أغلق والدها فمه الأهتم، أغلقه تماما وبخبث كأنه طفل. «نكتفي بهذا القدر الآن. فكرا بهذه الحكاية عندما يحين الوقت لهذا؛ فبها رسالة للصبايا.» «ذاك العجوز الأخرق التافه.» قالتها ناعومي ونحن نهبط الدرج. «أشعر بالأسى لأجله.»
وكزتني في جانبي. «أسرعي، دعينا نخرج من هنا، فقد يجد شيئا آخر. وسيأخذ في قراءة الإنجيل حتى تخرج عيناه من محجريهما. هذا ما يستحقه.»
ركضنا إلى الخارج إلى شارع ميسون في تلك الأمسيات المضيئة الطويلة كنا نتجول في كل جزء في المدينة. فتسكعنا بالقرب من مسرح الليسيوم، ومقهى «بلو آول كافيه»، وقاعة لعب البلياردو. وجلسنا على مقاعد بالقرب من النصب التذكاري وكنا نلوح لأية سيارة تطلق نفيرها تجاهنا، وكان قائدها يندهش من صغر سننا وخرقنا فيستكمل طريقه وهو يضحك من نافذة سيارته. دخلنا حمام السيدات في دار البلدية ذا الأرضية المبتلة والحوائط الإسمنتية الرطبة التي تفوح منها رائحة الأمونيا المزعجة، وعلى باب الحمام كانت الفتيات الحمقاوات السيئات فقط هن من يكتبن أسماءهن، فكتبنا نحن اسمي ملكتي صفنا المتوجتين ؛ مارجوري كوتس وجوين موندي. كتبنا الاسمين بأحمر الشفاه ورسمنا تحتهما أشكالا خليعة. لماذا فعلنا هذا؟ هل كنا نكره هاتين الفتاتين اللتين كنا بالنسبة لهما فتاتين طيبتين مذعنتين ولا نخذلهما؟ لا ونعم، كنا نكره مناعتهما، وافتقارهما إلى الفضول النابع من حسن تربيتهما، كنا نكره كل ما يجعلهما مميزتين وخيرتين وسعيدتين تطفوان على سطح الحياة في جوبيلي، والذي سيجعلهما تشتركان في الأخويات الجامعية، وأيضا تخطبان وتتزوجان من أطباء أو محامين، وتنتقلان للعيش في أماكن بعيدة مزدهرة. لقد كرهناهما؛ لأنه لا أحد كان يتخيلهما تدخلان حمام دار البلدية.
بعد أن فعلنا ما فعلنا، ركضنا مبتعدتين لا ندري إذا ما كنا قد ارتكبنا فعلا إجراميا.
وكنا نتحدى بعضنا ونحن نسير تحت أضواء الشارع، نبدو شاحبتين كوردتين مصنوعتين من مناديل ورقية ونحن نمر بجوار نوافذ مظلمة ونتمنى لو أن العالم كله يشاهدنا من خلالها. «أتحداك أن تتصرفي كما لو كنت تعانين شللا دماغيا.»
على الفور أرخيت مفاصلي وأسقطت رأسي وأدرت مقلتي في محجريهما، وأخذت أتلفظ بهمهمة متواصلة غير مفهومة. «أتحداك أن تستمري هكذا لمسافة مربع سكني، مهما كان من يقابلنا، لا تتوقفي.»
قابلنا في الطريق الدكتور كومر العجوز، وهو رجل طويل نحيل مهيب متأنق، فتوقف وخبط بعصاه معترضا: «ما هذه المسرحية؟»
قالت ناعومي بحزن: «إنها نوبة يا سيدي، إنها دائما ما تتعرض لهذه النوبات.»
إنها متعة ذلك المذاق الكريه للسخرية من المساكين والمبتلين الذين لا حول لهم ولا قوة، ومتعة تلك القسوة.
ذهبنا إلى المنتزه الذي كان مهملا ومهجورا، وعبارة عن قطعة مثلثة من الأرض أضفت عليها أشجار الأرز الضخمة المزروعة بها من أجل لعب الأطفال كآبة شديدة، ولم تنجح في اجتذاب من يريدون التنزه سيرا على الأقدام. لماذا قد يود أي شخص في جوبيلي السير كي يشاهد المزيد من العشب والطين والأشجار، وهي الأشياء نفسها التي تحيط بالمدينة من كل الاتجاهات؟ فكانوا يفضلون السير في وسط المدينة يشاهدون واجهات المحلات، ويتقابلون على الأرصفة المزدوجة، ويشعرون بالأمل الذي يولده النشاط. تسلقت أنا وناعومي أشجار الأرز الكبيرة وجرح لحاء الشجر ركبنا، فصرخنا كما لم نفعل ونحن أصغر سنا، ونحن نرى أغصان الأشجار تتباعد كاشفة الأرض المائلة. تدلينا من أغصان الأشجار بأيدينا المضمومة وبكواحلنا وكأننا قردة بابون نمرح ونثرثر، وشعرنا أن المدينة بأسرها تقبع تحتنا تحدق فينا مذهولة.
Bilinmeyen sayfa