قال الرافعي: «وغشيتني غشية من الفرح، فما تلبثت حتى مددت إليه يدي فقرأنا الفاتحة، وما وقع في نفسي وقتئذ أنني أمد يدي لأخطب عروسي لنفسي، ولكني أمدها لأتعرف إلى العروس التي خطبتها علي الملائكة وأثبتت نبأ الخطبة في لوح الغيب.»
وبنى بأهله، وعاشا أهنأ ما يكون زوج وزوج، ثلاثا وثلاثين سنة - ثلث قرن - لم يدخل الشيطان بينهما، ولم يتخاصما لأمر، إلا مرة ...
قال الأستاذ جورج إبراهيم: «لقد حضرت عرس الرافعي، وصحبته طوال يومه حتى صعد إلى جلوة العروس، وشهدت اضطرابه وخجلته، واستمعت إليه من بعد يتحدث عن سعادته ويغبط نفسه على حظه وتوفيقه، فما شكا إلي مرة واحدة هما ناله، ومضى عام ... وجاءني ذات يوم، فجلسنا نتحدث، وتسرحنا في الحديث، ولكن وجه الرافعي كان ينم على سر يطويه، ثم لم يلبث أن أفصح، قال: يا جورج، لقد عزمت على أمر ... سأطلق زوجي! وراعني هذا النبأ ونال مني، قلت: تطلقها! لماذا؟ قال: إن إخوتها يجحدون حقها في تركة أبيها لا يريدون أن تستمتع منها بشيء ... قلت: فهذا هو السبب؟ قال: نعم! قلت: ويهون عندك أن تأخذها بما اقترف أخوها؟ ... مصطفى، إنك جبار، أو لا، فاذكر أن الطلاق جريمة لم يقترفها قبلك أحد من أسرة الرافعي، أو لا هذا ولا ذاك، فاذكر أن أهل «طرابلس الشام» لا يذكرون الطلاق إلا كما يذكرون نادرة معيبة وقعت مرة ولن تتكرر من بعد ... فكن بعض أهلك يا صاحبي ...»
قال: «وأطرق الرافعي هنيهة ثم قال: أحسبتني أفعلها؟!»
قال: «ولم يدخل الشيطان من بعد بينه وبين أهله؛ إذ كان كل منهما يعرف لصاحبه حقه وواجبه ... ومضت اثنتان وثلاثون سنة بعد هذه الحادثة، كما يمضي شهر العسل، أو شعر الغزل، ليس فيه إلا العطف والمحبة والاحترام.» •••
كان الرفاعي يعيش في بيته عيشة مثالية عالية، فهو زوج كما يجب أن يكون الزوج، وأب كما يجب ان يكون الأب، وما كان منكورا لأحد من أهله إن الرافعي ليس موظفا كسائر الموظفين، عمله في الخارج وحسب، بل كانوا جميعا يعلمون ما عليهم لهذا الرجل الكبير، ويشعرون بما عليه من تبعات تفرضها عليه مكانته الأدبية، فيهنئون له أسباب الهدوء والراحة والاطمئنان، كان في بيته كالملك من الحكومة الدستورية، يملك ولا يحكم، ويعيش في جو من الاحترام والرعاية والطاعة فوق الأحزاب وفوق المنازعات، فمن ذلك لم تكن «سياسة» البيت تشغله أي شغل أو تشغب على هدوئه وتعكر صفوه، فكان خالصا لنفسه، منقطعا لفنه وعمله الأدبي، فدار كتبه له هو وحده، وطعامه مهيأ في موعده وعلى نظامه، وفراشه ممهد في موضعه لساعته، ونظامه الذي يحقق له الهدوء والراحة ونشاط الفكر مرعي مضبوط.
على أنه كان إلى ذلك يعرف واجبه لزوجه وأولاده، فما هو إلا أن يفرغ من عمله حتى تراه بين أهله مثلا عاليا من الحب والوفاء، وأنا ما عرفت أبا لأولاده كما عرفت الرافعي؛ إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حبا بحب، ثم لا يمنعه هذا الحب الغالي أن يكون لهم أبا فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد ناصحا برفق حين يحسن الرفق، مؤدبا بعنف حين لا يجدي إلا الشدة والعنفوان. •••
وما دمت بصدد الحديث عن الرافعي في أهله، فإن واجبا علي أن أتحدث هنا عن شيء من «حب الرافعي» أراه يتصل بهذا الموضوع:
في فترة ما من حياة الرافعي - سيأتي الحديث عنها بتفصيل أوفى فيما بعد - كان للرافعي هوى وغرام، ووقع له في هواه ما يقع للمحبين من ضرورات الحب ودافع نفسه ما دافع فلم يجد له طاقة على المقاومة، واحتال على الخلاص فما أجدته الحيلة إلا هما على هم، وكان حبه أقوى منه، ولكن دينه وأخلاقه كانت أقوى من حبه.
وقال لنفسه: «ما أنا وهذا الحدث الذي يعترض طريقي ويغلبني على إرادتي؟ إن في بيتي امرأة أحبها وتحبني - والحب عند الرافعي لا يأبى الشركة - وإن لها علي حقا ليس منه أن يكون مني لغيرها نظرة أو ابتسامة إلا أن تأذن لي! ماذا يكون من أمري وأمرها غدا أمام الله حين يطلب كل ذي حق حقه؟ أأقول لها: نعم، قد ضيعت حقك وأعطيت من قلبي الذي لا أملك لمن لا تملك؟ ويلي! إنها الخيانة والإثم والعار!»
Bilinmeyen sayfa