمته: «مولى على آغا بشير دار السعادة، المكتب المصري، اشتراه سيده صغيرا، وهذبه ودربه وشغله بالخط فاجتهد فيه، وجوده على عبد اللّه الأنيس، وكان ليوم إجازته محفل نفيس، جمع فيه المرءوس والرئيس، ثم زوجه ابنته وجعله خليفته ولم يزل في حال حياة سيده معتكفا على المشق والتسويد، معتنيا بالتحرير والتجويد إلى أن فاق أهل عصره في الجودة في الفن، … ولما توفى شيخ المكتبين المرحوم إسماعيل الوهبى جعل المترجم شيخا باتفاق منهم … وألف من أجله شيخنا السيد محمد مرتضى كتاب حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق … ولم يزل شيخا ومتكلما على جماعة الخطاطين والكتاب، وعميدهم الذي يشار إليه عند الأرباب، نسخ بيده عدة مصاحف وأحزاب. وأما نسخ الدلائل فكثرتها لا تدخل تحت الحساب، إلى أن طافت به المنية طواف الوداع، ونثرت عقد ذلك الاجتماع. وبموته انقرض نظام هذا الفن». تاريخ الجبرتى ٢: ٢١١.
2 / 50
الفصل الرابع: في الدواة وصفتها وآلاتها.
الفصل الخامس: في المداد والحبر.
الفصل السادس: في برى الأقلام.
الفصل السابع: في النقط.
الفصل الثامن: في الشكل.
الفصل التاسع: في ذكر حروف المعجم وسرها في تعيين العدد.
الفصل العاشر: في ذكر الكتبة الكرام، من لدن زمن النبي ﷺ إلى زمن المؤلف.
ثم الخاتمة وفيها فصلان:
الأول: في أدب التلميذ مع الشيخ.
الثاني: نصيحة لسائر الخطاطين.
2 / 51
السيد مرتضى الزبيدي
والسيد مرتضى الزبيدي عالم لغوى جليل من علماء القرن الثالث عشر، أفرد له الجبرتى في تاريخه ترجمة نفيسة، آثرت أن أنقل جمهورها بلفظه ونسقه، حرصا على ما بها من تصوير كامل لحياة هذا الرجل، وصلاته برجال عصره.
قال الجبرتى في ترجمته (^١):
مات شيخنا علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كل فج، وخاض من العلم كل لج، المذلّل له سبل الكلام، والشاهد له الورق والأقلام، ذو المعرفة والمعروف، وهو العلم الموصوف، العمدة الفهامة والرّحلة النسابة، الفقيه المحدّث اللغوي، النحوي الأصولىّ، الناظم الناثر الشيخ أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزّبيدى (^٢) الحنفي. هكذا ذكر عن نفسه ونسبه.
ولد سنة ١١٤٥ كما سمعته من لفظه، ورأيته بخطه.
ونشأ ببلاده وارتحل في طلب العلم وحج مرارا، واجتمع بالشيخ عبد اللّه السندي، والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي، وعبد اللّه السقاف، والمسند محمد ابن علاء الدين المزجاجى، وسليمان بن يحيى، وابن الطيب. واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة، وبالشيخ عبد اللّه ميرغني الطائفي في سنة ثلاث وستين ونزل بالطائف بعد ذهابه إلى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين، فقرأ على الشيخ عبد اللّه في الفقه وكثيرا من مؤلفاته وأجازه. وقرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية، وألبسه (الخرقة)، وأجازه بمروياته، ومسموعاته. قال: «وهو الذي شوّقنى إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها، وما فيها من المشاهد الكرام، فاشتاقت نفسي لرؤياها، وحضرت مع الركب، وكان الذي كان». وقرأ عليه طرفا من الإحياء، وأجازه بمروياته.
_________
(^١) انظر عجائب الآثار ٢: ١٩٦ - ٢١٠ في حوادث سنة ١٢٠٥. وقد لخص هذه الترجمة الشبلنجي في نور الأبصار ٢١٤، وعلى مبارك في الخطط التوفيقية ٣: ٩٣ - ٩٤.
