Hayat Şark
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Türler
وكأن هؤلاء المستعمرين الأوروبيين قد درسوا سياسة ماكياڤيلي ومبادئه التي دونها في كتاب «الأمير»، فقد أخضعوا بعض بلادنا الشرقية بالقوة العسكرية كما صنعت فرنسا في الجزائر ومراكش باتحادها مع إسبانيا بعد الحرب العظمى، وكما صنعت إيطاليا في طرابلس وروسيا في أواسط آسيا وإنجلترا في مصر وفرنسا في سورية وبريطانيا في العراق. وكذلك تم بعض الفتح بواسطة الطرائق الاقتصادية وهو ما يطلقون عليه وصف الفتح السلمي بأن تقبض بعض دول أوروبا على خناق بلاد شرقية مستقلة برءوس الأموال الأجنبية، ومتى تمت عملية الخنق أخذت السيطرة السياسية تبدو شيئا فشيئا، وقد حدث هذا في بلاد العجم وفي مصر لعهد إسماعيل، واستمر بعد الفتح الغربي في سنة 1882، وكانت أوروبا في كلتا الحالتين تقضي على الحكومة الأهلية المستبدة القليلة الحول والطول وتقيم مقامها حكومة استعمارية منيعة الجانب شاكية السلاح شديدة الشكيمة فتثبت النظام الظاهر وتبدأ الدولة الفاتحة تستدر الخيرات وتبتزها.
وهذه هي الخطة التي سلكتها فرنسا في الجزائر ثم رأت فشلها، فنشأت العداوات في قلوب أهل الجزائر بعد أن تشتت شمل أسرة الداي وهاجر هو وأهله إلى مصر حيث مات ودفن في الإسكندرية وعاشت بناته من بعده عيشة اليتم والمذلة، وقد عرفنا أحد أحفاده الذي روى لنا تفصيل هجرة الأسرة وما صادفته من صنوف الهوان بعد فقد ملكها وثروتها، وبعد أن انتهت مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري الذي كتب بسيفه صحيفة من أنصع صحف الجهاد الوطني؛ فلم يبق في الجزائر قلب واحد يحب فرنسا أو يحترمها أو يصدقها. وهي من جانبها لم تعمل على ترقية الشعب أو تمدينه، فلم ينبغ منهم حتى الساعة عالم ولا طبيب ولا رياضي ولا فلكي مع أنهم شعب يزيدون عن عدد سكان هولندا وبلادهم من أغنى وأجمل بلاد أفريقيا. فنهض علماء السياسة الاستعمارية في فرنسا وأعادوا النظر في كتاب ماكياڤيلي وأشاروا على حكومتهم بتغيير خطتها، ولم يكن ذلك ممكنا في بلاد الجزائر التي كان قد مضى على فتحها خمسون عاما فرأوا أن يأخذوا بلادا أخرى لينفذوا فيها تجربتهم الجديدة، وكان القطر التونسي أمامهم لا يزال مستقلا تحت حكم الباي، وكان الوزير خير الدين باشا عائدا من أوروبا بأفكار الإصلاح ومشروعات الحياة النيابية التي بدأ في تنفيذها.
فأدركت فرنسا أن انتقال تونس من القديم إلى الجديد على يد حكومتها الوطنية قد يجعل الاحتلال صعبا في المستقبل إن لم يكن مستحيلا، فدهمتها قبل احتلال إنجلترا لمصر بسنة أو سنتين وطبقت فيها خطة سياستها الجديدة. وإليك ما كتبه هانوتو الذي كان وزير الخارجية في ذلك الحين عن تونس:
قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر التونسي الذي وضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح بصيانة القوانين والعادات من المساس والمحافظة على مركز الباي، وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئا فشيئا وأجريناه من المراقبة على الأمور الإدارية والسياسية من التدخل في شئون البلاد والقبض على أزمتها بدون شعور من أهلها (كذا).
تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون ولم ينخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه المسيحيين والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها وتركت أزمة الأحكام بأيدي القواد والقضاة، ولم يغير شيء من القوانين الأهلية إلا برضا وتصديق من الأهالي وربما كان يطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل وهذا المسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين أكثرهم من التونسيين، وجملة القول أن انقلابا عظيما حصل بدون أن يجر وراءه ألما أو توجعا أو شكوى بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوروبية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانا لم تغشه سحابة كدر.
إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض، إذن توجد أرض تنفلت شيئا فشيئا من مكة ومن الماضي الآسيوي (يقصد الإسلام)، أرض نشأت فيها نشأة جديدة نبتت في قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه ونموذجا ينسج على منواله، ألا وهي البلاد التونسية. ا.ه. كلام هانوتو.
هل قضى الاستعمار الأوروبي على روح الشرق؟
كتب هذا المقال في مايو سنة 1900 ولم يمض على دخول فرنسا في تونس عشر سنوات، وعلى دخول إنجلترا مصر ثماني سنوات، وكان كرومر قد سبق الفرنسويين إلى تطبيق هذه السياسة، ويكفي أنهم دخلوا مصر وضربوها بالمدافع وخربوا حصونها وقتلوا جيشها بدعوى أنهم يدافعون عن عرش الخديو، فمن المعقول والمنتظر أنهم سيحافظون عليه لدى الدخول أشد المحافظة. وما زالت هذه محبتهم للتفريق بين الشعب والحاكم من جهة ولتبرير مركزهم أمام الدول، وإن لم يكونوا في حاجة لذلك لأنهم في الاغتصاب سواء، إلى أن خلعوا ذلك الخديو نفسه في سنة 1914، وحينئذ ابتدعوا حجة المواصلات الإمبراطورية، وما زالوا يترقون بها إلى أن أعلن شمبرلين زواج مصر ببريطانيا في خطبة برلمانية رنانة فقال: «لقد أراد الله أن يتزوج هذان القطران، ولا يفرق البشر بين من جمعهم الله!»
ولكن ماذا كانت نتيجة حكم فرنسا في تونس وإنجلترا في مصر؟ هل فصم الحبل حقا الذي يربطنا بالأمم الإسلامية؟ وهل محي من ذهننا ذلك الماضي الإسلامي الذي يمقتون؟ وهل انطلت حيلة المستعمرين علينا فانخدعنا لهم؟ إن جهاد تونس في سبيل استقلالها معلوم، والحركة الوطنية قد قامت في سنة 1920، وهي الآن على أشدها يقودها رئيس الحزب الوطني التونسي السيد محمد محيي الدين القليبي، وليس في تونس رجل واحد يخلص للحكم الأجنبي إلا إذا كان يهوديا أو خائنا لوطنه. أما نتيجة الحكم البريطاني في مصر فقد ظهرت في حادثتين: الأولى حادثة دنشواي التي انتهت بخروج كرومر من مصر في مايو سنة 1907 ملوما محسورا، والثانية حادثة الثورة الكبرى التي شبت نارها في 1919.
وسواء أكان في فرنسا أم في إنجلترا فقد أجمع ساسة القرن العشرين من المستعمرين على ما دونه كرومر في كتابه عن حكم إنجلترا في مصر من 1882-1907 (مجلدان ظهرا في سنة 1908)، فقد وصف خطط الاستعمار الحديث بقوله:
Bilinmeyen sayfa