Hayat ve Hareket Fikriye İngiltere
الحياة والحركة الفكرية في بريطانيا
Türler
وهناك خطأ لا بد من أن نتفق على إصلاحه واجتنابه، فقد يظن بعض الناس أن هناك أمما تستطيع أن تعطي دون أن تحتاج إلى أن تأخذ، فهي مؤثرة في الثقافات الأخرى، وهي غير متأثرة بهذه الثقافات، وهذه الأمة لم توجد بعد ولا ينتظر أن توجد، والحياة العقلية شيء متبادل بين الأمم، كما أنه شيء متبادل بين الأفراد، فكما أن الفرد لا يستطيع أن يعطي ولا أن يفيد الحياة العقلية إلا إذا أخذ هو واستفاد من حياة غيره العقلية، فالأمم كذلك لا تستطيع أن تعطي إلا إذا أخذت.
فإذا تحدث محدث عن الثقافة الإنجليزية وعن أثرها في الثقافات الأخرى، فلا بد له من أن يفكر قبل هذا في الثقافة الإنجليزية من حيث إنها ثقافة قد تأثرت بثقافة الأمم الأخرى، وليس من شك في أن الأمة الإنجليزية قد تأثرت في عصر النهضة بما تأثرت به الأمم الأوروبية المختلفة من هذه الثقافة القديمة، الثقافة اليونانية والثقافة اللاتينية، وكلكم يعرف أن الحياة الأوروبية الحديثة إنما هي نتيجة لهذه الثقافة اليونانية واللاتينية التي بعثت من نومها في القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر بعد المسيح، وكلكم يعرف أن أول هذه النهضة إنما كانت في إيطاليا، ثم انتقلت النهضة من إيطاليا إلى غيرها من الأقطار الأوروبية.
وفي هذا العصر - عصر النهضة - كانت السيادة العلمية أو العقلية منذ القرن السادس عشر بنوع خاص مقسمة تقريبا بين أمتين تنازعتاها تنازعا شديدا، وتعاونتا عليها تعاونا تاما، هما الأمة الفرنسية والأمة البريطانية، وكانت الأمم الأوروبية الأخرى تأخذ من هذه النهضة - نهضة الثقافة القديمة - بحظوظ مختلفة تختلف قوة وضعفا، ولكن الثقافة في القرن السادس عشر كانت في هاتين الأمتين، الأمة الفرنسية والأمة الإنجليزية، ولم تكن هناك حدود ولا حواجز بين الأمم الأوروبية في المسائل الثقافية في ذلك الوقت؛ لأن نظم الحكم لم تكن قد بلغت من الشدة والعنف ما بلغته في القرن السابع عشر أو القرن الثامن عشر؛ لأن فكرة الوطنية وافتراق الأمم في هذه الفكرة، وحرص الأمم على أن تكون لكل منها وطنيتها الخاصة واستقلالها الخاص، هذا الحرص لم يكن قد عظم بعد، وإنما كانت هذه الأمم الأوروبية قد خرجت شيئا فشيئا من النظام القديم الذي كان معروفا في القرون الوسطى، وأخذت الوطنيات تنشأ، ولكن ظلت هذه الأمم محتفظة بشيء كثير من التسامح واليسر، وكانت متأثرة بهذه الفكرة العامة، فكرة أوروبا المسيحية أكثر من تأثرها بهذه الأفكار التي جاءت فيما بعد، وهي فكرة الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة التي تكون الأمم باستقلال دقيق بالمعنى الصحيح، وأخص ما امتازت به الثقافة التي كانت شائعة في ذلك الوقت في القرن السادس عشر في أوروبا كلها، وفي فرنسا وبريطانيا العظمى بنوع خاص، أخص ما امتازت به هذه الثقافة شيء من الرجوع إلى الحياة اليونانية واللاتينية القديمة، وما كان يميز هذه الحياة من طموح إلى المثل العليا الفلسفية كما صورها أفلاطون وأرسطوطاليس، وإلى المثل العليا في الآداب والفنون كما صورها الأدباء والفنانون من اليونان والرومان.
