2
ثم كانت قصة سعيد بن المسيب في سنة 1934.
على أن ثمة فرقا بين هذه القصة والقصتين الأوليين؛ ذلك أن هاتين القصتين هو أنشأهما إنشاء، فلم يعتمد فيهما على حادثة في التاريخ أو حديث في كتاب، أما قصة سعيد بن المسيب فلها أصل معتمد في التاريخ فلم يكن له في إنشائها إلا بيان الأديب وفن القاص، وكانت نواة فمهد لها واستنبتها فنمت وازدهرت.
وفي الأدب القديم نويات كثيرة من مثل هذه النواة لم يتنبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لها لوجدوا معينا لا ينضب كان حريا بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فنا جديدا من غير أن يقطعوا الصلة بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي، وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين ، لا إلى الاستعارة والاستجداء من أدب الغرب والجري في غبار كتابه وشعرائه. ... أقول: إن الرافعي لم يكن يعرف عن فن القصة شيئا يحمله على معالجتها ويغريه على العناية بها، وقد قدمت القول بأنه كان يسخر ممن يقصر جهده من الأدباء على معالجة القصة ولا يراه أهلا لأن يكون من أصحاب الامتياز في الأدب؛ إذ لم تكن القصة عنده إلا ضربا من العبث ولونا من ألوان الأدب الرخيص لا ينبغي أن تكون هي كل أدب الأديب وفن الكاتب، وقد كان يعيب علي لأول عهدي بالكتابة أنني لا أكاد أكتب في غير القصة، وأنني أجعل بعض همي في دراسة الأدب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أقرأ عن فن القصة وأسلوبها وطرائقها ومذاهب الكتاب فيها، وكان يرى ذلك مني تخلفا وعجزا ونزولا بنفسي غير منزلتها بين أهل الأدب!
على أنه إلى ذلك كان يجد لذة في قراءة القصة على أنها لون من ألوان الرياضة العقلية لا باب من الأدب، كما يشاهد رواية في السيما أو يقرأ حادثة في جريدة، وأحسب أنه كان يعتقد - على أنه كان لا يعرف التواضع في الأدب - بأنه لا يحسن أن ينشئ قصة ولا ينبغي له، وأحسبه أيضا حين أنشأ قصة سعيد بن المسيب لم يكن يقصد إلى أن تكون قصة، ولكنها هكذا جاءت على غير إرادته فكأنما اكتشف بها نفسه ...
والحقيقة أن الرافعي كان يملك طبيعة فنية خصبة في القصة، يعرفها من يعرفه في أحاديثه الخاصة بينه وبين أصحابه حين كان يعتمد العبث والتسلية، فيطوي من الحديث وينشر، ويكتم ويوري، ويورد الخبر غير مورده، ويهزل ولا يقول إلا الجد، ويطوي النادرة إلى آخر الحديث، ويقول في آخر المقال ما كان ينبغي أن يكون في أوله.
وكان له إلى ذلك تعبير رشيق وفكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع، وإن له في هذه الفكاهة لمذاهب عقلية بديعة تحس فيها روحه الشاعرة وحكمته المتزنة وسخريته اللاذعة، ويكاد كثير من مقالاته يكون برهانا على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة. ... وهذه هي كل أدوات القاص الموفق، فما ينقصه إلا أن يدرس فن القصة ومذاهبها ليكون فيها من السابقين المبرزين، ولكن الرافعي كان يجهل طبيعة نفسه، وكان له في كتاب القصة ما قدمت من الرأي، فكان تخلفه من هذين!
وحتى فيما أنشأ من القصص بعد ذلك، لم يكن له مذهب فني خاص يحتذيه ويسير على نهجه، ولكنه كان يقص كما تلهمه فطرته غير ملق باله إلى ما رسم أهل الفن من حدود القصة وقواعدها، فإننا بذلك لنستطيع أن ندرس طبيعته وطريقته القصصية خالصة له وحده، غير متأثر فيها بمذهب من مذاهب المتقدمين أو المتأخرين من كتاب القصص، على ما قد يكون فيها من نقص وتخلف، أو ابتكار وتجديد.
وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالات في أسلوب جديد، فهو لا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي ثم تأتي الحادثة من بعد، فكان إذا هم أن ينشئ قصة من القصص، جعل همه الأول أن يفكر في الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في إنشاء المقالات - فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، كان بذلك قد انتهى إلى موضوعه فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء، وسواء عليه بعد ذلك أن يؤدي موضوعه على طريقة المقالة أو على طريقة القصة، فكلاهما ينتهيان به إلى هدف واحد، فإذا اختار أن تكون قصة تناول كتابا من كتب التراجم الكثيرة بين يديه فيقرأ منها ما يتفق، حتى يعثر باسم من أعلام التاريخ، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه، ومجالسه، ثم يصطنع من ذلك قصة صغيرة يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل، وإنه ليلهم أحيانا ويوفق في ذلك توفيقا عجيبا، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ، وما للتاريخ فيها إلا نادرة يرويها في سطور، أو إلا أسماء الرجال ...
على أن البديع في ذلك هو قدرة الرافعي - يرحمه الله - على أن يعيش بخياله في كل عصر من عصور التاريخ، فيحس إحساسه، ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك كثير ممن يقرأ قصة من قصص الرافعي في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء.
Bilinmeyen sayfa