(^٢) نسبة إلى زبيد، بفتح الزاي، وهي مدينة مشهورة باليمن.
2 / 52
ثم ورد إلى مصرفى تاسع صفر سنة ١١٦٧ وسكن بخان الصاغة، وأول من عاشره وأخذ عنه السيد على المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوى، والجوهري، والحفنى، والبليدى، والصعيدى، والمدابغى وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجود حفظه.
واعتنى بشأنه «كتخدا عزبان (^١)». ووالاه بره حتى راج أمره وترونق حاله واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة.
وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام، وإسماعيل أبو عبد اللّه، وأبو علي، وأولاد نصير، وأولاد وافى، وهادوه وبرّوه.
وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة وباقي البنادر العظيمة مرارا حين كانت مزينة بأهلها، عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك، وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم، وصنف (عدة رحلات) في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية تحتوى على لطائف ومحاورات ومدائح نظما ونثرا لو جمعت مجلدا ضخما، وكناه سيدنا أبو الأنوار بن وفا (بأبى الفيض)، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة ١١٨٢ وذلك برحاب ساداتنا بنى الوفا يوم زيارة المولد المعتاد.
ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنه بوكالة الصاغة، وشرع في (شرح القاموس) حتى أتمه في عدة سنين نحو أربعة عشر مجلدا سماه «تاج العروس» ولما أكمله (أولم وليمة حافلة) جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية وذلك في سنة ١١٨١ وأطلعهم عليه واغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظهم نثرا ونظما».
ثم ساق الجبرتى أسماء هؤلاء المقرظين، وبعض تقاريظهم، ثم قال:
«ولما أنشأ محمد بيك أبو الذهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر وعمل فيه خزانة للكتب، واشترى جملة من الكتب، ووضعها بها، أنهوا إليه شرح القاموس هذا وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها، وانفردت بذلك دون غيرها، ورغّبوه في ذلك فطلبه وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة، ووضعه فيها.
_________
(^١) معنى كتخدا: وزير الأمور الداخلية، كما جاء في تخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي ص ٧٢.
2 / 53
ولم يزل المترجم يخدم العلم ويرقى في درج المعالي، ويحرص على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون، كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين. وألف في ذلك كتبا ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة، ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا، تجاه جامع محرم أفندي، بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي، وذلك في أوائل سنة ١١٨٩، وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان، فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف، ويعظهم ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقى، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب. فأقبلوا عليه من كل جهة، وأتوا إلى زيارته من كل ناحية، ورغبوا في معاشرته لكونه غريبا وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، (ويعرف باللغة التركية والفارسية)، بل وبعض لسان الكرج، فانجذبت قلوبهم إليه، وتناقلوا خبره وحديثه.
ثم شرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة. وكل من قدم عليه يملى الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سندا بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك.
ثم إن بعض علماء (الأزهر) ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة، فقال لهم:
لا بد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعدا عن الناس، فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخونى، واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخونى إمام المسجد وخازن الكتب، وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها. وتناقل في الناس سعى علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعى، والشيخ مصطفى الطائي، والشيخ سليمان الأكراشى وغيرهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني فانتقل من الرواية إلى الدراية، وصار درسا عظيما، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضا وصار يملى على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثا من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه ويتبعه (بأبيات من الشعر) كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين.
2 / 54
وافتتح درسا آخر في مسجد الحنفي، وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر، فازدادت شهرته، وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته، لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم. ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم، وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملى وكاتب الأسماء، فيقرأ لهم شيئا من الأجزاء الحديثية كثلاثيات البخاري أو الدارمي، أو بعض المسلسلات، بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده (وبناته ونسائه من خلف الستائر)، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي ﷺ على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات، واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك: «صحيح ذلك». وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة.
يقول الحقير: إني كنت مشاهدا وحاضرا في غالب هذه المجالس والدروس، ومجالس أخر خاصة بمنزله ويسكنه القديم بخان الصاغة، وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزهة مثل غيط المعدية (والأزبكية) وغير ذلك.