ومعنى هذا أن هذه النهضة التي تأثرت أحيانا باليونانية واللاتينية قد تأثرت بما كانت تمتاز به هذه الآداب والفنون اليونانية واللاتينية من نزعة حرة إلى الوثنية، أو التي لم تتقيد بما تقيد به الناس حين كانت المسيحية متسلطة على العقول والقلوب وعلى الحياة الخاصة والعامة، وأخذ الناس يشعرون كما كان الشعراء من قبل يشعرون، وأخذوا يحبون الطبيعة ويكلفون بها، ويصورونها كما كان الشعراء اللاتينيون واليونانيون يشعرون ويصورون هذه الطبيعة ويكلفون بها، بل أخذوا يقلدون هؤلاء الناس، اليونان والرومان، يقلدونهم في التفكير، ويقلدونهم في التأثر بالأشياء الواقعة التي تحيط بهم، ثم يقلدونهم في التعبير وفيما يشعرون به، وفيما يجدونه من التأثر بهذه الأشياء التي تحيط بهم، فهم إذا وصفوا الحياة أو وصفوا الألم أو وصفوا اللذة أو وصفوا منظرا من المناظر التي تعجبهم، لم يتخذوا ما كانوا يألفون من عبارات ومن أساليب العرض ما يريدون أن يصفوا، إنما يتخذون ما كان يألفه اليونان والرومان، ويخضعون اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية للأساليب أو الأصول التي كان الرومان واليونان يتخذونها إذا تكلموا أو شعروا أو نثروا، ثم هم قد تجاوزوا هذا الحد من التقليد إلى ما هو أبعد منه، فقلدوا حتى في الآراء والأفكار والعادات، وأصبح رأي الفلاسفة والعلماء من القدماء شيئا أساسيا، يتخذونه أصلا للتفكير وأصلا لما يؤلفونه من الكتب، وأصلا في كل ما يحاولونه من التأليف والتعليم، بل من الحياة نفسها، وكذلك يمكن أن يقال إن عصر النهضة في أوروبا وفي فرنسا وإنجلترا بنوع خاص قد كان عصر انحراف عن الدين المسيحي إلى حد بعيد، وقد كان عصر رجوع إلى الوثنية اليونانية في كثير من مظاهره، وفي كثير من المظاهر الأدبية والفنية بنوع خاص.
لذلك اشتد الصراع بين هذه النزعة الجديدة إلى المذاهب القديمة من جهة، وبين المحافظة على الأصول المألوفة لأصول الدين وأصول الحضارة في القرون الوسطى من جهة أخرى، واضطرت الحكومات في فرنسا وفي إنجلترا وغيرهما من البلاد الأوروبية، اضطرت هذه الحكومات إلى أن تقاوم هذه النزعة مقاومة شديدة، حتى كان من العسير أن يؤلف المؤلفون أو ينشروا كتبهم دون أن يحتاجوا إلى من يعينهم ويؤيدهم ويحميهم من بطش الدولة، ومن بطش الذين تقوم الدولة على حمايتهم وعلى تأييدهم من رجال الدين، ولست في حاجة إلى أن أتحدث عما لقي العلماء والأدباء في القرن السادس عشر من الاضطهاد الذي كان يصل أحيانا إلى التحريق فضلا عن التعرض للسجن وكثير من الأخطار التي هي أقل من الموت والسجن، ولست في حاجة إلى أن أتعرض لما لقيته الكتب والمؤلفات والآثار الأدبية التي كانت تنشر في ذلك العصر من عنت المراقبة التي كانت تقوم بها الدولة، والتي كان يقوم بها رجال الدين، فكان هذا شيئا معروفا، وهو يصور الصراع بين نشأة الحياة الأوروبية الحديثة، ومحافظة القرون الوسطى على حضارتها التي أخذت تتقهقر أمام الحضارة اليونانية واللاتينية القديمة.
