ومن ذلك مقالة «الفيلسوف الزبال» التي وعد أن يكتبها حين أنشأ قصة «بنت الباشا»،
1
ثم مضت ثلاثة أعوام ووفاه الأجل وما تزال مقالة الزبال عنوانا في رأس ورقة تحته نثار من الخواطر والمعاني التي كان يدخرها إلى يومها المؤمل!
ولقد وجدت على مكتبه في طنطا غداة نعيه كثيرا من هذه الورقات، تشير إلى كثير من أمل الأحياء، وإلى كثير من خداع الحياة ...! •••
فإذا تم له اختيار الموضوع الذي يتهيأ لكتابته، تركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة تهيئ له مادته، ويدعه كذلك وقتا يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره لا تكاد تفلت منه خاطرة، وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في كل موجود يراه صوتا يسمعه، وكأن في كل ما يسمعه لونا يراه، وكأن في كل شيء شيئا زائدا على حقيقته يملي عليه معنى أو رأيا أو فكرة.
فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف - والقدر الكافي لتجتمع له هذه الخواطر هو يومان أو ثلاثة - أخذ في ترتيبها معنى إلى معنى، وجملة إلى جملة، ورأيا إلى رأي، فهذه الخطوط الأولى من هيكل المقالة.
ثم يعود بعد ذلك إلى هذه الخواطر المرتبة - بعد أن ينفي عنها من الفضول ما يدخره ل «كلمة وكليمة» أو لموضوع آخر - فينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد ، ولا يزال هكذا يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، ويتفطر له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها.
إلى هنا يكون قد انتهى عمل الذهن، وعمل النفس، ويبقى عمل الفن والصناعة لتخرج مقالة الرافعي إلى القراء في قالبها الأخير الذي يطالع به الأدباء. •••
لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى وعاطفة فحسب، بل كانت إلى ذلك فنا وأسلوبا وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يطوى تاريخه بين دفتين هو فكر وبيان، ما بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدبا يستحق الخلود، ذلك كان رأي الرافعي ومذهبه؛ فمن ذلك لم يكن يعتبر المقالة وقد انتظمت في خاطره معنى وفكرة، مقالة تستحق أن تكتب وتنشر إلا أن يهيئ لها الثوب الأنيق الذي تظهر به لقرائها، وهذه هي المرحلة الأخيرة.
وأول ما يعنيه في ذلك هو بدء الموضوع وخاتمته، لست أعني العبارة التي يبدأ بها والتي يختم، ولكني أعني طريقة البدء والختام في الموضوع، شأنه في ذلك شأن القاص، تجتمع له أسباب القصة بمقدمتها وحوادثها وما آلت إليه مرتبة ترتيب الحادثة بما بدأت وما انتهت، حتى إذا أراد أن يحكيها لمن يسمع أو يكتبها لمن يقرأ، قدم وأخر، وأظهر وأخفى، وبدأ القصة بما لم تبدأ ليعقد «العقدة» ويرصد للحل والنفس مستشرقة إليه متطلعة إلى خاتمته ... وكذلك كان الرافعي يفعل في مقالاته. ... فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية، آن أوان الأداء فأخذ له أهبته، فيطوي وريقاته ساعة ليرجع إلى كتاب، أي كتاب، من كتب العربية يقرأ منه صفحات كما تتفق لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتا ما قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان، وخير ما يقرأ في هذا الباب، كتب الجاحظ وابن المقفع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج.
Bilinmeyen sayfa