فكنا نشغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها، وهو كثير، بثبوت المسموعات على النسخ وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن.
وانجذب إليه (بعض الأمراء الكبار) مثل مصطفى بيك الإسكندرانى، وأيوب بيك الدفتردار، فسعوا إلى منزله: وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال، واشترى الجواري، وعمل الأطعمة للضيوف، وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة. وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر وسمع به، فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية.
ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده وأصعده إليه، وخلع عليه فروة سمور؛ ورتب له تعيينا من كلاره لكفايته، من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة، وغلالا من الأنبار، وأنهى إلى الدولة شأنه، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفا فضة في كل يوم وذلك في سنة ١١٩١ فعظم أمره وانتشر صيته. وطلب إلى الدولة
2 / 55
في سنة ٩٤ فأجاب ثم امتنع، وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق. وطار ذكره في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الحلقة عظيمة الجثة، يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد فوقع لهم موقعا، وكذلك أرسلوا إليه من طيور الببغا والجواري والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرائف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها. وأتاه من طرائف الهند وصنعاء واليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة، وماء الكادى، والمربيات والعود والعنبر والعطر شاه بالأرطال، وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد.
وربما اعتقدوا فيه (القطبانية العظمى) حتى إن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجا ولم يزره ولم يصله بشئ لا يكون حجه كاملا، فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده، وحفظ ذلك أو كتبه، ويستخبر هذا عن ذاك بلطف ورقة، فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده فيقول له: فلان من بلدة كذا. فلا يخلو إما أن يكون عرفه من غيره سابقا، أو عرف جاره أو قريبه، فيقول له: فلان طيب؟ فيقول: نعم سيدي. ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته، ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح. فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئا إما موزونات فضة أو تمرا أو شمعا، على قدر فقره وغناه وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده. وقس على ذلك ما لم يقل.
وشرع في شرح (إحياء العلوم) للغزالي، وبيض منه أجزاء وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس ويرغب في طلبه واستنساخه.
2 / 56
و(ماتت زوجته) في سنة ٩٦ فحزن عليها حزنا كثيرا، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية وعمل على قبرها مقاما ومقصورة وستورا وفرشا وقناديل ولازم قبرها أياما كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسو والقهوة والشربات. واشترى مكانا بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتا صغيرا وفرشه وأسكن به أمها، ويبيت به أحيانا. وقصده الشعراء بالمراثي، فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه. ورثاها هو بقصائد وجدتها بخطه بعد وفاته في أوراقه المتشتة، على طريقة شعر مجنون ليلى».
وساق الجبرتى ست مقطعات للزبيدى في رثائها ثم قال: «ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره. ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية، لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقراء واعتكف بداخل الحريم وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة، وأرسل إليه مرة أيوب بيك الدفتردار مع نجله خمسين إردبا من البر، وأحمالا من الأرز والسمن والعسل والزيت وخمسمائة ريال نقود وبقج كساوى أقمشة هندية وجوخا وغير ذلك فردها، وكان ذلك في رمضان، وكذلك مصطفى بيك الإسكندرانى وغيرهما، وحضرا إليه فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما ورجعا من غير أن يواجهاه.
ولما حضر حسن باشا على الصورة التي حضر فيها إلى مصر لم يذهب إليه، بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به، وقدم له حصانا معدودا مرخنا بسرج وعباءة، قيمته ألف دينار، أعده وهيأه قبل ذلك. وكانت شفاعته عنده لا ترد، وإن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال وقبّل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه ونفذ ما فيها.
وأرسل مرة إلى أحمد باشا الجزار مكتوبا وذكر له فيه أنه (المهدى المنتظر) وسيكون له شأن عظيم، فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمائم، فكان يسير بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعى المعارف في الجفور والزايرجات ويعتقد صحته بلا شك. ومن قدم عليه من جهة مصر وسأله عن المترجم فإن أخبره وعرّفه أنه اجتمع به وأخذ
2 / 57
عنه وذكره بالمدح والثناء أحبّه وأكرمه وأجزل صلته، وإن وقع منه خلاف ذلك قطّب منه وأقصاه عنه وأبعده، ومنع عنه بره ولو كان من أهل الفضائل. واشتهر ذلك عند من عرف منه ذلك بالفراسة، ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما.