وفي ذلك العصر كانت فرنسا وإنجلترا - كما قلت لكم - تتنازعان أو تتقاسمان سيادة الحياة العقلية في أوروبا، ولكن بين طبيعة الأمتين شيئا عظيما من الاختلاف، فطبيعة العقل الفرنسي تميل إلى الاحتياط والاتزان والتقيد بأصول محدودة في القول والعمل والتأثر بالعقل اليوناني القديم إلى أبعد حد ممكن، على حين تختلف الطبيعة البريطانية عن هذه الطبيعة الفرنسية اختلافا شديدا، فهي تميل إلى الحرية، وإلى الحرية الجامحة التي لا تعرف قيدا ولا تتأثر بقانون، والطبيعة الفرنسية تميل إلى التأثر بالحياة الاجتماعية، وبالنظام الاجتماعي الدقيق، وتميل إلى تأثر الفرد بالجماعة، وإلى فناء الفرد في الجماعة إلى حد بعيد جدا، على حين تميل الطبيعة البريطانية إلى شيء آخر ليس هو خروج الفرد على الجماعة، ولكنه ليس في الوقت نفسه إذعان الفرد للجماعة، إنما هو شيء بين ذلك فيه كثير من التناقض، فالفرد الإنجليزي حريص أشد الحرص على شخصيته وعلى وجوده الخاص، وعلى حريته فيما بينه وبين نفسه، ولكنه في الوقت ذاته حريص على أن تكون حياته في ظاهرها - على أقل تقدير - ملائمة للحياة الاجتماعية العامة، فإذا كان الفرنسي في خضوعه وإذعانه لسلطان الجماعة مخلصا صادقا ملائما بين هذا وبين طبيعته الوطنية، فالبريطاني في خضوعه للجماعة لا يخلو من شيء من النفاق وهو يحافظ على نظام الجماعة؛ لأنه مضطر إلى هذه المحافظة؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كانت الصلة بينه وبين الجماعة مقبولة أو محتملة، ولكنه فيما بينه وبين نفسه حريص على حريته مهما تكن هذه الحرية.
فالاختلاف بين طبيعة الأمتين ظاهر بين ما أنتجه الفرنسيون والإنجليز في الآداب والعلوم والفلسفة في هذا العصر من عصور النهضة، وفي أول العصر الحديث بنوع خاص، فبينما كانت الآثار الأدبية الفرنسية معتدلة وحريصة على ألا تقيد المؤلف إلا بمقدار حرصها على أن تلائم بين ما تنتج على ما فيه من التجديد وبين ما هو قائم من النظام والتقليد من الذي ينتجه الأدباء الإنجليز والعلماء الإنجليز ثائر على المألوف، وثائر على المألوف ثورة عنيفة حقا بحيث إذا أردنا أن نلتمس الآداب والفنون القديمة عند الإنجليز وعند الفرنسيين رأينا هاتين الظاهرتين متناقضتين، وتأثير اليونان في الأمة الفرنسية ظاهر جدا وقوي جدا؛ لأن الأمة الفرنسية التي هي متأثرة بالطبيعة اللاتينية ومتأثرة بطبيعة هذه الحضارة، حضارة البحر الأبيض المتوسط، قريبة في عقلها وشعورها من اليونانية واللاتينية، ولكن التأثر الذي نراه عند الفرنسيين ظاهرا قويا نراه في الوقت نفسه متضائلا في نتائجه من ناحية الحرية.
فرابليه الكاتب الفرنسي في القرن السادس عشر مضطر إلى أن يغير اسمه عندما يريد أن يصدر كتبه التي أخذ يقص فيها قصصه المشهورة، مضطر إلى أن يحرف اسمه حتى يكون بمأمن من العقاب، ومن عقاب رجال الدين؛ لأنه كان من رجال الدين، ومن عقاب رجال السياسة؛ لأنه كان بكتبه هذه يعرض بكثير من رجال الدين والسياسة، فكان يقرر حقائق ربما لم يقرها نظام الدين المسيحي، فهو كان محتاجا إلى أن يحتاط، وإلى أن يتحفظ في إعلان اسمه عندما ينشر كتبه، وإلى أن يتحفظ في تعبيره أيضا كلما أصدر طبعة لكتاب من كتبه ولاحظ مقدار ما يكون لهذا الكتاب من تأثير في القراء، ولاحظ ما يمكن أن يستتبعه هذا الكتاب من رد الفعل، فإذا أعاد طبع الكتاب انتفع بهذه الملاحظات، فلطف ما كان يحتاج إلى التلطيف، وخفف ما يحتاج إلى التخفيف، واجتنب ما استطاع أن يجتنب؛ ليتقي الشر الذي يمكن أن يأتيه من رجال الدين أو رجال السياسة، على حين كان البريطانيون في هذا العصر مندفعين مع أمزجتهم إلى أبعد حد ممكن، فالشعر الذي نتج في هذا العصر والآثار المختلفة التي أنتجوها في هذا العصر، كل هذه الآثار كانت متأثرة بطبيعة الحال باليونانية واللاتينية، لكنها في الوقت نفسه كانت متأثرة بالجموح الطبيعي في المزاج البريطاني بهذه الحرية الواسعة التي يحرص عليها البريطانيون، والتي يبذلون في سبيلها كثيرا من الجهود، من هنا كانت الآداب التي أنتجها الإنجليز أشد تأثرا باليونانية واللاتينية من ناحية الحرية، وأقل تأثرا باليونانية واللاتينية من ناحية المزاج، فالأثر الإنجليزي خاضع لتأثير الآداب اليونانية واللاتينية إلى أبعد حد ممكن؛ لأن المزاج البريطاني حريص على الحرية التي تمكنه من أن يجاري هذا المذهب القديم، ومن هنا كانت الحياة البريطانية حياة ربما كانت أدنى إلى الحرية المطلقة التي لا تعرف حدا ولا قيدا.
