ثم لم يلبث بعد ذلك أن جاءه النبأ أنها سافرت إلى الشام لعلة في أعصابها ...!
شعر وفلسفة، وحب وكبرياء (1) «إن في الرجل شيئا ينقذ المرأة منه وإن ملك بحبها، وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه؛ فيه الرجولة إذا كان شهما، وفيه الضمير إذا كان شريفا، وفيه الدم إذا كان كريما، فوالذي نفسي بيده، لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تجن عواطفه وينفر طائر حلمه من صدره، إلا عاذت - والله - بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة.» (2) «... ويسرف علي بغضها أحيانا، فأتلهف عليها في زفرات كمعمعة الحريق حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة، فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس، ثم يسرف علي حبها أحيانا، فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته، يتطوح من غمرة إلى غمرة، فأنا بين نقمة تفجأ وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مائة درجة لأهبط مائة درجة ...!» (3) «لقيتها وما أريد الهوى ولا تعمده قلبي، ولا أحسب أن فيها أمورا ستئول مآلها، وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تفضي إليه، وما يمكن وقوعه فتهمله فلا يفضي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة، ومتى استطردك القدر الذي لا مفر منه، أقبل بك على ما كنت منه تفر.» (4) «... إنها لأبلغ ذات لسان، وأبرع ذات فكر، وأروع ذات نفس، ولو كنا سليلي أبوة ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفا، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفا، وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي أشهد لها ...!» (5) «... دعني أقول لك: إني أبغض من أحبها ... وإن هذا البغض وجه آخر من الحب، كالجرح: ظاهره له ألم وباطنه له ألم.» (6) «... وكما ينشأ الكفر أحيانا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب!»
الرافعي
أترى صوتي يبلغ إليها حيث تقيم بالشام شاردة الخيال مستطارة القلب؟
12
أم ترى صوتي يبلغ إليه تحت أطباق الثرى وبيننا هذا القدر من عمر الزمان كأنه من البعد وانفساح المدى سنوات وسنوات؟
إنه ليخيل إلي أن هذا الحديث الذي أكتبه عنها وعنه هو رسالة من الغيب. إلى هذه الحبيبة الواجدة المحزونة، من الحبيب الذي أحبها أعنف الحب وأرقه وما تراءى لها مع ذلك في عمره الطويل إلا الرجل القاسي الذي حطم قلبها بقسوته وكبريائه، ومات وما تلقت رسالته الأخيرة، فنفذت روحه من أقطار السموات لتمليها علي وفيها المعذرة والاستغفار ...
آه لو تدرين كم كان يحبك أيتها الحبيبة! ... فهل كنت ...؟ ولكن ... ولكن لا سبيل إلى ما فات ...! •••
لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبا أضل نفسه وشرد فكره وسلبه القرار، ولكنه حب عجيب، ليس فيه حنين الدم إلى الدم، ولكن حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مناجاة طويلة كأنها تسبيح وعبادة، وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في غمراته خلقا بلا إرادة فليس له من دنياه إلا «هي»، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه!
والرافعي رجل كان له ذات وكبرياء، فأين يجد من هذا الحب ذاته وكبرياءه؟ هكذا سألته نفسه! •••
Bilinmeyen sayfa