هذه القيم الجديدة تدور كلها حول محور واحد، هو المحور الجمالي. فالحب والسلام والهدوء والتوافق، كل هذه وسائل لتحقيق أعظم قدر من المتعة الجمالية للإنسان. وتصور الإيروس ذاته؛ أي القوة الحيوية لدى الإنسان، يرتبط أوثق الارتباط بالنظرة الجمالية إلى الحياة. وفي هذا الجانب الحاسم من تفكير ماركيوز كان تأثره واضحا كل الوضوح بماركس الشاب (إلى جانب العنصر الفرويدي بطبيعة الحال)؛ فالسعي إلى مجتمع تصبح فيه الحاجات المادية للإنسان ميسرة، وتقل فيه مشقة العمل إلى أدنى حد، هو خطوة لا بد أن يتبعها غاية عليا، هي اهتداء الإنسان إلى ذاته من خلال القيم الجمالية؛ أي أن النشاط الجمالي سيصبح في هذه الحالة هو التعبير الحقيقي، الحر، عن ماهية الإنسان.
لقد دأبت البشرية، منذ عهد «أرسطو»، على أن تعرف الإنسان بأنه حيوان عاقل أو ناطق، وبلغ هذا الاتجاه قمته، من جهة، في عصر التصنيع الرأسمالي، بما يفترضه من ترشيد عقلاني تام لكافة جوانب نشاط المجتمع، ومن جهة أخرى في تأكيد الماركسية الناضجة لدور العقل كأساس لبناء المجتمع الجديد. ولكن ماركيوز يؤمن إيمانا عميقا بأن الإنسان إلى جانب كونه عاقلا، هو أيضا كائن خيالي، بل إن حساسية الإنسان تتجه إلى تأكيد دور الخيال في حياته، والتمرد على القمع والطغيان الذي يمارسه العقل. وفي الإنسان الجديد يقترن التحرر دائما بإعلاء دور الخيال الذي يقوم بالتوسط بين الملكات العقلية والحاجات الحسية.
2
إن الإنسان باختصار، كائن جمالي، بشرط أن تفهم هذه الصفة بمعنى يقترب من اشتقاقها الأصلي في اللغة اليونانية؛ أي بمعنى اتجاه الإنسان إلى الوعي الحسي بنفسه وبالعالم في توافق.
وهكذا يظهر ماركيوز هنا على أنه مفكر آخر من دعاة «العودة إلى الطبيعة»، ومن أنصار رد اعتبار الحب والخيال والعاطفة إزاء طغيان العقل. والفارق الوحيد بين دعوته إلى اتخاذ القيم الجمالية هدفا أسمى للحياة الخالية من الكبت، وبين دعوة أنصار العودة إلى الطبيعة التقليديين، هو أن هؤلاء الأخيرين يحلمون بالطبيعة البسيطة الساذجة، والبدائية في بعض الأحيان، على حين أن نزعة ماركيوز الطبيعية ملائمة لعصر التكنولوجيا الرفيعة. والواقع أن نزعات العودة إلى الطبيعة كانت، في كل العصور، رد فعل ساخطا على المجتمع القائم، وكانت تتشكل وفقا لطبيعة هذا المجتمع. ومن هنا فإن هذه النزعة قد اتخذت عند ماركيوز شكلا جماليا حسيا، يقوم على أساس الوفرة التي يحققها مجتمع شيوعي (بالمعنى العام)، يسوده شعار «من كل حسب قدراته، ولكل حسب حاجته». ووسيلة استعادة الوحدة الأصلية المفقودة بين الطبيعة والإنسان، هي سيادة مبدأ اللذة، وسيطرة القيم الجمالية.
ومن الواضح أن ماركيوز يجعل للفن، في نظرته العامة إلى الجديد، دورا أساسيا، بل إن الثورة التي يدعو إليها قد لا تكون في صميمها إلا ثورة جمالية. مثل هذه المكانة الخاصة التي يحتلها الفن في تفكيره، تجعله جديرا بوقفة نعرض فيها، بإيجاز، لتصوره العام للفن. (ج) الفن والثورة
الفن في صميمه احتجاج على الواقع القائم، تلك هي ماهية الفن عند ماركيوز. ومعنى ذلك أن معارضة الاضطهاد هي المقياس الذي نميز به الفن الصحيح من الفن الزائف. وإذا كان تاريخ البشرية حتى الآن، هو تاريخ الاضطهاد، فإن الفن قد أخذ على عاتقه أن يقاوم هذا التاريخ؛ ذلك لأن الفن يوحي بحقيقة خاضعة لقوانين مخالفة للقوانين القائمة؛ مثال ذلك أن قوانين الصور أو الشكل تخلق حقيقة مختلفة، هي في الواقع نفي للحقيقة التي نعرفها، حتى عندما يكون هدف الفن هو تصوير هذه الحقيقة ذاتها.
3
ولو طبقنا ذلك الحكم على الفنون الخاصة لظهرت لنا طبيعتها النافية أو الرافضة بوضوح. ففي الفن المسرحي يتحطم التوحيد بين المشاهد وبين العالم، وتقوم مسافة تسمح باستعادة الحقيقة الأصلية للعالم، ويهتز مركز الأشياء اليومية من حيث هي أشياء مسلم بها، ويتهيأ الجو لتصور العالم من خلال روح السلب التي يتعين بعد ذلك تجاوزها. وفي الشعر يتحدث الشاعر، في كثير من الأحيان، عن تلك الأشياء الغائبة التي تجوس مع ذلك العالم وتسري فيه. وهكذا فإن الشاعر، إذ يجعل الغائب حاضرا، يمارس نوعا من نفي النفي، شأنه شأن الفكر في مساره، ويهيئ الطريق بدوره «للرفض الأعظم». هذه الاتجاهات تتجلى بوجه خاص عند رامبو، وفي الدادية والسيريالية، وهي اتجاهات أصبح الأدب فيها يرفض ذلك التركيب اللغوي الذي ظل طوال التاريخ يربط بين اللغة الفنية واللغة العادية. وبذلك يعمل الشعر على تقويض العالم وخلق تجربة جديدة، غير مألوفة، تؤدي إلى إقامة علاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة.
على أن الفن المرتبط بالأيديولوجيات المتصارعة حاليا هو أقرب إلى الزيف منه إلى الفن الصحيح؛ ففي النظام السوفيتي يقوم الفن بتصوير الواقع محاكيا للطبيعة
Bilinmeyen sayfa