واتفق أن مولاي محمد سلطان المغرب ﵀ وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده، وهو يقبلها بالحمد والثناء والدعاء، فأرسل له في سنة ٢٠١ صلة لها قدر، فردّها وتورع عن قبولها وضاعت ولم ترجع إلى السلطان، وعلم السلطان ذلك من جوابه فأرسل إليه مكتوبا قرأته، وكان عندي ثم ضاع في الأوراق، ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة، ويقول له: إنك رددت الصلة التي أرسلناها إليك من بيت مال المسلمين، وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقراء والمحتاجين فيكون لنا ولك أجر ذلك، إلا أنك رددتها وضاعت. (ويلومه) أيضا على شرحه كتاب الإحياء ويقول له: كان ينبغي أن تشغل وقتك بشئ نافع غير ذلك، ويذكر وجه لومه له في ذلك وما قاله العلماء وكلاما مفحما مختصرا مفيدا. ﵀.
وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس (^١) وشرح الإحياء (^٢) تأليفات كثيرة منها:
١ - كتاب الجواهر المنيفة، في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضى اللّه عنه مما وافق فيه الأئمة الستة (^٣). وهو كتاب نفيس حافل رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روى عنه في الاعتقاديات ثم في العمليات على ترتيب كتب الفقه.
٢ - والنفحة القدسية، بواسطة البضعة العيدروسية، جمع فيه أسانيد العيدروس، وهي في نحو عشرة كراريس.
٣ - والعقد الثمين، في طرق الإلباس والتلقين.
٤ - وحكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق.
_________
(^١) طبعت خمسة أجزاء منه بالمطبعة الوهبية سنة ١٢٨٦. ثم طبع كاملا في عشرة أجزاء بالمطبعة الخيرية سنة ١٣٠٦.
(^٢) طبع بفاس سنة ١٣٠٢ في ١٣ جزءا، ثم في الميمنية سنة ١٣١١ في ١٠ أجزاء.
باسم «إتحاف السادة المتقين، بشرح أسرار إحياء علوم الدين».
(^٣) طبع بالإسكندرية سنة ١٢٩٢ في جزءين.
2 / 58
٥ - وشرح الصدر، في شرح أسماء أهل بدر، في عشرين كراسا، ألفها لعلى أفندي درويش.
ورسائل كثيرة جدا منها.
١ - رفع نقاب الخفا، عمن انتمى إلى وفا وأبى الوفا.
٢ - بلغة الأريب، في مصطلح آثار الحبيب (^١).
٣ - إعلام الأعلام، بمناسك حج بيت اللّه الحرام.
٤ - زهر الأكمام، المنشق عن جيوب الإلهام، بشرح صيغة سيدي عبد السلام.
٥ - رشفة المدام المختوم البكري، من صفوة زلال صيغ القطب البكري.
٦ - رشف سلاف الرحيق، في نسب حضرة الصديق.
٧ - القول المثبوت، في تحقيق لفظ التابوت.
٨ - تنسيق قلائد المنن، في تحقيق كلام الشاذلي أبى الحسن.
٩ - لقط اللآلي، من الجوهر الغالي. وهي في أسانيد الأستاذ الحفنى، وكتب له إجازته عليها في سنة ٦٧ وذلك سنة قدومه إلى مصر.
١٠ - النوافح المسكية، على الفوائح الكشكية.
١١ - جزء في حديث «نعم الإدام الخل».
١٢ - هدية الإخوان، في شجرة الدخان.
١٣ - منح الفيوضات الوفية، فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية.
١٤ - إتحاف سيد الحي، بسلاسل بنى طي.
١٥ - بذل المجهود، في تخريج حديث «شيبتنى هود».
١٦ - المربى الكابلي، فيمن روى عن الشمس البابلي.
١٧ - المقاعد العندية، في المشاهد النقشبندية.
١٨ - رسالة في المناشى والصفين!
١٩ - شرح على خطبة الشيخ محمد البحيرى البرهاني على تفسير سورة يونس.
