وقد يخطى القول في بعض الأشياء، ولا يضمن الإصابة في كل شيء، ولكن الخطأ ينفي العصمة الكاملة ولا ينفي الوجود، فقد يكون العقل المجمل موجودا عاملا وهو غير معصوم عن الخطأ الكثير أو القليل، ولن يقدح ذلك لا في وجوده ولا في صلاحه للتفكير؛ لأن «التقسيم المنطقي» يخطئ أيضا كما يخطئ العقل المجمل في أحكامه المجملة، ولا يقال من أجل ذلك: إن التقسيم المنطقي غير موجود أو غير صالح للتفكير.
فإذا قالت البداهة العقلية: «نعم ... هناك إله.» فهذا القول له قيمة في النظر الإنساني لا تقل عن قيمة المنطق والقياس؛ لأنها قيمة العقل الحي الذي لا يرجع المنطق والقياس إلى مصدر غير مصدره أو سند أقوى من سنده، وقد كان العقل المجمل أبدا أقرب إلى الإيمان، وأقرب إلى قولة «نعم.» في البحث عن الله، ولم يستطع التقسيم المنطقي أن يقول: «لا.» قاطعة مانعة في هذا الموضوع.
وقد أسفرت مباحث الفلاسفة المؤمنين عن براهين مختلفة لإثبات وجود الله بالحجة والدليل، ونحسب أننا نضعها في موضعها حين نقرر في شأنها هذه الحقيقة التي يقل فيها التشكك والخلاف، وهي أن البراهين جميعا لا تغني عن الوعي الكوني، وأن الإحاطة بالحقيقة الإلهية شيء لا ينحصر في عقل إنسان، ولا في دليل يتمخض عنه عقل الإنسان، وإنما الترجيح هنا بين نوعين من الأدلة والبراهين، وهما نوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المؤمنون، ونوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المنكرون، فإذا كانت أدلة المؤمنين أرجح من أدلة المنكرين فقد أغنى الدليل غناءه، وأدى القياس رسالته التي يستطيعها في هذا المجال، وهي في الواقع أرجح وأصلح للاقتناع بالفكر - فضلا عن الاقتناع بالبداهة - كما يبدو من كل موازنة منصفة بين الكفتين.
ولا يخفى أن قاعدة الإثبات والنفي في مناقشات الخصوم لا تنطبق على هذا الموضوع الجليل، فليس للعقل البشري خصومة في الإثبات، ولا خصومة في الإنكار ... وليس على أحد عبء الدليل كله، ولا على أحد عبء الإنكار كله في البحث عن حقيقة الوجود.
ونحن لا نحصي هنا جميع البراهين التي استدل بها الفلاسفة على وجود الله، فإنها كثيرة يشابه بعضها بعضا في القواعد وإن اختلفت قليلا في التفصيلات والفروع، ولكننا نكتفي منها بأشيعها وأجمعها وأقربها إلى التواتر والقبول، وهي: برهان الخلق، وبرهان الغاية، وبرهان الاستكمال أو الاستقصاء، وبرهان الأخلاق أو وازع الضمير.
محمد الإنسان
من الأقوال المتواترة بين كثير من مؤرخي المسيحية، أنها انتشرت على يد بولس الرسول، ولو لم يعرف المسيحيون قبل ذلك بهذا الاسم لعرفوا في الغرب باسم «البولسيين» نسبة إلى «بولس» الذي كان يدعى قبل ذلك باسم شاؤل.
ويحمل الاستطراد بعض مؤرخي الغرب إلى التماس الشبه بين انتشار المسيحية، وانتشار الإسلام في خصلة كهذه بين محمد - عليه السلام - وخليفة من أكبر أصحابه، وهو الفاروق عمر بن الخطاب، ويزيدهم ولعا بهذا التشبيه أن الفاروق كان أيام جاهليته أشد أبناء قريش إيذاء للمسلمين، وكذلك كان بولس قبل إيمانه برسالة السيد المسيح، فإنه آمن بها وهو يتجرد لاضطهاد أتباعها في حملة من حملاته على الشام.
وهذه مشابهة مغرية بالمقارنة في أكثر ظواهرها وأشكالها، ولكنها تنقضي عند حقيقة واحدة غفل عنها أصحاب المقارنات بين الأديان، وتلك هي الفرق بين أثر الدعوة وأثر الداعي بالنسبة إلى الرجلين، فإن بولس الرسول لم يلق السيد المسيح ولم يعاشره على التحقيق، ولكن الفاروق كان هو نفسه غرسا من غروس محمد - عليه السلام - وكان في كل ما عمله بعد إسلامه طالبا مجتهدا على يد معلم محبوب.
واجتماع الرجال الأفذاذ من قبيل ابن الخطاب هو مقياس العظمة الإنسانية في نبي الإسلام - صلوات الله عليه - فلم يحدث قط في تواريخ الدعوات الدينية، كتابية كانت أو غير كتابية، أن اجتمع حول داع من دعاتها رهط من أفذاذ الرجال يدينون «لشخص» ذلك الداعي بالإجلال والمحبة، ويعترفون له بالتفوق والرجحان راضين مغتبطين كما اجتمع الفاروق وأقرانه حول نبي الإسلام، وقد ظل الفاروق طوال حياته يتحدث بعذوبة قول النبي له: «يا أخي.» مرة وندائه له بكنيته «أبي حفص» مرة أخرى، وظل غيره من الصحابة يحتفظون بكل أثر «شخصي» ظفروا به في أيام صحبتهم له سنوات بعد سنوات ... •••
Bilinmeyen sayfa