automation
لا يعود العامل هو ذلك الإنسان المجهد الكادح الذي تحدث عنه ماركس، ولا يعود الألم الجسمي والشقاء جزءا لا يتجزأ من حياته، ومن ثم كان من الضروري أن تقل، ثم تختفي، أسباب تمرده.
فإذا أضفنا إلى ذلك قدرة التكنولوجيا الحديثة على الإنتاج الوفير، الذي يعود جزء منه إلى العمال في صورة مستوى معيشة مرتفع يساعد بدوره على دعم النظام الرأسمالي؛ لأن مظهر ارتفاع مستوى المعيشة هو أن يشتري العمال منتجات المجتمع الرأسمالي ويكونوا أداة من أدوات تصريفها - أمكننا عندئذ أن نفهم كيف أن العمال أصبحوا، في المجتمع الصناعي المتقدم، وسيلة لدعم النظام القائم، وأصبحت عملية الإنتاج، التي ترفع مستوى معيشتهم، هي نفسها العملية التي تعمل على زيادة اندماجهم في هذا النظام، وبالتالي على زيادة خضوعهم له. وبالاختصار، فقد أصبحت للعمال في مثل هذا المجتمع مصلحة في بقاء النظام وازدهاره، ومن ثم فقد تم - بطريقة سلمية بحتة - تقليم أظافرهم الثورية، والقضاء على روح التمرد والثورة فيهم.
هذا على المستوى الواعي، أما على المستوى غير الواعي، فإن هذه التكنولوجيا الحديثة ذاتها تسهم في إنتاج نوع خاص من الثقافة يعمل بدوره على توطيد أركان النظام القائم، إذ ينشر بين الطبقة العاملة قيم الرضوخ والاستسلام، ويقدم إليهم في أوقات فراغهم ترويحا سطحيا تتغلغل فيه المعاني التخديرية التي يريد النظام أن يبثها في النفوس، مما يترتب عليه إضعاف موقف الرفض أو السلب لدى العامل، بحيث يختفي نهائيا عن الطبقة العاملة مظهرها القديم الذي كانت تعد فيه «النقيض الحي» للمجتمع القائم. (ب) نقد المجتمع السوفيتي
يكشف تحليل ماركيوز للمجتمع الرأسمالي، بوضوح، عن اعتقاده باستحالة حدوث تغيير ثوري في هذا المجتمع على يد القوى الراهنة التي تسيطر على هذا المجتمع. وهكذا كتب على الإنسان العامل في هذا المجتمع أن يظل عبدا راضيا، مرتاحا، يعمل - بوعي أو بلا وعي - على إحكام سيطرة القائمين باستعباده.
ولقد كانت التجربة السوفيتية، في العقد الثاني من هذا القرن، مبعث الأمل لدى الكثيرين في أن يظهر نظام آخر تختفي فيه نهائيا مظاهر الاستغلال، وتزول فيه أساليب السيطرة المادية والمعنوية على الإنسان، وتتحقق فيه - لأول مرة - حرية حقيقية للبشر، ولكن ماركيوز يعتقد أن هذه التجربة لم تحقق شيئا من هذه الأهداف وإنها، على العكس مما تدعي، قد تنكرت للمبادئ الأصلية التي قامت من أجل وضعها موضع التنفيذ.