٢٠ - تفسير على سورة يونس مستقل، على لسان القوم.
٢١ - شرح على حزب البر، للشاذلى (^٢).
_________
(^١) طبع في مصر سنة ١٣٢٦.
(^٢) طبع بمطبعة السعادة سنة ١٣٣٣ في ٧٨ صفحة باسم «تنبيه العارف البصير. على أسرار الحزب الكبير».
2 / 59
٢٢ - تكملة على شرح حزب البكري للفاكهى.
٢٣ - مقامة سماها إسعاف الأشراف.
٢٤ - أرجوزة في الفقه، نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسنى المقدسي.
٢٥ - حديقة الصفا، في والدي المصطفى. وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغى.
٢٦ - رسالة في طبقات الحفاظ.
٢٧ - رسالة في تحقيق قول أبى الحسن الشاذلي: «وليس من الكرم» الخ.
٢٨ - عقيلة الأتراب، في سند الطريقة والأحزاب، صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني.
٢٩ - التعليقة، على مسلسلات ابن عقيلة.
٣٠ - المنح العلية، في الطريقة النقشبندية.
٣١ - الانتصار، لوالدي النبي المختار.
٣٢ - ألفية السند ومناقب أصحاب الحديث.
٣٣ - كشف اللثام، عن آداب الإيمان والإسلام.
٣٤ - رفع الشكوى، لعالم السر والنجوى.
٣٥ - ترويح القلوب، بذكر ملوك بنى أيوب.
٣٦ - رفع الكلل، عن العلل.
٣٧ - مسامرة الحبيب. ذكره في تاج العروس في مادة (بزز) وقال:
«ومنية البز بالفتح: قرية بمصر، وقد دخلتها وألفت فيها مسامرة الحبيب في ليلة واحدة».
٣٨ - رسالة سماها قلنسوة التاج، ألفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بدير المقدسي، وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس، فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر، وذلك في سنة ٨٢ ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهورى ويكتب عليها تقريظا، ففعل ذلك وكتب يستجيزه، فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج (^١).
وقد لخص الجبرتى هذه الرسالة. وذكر ما يتعلق بها، ثم ذكر أن للزبيدى أشعارا كثيرة، روى بعضا منها.
_________
(^١) بقي عليه مما لم يذكره «كتاب نشوة الارتياح، في بيان حقيقة الميسر والقداح».
طبع في ليدن ١٣٠٣.
2 / 60
ثم روى خبر وفاته بعد إصابته بالطاعون، وأن زوجته أخفت خبره حتى استولت على معظم ما ترك من نفائس، ودفن بقبر أعده لنفسه بجانب زوجته.
ثم قال في نعته:
«وكان صفته ربعة نحيف البدن، ذهبي اللون، متناسب الأعضاء، معتدل اللحية، قد وخطه الشيب في أكثرها، مترفها في ملبسه، ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر. وكان لطيف الذات، حسن الصفات، بشوشا بسوما، وقورا محتشما، مستحضرا للنوادر والمناسبات، ذكيا لوذعيا، فطنا ألمعيا».
نسخة الأصل:
هي نسخة نفيسة بمكتبة الأخ المحدث الجليل الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر مصورة من نسخة بخط المؤلف نفسه، تكرم حفظه اللّه بإعارتي إياها لنشرها.
ولهذه المصورة أخت بدار الكتب المصرية برقم ٢٧٩٩ تاريخ، صور معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية نسخة منها في القلم ٤٠٤.
وهي تقع في ١٤ ورقة في كل صفحة منها ١٩ سطرا، وفي كل سطر نحو عشر كلمات مكتوبة بالخط الفارسي المعتاد. وبهامشها بعض إلحاقات وتصحيحات بقلم الزبيدي.
وفيما يلي نصها:
2 / 61
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وفضله على سائر الأجناس بالتمييز والتبيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أرشد موجوداته وأسعد مخلوقاته سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه وتابعيهم ما ترنمت البلابل بالألحان، وغردت سواجع الأطيار على فنن الأغصان.
