أشرت إلى الكلمات التي تصف ما فكرت به كريستين: «هل كان هذا الشيء السيئ هو ذاته الذي تتغنى به جميع الأغنيات؟»
عندما خرجنا من المكتبة كان الظلام قد بدأ يهبط، وكانت زلاجات الفلاحين في طريقها إلى خارج المدينة. لحقت أنا وناعومي بواحدة منطلقة إلى خارج شارع فكتوريا. كان الفلاح يلف رقبته بكوفية ويرتدي قلنسوة ضخمة من الفراء؛ فبدا كرجل من إحدى الدول الاسكندنافية يرتدي خوذة. استدار ناحيتنا وسبنا طالبا منا أن نترجل، لكننا تشبثنا، يملؤنا الفخر بالتحدي المرح، وكأننا مجرمتان ولدتا بكيس الجنين. كنا نتشبث بالزلاجة وحافتها تنحر بطوننا، وأقدامنا تجعل الجليد يتناثر حولنا، حتى وصلنا إلى زاوية شارع ميسون، وهناك أفلتنا الزلاجة وسقطنا على كومة من الثلوج. وبعد أن جمعنا كتبنا والتقطنا أنفاسنا، صاحت كل منا في الأخرى: «انزلي أيتها العاهرة.» «انزلي أيتها العاهرة.»
كان أملنا - نحن الاثنتين - ألا يكون أحد ما قد سمع السباب الذي أطلقناه في الشارع، وخفنا من ذلك.
كانت ناعومي تعيش في شارع ميسون، وكنت أقطن في شارع ريفر، وكان هذا هو أساس صداقتنا؛ فعندما انتقلت لأعيش في المدينة كانت ناعومي تنتظرني في الصباح أمام بيتها الذي كنت أمر عليه في طريقي. فكانت تقول لي: «لم تمشين بهذه الطريقة؟» فأسألها: «أية طريقة؟» فكانت تمشي بشكل غريب مترنحة في حالة من اللاوعي بما حولها تخفي ذقنها في ياقة معطفها، كنت أضحك وهي تقلدني وأنا أشعر بالإهانة، لكن انتقاداتها لي كانت انتقادات تنم عن أنني ملكا لها، وعندما اكتشفت أنها تعتبر أننا أصدقاء شعرت بالحذر والفخر في الوقت نفسه، فلم يكن لي أصدقاء من قبل، فهذا يحد من حريتي ويجعلني مخادعة بشكل أو بآخر، لكنه كذلك أثرى حياتي وأضفى عليها أهمية؛ فكل ذلك الصياح والسباب والسقوط على أكوام الجليد لم تكن أمورا يفعلها المرء بمفرده.
والآن، صرنا نعرف بعضنا عن بعض أمورا كثيرة للغاية تجعلنا لا نستطيع التخلي عن تلك الصداقة.
سجلت أنا وناعومي اسمينا كي نصير مراقبي السبورات في الفصول، وهو ما يعني أن نبقى في المدرسة بعد انتهاء الدوام الدراسي كي ننظف السبورات، ثم نأخذ الفراشي الحمراء والبيضاء والزرقاء إلى الخارج ونضربها بسور المدرسة المبني من الطوب، وهو ما يصنع في الهواء ما يشبه المراوح بمسحوق الطبشور. وحينما دخلنا سمعنا موسيقى غريبة تنبعث من حجرة المعلمين؛ فقد كانت الآنسة فاريس تغني وتذكرنا أنه وقت الأوبريت، لا بد أنه الأوبريت.
كل سنة في شهر مارس تعرض المدرسة أوبريت، والذي كان يظهر العديد من القوى المختلفة، ويغير كل شيء لفترة. وكانت مسئولية هذا الأوبريت تقع على عاتقي الآنسة فاريس - التي لم تكن تقوم طوال العام بعمل مميز سوى أن تدرس لتلاميذ الصف الثالث، وأن تعزف مقطوعة «المسيرة التركية» على البيانو كل صباح، والتي نصعد على ألحانها إلى فصولنا - والسيد بويس، وهو عازف آلة الأرجن في الكنيسة المتحدة، وكان يأتي إلى المدرسة يومين أسبوعيا كي يدرس الموسيقى.
كان السيد بويس محط انتباه وعدم احترام الآخرين؛ لأنه كان مختلفا عن المدرسين العاديين؛ فقد كان قصيرا ذا شارب ناعم وعينين دائريتين تبدوان دامعتين كقطعتي كاراميل. وكان أيضا رجلا إنجليزيا انتقل إلى هنا في بداية الحرب بعد أن نجا من غرق سفينة «أثينيا». لا أستطيع تخيل السيد بويس في قارب نجاة في شمال الأطلنطي! لقد كانت المسافة التي يقطعها من سيارته إلى المدرسة في شتاء جوبيلي تتركه يلهث في حنق شديد. وكان يحضر معه جهاز تشغيل أسطوانات في الفصل، ويشغل مقطوعات موسيقية مثل مقطوعة «افتتاحية عام 1812»، ثم يسألنا عن المشاعر والأفكار التي أثارتها هذه الموسيقى في داخلنا. ولأننا اعتدنا فقط الأسئلة الواقعية القويمة، فقد كنا ننظر إلى ألواح أرضية الفصل ونتضاحك وتهتز أجسادنا قليلا كما لو أننا نرى شيئا لا يليق. فكان ينظر إلينا نظرة تنم عن الاستياء قائلا: «أعتقد أنها لا تجعلكم تفكرون إلا في أنه ليس من المفترض أن تستمعوا إليها.» ثم يهز كتفيه في حركة أكثر لطفا وذاتية من أن تصدر عن معلم.
كانت الآنسة فاريس من أهل جوبيلي، فقد ارتادت هذه المدرسة وصعدت هذه السلالم الطويلة التي بليت في موضعين بفعل مسير الأقدام التي تطؤها كل يوم في حين كان شخص آخر يعزف «المسيرة التركية» (لأن هذه المقطوعة يبدو أنها كانت تعزف منذ قديم الأزل). وكان اسمها الأول معروفا، إلينور، وكانت تعيش في منزلها الصغير القريب من رصيف شارع ميسون بالقرب من منزل ناعومي وتتردد على الكنيسة المتحدة. كانت أيضا تذهب للتزلج مساء مرة كل أسبوع طوال فصل الشتاء، وترتدي زيا مخمليا لونه أزرق داكن حاكته لنفسها؛ لأنها لم تكن لتستطيع شراءه قط، فكان زيها مؤطرا بالفراء البيضاء ولديها قلنسوة وغطاء لليدين أبيضا اللون من ذات الفراء تتماشيان مع الزي، وكانت التنورة قصيرة ذات طيات متعددة، ومبطنة بطبقة من نسيج التفتة الحريري الأزرق الشاحب، وتحتها كانت ترتدي بنطالا ضيقا أبيض اللون كراقصات الباليه. مثل هذا الزي كان يوحي بالكثير وبطرائق عدة.
ولم تكن الآنسة فاريس صغيرة السن كذلك. فكانت تصبغ بالحناء شعرها القصير الذي يتماشى مع موضة عشرينيات القرن العشرين، وكانت دائما ما تضع أحمر خدود واضحا على وجنتيها وترسم ابتسامة بأحمر الشفاه على وجهها. وكانت تتزلج في دوائر تاركة تنورتها المبطنة بلون السماء تطير معها. غير أنها كانت جافة ومتصلبة وبريئة، فلم يكن تزلجها هذا عرضا لنفسها، وإنما كان في الواقع يبدو كعرض تعليمي لمهاراتها في التزلج.
Bilinmeyen sayfa