تخلصت من الأخ الأكبر السكير في روايتي؛ فثلاث مصائر مأساوية أمر مبالغ فيه حتى بالنسبة لرواية، وبالتأكيد كان أكثر مما يمكنني أن أتعامل معه. أما الأخ الأصغر منه فقد صورته مهذبا محبا يحمل براءة مبالغا فيها في مظهره: وجهه ذو نمش وردي وجسده ضعيف يميل إلى السمنة، وكان الأولاد الآخرون يتنمرون عليه في المدرسة وغير قادر على تعلم الحساب أو الجغرافيا، ولا يشعر بالسعادة أبدا سوى مرة واحدة في العام حين يسمح له بركوب الأرجوحة الدوارة في مهرجان كنزمن، حينها كانت ترتسم على وجهه ابتسامة تنم عن ابتهاج كبير. (استلهمت هذه الشخصية بالطبع من فرانكي هال، ذاك الأحمق المسن الذي كان يعيش في طريق فلاتس، والذي كان قد مات آنذاك، وكان دائما يركب هذه اللعبة طوال اليوم مجانا، وكان يلوح للناس بغطرسة ملكية على الرغم من أنه لم يهتم بأي أحد من قبل.) كان الأولاد يسخرون منه بسبب أخته ... «كارولين!» نعم اخترت اسم كارولين، وقد برزت فجأة صورة هذه الشخصية في ذهني، شخصية ساخرة كتومة لتطغى تماما على شخصية ماريون لاعبة التنس القصيرة البدينة. هل كانت قميئة؟ هل كانت تعاني الشبق الجنسي؟ كلا، ليس الأمر بهذه البساطة!
كانت متقلبة المزاج وخفيفة كورقة شجر، وكانت تسير في طرقات جوبيلي كما لو كانت تحاول أن تخترق جدارا غير مرئي. كان شعرها طويلا أسود اللون، وكانت تغدق المنح الجنسية على الرجال على حسب أهوائها، ليس للرجال ذوي الوسامة الذين يظنون أنها من حقهم، ولا لأبطال المدارس الثانوية المتجهمين الرياضيين الذين يجري في دمائهم الحارة حب الانتصار، وإنما على الأزواج في منتصف العمر الضجرين من حياتهم، والباعة المتجولين الفاشلين الذي يمرون بالمدينة، بل وحتى على بعض المشوهين والمختلين بعض الشيء. لكن كرمها هذا كان يسخر منهم ، «وجسدها الذي يجمع بين الحلاوة والمرارة بلونه المشابه للون اللوز المقشر» كان يدمر الرجال بسرعة ويترك طعم الموت. لقد كانت قربانا، يمددون جسدها للجنس على شواهد القبور العتيقة غير المريحة، ويدفعونها بقوة قبالة جزوع الأشجار القاسية، وجسدها الواهن ينسحق في الطين وروث الحظائر، ويعاني تحت الثقل القاتل لأجساد الرجال، لكن رغم ذلك كانت هي - وليس هم - من ينجو ويبقى على قيد الحياة.
ذات يوم جاء رجل إلى المدرسة الثانوية ليلتقط الصور، في البداية رأته مغطى بقماش المصورين الأسود، لم يبد منه سوى ظهر محدودب مغطى بقماش مهترئ أسود ورمادي ظاهر خلف الحامل ثلاثي القوائم، ورأت عدسة الكاميرا الكبيرة والطيات السوداء التي تشبه انثناءات آلة الأكورديون التي تميز الكاميرات القديمة. لكن كيف بدا عندما أخرج رأسه من وراء الكاميرا؟ شعره أسود مفروق من المنتصف ومصفف إلى الخلف، وتملأ قشرة الشعر قسمي الشعر، وله صدر وكتفان نحيلان، وبشرة شاحبة متقشرة، ولكن رغم مظهره المهلهل واعتلال بدنه كانت تشع منه طاقة شريرة، وكان ذا ابتسامة فاقعة لا تعرف الرحمة.
لم يكن له اسم في الرواية، وإنما كان يطلق عليه «المصور»، وكان يتنقل في أرجاء المدينة بسيارة مربعة مرتفعة ذات سقف قمته من القماش الأسود يخفق عندما تتحرك السيارة. لكن الصور التي كان يلتقطها كانت غير عادية، بل إنها كانت مرعبة، فكان الناس يرون أنفسهم في هذه الصور وقد شاخوا عشرين أو ثلاثين سنة، وكان من هم في منتصف العمر يرون في ملامحهم تشابها مروعا متزايدا ومحتوما بذويهم الموتى، والفتيات والفتيان الشباب رأوا كم ستصير وجوههم نحيلة أو معتمة أو حمقاء عندما يبلغون سن الخمسين. وبدت العرائس في تلك الصور حوامل، وبدا الأطفال كما لو أنهم يعانون من زوائد أنفية، ولهذا لم يكن مصورا يلقى إقبالا رغم رخص سعره. لكن برغم هذا لم يرفض أحد خدماته لأنهم كانوا يخشونه؛ فكان الأطفال يتوارون في الحفر عندما تمر سيارته بالطريق. أما كارولين فقد كانت تلاحقه، وكانت تجول في الطرقات تحت القيظ تفتش عنه ، انتظرته وتربصت به ثم عرضت عليه نفسها دون أن تظهر الاحتقار الدفين والاستعداد غير المكترث الذي كانت تتعامل به مع الرجال الآخرين، وإنما بلهفة وتوق وأمل وبكاء. وذات يوم (حين شعرت أن رحمها متورم «مثل ثمرة يقطين صفراء صلبة في بطنها») وجدت سيارته مقلوبة بجانب الجسر، مقلوبة في خندق بجانب جدول مياه جاف. كانت السيارة خالية، لقد اختفى، وفي تلك الليلة مشت هي حتى غرقت في نهر واواناش.