وبعد فإنه لما كانت صناعة الخط أنفع بضاعة للكتاب، وأوسع كفاية للطلاب في هذا الباب، وأشرف وسيلة للتقريب، وألطف وصيلة لتوسيع الرزق والترحيب، كما قال الشاعر:
لا تعدُ عن حقِّ الكتابة إنَّها … مغنى الغنى ومفاتحُ الأرزاق
واخشَ اليراعةَ وارجها فهي التي … عرفت بنفث السُّمِّ والدِّرياق
وكان المتصف به جهينة الأخبار، وحقيبة الأسرار، وبحي العظماء، وكبير الندماء، وترجمان السلطان، وصندوق البيان، ألفت هذه الرّسالة مشتملة على فضيلة الخط والقلم، وما جاء فيهما من الآثار، وما للحكماء فيهما من الأسرار، وبيان من وضع الخط أولًا وألف الحروف وألبسها حلل التفصيل وأحلها في أحسن الظروف. ثم بيان الأجلة من الكتاب، والأعيان من أهل الفن بحسن النسق المستطاب.
وقد جعلتها هدية إلى خزانة من نبغ فيه واشتهر كاشتهار الشمس في رابعة النهار (^١)، وهذب قواعده وأتقن مراتبه بحسن الضبط والاعتبار، جمال هذا الفن الذي فاق فيه وبرع، وجمع بين المتانة والحسن ما لم يسبق به فللّه
_________
(^١) كذا جاءت «رابعة» بالباء واضحة. ولها وجهها.
2 / 62
ما جمع، فلو شاهده ابن هلال لأقر له بالإتقان، أو عاصره ياقوت لقال هذا إنسان عين الزمان، أو رآه الشّيخ (^١) لافتخر به في عصره، وأذعن أنه فريد مصره، المولي الكامل الماهر الكاتب، ذي الخط البديع المشرق كالكواكب، صاحب العرف الندي، الأمير حسن أفندي الملقب بالرشدي، جمل الله بجماله هذه الصناعة وأربابها، ويسّر له سبل الخيرات وفتح له أبوابها.
فخذها جريدة مفيدة للمتدرب الكاتب، وخريدة منجية للمتعلم عن المتاعب، وسفينة جارية على مقاصد المتأملين فيها من كل باب، ودفينة رزينة لمن يتعرض في اقتناء الدر من مناهج الصواب، جريدة شحنت مسكًا زواياها، وحقة ملئت درًا خباياها، أمليتها من غرائب بنات الأفكار، ونوادر نتائج ثمرات الأخيار.
وكلُّ سطرٍ من الياقوت زاد علًا … فلا تقيسوه بالمنحوت من حجر
وكسرتها على عشرة فصول وخاتمة، وسميتها: «حكمة الإشراق، إلى كتاب الآفاق». وعلى الله توكلي وبه أستعين، في أمور الدّنيا والدّين.
_________
(^١) يعنى الشيخ حمد الله ابن الشيخ مصطفى الأماسي.
2 / 63
فصل في ذكر من وضع الخط وأصله، ووصله وفصَّله
يقال: إن أول من وضع الخط والكتب كلها آدم ﵇ قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طين وطبخه، فلمّا أضلّ القوم الغرق أصاب كل قوم كتابهم.
وقيل: أول من وضعه أخنوخ، وهو إدريس ﵇.
وقيل إن نفيس (^١)، ونصر (^٢)، وتيما، ورومه، بنو إسماعيل، وضعوا كتابًا واحدًا وجعلوه سطرًا واحدا غير متفرق، موصول الحروف كلها، ثم فرقه نبت (^٣)، وهميسع وقيذار، وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه.
وأما الخط العربي فأول من وضعه وألف حروفه ستة أشخاص من طسم، كانوا نزولا عند عدنان بن أدد، وكانت أسماؤهم: أبجد هوز حطى كلمن سعفص قرشت، فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفًا ليست في أسمائهم ألحقوها بها، وسموها الروادف، وهي ثخذ ضظغ.
وقيل: أول من وضع الخط العربي مرامر بن مرة (^٤) وقيل، عامر بن جدرة - وقد ذكر كلّا منهما صاحب القاموس - وقيل أسلم بن سدرة، وهم نفر من
_________
(^١) تسميه التوراة: «نافيش». تكوين ٢٥: ١٥.
