فائدة البحث إنسانية عامة
وأذهب إلى أبعد مما تقدم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتشيم هذا النور في ثيوزوفية الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى جميعا خليقون أن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق. فالتفكير الإسلامي - على أنه تفكير علمي الأساس على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، وهو من هذه الناحية واقعي بحت - ينقلب تفكيرا ذاتيا حين يتصل الأمر بعلاقة الإنسان بالكون وخالق الكون، ويبدع لذلك في النواحي النفسية والنواحي الروحية آثارا يقف العلم بوسائله حائرا أمامها، لا يستطيع أن يثبتها ولا أن ينفيها، وهو لا يعتبرها حقائق علمية، ثم هي تظل مع ذلك قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقومة سلوكه فيها. فما الحياة؟ وما صلة الإنسان بهذا الكون؟ وما حرصه على الحياة؟ وما هي العقائد المشتركة التي تبعث في الجماعات القوة المعنوية التي تضمحل بضعف هذه العقائد المشتركة؟ وما الوجود؟ وما وحدة الوجود؟ وما مكان الإنسان من الوجود ووحدته؟
هذه مسائل خضعت للمنطق التجريدي ووجدت منه أدبا مترامي الأطراف. لكنك تجد حلها في حياة محمد وتعاليمه أدنى لتبليغ الناس سعادتهم من هذا المنطق التجريدي الذي أفنى فيه المسلمون قرونا منذ العهد العباسي، وأفنى فيه الغربيون ثلاثة قرون منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مما انتهى بالغرب إلى العلم الحديث على نحو ما انتهى بالمسلمين فيما مضى، ثم وقف العلم في الماضي كما أنه مهدد اليوم بالوقوف دون إسعاد الإنسانية. ولا سبيل إلى درك هذه السعادة إلى العود إلى حسن إدراك هذه الصلة الذاتية بالوجود وخالق الوجود في وحدته التي لا تتغير سننها ولا يعتبر للزمان أو المكان فيها إلا وجود نسبي لحياتنا القصيرة. وحياة محمد هي لا ريب خير مثل لدراسة هذه الصلة الذاتية دراسة علمية لمن أراد، ودراسة عملية لمن تؤهله مواهبه أن يحاول هذا الاتصال في مراتب أولية لبعد ما بينه وبين الصلة الإلهية التي أفاء الله على رسوله. وأكبر ظني أن هاتين الدراستين خليقتان، يوم يتاح لهما التوفيق، أن تنقذا عالمنا الحاضر من وثنية تورط فيها على اختلاف عقائده الدينية أو العلمية، وثنية جعلت المال وحده معبودا، وسخرت كل ما في الوجود من علم وفن وخلق ومواهب لعبادته والتسبيح بحمده.
قد يكون هذا التوفيق ما يزال بعيدا. لكن طلائع القضاء على هذه الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر، وتوجه الحضارة الحاكمة فيه، واضحة لكل من تتبع سيرة العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العلم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد النبي وتعاليمه وعصره والثورة الروحية التي انتشرت في العالم أثرا من آثاره. وإذا أتاحت الدراسة العلمية والدراسة الذاتية لقوى الإنسانية الكمينة مزيدا من اتصال بني الإنسان بحقيقة الكون العليا، كان ذلك الحجر الأول في أساس الحضارة الجديدة.
وهذا الكتاب ليس إلا محاولة بدائية في هذه السبيل كما قدمت. وبحسبي أن يقنع هذا الكتاب الناس بما فيه، وأن يقنع العلماء والباحثين بضرورة الانقطاع والتخصص لبلوغ الغاية من بحث موضوعه. ولو أنه أثمر أيا من هذين الأثرين أو كليهما، لكان ذلك أكبر جزاء أرجو عن المجهود الذي بذلت فيه. والله يجزي المحسنين.
محمد حسين هيكل
تقديم الطبعة الثانية
نفدت طبعة هذا الكتاب الأولى بأسرع من كل ما قدر لها. فقد صدر منها عشرة آلاف نسخة نفد ثلثها بالاشتراك في الكتاب أثناء طبعه. ونفد سائرها خلال ثلاثة أشهر من صدوره، ولقد دل الإقبال على اقتناء هذا الكتاب على عناية القراء بالبحث الذي يحتويه؛ لذلك لم يكن بد من التفكير في إعادة طبعه، وفي إعادة النظر فيه.
ملاحظة على الكتاب
وموضوع الكتاب هو السبب الأول في الإقبال عليه لا ريب. ولعل الطريقة التي عولج الموضوع بها كانت ذات أثر في الإقبال عليه كذلك. وأيا كان السبب فقد سألت نفسي حين فكرت في أمر الطبعة الثانية: أفأعيدها صورة من الطبعة الأولى لا أزيد فيها ولا أنقص منها، أم أرجع إليها بالتنقيح والزيادة والتصحيح فيما تتضح لي ضرورة تصحيحه أو تنقيحه أو الزيادة عليه؟ أشار علي بعض من أقدر مشورتهم أن أجعل الطبعة الثانية صورة من الطبعة الأولى كيما تتحقق المساواة بين الذين يقتنون أيا من الطبعتين، ولكي يتسع لي زمن المراجعة والتنقيح فيما بعد هذه الطبعة الثانية. وكدت آخذ بهذا الرأي. ولو أنني فعلت لكانت هذه الطبعة في أيدي القراء منذ أشهر. غير أني ترددت في الأخذ بهذه المشورة، ثم انتهيت إلى ضرورة التنقيح والزيادة لاعتبارات شتى. وكان أول هذه الاعتبارات بعض ملاحظات تفضل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي بإبدائها لي حين أطلعته على ما تم طبعه من الكتاب قبل ظهور طبعته الأولى فتفضل بوضع التعريف الذي صدرت الكتاب به ، فلما ظهر الكتاب تفضل بعض الكتاب والعلماء بالتنويه به في الصحف والمجلات وعن طريق الإذاعة، وأبدوا ما عن لهم من الملاحظات عليه. وقد أبديت هذه الملاحظات جميعا بعد الثناء الجم على مجهود بذلته لست أحسبه جديرا بكل هذا التقدير، وأبديت حرصا على ألا تشوب كتابا عن النبي العربي هنة من الهنات ما دام مؤلفه قد وفق في وضعه توفيقا أرضاهم ونال تقديرهم؛ لذلك لم يكن بد من أن أعير هذه الملاحظات ما هي جديرة به من عظيم العناية.
Bilinmeyen sayfa