وبوجه الإجمال فإن الأجيال الوسطى - كما قال أرنست رنان - قد اشتهر أهلها بالحدة وعدم التروي، ولم يكن عندهم درجة متوسطة لأمر من الأمور، فكان محمد في عرفهم خداعا ماكرا متخذا مهنة سرقة الجمال، وقالوا عنه بأنه كاردينال سعى للحصول على وظيفة البابوية فلم يفز بها؛ فوضع ديانة جديدة؛ لكي ينتقم من زملائه الكرادلة، وما ضارع ذلك من الأوصاف المجردة عن الإنصاف ولا تنطبق على العقل السليم،
3
تمر الأجيال، وتنقضي السنون؛ ولا تزال سفاسف الناس وترهاتهم وأفكارهم السخيفة الواهية تضغط على العقول النيرة كما كانت في العصور المظلمة، إن بيبلياندر وهوتينبجر وماراجي وغيرهم أخذوا يدرسون القرآن درسا مدققا على قصد تقويض أركانه، وأما ليبنتس وشكسبير فإنهما تكلما كثيرا عن نبي المسلمين بقصد إضحاك الجمهور وتسليتهم، وأما فولتير فإنه التمس الغفران من البابا بواسطة تقديمه له رسالة الطعن المشهورة التي عنوانها «محمد»، وقد نسب بها إلى النبي محمد أمورا منكرة لم تخطر بباله، ومنافية على خط مستقيم لروح تعليمه ومبادئه.
ثم إن الجيل التاسع عشر المسمى بحق جيل العلم والانتقاد الصحيح لم يخل من مثل هذه المختلقات والمفاسد التي جاهر بها بعض قادة الأفكار وأصحاب العقول الممتازة؛ فقد وضع العالم الإنكليزي الشهير كارلوس فورستير عام 1829 مجلدين ضخمين وقعا موقع الاستحسان والاحترام في نفوس رجال الدين؛ لأنه برهن فيهما بالأدلة الكثيرة على أن محمدا هو قرن الكبش الصغير الوارد ذكره في الإصحاح الثامن من نبوة دانيال، وأن قرن الكبش الكبير هو البابا،
4
ولكن النصف الثاني من الجيل التاسع عشر الذي أشرقت فيه أشعة العلم، وأماطت النقاب عن الشرق وتاريخه وحياته؛ وذلك أنه عندما ازدادت المواصلات بين الشرق والغرب بواسطة انتشار السكك الحديدية، وازداد توافد الغربيين إلى الشرق؛ حيث دفعتهم المصالح التجارية والصناعية إلى الضرب في طول البلاد وعرضها؛ فقاد العلم وحب الاستقرار علماءهم وأصحاب الأفكار الفياضة منهم إلى درس أخلاق وعادات أهل الشرق المتدينين بغير دينهم، ودرس أحوال البلاد في نفس البلاد، ولم يقفوا عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى مطابقة الحاضر بالغابر مطابقة مبنية على العلم والتحقيق والكتابات الماضية، وأبدوا في خلال ملاحظاتهم على الأدوار العديدة التي تقلبت فيها الأديان منذ ظهورها وما تحملته من الانقلاب والتغيير، ولم يميلوا في عملهم هذا ودرسهم مع الأهواء؛ بل دونوا الحقيقة مجردة عن كل غرض فاسد، وميل منحرف، وهذا يناقض حالة العلماء في الأجيال الماضية، الذين غشى التعصب الديني أبصارهم، وأسدل حجابا كثيفا على أفكارهم؛ فأعماهم عن المجاهرة بالحقيقة، وقادهم إلى الابتعاد عن جادة الحق والإنصاف، وقد تبعهم في ذلك سواد الناس الأعظم الذين لزعمهم بأنهم حاملو الحق فإنهم لا يستطيعون احتمال معتقدات غيرهم من الناس، والوقوف حيالهم موقف السكينة والرضى، بل يسفهونها، ويذهبون في انتقادها كل مذهب.
