تزوجت ابنة العائلة التي تسكن في المزرعة المجاورة من محام - رجل من المدينة - افتخرت به عائلتها كثيرا وأحضرته كي يتعرف عليهما، فقامت العمة إلسبيث والعمة جريس بالخبز وتلميع الفضة وتحضير الأطباق المطلية يدويا والسكاكين ذات المقابض المرصعة باللآلئ؛ استعدادا لزيارته، وقدما له الكعك وحلوى الزبد وقالب المكسرات والفطائر. وكان شابا شرها، أو ربما كان شديد الارتباك، وكان يتناول الطعام بدافع العصبية؛ حيث كان يلتقط كعكات كاملة كانت تتفتت في طريقها إلى فمه، ويلوث الفتات شاربه. وعلى طاولة العشاء، بدأت العمة جريس - دون أن تتفوه بكلمة - تقليد طريقته في تناول الطعام، وأخذت تبالغ تدريجيا وهي تقلد أصوات الابتلاع وتمسك بأشياء وهمية من طبقها. وصاحت العمة إلسبيث بكياسة وهي تنحني على المائدة: «سيدي المحامي، هل كنت دائما مهتما بحياة الريف؟» وقد جعل هذا - بعد ترحيبهما الشديد له وكياستهما في التعامل معه - قشعريرة باردة تسري في جسدي؛ بمثابة تحذير. وقد كان حكمهما الأخير عليه، والذي قالاه بمزاح، هو: «إنه يظن نفسه شخصا مهما؟» فأخذت أفكر في نفسي: «إنه يظن نفسه شخصا مهما، ألا تظنان هما أنفسهما أنهما امرأتان مهمتان؟» فالادعاء والتظاهر يحيط بنا من كل مكان.
لا يعني ذلك أنهما كانتا ضد الكفاءة، بل كانتا تعترفان بها في عائلتهما، في عائلتنا، ولكن كان يبدو أنه من المفترض إبقاؤها سرا. وكان الطموح هو ما يثير قلقهما، فالطموح يعني وكأن المرء يخطب ود الفشل ويخاطر بأن يجعل من نفسه مثارا للسخرية. وقد أدركت أن أسوأ ما يمكن أن يحدث في الحياة هو أن يسخر منك الآخرون.
قالت لي العمة إلسبيث: «إن عمك كريج واحد من أذكى الرجال وأكثرهم شعبية واحتراما في مقاطعة واواناش، وكان من الممكن أن ينتخب لعضوية المجلس التشريعي أو يصبح عضوا في مجلس الوزراء، إذا أراد ذلك.» «ألم ينتخب العم كريج؟» «لا تكوني سخيفة، إنه لم يترشح قط. لم يكن ليدع اسمه يدخل قوائم الترشيح، لقد فضل ألا يفعل ذلك.»
وكان هذا هو الإيحاء الغامض - والجديد بالنسبة لي - أن اختيار عدم فعل الأشياء يتضح في نهاية الأمر أنه أكثر حكمة واحتراما للذات من فعلها، فهم يحبون أن يرفض الناس العروض التي تقدم لهم مثل الزواج والمناصب والفرص والأموال. كانت ابنة عمي روث ماكوين التي تعيش في تابرتون قد حصلت على منحة لدخول الجامعة نظرا لتفوقها، ولكنها فكرت في الأمر ورفضتها مفضلة الجلوس في المنزل. «فضلت ألا تفعل ذلك.»
لماذا كان ذلك عملا رائعا يستحق الإعجاب؟ على غرار بعض التناغمات الدقيقة في الموسيقى أو في الألوان، كان جمال الرفض أبعد من نطاق إدراكي، ولكنني لم أكن مستعدة كوالدتي لأن أنكر وجودهم.
أما أمي، فقالت عن روث ماكوين: «إنها تخشى أن تخرج رأسها من جحرها.»
كانت العمة مويرا متزوجة من العم بوب أوليفانت، ويعيشان في بورترفيلد، ولديهما ابنة واحدة تدعى ماري آجنس، ولدت متأخرة في حياتهما الزوجية. وأثناء الصيف، كانت العمة مويرا تقود أحيانا مسافة الثلاثة عشر ميلا، التي تفصل بين بورترفيلد وجنكينز بيند، لزيارة مسائية مصطحبة معها ماري آجنس. كانت العمة مويرا تعرف كيف تقود سيارة، وهو ما اعتبرته العمة إلسبيث والعمة جريس شجاعة بالغة منها (وكانت أمي تتعلم قيادة سيارتنا، فكانتا تظنان أنها فكرة طائشة وغير ضرورية). وكانتا تترقبان عبور سيارتها، قديمة الطراز مربعة السقف، للجسر وظهورها على الطريق من اتجاه النهر، وتخرجان لاستقبالها بسيل من صيحات التشجيع والإعجاب والترحيب كما لو كانت قد وجدت طريقها للتو عبر الصحراء الكبرى، لا عبر الطرق الغبارية الحارة من بورترفيلد.
كانت لمحة الخبث التي تتراقص تحت مجاملاتهما إلى بقية العالم تغيب تماما في اهتمامهما ببعضهما، واهتمامهما بأشقائهما وشقيقاتهما، فلم يكن أفراد العائلة يكنون بعضهم لبعض سوى مشاعر الحنان والفخر. والشعور نفسه تجاه ماري آجنس أوليفانت، التي لم أستطع منع نفسي من التفكير في أنهما تفضلانها علي. كنت أجد منهما الحفاوة والترحيب والاستمتاع بصحبتي، ولكنني كنت ملوثة بمؤثرات أخرى، وبحقيقة أن نصف عنصر الوراثة فقط ينتمي إليهم، فنشأتي في نظرهم مليئة بالهرطقة التي لا يمكن إصلاحها بالكامل، أما ماري آجنس، فقد بدا لي كما لو كانت تستقبل بعاطفة خالصة أكثر إشراقا وثقة.
في جنكينز بيند لم يكن يذكر قط أن ثمة أي مشكلة بشأن ماري آجنس، وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك أمر خطير بالفعل، فقد كانت مثل معظم الناس، فيما عدا أنك لا تتخيلها وهي تذهب للمتجر وحدها وتبتاع شيئا أو تذهب إلى أي مكان وحدها، بل عليها أن تكون دائما مع أمها. لم تكن حمقاء، ولم تكن تشبه إيرين بولوكس وفرانكي هول في طريق فلاتس، وبالطبع لم تكن بلهاء لدرجة أن يسمح لها بركوب الأرجوحة في معرض كينزمنز طوال اليوم مجانا كما كان يسمح لهما، حتى وإن كانت العمة مويرا سوف تسمح لها بأن تجعل من نفسها موضع سخرية، فإنها لن تفعل. كانت بشرتها تبدو مكسوة بطبقة من الغبار كما لو كان عليها لوح زجاج رقيق متسخ أو ورقة خفيفة زيتية.
قالت أمي - التي تستمتع دائما بتقديم التفسيرات - عنها: «لقد تعرضت للحرمان من الأكسجين، تعرضت للحرمان من الأكسجين في قناة الولادة، فقد ضم العم بوب أوليفانت ساقي العمة مويرا وهي في طريقها للمستشفى؛ لأن الطبيب أخبرهما أنها قد تتعرض للنزيف.»
Bilinmeyen sayfa