وظهر هذا الإنتاج الأدبي عندما جاء القرن السابع عشر، وأخذ الفرنسيون ينتجون آدابهم التي تسمى الآداب الكلاسيكية، وظهر الفرق الهائل بين هذه الحرية الإنجليزية المطلقة التي تنشأ عن مزاج جامح والتي تنشأ على هذا المزاج في وقت قد تعرضت فيه النظم السياسية إلى كثير من الخطر بين هذا الإنتاج الفرنسي الذي يخضع لسلطان العقل المتأثر بالصبغة اليونانية وبالانسجام اليوناني، وبهذه الحدود والقيود التي يفرضها اليونانيون على أنفسهم، فإذا قرأنا قصة من قصص «كرونيل» أو قصة من قصص «راسين»، وحاولنا أن نوازن بينها وبين قصة من قصص «شكسبير» ظهر الفرق بين هاتين القصتين، وسنرى أن الكاتب الفرنسي قد وضع لنفسه نظاما دقيقا محدودا عليه يسير في وضع قصته ولا يتجاوزه بحال من الأحوال، فلا بد مثلا من الوحدة المشهورة؛ وحدة الزمان ووحدة المكان، ولا بد أن يتقيد الكاتب بهذه الوحدة، ولا بد أن يتقيد الكاتب بما يحيط به من خصائص البيئة الفرنسية في ذلك العصر، وبما يحيط به من نظام القصر خاصة.
فالأثر الفرنسي إذن شيء دقيق جدا مقيد، رسمت له خطط لا يستطيع الكاتب أن يتجاوزها، وهو إذا تجاوزها فقد أفسد عمله وعرضه للخطر ولضياع الفن، على حين أننا نأخذ القصة من قصص «شكسبير» فنرى الشاعر قد عمد إلى الموضوع، وأراد أن يصوره، ولكنه لم يقيد نفسه بما قيد الكاتب الفرنسي نفسه من الخطط المرسومة أو الحدود والقيود الضيقة التي لا يتجاوزها ولا يخرج عنها، إنما الكاتب أو الشاعر حر، يعالج موضوعه كما يشاء، ولا يتقيد بوحدة الزمان ولا وحدة المكان، فليس من الضروري أن تقع حوادث القصة في مكان واحد من ابتدائها إلى نهايتها، وليس من الضروري أن تقع حوادث القصة في 24 ساعة، إنما القصة حرة تقع في الوقت الذي تقتضيه، سواء أطال هذا الوقت أم قصر، وتقع في الأماكن التي تقتضيها، فالمسارح أو الملاعب تتغير بمقتضى ما تحتاج إليه القصة من التغيير، فليس من الضروري أن يشهد النظارة مكانا واحدا منذ ابتداء القصة إلى نهايتها، وليس ضروريا للنظارة أن يشعروا بأن هذه القصة تقع في وقت معين، بل وحدة العمل ليست ضرورية، فيجوز أن يكثر الأشخاص جدا، وأن يتعددوا وأن يختلفوا، وأن يناقض بعضهم بعضا في كثير من الأعمال والأقوال، أفهم من هذا أن الكاتب نفسه ليس مقيدا بشيء، ولكنه يمضي في موضوعه كما يحب، ويمضي إليه مسرعا إن رأى الإسراع، ولكن يجوز أن يلقى في طريقه منظرا يقتضيه أن يقف عنده شيئا ما، فيترك الموضوع الأساسي الذي وضع القصة من أجله ويقف عند هذا المنظر الخاص، ويطيل عنده الوقوف، ويطيل عنده الحديث، ويشرك السامعين من النظارة أو القراء الذين لم يشاهدوا القصة ولم يحسوا بها وهم من جميل هذا المنظر، أو مما يثيره هذا المنظر من التأثير مهما يكن هذا التأثير، وهذا الفرق الهائل بين طبيعة المزاج الفرنسي وطبيعة المزاج البريطاني في إنتاج الآداب، وفي التصور الفني في التأثر بالنهضة، أو بما ترك اليونان والرومان من آثار أدبية وفنية.
Bilinmeyen sayfa