ورفعت العريضة الموقعة من أهل الحي إلى مقام القاضي العادل وعليها توقيع ثلاثين رجلا فقال القاضي: ولكن جاءني وفد يقارب الخمسين وجميعهم شهدوا بحسن سيرة المرأة فلا تظلموها.
فقال الحاجب: وبقي ثلاثة أربعة عندي فلم يؤدوا شهادتهم.
تلك هي حالتنا. ننشأ على الاعتقاد بأن الدنيا واسطة فنلجأ إليها في كل موقف، وشعارنا دائما: الغاية تبرر الواسطة. كانت الأستانة تعين متصرفا للبنان كل خمس سنوات، فتحمي سوق الوسائط في لبنان. تهبط الوجوه والأعيان من طلاب الوظائف إلى بيروت فتراهم مصطفين على أبواب القنصليات كعصفور العابور على قضيب الدبق، ونبدأ الاتصالات بالسفراء لعزل فلان وتنصيب فلان، فالبطرك الفلاني يوصي بفلان وهذا المطران يريد غيره، ويجيء المتصرف فتعفر الجباه على أعتابه والقلوب تدق، ثم يبدأ العزل والتعيين وهو في البحر إذ لم يكن في ذلك العهد رفع حصانة، فالقانون في فم المتصرف.
وإذا كان حاكم لبنان غير أهوج مثل مظفر باشا تأنى قليلا، وطمع في غلاء الأسعار وكثرة الهدايا، فالوظيفة في ذلك الزمان كانت أقصى ما يطمح إليه أبناء البيوتات في لبنان. يتنازعون عليها وينفقون بغير حساب، ومن فاز بها كان صاحب المقام الرفيع. وهكذا طارت العقارات عقارا إثر عقار، وصار الأولون آخرين والآخرون أولين. كانت الوظيفة في ذلك الزمان تأخذ ولا تعطي، ولا تفجر الثروة أنهارا.
حكي أن الشيخ رشيد الخازن أوصت به السفارة الفرنسية في إسطمبول ليعود إلى قائمقاميته فخف إلى البحر ليرحب بقدوم المتصرف الجديد، وكان ذاك المتصرف خفيف الرأس ابن حلال، فحين عرفوه بالشيخ دق على قفاه، أي على جيبة بنطلونه الورائية وقال له: طمن بالك يا شيخ رشيد، أنت هنا.
فانصرف الشيخ مطمئنا مرتاح البال. وانتظر حينا، ثم عاد ليسمع المعزوفة الأولى أي الدق على القفا، وظل يروح ويجيء. وأخيرا عاد ليقدم الدولة المتصرف إصبعا ظنه إصبعا ذهبيا لأنه ألف رؤية مثله، فانتفض المتصرف وقال: ما هذا يا شيخ رشيد؟! فقال الشيخ: هذا إصبع شربة ملح إنكليزي يا أفندينا حتى تخرجني من ذلك الموضع.
وإذا كنا هكذا نشأنا منذ قرون فهل ينتظر منا العدول عن الواسطة في جميع أعمالنا؟ فنحن متكلون على الواسطة والشفاعة منذ وجدنا، وقد كان القدماء يفرقون بين شفيع وشفيع، فهناك الذي لا ترد شفاعته، بينما شفاعة غيره لا تقبل ولذلك قالوا:
ليس الشفيع الذي يأتيك متزرا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فإذا سألت واحدا عزل لارتكاب أو اختلاس، ثم عاد مكرما وارتقى درجات: كيف عدت يا هذا؟! الحمد لله على السلامة. أجابك بكل رباطة جأش ووقاحة: كانت الواسطة قوية جدا.
Bilinmeyen sayfa