أما في أيامنا الحاضرة التي أصبحت فيها الأديان مادة للمباحث العقلية فقط؛ لأنها فقدت مادة التعلق بها؛ ذلك التعلق الديني الشديد، ولا يهتم بها الناس الآن إلا لأنها من مظاهرات نفس الإنسان، ولم يعد الناس يتحاورون بشأنها، ولا يوجه كل صاحب دين إلى الأديان الأخرى أنواع السباب والمطاعن والتهكم، وأصبح عمل المستشرق الذي يهتم بأمور الأديان والوقوف على تاريخ الشرق يخرج من تحت ذراعه؛ كتحليل الكيماوي الذي يخرج من معمله، وتراه - أي المستشرق - يهتم بجميع العوارض والمظاهر اهتماما واحدا دون أن يفضل أمرا منها على الآخر، وإنما ينشرح صدره وتطيب نفسه لدى اطلاعه ووقوفه على مبتكرات فكر الإنسان في كل آن وزمان، وإظهار قواه الفياضة، ولذلك فلا عجب إذا شاهدنا في هذا العصر الانقلاب العظيم الشأن الذي أحدثه درس أحوال الشرق؛ فإنه غير نظر العلماء السابق بشأن الأديان المختلفة وشؤون الشرق على العموم؛ لا سيما بشأن النبي محمد وتعاليمه، فأصبح محمد في عرفهم ونظرهم ليس صورة للصنم ماهوم، ولا هو ضد المسيح المقيد في جهنم، ولا قرن الكبش الصغير الوارد ذكره في نبوة دانيال؛ بل هو ذلك المصلح العظيم الذي هز العالم بتعاليمه ومبادئه وأفكاره السامية، وأنه وضع أساس تعليمه؛ ليس لأنه كان كاردينالا ولم يفز بوظيفة البابوية؛ بل لأن فؤاده كان يلتهب غيرة على الحق الذي شوهت وجهه الشكوك أو الاختلافات التي دخلت عليه، ذلك الحق الذي نادى به في العالم ذلك «النبي العظيم» قبل ظهوره بستة قرون، ولم يدرك جوهره تلاميذه النشيطون الغيورون، بل ذهبوا في تأويله كل مذهب عندما علموا الناس به؛ لا سيما في البلاد العربية، وقد ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على ذلك بأجلى بيان، وتأملوا فقط ذلك الشكران الجميل الذي جاهر به نبي المسلمين بشأن الصابئين الذين ظنوا لأول وهلة أنه ينادي بتعليم المسيح.
ثم إن آيات القرآن النازلة بشأن آلام عيسى وولادته، وذكر مريم والدة روح الله، فإنك ترى التأثر ظاهرا من كل كلمة منها، مقرونا بذلك بمزيد التعظيم والاحترام، وفوق هذا وذاك فإن المسلمين يعظمون مريم أكثر من بعض الطوائف النصرانية؛ فهي في عرف المسلمين عذراء طاهرة صالحة قد اصطفاها وشرفها رب العالمين، والنبي يظهر لها احتراما دينيا يفوق الوصف؛ حتى إنه عندما أراد أن يمتدح ابنته فاطمة قال: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران.» ثم إن النبي أدرك تعليم عيسى كما هو، وجاءت الديانة المحمدية مطابقة لها، ونفت جميع المعتقدات الباطلة التي دخلت عليها وشوهت جوهرها، وورد في أمكنة كثيرة من القرآن ما مؤداه: وإني جئت لإثبات تعليم عيسى الحقيقي.
5
قال المستشرق الإنجليزي الشهير ماكس موللر: سوف يعلم المسيحيون بدهش عظيم أن محمدا أحد معضدي يسوع، وأن الديانة المحمدية ما هي إلا شيعة من شيع الديانة النصرانية، وإذ ذاك يندهش المسلمون والمسيحيون معا بسبب ما جاء في تاريخهما من الخصام والشقاق والعداء بسبب الدين،
Bilinmeyen sayfa