(^٢) كذا. وإنما هو «يطور». تكوين ٢٥: ١٥.
(^٣) هو «نبايوت». وهو بكر إسماعيل. تكوين ٢٥: ١٣.
(^٤) ويقال «ابن مروة». اللسان (مرر).
2 / 64
بولان رسموه أحرفًا مقطعة، ثم قاسوه على هجاء السريانية، فوضع مرامر صوره، وعامر أعجمه، وأسلم وصل وفصل.
وقال ابن خلكان (^١): والصحيح عند أهل العلم أن أول من خط هو مرامر بن مرة من أهل الأنبار، وقيل إنه من بني مرة. ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس. قال الأصمعي: ذكروا أن قريشًا سئلوا: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من الأنبار (^٢).
وقال هشام بن محمد بن السائب: تعلم بشر بن عبد الملك الكتابة من أهل الأنبار وخرج إلى مكة وتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية. تعلم (^٣) منه حرب، ومنه ابنه سفيان، ومنه ابن أخيه سيدنا معاوية ﵁، ثم انتشر في قريش، وهو الخط الكوفي الذي استنبطت منه الأقلام التي هي الآن.
وفيه كلام في الإعلام (^٤) للسهيلي، والمزهر للسيوطي، والأوليات للعسكري، وقد ذكرنا كلامهم في كتابنا «تاج العروس لشرح جواهر القاموس». فمن أراد الزيادة على ذلك فليراجعه.
_________
(^١) في الوفيات ١: ٣٤٦ في ترجمة علي بن هلال، المعروف بابن البواب.
(^٢) الذي في الوفيات: «فقالوا من الحيرة. وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة؟
فقالوا: من الأنبار».
(^٣) كذا. بدون واو قبلها.
(^٤) هو «التعريف والإعلام، فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام». وقد طبع في مصر بتصحيح محمود ربيع سنة ١٣٥٦. انظر منه ص ص ٤٠ - ٤١.
2 / 65
فصل في فضل الخط وما قيل فيه
جاء في تفسير قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ: انه الخط الحسن.
وعن ابن عباس ﵄ في قوله تعالى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: الخط.
ويروى في الخبر المأثور: من كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم فحسّنه أحسن اللّه إليه. كذا في منهاج الإصابة للزّفتاوى.
وفي شرعة الإسلام (^١): من كتب بسم الله الرحمن الرحيم فجوده غفر الله له.
وفي الجامع الصغير (^٢) من رواية سلمة (^٣): «الخطّ الحسنُ يزيد الحقَّ وضحا» وفيه أيضًا: «قيِّدوا العلم بالكتاب (^٤)»، قال شارحه المناوي (^٥): العلم يعقل ثم يحفظ، والنسيان كامن في القلب، فلخوف ذهاب العلم قيد بالكتابة.
وجاء في حديث آخر: «حق الوالد على ولدهِ أن يعلمه الكتابة والسِّباحة والرِّماية، وأن لا يرزقهُ إلا طيِّبًا (^٦)». وفي رواية أخرى: «حقّ الوالد على
_________
(^١) شرعة الإسلام، للإمام الواعظ محمد بن أبي بكر المعروف بإمام زاده الحنفي، المتوفى سنة ٥٧٣.
(^٢) الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١١.
(^٣) كذا بخطه. وفي الجامع الصغير ٤١٣٤ «أم سلمة». وأشار السيوطي إلى أنه حديث ضعيف. وروى الحديث منسوبا إلى علي في صبح الأعشى ٣: ٢.
(^٤) الجامع الصغير ٦١٦٧ عن أنس وابن عمرو. وأشار إلى أنه حديث صحيح.
(^٥) هو شمس الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف المناوي الشافعي المتوفى سنة ١٠٣٠.
خلاصة الأثر ٢: ٤١٢. وقد طبع شرحه «التيسير» ملخص شرحه الكبير «فيض القدير» في مجلدين ببولاق سنة ١٢٨٦.
