1
وبجانبها دورة مياهه، وأثاث هذه الحجرة حصير كبير بال، قد انسلت منه بعض عيدانه، وزير فيه ماء يكاد يسود من الوسخ، عليه غطاء من الخشب، قد ثبت في الغطاء حبل طويل ربط فيه كوز ليستقي منه الشارب ويتناول الكوز ليشرب منه النظيف والقذر والمريض والصحيح، وصندوق صغير من صناديق الجاز وضعت فيه ألواح بعضها صفيح قد صدئ وبعضها خشب قد زال طلاؤه. كتب عليها بعض آيات القرآن بالحبر الأسود فلا تكاد ترى، وشيخ قد لبس العمامة وقباء من غير جبة وبيده عصا طويلة، ومسمار كبير في الحائط علقت فيه «الفلقة» وهي عصا غليظة تزيد قليلا عن المتر، ثقب فيها ثقبان ثبت فيهما حبل، فإذا أراد سيدنا ضرب ولد أدخلت رجلاه في هذا الحبل ولويت عليهما الخشبة، فلا تستطيع القدمان حركة، ونزل عليهما سيدنا بالعصا. ثم عود من الجريد طويل يستطيع سيدنا أن يضرب به أقصى ولد في الحجرة، وهذا كل أثاث الكتاب - نذهب إليه صباحا، ونجلس على هذا الحصير متربعين متلاصقين، ويأخذ كل منا لوحه من الصندوق، وكان لوحي جديدا، إذ كنت مبتدئا، وكان لسيدنا عريف يساعده في كتابة الألواح للأطفال ويقوم مقامه إذا غاب كما يساعده في مد رجل الطفل في الفلقة عند الحاجة، ويقرأ كل تلميذ في لوحه حسب تعلمه، هذا يقرأ ألف باء وهذا سورة الفاتحة وهذا سورة تبارك وهكذا. فإذا فرغنا من قراءة الدرس الجديد استمع لنا الماضي وهو ما حفظناه من القرآن في الدروس، فإذا جاء وقت الغداء أخذ سيدنا من كل ولد قرشا أو نصف قرش أو مليما حسب مقدرته، وبعث سيدنا العريف فأحضر له ماجورين أخضرين: في أحدهما فول نابت ومرقة وفي الآخر مخلل ومرقة. والتف التلاميذ حولهما بعد أن أحضروا خبزهم الذي جاءوا به من بيوتهم، وأخذت أيديهم تغوص باللقمة في مرقة الفول أحيانا وفي مرقة المخلل أحيانا. ولا بأس أن يكون في الأولاد مريض وصحيح وقذر ونظيف وملوث وغير ملوث. فعلى الله الاتكال، والبركة تمنع من العدوى. وإذا قرأنا وجب أن نهتز وأن نصيح، فمن لم يهتز أو لم يصح لم يشعر إلا والعصا تنزل عليه فيصرخ ويصيح بالقراءة والبكاء معا، ونبقى على هذه الحال إلى قرب العصر فنخرج إلى بيوتنا؛ ومن حين لآخر يمر أبو الطفل على سيدنا فيسأله عن ابنه ويطلب منه أن «ينفض له الفروة»، وهذا اصطلاح بين الآباء وفقهاء الكتاب أن يشتدوا على الطفل ويضربوه، فلا تعجب بعد ذلك إذا وجدت أرواحا ميتة ونفوسا كسيرة. ومن أجل هذا كان أكره شيء علينا الكتاب واسم الكتاب وسيدنا؛ بل أذكر مرة أني كنت في البيت آكل مع أمي وإخوتي، فما أشعر إلا وقد انتفضت من غير وعي، لتوهمي أن عصا سيدنا نزلت علي لأني لم أهتز، وكان أكره ما أكره يوم السبت صباحا عند الذهاب إلى الكتاب، وأحب ما أحب يوم الخميس ظهرا لأنه سيلحقه يوم الجمعة وفيه لا كتاب.
وختمت في هذا الكتاب ألف باء على طريقة عقيمة جدا، فأول درس كان ألف (ألف لام فاء) وهو درس حفظته ولم أفهمه إلا وأنا في سن العشرين، إذ كان معنى ذلك أن كلمة الألف مركبة من ألف ولام وفاء، من أجل ذلك كرهت هذا الكتاب وهذا التعليم وسيدنا، وتنقلت في أربعة كتاتيب من هذا القبيل كلها على هذه الصورة، لا تختلف إلا في أن الحجرة واسعة أو ضيقة، وأن سيدنا لين أو شديد. وأنه أعمى العينين أو مفتوح العينين، أما أسلوب التعليم فواحد في الجميع.
