قال بيرت بكرم: «أصرح لك بهذا، اذهبي، لديك تصريح مني لمغادرة الغرفة. انزلي إلى البهو وادخلي الباب المكتوب عليه ...» حدق في للحظة ثم دفع وجهه حتى كاد يلصقه بصدري وقال: «نعم، فهمت الآن ... مكتوب عليه السيدات.»
وجدت الحمام واستخدمته ثم تذكرت بعدها أنني لم أغلق الباب. وفي طريق عودتي رأيت فقاعة السائل الأحمر وخلفها ضوء قادم من نهاية الممر. مشيت نحوها وتجاوزت غرفة بيرت، وخلف ذاك الضوء كان هناك باب مؤد لسلم الطوارئ ترك مفتوحا لأن الجو كان حارا في تلك الليلة. كنا في الطابق الثالث، آخر طوابق الفندق. خطوت إلى الخارج فتعثرت وكدت أسقط فوق الدرابزين ثم تمالكت نفسي وانحنيت، وبصعوبة كبيرة خلعت صندلي الذي كنت أظنه سبب تعثري. نزلت السلالم كلها وفي نهاية السلالم كانت هناك فجوة بين آخر درجة وبين الأرض تبلغ نحو ستة أقدام، فألقيت صندلي إلى أسفل في البداية - وأنا أشعر بذكائي لأني فكرت في هذا - ثم جلست على آخر درجة من درجات السلم ودليت جسدي لأسفل قدر استطاعتي، ثم قفزت فسقطت على طين جاف في الزقاق الذي يفصل بين الفندق ومحطة الإذاعة. انتعلت صندلي وأنا أشعر بالحيرة؛ إذ كنت أنوي حقا العودة إلى الغرفة، لم أستطع التفكير أين سأذهب. نسيت تماما أمر بيتي في شارع ريفر وفكرت أننا لا نزال نعيش في طريق فلاتس. وفي نهاية الأمر تذكرت منزل ناعومي، وبتخطيط حريص فكرت أن بإمكاني الوصول إليه.
مشيت بامتداد حائط فندق برونزويك أتخبط في الجدار الطوبي حتى وصلت إلى ظهر الفندق وسرت في طريق دياجونال - في البداية في الاتجاه الخاطئ ثم اضطررت لأن أعود أدراجي - وعبرت الطريق الرئيسي دون أن أتلفت عن يميني أو يساري، لكن الوقت كان متأخرا ولم تكن هناك سيارات مارة. لم أستطع أن أرى الوقت جيدا على ضوء القمر الخافت في ساعة مكتب البريد. ما إن خرجت عن الطريق الرئيسي، قررت أن أمشي على الحشائش في الساحات الأمامية لمنازل الناس؛ لأن الرصيف كان خشنا، خلعت صندلي مرة أخرى، وفكرت أنني يجب أن أخبر الجميع عن هذا الاكتشاف أن المشي على الرصيف يؤلم أما الحشائش فملمسها ناعم. لماذا لم يفكر أحد في هذا من قبل؟ وصلت لبيت ناعومي في شارع ميسون، ونسيت أننا تركنا الباب الخلفي مفتوحا فذهبت إلى الباب الأمامي وحاولت فتحه، لكنني فشلت فطرقته برفق في البداية، ثم أخذ طرقي يشتد ويعلو صوته. فكرت أن ناعومي لا بد أن تكون في الداخل وأنها سوف تسمعني وستأتي لتدخلني.
لم توقد الأضواء، ولكن الباب فتح وأطل منه والد ناعومي لابسا ثياب النوم بساقيه العاريتين وشعره الأشيب يتوهج في الظلام كميت قام من قبره. قلت: «ناعومي ...» ثم تذكرت، واستدرت وتعثرت على درجات السلم واتجهت إلى شارع ريفر الذي تذكرته في الوقت نفسه. ثم قررت أن أكون أكثر حكمة، فاستلقيت على الأرجوحة الموجودة في الشرفة، وغرقت في سبات عميق في دوامات من النور والظلمة تبتلعني وأنا عاجزة أتجشأ فتفوح من أنفاسي رائحة النقانق.
لم يعد والد ناعومي إلى فراشه، بل جلس في المطبخ في الظلام حتى عادت ناعومي، فاستل حزامة وأخذ يضربها على ذراعيها وساقيها ويديها وعلى أي مكان طاله حزامه، وأجبرها على أن تجثو على ركبتيها على أرض المطبخ وتستغفر الرب قائلة إنها لن تذوق الخمر ثانية.
أما أنا فقد استيقظت في الساعات الأولى من الفجر أشعر بالبرد والغثيان والألم، فخرجت على الفور من الشرفة وتقيأت على كومة من نبات القرطب بجانب المنزل. كان الباب الخلفي مفتوحا طوال ذلك الوقت، فغطست رأسي وشعري في حوض المطبخ محاولة التخلص من رائحة الويسكي، وصعدت السلم بحرص حتى وصلت إلى السرير. عندما استيقظت أمي أخبرتها أنني شعرت بالإعياء في بيت ناعومي فعدت إلى البيت ليلا. ظللت طوال اليوم في فراشي أعاني صداعا رهيبا واضطرابا في معدتي ووهنا شديدا وشعورا بالإخفاق والارتياح. شعرت بأنني أسترد ذاتي من خلال الأشياء الطفولية، مثل مصباحي القديم على شكل شخصية سكارليت أوهارا، والزهور المعدنية الزرقاء والبيضاء التي تمسك ستائري المرتخية المنقطة. وأخذت أقرأ كتاب «حياة شارلوت برونتي».
ومن نافذتي رأيت المروج ذات الأعشاب القصيرة خلف قضبان السكة الحديدية، التي مالت إلى اللون الأرجواني مع الحشائش التي تزدهر في شهر يونيو، وكنت أستطيع كذلك أن أرى جزءا صغيرا من نهر واواناش الذي لا يزال فائضا وأشجار الصفصاف الفضية. وأخذت أحلم بأن أعيش حياة على طراز القرن التاسع عشر؛ حيث التنزه سيرا على الأقدام والتأمل، والاستقامة واللباقة والعذرية والسلام.
أتت ناعومي إلى حجرتي وقال بغلظة هامسة: «يا إلهي! يجدر بي أن أقتلك لأنك تركتنا وانصرفت.» «شعرت بالإعياء.» «هراء، من تظنين نفسك؟ كلايف ليس أحمق كما تعرفين. إنه يعمل في وظيفة مرموقة؛ فهو محقق تأمين. من تريدين أن ترافقي؟ صبيان المدرسة الثانوية؟»
ثم أرتني آثار الضرب وأخبرتني بما فعله أبوها. «لو أنك عدت معي إلى البيت لاستحيا أن يفعل هذا. كيف عرف بحق الجحيم أنني خرجت أساسا؟»
لم أقل لها شيئا قط، ولم يقل هو شيئا، ربما اختلط عليه الأمر أو ظن أنني شبح. كانت ناعومي تعتزم الخروج مع بيرت ماثيوز مرة أخرى في عطلة الأسبوع المقبل، ولم تبال. «يمكنه أن يضربني حتى يتعب، لا بد أن أعيش حياة طبيعية.»
Bilinmeyen sayfa