أو قل: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئا مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل ، إلى صاحبته ثم نشرها كتابا تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه، فهي رسائله إليها على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه.
وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخلق، يتمنى العاشق لو كان له ملء الفضاء ليهبه إلى من يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول ...! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته: «إنه يحبك»، يعني: «أنا أحبك!» ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهد قريب ...!
وبهذا الأسلوب تحدث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان. «أنا ...» هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعت في نبره معنى شموخ الأنف، وصعر الخد، وكبرياء الخلق، لا يؤدي في لغة الحب إلا معنى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى: «أنا محروم ...!»
يا عجبا للحب! كل شيء فيه يحول عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام ...!
وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: «هو»، ويعني: «أنا ...»؛ لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب ...! •••
إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتابا يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي، وهي كل حسبه من القراء، فمن ذلك لم يجر فيها على نظام المؤلفين فيما يكتبون للقراء من قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان والحادثة، بل أرسلها خواطر مطلقة لا يعنيه أن يقرأها قارئها فيجد فيها اللذة والمتاع، أو يجد فيها الملل وحيرة الفكرة وشرود الخاطر.
ولم يكتبها - كما يزعم - رسائل أدبية عامة تتم بها العربية تمامها في فن من فنون الرسائل لم يؤثر مثله فيما نقل إلينا من تراث الكتاب العرب، ليحتذيه المتأدبون وينسجوا على منواله، بل هي رسائل خاصة تترجم عن شيء كان بين نفسين في قصة لم يذكرها في كتابه ولم ينشر من خبرها.
وبذلك ظلت «رسائل الأحزان» عند أكثر قراء العربية شيئا من البيان المصنوع تكلفه كاتبه يحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده على أنه كتاب فريد في العربية في أسلوبه ومعانيه وبيانه الرائع، ولكنه بقية قصة لم تنشر معه، فجاء كما تأكل النار كتابا من عيون الكتب فما تبقي منه إلا على الهامش والتعليق، وصلب الكتاب رماد في بقايا النار ...
فمن شاء أن يقرأ رسائل الأحزان فليقرأ قصة غرام الرافعي قبل أن يقرأه، فسيجد فيه عندئذ شيئا كان يفتقده فلا يجده، ولسوف يوقن يومئذ أن الرافعي أنشأ في العربية أدبا يستحق الخلود. •••
قلت: إن الرافعي أنشأ رسائل الأحزان؛ ليكون رسالة إليها هي، فهذا كان أول أمره فيما بينهما من الرسائل التي قلت عنها فيما سبق إنهما كانا يتبادلانها على أعين القراء من غير أن يذيع السر أو ينكشف الضمير، ومن غير أن يسعى بينهما حامل البريد، ولقد ردت صاحبته على رسالته هذه برسالة مثلها بعثت بها إليه مع بائع الصحف والمجلات ... ثم تتابعت رسائلهما من بعد على هذا الأسلوب العجيب ...!
Bilinmeyen sayfa