وذهبت إلى الكتاب الثاني وكان سيدنا فيه رجلا غريب الأطوار يعقل حينا ويجن حينا، ويشتد ويلين، ويضحك ويبكي، وإذا سار في الشارع جرى فضحك من جريه الصغار، لا أذكر ماذا فعلت فنادى ولدين قويين وأدخلا رجلي في الفلقة وأمسك بعصا من جريد النخل وأخذ يهوي بها على قدمي بكل قوته حتى شق قدمي شقا طويلا وتفجر الدم منها، ثم أسلمني لهذين الولدين يحملانني إلى بيتي، وكان هذا آخر العهد بهذا الكتاب.
على كل حال لبثت في هذه الكتاتيب الأربعة نحو خمس سنوات حفظت فيها القراءة والكتابة، وكان لي من حجرة أبي في البيت يوم الجمعة وفي أوقات الفراغ كتاب آخر. سيدنا فيه هو أبي، أحفظ فيه جديدا وأسمع فيه قديما.
فأين ذلك مما نحن فيه الآن، الأطفال في مثل طبقتي، إنهم يذهبون إلى رياض الأطفال فتعلمهم سيدات مهذبات أو آنسات ظريفات، يعلمن على أحدث طراز من البداجوجيا. ويتدرجن بهم من اللعب إلى القراءة، ويتحايلن على تشويق الطفل إلى الألف والباء، ويسرقن التعليم عن طريق الصور أو القصص أو نحو ذلك، ويقلبن ما كنا فيه من عيش جاف إلى حلوى. وأكثر أوقات النهار مرح ولعب، ودروس كأنها لعب، وأناشيد ظريفة وموسيقى لطيفة، وطبيب يزور المدرسة كل يوم، ومريض لا يحضر إلى المدرسة إلا بعد أن يأتي بشهادة أنه صحيح، والعلم يعطى كما يعطى كوب من الشربات، وبسكويت ولبن وشاي بدل الفول النابت والمخلل، وضرب على «البيان» بدل الضرب على الأبدان، ونحو ذلك من ضروب النعيم. ولكن على كل حال أخشى أن نكون أفرطنا في أيامنا في الخشونة وأفرطنا أيام أبنائي في النعومة، والحياة ليست جدا محضا ولا هزلا محضا ولا نعيما صرفا ولا شقاء صرفا، وخير أنواع التعليم ما صور صنوف الحياة.
ولم يكن لي سلوى في هذا الدور من الحياة إلا لعبي في الحارة مع زملائي بعض الوقت، فنلعب «البلي» وكرة اليد ونتسابق في الجري ونحو ذلك، ثم أحاديث جدتي في البيت وقراءة أخي علينا بعض كتب القصص، ثم لا شيء غير ذلك.
الفصل الثامن
كل شيء حولي كان كفيلا أن يميت الذوق ويبلد الحس ويقضي على الشعور بالجمال؛ فحارتنا - إذا تجاوزت بيت الشيخ - متربة، لا يمسها الماء إلا إذا أنزل المطر أحالها بركا، وإلا ما يفعله السكان - من حين إلى آخر - إذ يفتحون شبابيكهم ويقذفون منها بما تجمع من ماء غسل الثياب أو غسل الصحون وأحيانا لا تتحرى السيدة ما تفعل فينزل هذا الماء القذر على بعض المارة فيكون النزاع ويكون السباب. وشوارعنا قذرة لا يعنى فيها بكنس ولا رش، وإذا كنست أو رشت فالمارة خليقون أن يفسدوا كل شيء في لحظة، فورق يرمي حيثما اتفق، وقشور ومصاصات قصب وروث بهائم ونحو ذلك، فإذا الشوارع بعد ساعة مزبلة عامة؛ وبيتنا لم يكن يعنى بتربية الذوق أية عناية، فليس فيه لوحة جميلة ولا صورة فنية، ولا أثاث منسق جميل، ولا زهرية ولا أزهار، وكل ما أذكره من هذا القبيل أن أبي كان يشتري في موسم النرجس بعضا من أزهاره ويضعه في كوب من الماء على الشباك، ويشمه من حين لآخر، ولست أدري لماذا أعجب بالنرجس وحده وموسمه قصير، وليس أجمل الزهور؟ ولماذا لم يعجب بالورد والياسمين وهما أجمل وأرخص وموسمهما أطول؟ وربما أن السبب في ميله إلى النرجس دون غيره ليس لذوق ولا حب للجمال، ولكن أظن أنه قرأ حديثا يمدح النرجس بأنه يمنع من البرسام، والبرسام هو لوثة من الجنون، فظل الحديث يعمل في نفسه، ولذلك كان يشتريه.
ولكن ماذا تعمل هذه اللفتة القصيرة بجانب ما يغمرنا من قبح، في الحارة والشارع والكتاتيب وما فيها من منظر الحصير ومنظر سيدنا ومنظر الزير والمواجير؟ لقد كانت كل هذه تكفي لإماتة الشعور بكل جمال، والشعور بالجمال أكبر نعمة، وتربية الذوق خير ما يقدم إلى الناشئ حتى من ناحية تقويم أخلاقه.
Bilinmeyen sayfa