لم تكن أمي محبوبة في طريق فلاتس؛ فلم تكن تخاطب الناس بلهجة ودية كما تفعل في المدينة؛ حيث كانت تتعمد المجاملة الشديدة والاستخدام الملحوظ للقواعد النحوية الصحيحة. أما زوجة ميتش بليم - التي كانت تعمل يوما ما في بيت السيدة ماكويد للدعارة مع أنني لم أكن أعلم ذلك وقتها - فلم تكن تخاطبها على الإطلاق. كانت أمي تنحاز لجانب الفقراء في كل مكان؛ لجانب الزنوج واليهود والصينيين والنساء، ولكنها لم تكن تحتمل الإفراط في الشراب أو الانحلال الجنسي أو اللغة البذيئة أو الحياة العشوائية أو الرضا بالجهل، وهكذا كان عليها أن تستبعد أهل طريق فلاتس من فئة المظلومين والمحرومين، من فئة الفقراء الحقيقيين الذين ما زالت تحبهم.
أما أبي، فكان مختلفا؛ فالكل يحبه، وكان يحب طريق فلاتس، مع أنه لم يكن يتناول الشراب تقريبا ولم يكن يتصرف بانحلال مع النساء أو يستخدم لغة بذيئة، ومع أنه كان يؤمن بالعمل ويعمل بجد طوال الوقت. كان يشعر بالراحة هنا، أما أثناء وجوده مع رجال من المدينة؛ مع أي شخص يرتدي قميصا وربطة عنق للذهاب للعمل، فلم يكن يملك سوى الشعور بالتوجس وبعض الفخر والقلق من الإهانة، مع ذلك الاستعداد الخاص المرهف لاستشعار التظاهر الذي يعد موهبة لدى بعض أهل الريف. كان قد تربى في مزرعة في عمق البلدة (على غرار أمي، ولكنها ألقت كل ذلك وراء ظهرها)، ولكنه لم يكن يشعر بحميمية الوطن هناك أيضا وسط التقاليد الصعبة، والفقر الذي لا يخلو من الزهو، ورتابة حياة المزرعة. فكان طريق فلاتس يمنحه ذلك الشعور بحميمية الوطن، وكان العم بيني يكفيه كصديق.
كانت أمي معتادة على وجود العم بيني؛ فكان يتناول طعامه في بيتنا كل يوم عند الظهيرة ما عدا يوم الأحد، وكان يلصق العلكة الخاصة به في طرف الشوكة، وفي نهاية الوجبة كان ينتزعها من على الشوكة ويرينا الرسم المنقوش بدقة على العلكة الملونة بلون القصدير، حتى إنه من المؤسف إضاعة الرسم بمضغها. وكان يصب الشاي في طبق فنجان الشاي وينفخ فيه، وبكسرة من الخبز على الشوكة يمسح طبقه حتى يصبح نظيفا كما لو كان طبق قطة لعقته عن آخره. وكان وجوده في المطبخ ينثر مزيجا من رائحة السمك والحيوانات ذات الفراء والمستنقعات، وهي رائحة لم أكن أكرهها. واتباعا لعادات أهل الريف، لم يكن العم بيني يخدم نفسه قط، أو يقضي ثانية من وقته في مد يد المساعدة حتى يطلب منه ذلك ثلاث مرات.
وكان يروي لنا قصصا، وهي قصص غالبا ما يحدث فيها شيء ما، تصر أمي على أنه مستحيل الحدوث، وذلك كما حدث في قصة زواج ساندي ستيفنسون.
