لم يخيب «عمار» ظني بعد كل شيء.
وتذكرت عبارة الحقوقية الأمريكية جلوريا ستاينم «الحقيقة ستحررك، حتى لو أزعجتك في بادئ الأمر». أعتقد أن المقولة تنطبق على كلينا - أنا وإبراهيم - في هذا الموقف.
وقبل أن أنصرف، سألته: «لماذا حكيت لي كل هذا».
برغم الظلام الدامس استطعت أن أرى كمية الألم التي كانت ترتسم على وجهه لحظتها. عيناه تتلألآن بالدموع (في الواقع هو لم يكف عن البكاء منذ ابتدأت الجلسة)، وتتسع طاقتي أنفه باستمرار، كأنه على وشك النحيب.
عرفت أنه يقاسي جدا. هذا شخص عانى كثيرا، وهو يتقلب في فراشه ليلا.
إن للضمير قدرة هائلة على المحاكمة والإدانة والعقاب. قاض يقظ يراقب أفكارك وعواطفك، سكناتك وخلجاتك، وما تسول به نفسك، ويجلدك بلا رحمة، حتى إن البعض كان يفضل الهروب منه بالانتحار، كما كنا نسمع أحيانا عن قصص الجنود العائدين من مناطق الحروب. «الأنا العليا» المثالية عندما تتصادم مع «الهو» العابث، تنتج صراعا ملحميا جديرا بالأساطير.
قال بصوت متهدج جدير بتلك الملامح: «لقد كان صديقي الوحيد، كان أقرب للأخ من الصديق، وقد مات بسببي؛ بسبب جبني ووشايتي. حاولت أن أتناسى ما حصل، لكن زيارتك الأخيرة لي أعادت لي كل شيء ، لم أستطع الاستمرار، ضميري يقتلني. لم أعد أستطيع النوم؛ حتى لا أراه في أحلامي مجددا، لم أعد أستطيع الاستيقاظ ؛ حتى لا أفكر فيه، أتمنى أن يسامحني أينما كان.»
دعيني يا سيدتي أشرح لك بعض خيوط الأحجية المعلقة، قبل أن يدهمنا الزمن ونتفرق، وقد حانت ساعة الفراق.
أعرف الآن أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بعد مكالمة الهاتف الأخيرة تلك، أعتقد أنهم ضبطوه متلبسا بالهاتف؛ مما جعلهم يمعنون في تعذيبه أكثر، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين أيديهم بعدها بقليل.
لا أعرف يقينا كيف تحصل على الهاتف المحمول في وضعه ذلك، لكنني لا أحتاج لكثير من الذكاء أو الخيال؛ لأعرف أنها كانت محاولة المساعدة التي قدمها له ذلك الحارس النحيل طويل القامة قليلا، ذو الملامح الطفولية الوادعة، الذي كان يتعاطف معه في محنته.
Bilinmeyen sayfa