Hayat Şark
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Türler
السياسة أولا ثم المال
إذن وجب علينا وعلى كل شرقي أن ينزع من فكره معونة الأحرار في أي ظرف سياسي، ولهذا لا نعجب ولا ندهش إذا علمنا أن لويد جورج زعيم الأحرار الحالي وقف عقبة كئودا في سبيل أي اتفاق أو معاهدة تنطوي على شيء من الخير للبلاد المغلوبة. وليس صحيحا في نظري أن الدافع له وجود رءوس الأموال للممولين الأحرار في أي بقعة من بقاع الأرض كالسودان أو غيرها، فإن رءوس الأموال وإن كانت ذات شأن عظيم في نظر أربابها ولكن الاحتفاظ بها ليس المحرك الأول، وإنما المحرك الأول هو تلك المبادئ السبعة التي شرحها صمويل في كتاب منشور.
لأن الإنجليز دائما يخضعون التدبير المالي والاقتصادي للمصلحة السياسية، لأن السياسة أساس والمال بناء يشاد على الأساس. وإلى هذه الفكرة كان يرمي جوزيف تشمبرلين في سياسته «الحماية الجمركية»، فكان يقصد بذلك إلى شد أواصر أجزاء الإمبراطورية إلى بعضها بعضا بالاتحاد الجمركي، تقليدا لخطة بيسمارك الذي أنشأ الاتحاد الاقتصادي بين ممالك ألمانيا المختلفة قبل أن يعلن اتحادها السياسي، وعلى خطوات تشمبرلين سار لفيف من ساسة الإنجليز الذين اتخذوا مجلة «المائدة المستديرة» لسانا لحالهم.
بيد أن الحكم الذاتي الذي تمتعت به المستعمرات الإنجليزية في كندا وأستراليا ونيوزيلندا خلق في أنفس أهاليها عاطفة وطنية، وفي سنة 1900 اتحدت الولايات الأسترالية على هيئة ولايات متحدة فأرغمت إنجلترا على قبول الفكرة خوفا من النتائج التي قد تترتب على مقاومتها، وكان بين ساسة الإنجليز رجال ينظرون إلى المستقبل فأذاعوا فكرة المؤتمر الاستعماري في 1897 ودعوا إلى لندن رؤساء وزارات المستعمرات التي تحكم ذاتها، وقد ظهر للعيان أن سياسة الاستعمار ستلبس ثوبا جديدا يتفق مع تغير الزمن، وقضوا عشر سنوات في تمهيد السبيل لقبول التطور الجديد، وفي سنة 1907 اجتمع المؤتمر الاستعماري الثاني في لندن وقرر المجتمعون عقد المؤتمر مرة في كل أربع سنين وبدلوا اسم المؤتمر الاستعماري فصار المؤتمر الإمبراطوري، وأن الحكومات التي تشترك فيه (كندا وأستراليا ونيوزيلندا) صارت تدعى دومنيون لا مستعمرات، وأن رئيس المؤتمر يبقى دائما رئيس وزارة إنجلترا لا وزير المستعمرات وذلك لأن كلمة مستعمرة أصبحت منبوذة ومذلة لمن تطلق عليهم، فما على الإنجليز إلا أن يبدلوها بغيرها لأنهم خبيرون بعلم النفس ويعلمون أثر الألفاظ في العقول. وهذا يذكرنا بما كان يقوله سير ڤالنتين شيرول من أن بعض الشعوب المحكومة تقنع باللفظ دون المعنى، بيد أن هذه الألفاظ وإن كانت في ذهن واضعيها قليلة الأثر إلا أنها تنشئ على الرغم منهم حالات نفسية جديدة وأوضاعا قانونية لم تكن في الحسبان.