تزوج ساندي ستيفنسون امرأة بدينة من الجنوب الشرقي من خارج البلاد، وكان لديها ألفا دولار في البنك وتملك سيارة من طراز بونتياك، وكانت أرملة. وبمجرد أن انتقلت للعيش مع ساندي هنا في طريق فلاتس منذ حوالي اثني عشر أو خمسة عشر عاما، بدأت أمور غريبة تحدث؛ حيث أخذت الأطباق تتحطم وحدها على الأرض ليلا، واندفع طبق اليخنة من على الموقد وحده ملوثا حوائط المطبخ، واستيقظ ساندي ليلا وهو يشعر كما لو كانت عنزة تنطحه عبر الفراش، ولكنه عندما نظر أسفل الفراش لم يجد شيئا، وتمزقت أفضل ثياب النوم لدى زوجته من أعلى إلى أسفل وعقدت في حبل ستارة النافذة. وفي المساء، عندما أرادا الجلوس في هدوء والحديث معا بدأ القرع على الحائط بصوت مرتفع حتى إنك لا تتمكن من سماع أفكارك. وفي النهاية، قالت الزوجة لساندي إنها تعلم من يفعل ذلك، إنه زوجها الراحل، غاضب منها لأنها تزوجت بعد وفاته. وقد ميزت طريقته في القرع، فتلك كانت مفاصل أصابعه. فحاولا تجاهله ولكن لا فائدة، فقررا أن يذهبا في رحلة قصيرة بالسيارة ورؤية ما إذا كان ذلك سوف يثنيه عن عزمه، ولكنه صحبهما في رحلتهما، فركب فوق سطح السيارة وظل يدق عليه بقبضتيه ويركله ويحدث ضوضاء ويهزه، حتى إن ساندي كان يجد صعوبة في الحفاظ على السيارة على الطريق. وفي نهاية الأمر، فقد ساندي أعصابه، فتوقف على جانب الطريق وطلب من المرأة تولي القيادة، وكان ينوي الترجل من السيارة والسير حتى المنزل أو إيقاف أية مركبة على الطريق والركوب فيها إلى المنزل، ونصحها أن تعود إلى مدينتها وتحاول أن تنساه، فانفجرت المرأة في البكاء ولكنها وافقت على أن هذا هو الحل الوحيد.
تساءلت أمي بحماس: «ولكنك لا تصدق ذلك، أليس كذلك؟» وأخذت توضح أن كل ذلك مصادفات ومحض تخيلات وإيحاءات ذاتية.
فرمقها العم بيني بنظرة مشفقة حادة. «اذهبي واسألي ساندي ستيفنسون. لقد رأيت الكدمات، رأيتها بنفسي.» «أية كدمات؟» «التي حدثت له من نطح العنزة له من تحت الفراش.»
وقال أبي متفكرا كي ينهي هذا الجدال: «ألفا دولار في البنك، عليك أن تبحث عن امرأة كهذه يا بيني.»
فقال العم بيني باللهجة نفسها التي تقع بين الجد والهزل: «هذا ما سوف أفعله بالضبط، يوما ما عندما أتمكن من العثور على امرأة من هذا النوع.» «إن العثور على امرأة كهذه ليس بالمهمة الصعبة.» «هذا ما أقوله لنفسي دائما.» «ولكن السؤال هو: امرأة بدينة أم نحيفة؟ البدينات غالبا ما يكن طباخات ماهرات ولكنهن قد يتناولن الكثير من الطعام، ولكن بعض النحيفات أيضا كذلك، فيصعب الجزم بذلك الأمر. فأحيانا يمكنك الحصول على امرأة بدينة تتغذى على دهون جسمها وتجعلك توفر، ولكن تأكد من أن لديها أسنانا سليمة، إما هذا أو أنها قد اقتلعتهم جميعا ولديها طاقم جيد من الأسنان الصناعية، ويفضل إذا كانت قد أجرت عملية استئصال الزائدة الدودية والمرارة أيضا.»
فقالت أمي: «إنك تتحدث كما لو أنك ستشتري بقرة.» ولكنها لم تكن تمانع في حقيقة الأمر، فقد كان لديها لحظات غير متوقعة من التسامح - فقدتها فيما بعد - يلين فيها جسدها وتهيمن عليها الحركات التي تنم عن اللامبالاة وهي ترفع الأطباق عن الطاولة. فقد كانت امرأة أكثر امتلاء وجمالا مما صارت عليه لاحقا.
Bilinmeyen sayfa