ومن الجدير بالملاحظة أن ماركيوز، في نقده للتجربة السوفيتية، يحرص على أن يؤكد أنه لا ينقد التجربة الاشتراكية في ذاتها؛ لأنه يعتقد أنه اشتراكي على طريقته الخاصة، بل إنه لا يوجه هجومه إلى الماركسية، وإنما يهاجم شكلا معينا من أشكالها، هو الماركسية السوفيتية على التخصيص (باعتبارها أقدم التجارب الاشتراكية وأشدها رسوخا، وبوصفها القوة الكبرى المقابلة للرأسمالية المتقدمة كما تتمثل في الولايات المتحدة)؛ ذلك لأن لدى ماركيوز تفسيره الخاص للماركسية، الذي يؤمن بأن التطبيق السوفيتي قد أدى إلى تشويهه. ومن هنا كنا نجد في كتاباته، ولا سيما كتاب «الماركسية السوفيتية» ميلا إلى المقارنة الدائمة بين التجربة الأمريكية والتجربة السوفيتية، وإصرارا على تأكيد وجود أوجه شبه قوية بين النظامين، على الرغم مما بينهما من تضاد ظاهري، ومحاولة ملحة لإثبات أن «الجنة السوفيتية» ليست على الإطلاق أفضل من «الجحيم الأمريكي الرأسمالي» بل إنها تتضمن كل عناصر القمع والاستبداد والتحكم في الإنسان، التي ينطوي عليها المجتمع الرأسمالي (مضافا إليها - بالطبع - أن الاستبداد في حالة هذا المجتمع الأخير يمارس في إطار ظاهري مخفف من الحريات الليبرالية، ومن خلال إغراق الطبقة الثورية المحتملة في النعم الاستهلاكية التي يفتقر إليها، في معظم الأحيان، من يعيشون في ظل النظام السوفيتي).
إن النظام السوفيتي كان يستهدف من الثورة إعادة تشكيل المجتمع وفقا لمقتضيات العقل، وإزالة التناقض بين الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج (وهو طابع لا بد منه لأن عملية الإنتاج تفترض بطبيعتها اشتراك صاحب العمل بآلاته والعامل بقوته والمجتمع بأسره في انتفاعه من الناتج) والطابع الفردي لملكية الثروة - وتلك هي الأهداف الفعلية للنظرية الماركسية في صورتها الأصلية. ولكن الذي حدث بالفعل هو أن النظام السوفيتي أخذ يتباعد بالتدريج عن التعاليم الماركسية، حتى أصبح نظاما قائما بذاته، ينبغي أن يحكم عليه بمعزل عن النظرية الأصلية التي ظهر في ظلها. ومع ذلك فقد ظل يستخدم الصيغ الماركسية التقليدية كشعارات سحرية يخلب بها ألباب المواطنين، ويخدر بها عقولهم حتى تنتشر بينهم روح المسايرة والرضوخ، وهي نفس الروح المميزة لإنسان المجتمع الرأسمالي المتقدم.
ولقد وقع النظام السوفيتي في فخ السعي إلى التفوق الإنتاجي، فكانت النتيجة أن تكررت فيه نفس الأخطاء التي تولدت عن هذا السعي في المجتمع الرأسمالي؛ فالهدف الذي يتجه إليه المجتمع السوفيتي، بكل قواه، هو تجاوز معدلاته الإنتاجية باستمرار حتى يلحق بالغرب ثم يتفوق عليه، وحين تصبح الزيادة الإنتاجية غاية قصوى، يتحول الإنسان ذاته إلى مجرد أداة لتحقيق الهدف الأسمى، وتخضع جميع الاعتبارات الإنسانية لتنفيذ التخطيط الشامل. ومن الضروري أن يؤدي استهداف الزيادة الإنتاجية إلى وضع نظام إداري يتسلط على كافة جوانب الحياة، فهنا تصبح السيطرة لكبار رجال الإدارة؛ أي البيروقراطيين، ولكبار الفنيين المختصين في العمليات الإنتاجية؛ أي «التكنوقراطيين» ويضيع الإنسان نفسه ويغترب بين هؤلاء وأولئك.
فالفرد العامل، الذي ينتج مباشرة، تقوم بينه وبين السلطة حوائل وحواجز، تتمثل في مجموعات كبيرة من المديرين والفنيين الذين يملكون زمام السيطرة على كل الأمور، بحيث يتحول هذا العامل إلى وسيلة في يد قوى أعلى منه - كما هي الحال في النظام الرأسمالي - لا إلى غاية في ذاته، كما كان المأمول في الماركسية الأصلية.
Bilinmeyen sayfa