وكثيرا ما كان فهد ينفق على لباسه الخارجي كل ما معه في حين أن معيشته الداخلية لم تكن موازية للخارجية منها، فبينا تراه كأنجال الأمراء محيا ولباسا، إذا هو ساكن غرفة مفروشة ضيقة تحمل سريره وقدميه فقط وهو واقف، وبينا ترى طقمه ظريفا وقميصه حريريا وعقدة رقبته تماثل جراباته لونا يكون المسكين بلا «أندروير»، أو أنه بمقتضى ما يظهر فيه من حسن الهندام يظن رائيه أنه يعيش في أحسن نزل بأميركا، ولكنه في الحقيقة كان غذاؤه لا يزيد ثمنه على ثلاثين سنتا. وهي حالة كانت تعذب فؤاد فهد وتضنيه، وتحمله على المواظبة في عمله، ولكنه لم يصل إلى مرماه.
وذلك أنه تمكن في السنوات الأولى من أن يملأ صفحات كتابه اليومي من عناوين أحسن العائلات الغنية، وقد كان مرضيا عنه ومقربا منها محبوبا من أفرادها، ولا سيما السيدات اللواتي أحببن منه جمال الخلق، فكن يشترين من بضائعه ويعطينه رسائل توصية إلى صديقاتهن في البلاد الأخرى.
وانتهى الأمر بأن فهدا تزوج، وقد تناولت صحافة البلاد أمر زواجه الغريب؛ فإنه وهو شاب على ما وصف به آنفا قد اختار لنفسه عروسا متقدمة في سنها، تزيده عمرا لا أقل من ثلاثين سنة؛ أي إن أصغر أبنائها يزيده بضع سنوات، وهي من عائلة معروفة في أميركا، وأرملة أحد مشاهير الماليين. وقد عقب هذا الزواج الغريب قيام عائلتها عليها وعلى زوجها، فأوصلوا الأمر إلى المحاكم، مدعين عليها بأنها خرفة، ولكنهم فشلوا بحملاتهم عليها وبقيت زوجة فهد، وصارت بحق الشريعة مسز ضاهر امرأة الشاب السوري الظريف فهد الضاهر.
أما السوريون؛ فقد تناولت ألسنتهم تلك الحادثة متعجبين، وقد ذهبوا مذاهب شتى بتفسيرها وتحبيذها وانتقادها، إلا أنهم بعد أيام قد أزاحوها من رءوسهم، ولم يعد فهد الضاهر وزوجته يملآن أدمغتهم، وصار المذكور عندهم معدودا من الأغنياء؛ لأن ثروة زوجته تبلغ الملايين.
ولا مراء بأن فهدا قد ضحى شيئا من نفسه ليخلص نفسه من عامليها المعذبين: عامل الطموح إلى المعيشة المرفهة، وعامل البنوة وما عليها من الواجبات لدى أب مريض مسكين كل أمله في الحياة نجاح ولده الأكبر فهد الضاهر.
أما فهد الضاهر اليوم، فهو مطلق لا زوجة له ولا ثروة كبيرة؛ وذلك أنه بعدما صرف سنتين مع زوجته المتقدمة في السن لم يعد في قوس صبره منزع، فثار على شريكة حياته وساعده بثورته هذه بعض أنسبائها وأحد أبنائها، فرضوه ببعض المال ليتخلص من زوجته الشرعية، وبعد مرافعات انتهى الأمر بطلاقه منها أم بطلاقها منه.
وقد بلغني ما انتهى إليه أمر فهد المذكور فعجبت لانسحابه من نصف الطريق، بالرغم من أنه استعد لأن يعبره كله، وقد أحببت الوقوف على تفاصيل المسألة، لا لأعرف ميله في تزوجه من تلك السيدة الغنية، بل لأفهم لماذا لم يبق زوجها حتى تموت، ويرث بعدها ملايينها.
اجتمعت به فجاذبته الحديث عما جرى له، فقال لي إنه اضطر بالزواج؛ لأنه قال في نفسه إن تلك السيدة قاطعة السبعين من عمرها، فمهما يطل عمرها لا يقطع الثمانين إن لم يكن أقل، ولكنه أخيرا تيقن أن زوجته في الحقيقة أصغر عمرا مما ظن؛ فإنها لم تقطع الستين؛ ولهذا قال في نفسه من أول الطريق ولا لآخرها.
تمثال الحرية
ما كاد أبوا نخلة المعصوب يفرحان به، أي يزوجانه ببنت حلال كما يقولون إلا ودخل في عقله ضرورة الذهاب إلى أميركا لبناء المستقبل، وبالرغم من بكاء أبويه وإلحاحهما عليه بالبقاء ودع الأهل والخلان، وسار بعروسه قاصدا بلاد أميركا كعبة المرتزقين.
Bilinmeyen sayfa