والحق أن المستر ديب أبو غانم كتب إلى صاحب جريدة السناء يخبره أنه واقف معه، وأنه يود لو أنه يستطيع الكتابة ليسلق ذلك الصحافي العدو سلقة قوية. فما كان من صاحب جريدة السناء إلا أنه حبر مقالة ترقص لها عجائز وائل، وأمضاها ديب أبو غانم، فكان ما كان من فرح صاحبنا ديب.
وبلغ مسمع نخلة الطبطابي ما كتبه صديقه بالأمس ديب أبو غانم عدوه اليوم في جريدة السناء، فاحتدم غيظا، وتآكلت كبده نار الحسد أولا، ثم لعب بدماغه ذلك المكروب فترك عمله وطاف على السوريين يسألهم ماذا قرءوا بإمضاء ديب، وحاول إيجاد عدد من «السناء» فلم يفلح؛ لأن ديب كان المشترك الوحيد فيها.
ظل نخلة تأبى عيناه المنام كل الليل، فكان ينهض من سريره، طالبا لنار قلبه مخرجا إلى الناحية التي يريدها لينتقم من جاره، إلى أن هونها الله عليه فقال في نفسه: عجبا! إني أعرف أن ديبا يهجئ الكلام في القراءة، فكيف كتب مقالة في الجريدة؟! ثم قال إنه إذا كان ديب يستطيع تحبير المقالات فنخلة الطبطابي - أي هو نفسه - يمكنه أن يؤلف مجلدا، وإذا كان من أغلاط فصاحب الجريدة يصلحها له، وكل من سار على الدرب وصل.
أخذ نخلة بيمناه قلما وكتب رسالة طويلة عريضة بخطوط تشبه خطوط الأنهر على الخريطات، وأشبعها سبا وشتما بصاحب جريدة السناء ومكاتبها ديب أبو غانم، ولما أنهاها تنفس الصعداء، وفرح فرحا لا مزيد عليه، ثم وضعها بظرف وسيرها بالبريد إلى جريدة منار الأمة، وسارت على الطائر الميمون فوصلت إدارة الجريدة حيث هلل لها القوم ورحبوا ترحيبا.
ولا حاجة إلى أن نقول إن نخلة ظل خمسة أيام يسائل نفسه أتنشر منار الأمة له رسالته أم لا؟ حتى جاء عددها، وما كاد يقرأ إمضاءه تحت صفحة بكاملها حتى أصبح كالمأخوذ من شدة فرحه، فكانت خطواته تنقله على الأرض كالحجل الماشي يدخل بيتا ويخرج منه إلى آخر، حتى أدخل فحوى رسالته إلى رأس كل سوري في ذلك البلد.
وامتد خلاف نخلة وديب إلى الجالية السورية عموما في تلك المدينة، فانشطر القوم فيها شطرين، هذا يلف لف صاحب السناء وذاك يلف لف صاحب منار الأمة، وصارت الاجتماعات السورية في المنازل والحوانيت أشبه ببيت البورصة؛ الصياح سلطان، والخبط بالأيدي قائد فرسان، والسباب والشتائم جيوش جرارة؛ حتى اضطر الجيران الأجانب إلى رفع تظلمهم إلى البوليس.
وظل القوم على هذه الحال حتى تأصلت العداوة بين الحزبين ونتج عن ذلك انتشار الجريدتين في البلد، حتى إنه لم يكن من سوري يعرف القراءة أو لا يعرفها إلا وطلب الجريدة التي تحزب لها مشتركا إما بعدد أو بأكثر. ومضت الشهور وكتابات ديب تصارع كتابات نخلة على صفحات الجرائد إلى أن تلاشت الأسباب.
وذلك أن عقلاء القوم في نيويورك أو الذين يخافون على جلودهم من سياط أصحاب الجرائد اجتمعوا في أحد الصوالين فقرروا مصالحة الصحافيين، وبأحبولة سياسية تمكنوا من الجمع بين الضدين، فصالحوهما وكبسوا يد كل منهم بتشك مليح.
ذكرت الجريدتان الحادثة في الصوالين، وكل منهما أشارت إلى أن العداء منها ضد الرصيفة لم يكن إلا نتيجة سوء فهم، وأن المناظرة المنزهة عن الشخصيات لا بد منها؛ ولهذا فهي لا تحمل حقدا لجارتها ولا لصاحبها، ولما كان كل سبب قد زال فإنها تصافح رصيفتها مصافحة أخوية للنهوض بهذه النزالة المحبوبة إلى ما يؤمل لها من ذروات التقدم والارتقاء.
ولا تسل أيها القارئ كم أحدث هذا الخبر من الاشمئزاز في نفس كل من ديب ونخلة وفي نفوس كل السوريين في البلد الذي كانا مقيمين فيه، وقد دهش القوم لهذا الصلح الذي جاء بغير أوانه، فأفسد عليهم اللذة التي كانوا يتناولونها من مطالعة الصحف العربية.
Bilinmeyen sayfa