وعند هذه النقطة الأخيرة تلتقي وضعية القرن التاسع عشر بوضعية القرن العشرين؛ ذلك لأن الوضعية المنطقية المعاصرة، وما يرتبط بها من فلسفات تحليلية لغوية متعددة، تركز بدورها جهودها على أن تحقق للفكر الوضوح عن طريق الاستخدام الدقيق للألفاظ، والتحليل التشريحي للقضايا اللغوية، آملة بذلك أن تفصل بين ماله معنى وما يبدو كأن له معنى وهو في واقع الأمر ليس كذلك. والهدف النهائي، كما قلت، هو الدقة والوضوح - وهذا هو بعينه الهدف الذي كانت تسعى إليه وضعية القرن التاسع عشر، ولكن عن طريق الالتجاء إلى منهج العلم الطبيعي، لا المنهج التحليلي اللغوي. إن الهدف واحد، وإن اختلفت الوسائل، ولا بد أن يترتب على الاهتمام المفرط بالتحليل اللفظي إيجاد حاجز بين الفكر وبين الواقع، وتقوقع الفكر في مجاله الخاص موصدا نوافذه في وجه رياح التغيير التي تعصف بعالم الواقع؛ ذلك لأن من حق المرء أن يتساءل: وما هدف الوضوح آخر الأمر؟ هل الوضوح غاية في ذاته، كما يعتقد الوضعيون المحدثون؛ من الجلي أن الوضوح وسيلة لخدمة هدف آخر خارج عن مجال التحليل، بل خارج عن مجال اللغة بوجه عام. فهل يكون من الصواب أن نوصد هذا الباب أمام الفلسفة، لكي نقصر مهمتها على ضمان الوضوح اللغوي أو الفكري فحسب؟ لقد كانت الفلسفة، على مر عصورها، شيئا أجل من ذلك وأخطر. كانت على الدوام جهدا يبذله الإنسان من أجل فهم نفسه وعالمه، وتمهيد الطريق لتغيير ما يستحق أن يتغير من الظواهر المحيطة به.
8
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل لم تكن الفلسفة تتردد حتى في اقتحام مجالات غامضة تضطر من أجل التعبير عنها إلى استخدام تعبيرات لا تنطبق عليها كل شروط الوضوح، وتبدو كما لو كانت خلوا من المعنى. ولكن هذه بعينها هي المخاطرة التي تقدم عليها الفلسفة وهي تعلم ما يكتنفها من الصعوبات، ولو كانت الفلسفة تستهدف التعبير الدقيق الواضح وحده، ولأجل ذاته، لكانت مهمتها هينة ميسورة، ولكنها كانت ستحقق هذا الهدف على حساب قدرتها على خوض تجارب جديدة، وعلى استشفاف عالم المجهول، وتلمس الطريق إلى مستقبل لم تتحدد معالمه بعد.
إن الوضعية التحليلية فلسفة لا تعترف بالعلو أو التجاوز، هي فلسفة تعترف ضمنا بكل ما هو قائم وبكل ما هو واقع، لسبب بسيط هو أنها لا تقترب منه ولا تبذل أدني جهد من أجل تغييره، بل وتعد ذلك خروجا عن مهمة الفلسفة التي تقتصر، في رأيها، على تحليل عبارات اللغة - واللغة العلمية بوجه خاص - دون أن تتعرض لمضمون الفكر ولمشكلاته الفعلية من قريب أو من بعيد.
فإذا أدركنا أن كتابات الفلاسفة التحليليين هي ذاتها أبعد ما تكون عن الوضوح، وأن قراءتها تمثل جهدا شاقا للعقل الذي كانت تسعى في الأصل إلى أن تجعل كل شيء واضحا أمامه، تبين لنا أن هذه الفلسفة ترتكب خطأ مزدوجا إذ تعزل الفكر عن الواقع بعد أن ظل طوال تاريخه مشتبكا وملتحما به، وتفعل ذلك لحساب وضوح لا تبلغه قط.
إن الفلسفة في صميمها نقدية، وحتى في الحالات التي كانت الفلسفة تبدو فيها منطوية على ذاتها، محتمية داخل أسوار «الفكر الخالص» المنيعة (كما هي الحال في كثير من تيارات الفكر المثالي)، كانت الفلسفة تمارس نوعا خاصا من عملية تحرير الإنسان «في داخله»، وعلى المستوى الفكري وحده، تعوض به عدم قدرتها على التحكم في الواقع الخارجي. بل إن التجاء الفلسفة المثالية إلى العقل المجرد هو جزء من طبيعة الواقع الذي تظهر فيه هذه الفلسفة، وهو الواقع الذي يضطر فيه العقل إلى الانطواء على ذاته دون مساس بما يحدث في المجتمع. ومن هنا كانت أشد المذاهب المثالية تجريدا معبرة عن الواقع بمعنى ما؛
9
لأنها تحتمي بمجال العقل الخالص تعبيرا عن رفضها لهذا الواقع وسعيها إلى كشفه وفضحه على طريقتها الخاصة. أما الوضعية، بكافة أشكالها، فتقبل هذا الواقع على ما هو عليه، ولا تتخذ منه موقفا نقديا ولو بصورة ضمنية، وتتركه - من حيث المبدأ - سليما لا يمس. إنها قمة ذلك الاتجاه الأيديولوجي المستسلم للوضع القائم، الذي يرى ماركيوز أنه كان ملازما للمنطق الصوري منذ نشأته على يد أرسطو،
10
إذ إن كل اهتمام بالصورة وإغفال للمضمون يساعد المسيطرين على إحكام قبضتهم على زمام الأمور بتركه لمحتوى الحياة على ما هو عليه. •••
Bilinmeyen sayfa