بيد أن السياسي الإنجليزي لا يكترث لذلك اكتراثه للواقع، ففي سنة 1885 تطوع جنود من أستراليا وكندا للحرب في السودان، وفي سنة 1900 تطوع جنود أستراليون في حرب البوكسر بالصين، وفي حرب البوير اشترك الأستراليون والكنديون مع الإنجليز. وأخذ رجال السياسة الإنجليزية يقنعون أصحاب الدومنيون بأن الدفاع عن سلامة أوطانهم ليس محصورا في شواطئهم ولكنه يمتد إلى وراء البحار، فحياتهم واستقلالهم تابعان لقوة إنجلترا بأساطيلها وجيوشها، وما دامت «الأم الرءوم» في عز وسؤدد فهم في أمان واطمئنان؛ فنتج عن ذلك أن مجلس أركان الحرب الإنجليزي اتسع نطاقه فصار في سنة 1907 مجلس أركان حرب الإمبراطورية (وهو عين موعد اجتماع المؤتمر الإمبراطوري الثاني وقبيل الحرب العظمى بسبع سنوات).
فجمع مجلس الحرب الأعلى لفيفا من الضباط من جميع أركان الإمبراطورية ودربهم تدريبا منسقا على وتيرة واحدة، وطاف كتشنر بعد ذلك ببضع سنين فزار أستراليا ونيوزيلندا وأسس مدرسة للضباط وأوعز إلى حكومة الاتحاد الأسترالي بتشريع المران العسكري الإجباري، واقتفت أثرها نيوزيلندا وجنوب أفريقيا. فاستفادت إنجلترا من كل ما تقدم وقوف الملايين من الرجال في سائر أنحاء الإمبراطورية على قدم الاستعداد للحرب.
فلما كانت سنة 1914 أرسلت الدومنيون مليون رجل للميدان، وأنفق عليهم 862 مليونا من الجنيهات الإنجليزية، أي إن الجندي الإمبراطوري الواحد تكلف أثناء الحرب ما يقرب من تسعمائة جنيه. فلما بذلت الدومنيون هذا المال وهذا العدد العديد من الرجال رأت أن لها حق الاشتراك في إدارة شئون الحرب وفي تلك السياسة الخارجية الإمبراطورية التي أدت إلى اشتعال نيرانها، ولم يكن هذا التطور إلا نتيجة محتمة لتغيير كلمة مستعمرة بكلمة دومنيون، وخلقوا في لندن مجلس وزراء إمبراطوري مكونا من رؤساء وزارات الدومنيون أعضاء يرأسهم رئيس الوزارة الإنجليزية.
وانبنى على ذلك أن وزراء الدومنيون جلسوا في مؤتمر الصلح بفرساي ووقعوا على المعاهدة بأسمائهم وصفاتهم، ولما تألفت عصبة الأمم دخلت كل دومنيون بشخصيتها مستقلة عن سواها، وما فتئت وزارة إنجلترا منذ سنة 1919 تستشير حكومات الدومنيون في كل أمر ذي شأن، واتسع نطاق الحكم الذاتي حتى وسع تعيين سفير كندي للولايات المتحدة بعد أن كان سفير إنجلترا يمثل كندا وسواها لدى البيت الأبيض، وفي سنة 1925 انشقت وزارة المستعمرات فصارت وزارتين واحدة للدومنيون وثانية للمستعمرات.
1
وبهذا نصل إلى أن تطبيق مبادئ الحرية والمساواة على المستعمرات التي يقطنها البيض قد نجحت وأثمرت وأنقذت إنجلترا من ورطة الحرب الكبرى، وشدت أزرها في مؤتمر الصلح وفي عصبة الأمم، ففي كندا امتزج العنصران الفرنسي والإنجليزي حتى صارا شعبا واحدا، وكان سير ويلفريد لورييه الفرنسي الجنس أعظم سياسي كندي وحل محلا متميزا على مدى ربع قرن في الإمبراطورية البريطانية كلها، وكان مالكا ناصية اللغة الإنجليزية التي لم تكن لغة آبائه وأجداده، كما كان مدركا تمام الإدراك لأسرار الأنظمة الحكومية في إنجلترا والمستعمرات، وهكذا كانت الحال في جنوب أفريقيا.
Bilinmeyen sayfa