(^٦) في الجامع الصغير ٣٧٤٢ من حديث أبي رافع، وقد أشار إلى أنه ضعيف.
2 / 66
ولده أن يحسِّن اسمه، ويزوِّجه إذا أدرك، ويعلِّمه الكتاب (^١)». قال الشارح:
يعني القرآن، ويحتمل إرادة الخط.
وفي الحديث أيضًا، قال ﷺ لزيد بن ثابت - وهو أحد كتابه كما سيأتي -: «إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيِّن السِّين فيه» (^٢).
وذكر صاحب الشرعة أيضًا أنه ﷺ قال لمعاوية ﵁ وهو يكتب بين يديه. «ألقِ الدَّواةَ، وحرِّف القلم، وانصب الباء، وفرِّق السين، ولا تعوِّرِ الميم، وحسِّن الله، ومدَّ الرَّحمن، وجوِّد الرحيم.
وقالوا: لما كانت الكتابة شريفة كان حسن الخط فيها فضيلة.
وقال المأمون: لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفخرناها بما لنا من أنواع.
الخط يقرأ بكل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد مع كل زمان.
وقال النظام: الخط أصل في الروح يظهر بآلة جسدانية (^٣).
وقال بعض الحكماء (^٤): الخط سمط الحكمة، بها (^٥) يفصّل شذورها وينتظم منثورها.
ويقال: قريش أهل الله، لأنهم كتبة حسنة (^٦).
وكان يقال: حسن الخط أحد اللسانين، كما قيل: قلّة العيال أحد اليسارين.
_________
(^١) في الجامع ٣٧٤٣ عن أبي هريرة. وذكر أنه ضعيف.
(^٢) حديث ضعيف، كما في الجامع الصغير ٨٣٥.
(^٣) صبح الأعشى: «الخط أصل الروح، له جسدانية في سائر الأعمال».
(^٤) في صبح الأعشى ٣: ٢ أنه «جعفر بن يحيى».
(^٥) كذا في الأصل. وفي صبح الأعشى: «وبه تفصل شذورها، وينتظم منثورها».
(^٦) كذا. وفي أدب الكتاب للصولى ٢٨: «وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال: «قريش أهل اللّه، وهم الكتبة الحسبة»: جمع كاتب وحاسب.
2 / 67
وقال بعض العلماء (^١): الخط كالروح في الجسد، فإذا كان الإنسان جميلًا وسيمًا حسن الهيئة كان في العيون أعظم، وفي النفوس أفخم، وبضد ذلك تسأمه النفوس. فكذلك الخط إذا كان حسن الوصف، مليح الرصف، مفتح العيون، أملس المتون، كثير الائتلاف، قليل الاختلاف، هشت إليه النفوس واشتهته الأرواح، حتى إن الإنسان ليقرؤه - وإن كان فيه كلام دنئ، ومعنى ردئ - مستزيدًا منه ولو كثر، من غير سأم يلحقه ولا ضجر. وإن كان الخط قبيحًا مجته الأفهام، ولفظته العيون والأفكار، وسئمه قارئه وإن كان فيه من الحكمة عجائبها، ومن الألفاظ غرائبها.
وقيل: إن وزن الخط مثل وزن القراءة، فأجود الخط أبينه، كما أن أجود القراءة أبينها (^٢).
فحرفة أصول الخط وهندسته، وكيفيته وحقيقته، أشرف من عمله تقليدًا من غير تحقيق.
قيل: وصف أحمد بن إسماعيل خطًا فقال: لو كان نباتًا لكان زهرًا، ولو كان معدنًا لكان تبرا، أو مذاقًا لكان حلوًا، أو شرابًا لكان صفوًا (^٣).
وقال عمرو بن مسعدة: الخطوط رياض العلوم، وهي صورة روحها البيان، وبدنها السرعة، وقدمها التسوية، وجوارحها معرفة الفصول، وتصنيفها كتصنيف النغم واللّحون.
_________
(^١) انظر صبح الأعشى ٣: ٢٠ - ٢١.
(^٢) صبح الأعشى ٣: ٢١.
(^٣) أدب الكتاب للصولى ٤٥.
2 / 68