هذه هي كل القصة التي كتبتها. فيما عدا أنه بعدما ماتت، رأى شقيقها المسكين حين نظر إلى الصورة التي التقطها المصور لصف أخته في المدرسة الثانوية وجد أن عيني «كارولين كانتا بيضاوين».
لم أنته من التفكير في جميع المعاني الممكنة لهذا الأمر، لكنها بدت متنوعة وقوية.
في هذه الرواية غيرت جوبيلي كذلك، أو انتقيت منها بعض الملامح وتجاهلت ملامح أخرى. في الرواية، أصبحت مدينة أقدم وأكثر إظلاما وأكثر انحطاطا، مليئة بالأسوار العالية غير المطلية المغطاة بملصقات دعائية ممزقة لرحلات بالسفن، أو لمهرجانات الخريف، أو الانتخابات التي جرت وانتهت منذ زمن طويل. كان قاطنوها إما نحيلين مثل كارولين أو بدناء كالفقاقيع، وكان كلامهم ناعما مراوغا وأحمق بشكل غريب، وتفاهاتهم مجنونة. وكان الوقت الذي تجري فيه أحداث الرواية هو منتصف الصيف؛ حيث الحرارة الحارقة والكلاب الراقدة على الأرصفة وكأنها جثث هامدة، وموجات الريح - التي ترتعش مثل الجيلي - تضرب الطريق السريع الخاوي. لكن كيف إذن سيكون هناك ما يكفي من ماء في نهر واواناش لإغراقها؟ فمن حين لآخر كانت تبرز حقائق صغيرة مهملة لتثير قلقي؛ فبدلا من أن تمشي كارولين حانية رأسها عارية تحت ضوء القمر مذعنة نحو عمق النهر، سيكون عليها أن تستلقي ورأسها للأسفل كما لو كانت تغرق نفسها في حوض الاستحمام.
تخيلت جميع الصور، وقد كانت لدي فكرة غير واضحة عن أسباب ما يحدث، لكن لم أكن قادرة على تفسير هذه الأسباب، وتوقعت أن يتضح كل هذا لي لاحقا. المهم هو أن تلك الأحداث بدت لي حقيقية، ليست واقعية وإنما حقيقية، كما لو أنني اكتشفت هذه القصة وهذه الشخصيات، ولم أختلقهم، وكما لو أن تلك المدينة موجودة خلف هذه المدينة التي أمشي في طرقاتها كل يوم.
لم أول آل شيريف الحقيقيين أي اهتمام بمجرد أن حولتهم إلى شخصيات أخرى لأغراض روايتي. عاد بوبي شيريف - الابن الذي كان في المصحة - إلى بيته لفترة ما - وهو ما بدا أنه قد حدث من قبل - وشاهده الناس يتمشى في شوارع جوبيلي ويتحدث مع الآخرين. كنت قريبة منه بما يكفي لأن أسمع صوته الناعم المهذب المتأني، ولاحظت أنه كان دوما يبدو مشذب الشعر معطر الجسد، ويرتدي ثيابا فاخرة، وكان قصيرا بدينا ويمشي بمرح وابتهاج يميز أولئك الذين لا يجدون ما يفعلون. لم أستطع أن أربط بينه وبين شخصية الأخ المجنون الذي ابتكرته في عائلة هالوواي.
كنت أنا وجيري ستوري عندما نعود من نزهاتنا سيرا على الأقدام نرى جوبيلي بوضوح، فنراها - بعد أن سقطت الأوراق عن الشجر - ممتدة أمام أعيننا بنمط غير معقد من الشوارع التي كانت تحمل أسماء معارك وسيدات وملوك وشخصيات رائدة. وذات مرة بينما كنا نمشي فوق الجسر مرت تحتنا سيارة مليئة بأناس من مدرستنا، وكانوا يطلقون نفير السيارات نحونا، راودتني رؤية - كما لو كنت أرى نفسي من الخارج - حول مدى غرابة هذه الأمور: فكان جيري يفكر في مستقبل يشهد هلاك جوبيلي والحياة فيها ويرحب به، وأنا أخطط سرا لتحويل جوبيلي إلى حكاية مأساوية وأدمجها في روايتي، بينما سكان المدينة - الناس الذين يمثلون المدينة في الواقع - كانوا يطلقون نفير سياراتهم - في سخرية لأي شخص يسير ولا يركب في عصر أيام الآحاد - دون أن يعرفوا الخطر الذي يحدق بهم بسببنا. •••
Bilinmeyen sayfa