Hayat Şark
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Türler
وقد سار العمل في طريق النجاح واستبشرنا خيرا وكانت فاتحة لا يستهان بها، فماذا جرى؟
كنت تذهب إلى الطرابيشي المصري وتطلب إليه أن يصنع لك طربوشا وطنيا من وارد قها، فيقنعك ذلك المأفون اللئيم بأن طربوش قها رديء ولا يعيش وقابل للقذارة بسرعة، فإذا ألححت زاد في لجاجه، وإن لم تباشر صنع الطربوش بشخصك فهو يغشك ويدس عليك طربوشا آخر وارد إيطاليا ماركة الفلة أو طربوشا إنجليزيا وارد موروم! وكنت إذا بحثت في علة هذه المحاربة الدنيئة، تجد أن ربح الطربوش المصري يقل عن ربح الطربوش الأجنبي لمصلحة الطرابيشي قرشا أو قرشين، ولأن وسطاء النمسا وإيطاليا كانوا يرشون الطرابيشي ليطعن في الطربوش الوطني وينفر منه العميل وهذا نوع من الدعاية التجارية، وربما يبيع الطرابيشي المصري ذمته ببضع ليرات ويحارب الطربوش الوطني حتى قضى على سمعته في السوق.
ليس هذا فحسب بل إن الحكومة المصرية التي كانت تشتري عشرات الألوف من الطرابيش للجيش المصري أعرضت عنه تحت تأثير الضغط الأجنبي! وهكذا تضافرت الظروف السيئة على المشروع حتى دب دبيب اليأس إلى قلب صاحب المصنع بعد أن كان أدخل من ضروب التحسين على الطربوش ما جعله يضارع طربوش النسر.
وفجأة وبدون إنذار سابق قرأنا أن إسماعيل عاصم باشا باع مصنع قها لأرباب مصانع الطرابيش بالنمسا، وأن هؤلاء جاءوا إلى المصنع وخربوه وأتلفوا عدده وأغلقوا أبوابه بعد أن دفعوا ثمنه، وقد ذاع في تلك الأيام أن شريكا سوريا هو الذي أتم تلك الصفقة غدرا مقابل مبلغ من المال وذاع غير ذلك، وأنا لا أعلم مقدارها من الصحة. ولكنني عذرت الباشا في ذلك الحين ولم أر على مسلكه غبارا، فهذا رجل كاد يخرب نفسه في سبيل خدمتهم وهم يخذلونه كأن بينه وبينهم ثأرا قديما! وهكذا خرج ذلك البطل القدير من ميدان المزاحمة الأوروبية مكسورا مهيض الجناح، والفضل في ذلك راجع إلى أبناء وطنه وملته وعمالهم.
والآن وبمناسبة المعرض الزراعي (فبراير سنة 1931) قام فريق من الرقعاء يلبون دعوة تشجيع الصناعات الوطنية (مرحى! مرحى!) ويطوفون وعلى رءوسهم الفارغة طاقية من اللباد مصبوغة بالتفتاء الحمراء، ويعرضونها للبيع بخمسة قروش وهي لا تساوي نصف قرش، ويلومون أرباب رءوس الأموال من المصريين لأنهم لا يريدون أن يؤسسوا مصنعا للطرابيش ليعيدوا تمثيل الفاجعة الأولى! والأدخل من هذا كله في باب العجب أن الطرابيشي الذي عرض علي هذه القذارة وشكا لي من الأغنياء كان يحارب الطربوش الوطني ويروج للطربوش الإيطالي والنمسوي.
القرية المصرية هجرها ذووها
وإذا اتجهت قليلا شطر القرية المصرية وجدتها خرابا يبابا، فإن بضعة مساكن من الطين لا يدخلها النور ولا الهواء وما عرف ساكنوها النظافة قط، يمر بها مجرى من الماء الآسن العكر المملوء بالديدان وجراثيم البلهارسيا والتيفوئيد، محاطة بأكوام من الطين مملوءة بميكروب الأنكلستوما، وفي كل ناحية مستنقع يمرح فيه بعوض الملاريا، والدواب تعيش جنبا إلى جنب بجوار صاحبها، والروث يمتزج بالغذاء، وأعين الأطفال قلما تنجو من العمى والرمد الحبيبي! هذه صورة صادقة للوسط الذي يعيش فيه الفلاح المصري الذي يخرج خيرات مصر من قطن وقمح وقصب وحبوب وفاكهة، وحالة المسجد والكتاب مما يرثى له، ودوار العمدة نفسه مهما بلغ من الغنى لا يختلف كثيرا عن هذا الوصف. فكانت نتيجة ظهور المدن وتراكم الثروة الزراعية أن الأعيان والأغنياء يهجرون ذلك الجحيم الذي لا تستطيع فيه أن تشرب قطرة ماء نظيفة إلى المدن والعواصم، حيث يبنون القصور أو يشترونها ويتزوجون من النساء «البيض السمان» ويركبون السيارات الفخمة ويلبسون الثياب الحديثة ويحصلون على الرتب والأوسمة من رتبة ميرميران الرفيعة الشأن (وكانت في العهود السابقة تباع نهارا جهارا بقيمة معلومة) ثم يغشون المجالس ولا يلبثون أن يتعودوا شرب الخمر ولعب القمار فيطلقون بلادهم رويدا رويدا، وإذا فني المال الموروث والمدخر انقلبوا إلى سماسرة الرهون فيرهنون أراضيهم في المصارف التي تعاملهم بالربح المركب، ومن تلك اللحظة يصبحون نهبا للوسطاء والمرابين ومصاريف العقود والمحاكم ويعجزون عن تسديد الأقساط ثم ينقرضون واحدا فواحدا، وهذه مأساة تتكرر عاما فعاما وشهرا فشهرا، وتباع تلك الأطيان الخصبة بأبخس الأثمان في المحكمة المختلطة.
وقد خربت القرى وضعفت الزراعة وفسدت الأخلاق، وأخذ صغار الفلاحين يقلدون سادتهم من كبار الملاك وأخذوا يزايلون أراضيهم التي ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فأصبحت القرى وقد امتصت دماؤها وجفت عروقها خربة منحطة حتى العدم. فكانت تلك الهجرة من الريف أفظع من الهجوم الأجنبي، وقد جرت الفلاحين إلى انتحال الخدمة حتى صاروا لها عبدانا وقتلت روح استقلال الفلاح حتى سلبته جميع قوته وعرقلت الأسباب والوسائل التي تجنى بها أقواتنا وثروتنا، وقد قضت القضاء المبرم على حياة الزراعة والريف.
وإن هذه الحال التي وصفتها عن خبرة في مصر حيث أرى وأسمع، هي بعينها الشائعة في كل أنحاء الشرق العربي، فقد وصفها كتاب الهنود عن الهند أمثال المستر بوز وموكرجي، ووصفها الثعالبي في كتاب «تونس الشهيدة»، وهي الحادثة في سورية والعراق وفي كل قطر حط الأوروبي فيه رحاله.
الفصل الخامس عشر
Bilinmeyen sayfa