Mesih'in Hayatı
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
Türler
ومن نماذج المثل الذي يعول على التشبيهات خطابه لتلاميذه: «أنتم ملح الأرض، فإن فسد الملح فبماذا يصلح؟ إنه لا يصلح إذن إلا لأن يلقى على التراب ويداس، أنتم نور العالم، ولا خفاء بمدينة قائمة على رأس جبل، وما من سراج يوقد ليوضع تحت المكيال، ولكنه يرفع على المنار يستضيء به جميع من في الدار.»
ومن نماذجه: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا سوس ولا صدأ ولا لصوص. وحيث يكون الكنز يكون القلب.»
وقد أثر عن السيد المسيح في جميع الأمثال حب المقابلة بين الأضداد لجلاء المعاني، وتوضيح الفوارق من وراء هذه المقابلة: «يرون القذى في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة في أعينهم»، «يحاسبون على البعوضة، ويبلعون الجمل»، «في الظاهر جدران مبيضة، وفي الباطن عظام نخرة»، «غني يدخل باب السماء كحبل غليظ يدخل في سم الخياط.»
ومعظم هذه الأمثلة تأتي في مناسباتها عفو الخاطر، جوابا عن سؤال، أو تعقيبا على حادث عارض، أو تقريعا لمكابر، فيندر أن يسترسل فيها المعلم البصير إلى غير المناسبة التي توحيها، ولهذا يرجح بعض الشراح المحدثين أن الأمثلة المتوالية في المقاصد المختلفة لم تصدر عنه في سياق واحد أو جلسة واحدة، وأن الخطبة على الجبل - وهي أحفل الخطب بالمقاصد والموضوعات - جمعت من متفرقات كانت منجمة على حسب الموضوعات في أوقاتها ومناسباتها.
وإذا كانت طائفة من عظات السيد المسيح جاشت بنفسه في أوقات مناجاتها فانتظمت فيها كما تنتظم المعاني المنسوقة في البديهة الملهمة، فقد كانت سرعة البديهة تسعفه في غير هذه الأحوال، فتجري كلماته في مجراها المألوف على نسق سهل قد يظن به التحضير؛ لأنه منتظم غير مرسل، ولكنه في الواقع لم يكن محضرا قبل ساعته، وغاية ما يعرض له من التحضير أن الفكر الذي يجود به لم يخل قط من التفكير فيه، وأنه تعود التفكير في المواقف المتشابهة، فانسبكت قوالب التعبير في بواطن قريحته غير مقصودة ولا متكلفة، وهي عادة يعرفها من تعود التفكير والتعبير وحضور الشعور بينهم وبين الجماهير، وقد سمعت خطباء جادوا بأبلغ آياتهم الخطابية في لحظة من لحظات الارتجال الفياض بين الشعور المتجاوب والحماسة المنبعثة من القائل والمستمعين، فهم مرتجلون يخيل إليهم قبل غيرهم أنهم يسمعون كلاما معهودا، ويوشك أن يتساءلوا: أين يا ترى سمعوه قبل الآن؟ والواقع أنهم نقلوه من وعيهم الخفي إلى وعيهم الظاهر، فكان شأنهم كشأن سامعيه في استغرابه، والواقع أيضا أن الناس حين يستمعون إليه يرونه غريبا وقريبا في وقت واحد: غريبا لأنه كان يساورهم ولا يدركونه، وقريبا لأنهم تمثلوه بفضل بلاغة القائل بعد استعصائه على الإدراك. •••
ومن كان كالسيد المسيح تربى منذ طفولته على التلاوة في كتب الأنبياء، وتتابعت على سمعه ولسانه أصداء المزامير المرتلة، والأمثال المرددة، واستقامت فطرته على الوحي والإيحاء فليس أقرب إليه من أن ينطلق بكلام يحيك في الأسماع بهاتف الصحف الأولى وهو من نبع فؤاده وإملاء بديهته، وهذه هي البديهة التي كان يعنيها حين يوصي تلاميذه بالاعتماد على الطبع وترك الاهتمام بالتزويق والتنميق قبل الساعة التي تدعوهم دواعيها للخطاب.
ولعل سامعي العظات الدينية في عصر المسيح قد سمعوا الأمثال في قوالبها مرات كثيرة، ولعلهم كانوا يعاودون سماعها كلما دخلوا معبدا، أو استمعوا إلى خطيب في غير المعابد، فإن نقاد البيان العبري والآرامي يردون هذه الصيغ البيانية إلى عصور قديمة سبقت مولد المسيح بمئات السنين، فلم يكن المسيح مبدعا للأمثال، ولا لقوالبها التي تعول على الرموز، أو الحكم، أو التشبيهات، أو منطق القياس، ولكن الأمر المحقق أن سامعي ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحية كتلك الأريحية التي كانت تشيع في أطوائهم، وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم إلى ذلك المعلم المحبوب، الذي كان يناجيهم بالغرائب والغيبيات مأنوسة حية، يحسبون أنها حاضرة في أعماقهم لم تفارقهم ساعة أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق، ويستولي عليهم من عطفه الطيب وحنانه الطهور.
ومن البيان ما يروع ويهول ويخيل إلى سامعه أن يبتعد من مصدره كلما أصغى إليه، ومنه ما يجذب ويقرب ويخيل إلى سامعيه أن كل كلمة منه ترفع حاجزا، أو تدني مسافة، وتزيل وحشة بين القائل والسميع. من هذا البيان كان بيان المعلم المحبوب القدير على تقريب سامعيه بالعطف والإفهام، فمن فهم قريب، ومن لم يفهم غير بعيد، وفي وسعنا أن نتخيل أولئك المستمعين البسطاء يقبلون على الاستماع وهم في ظلام الجهالة لا يدرون ماذا سيسمعون، ثم تتفتح في أذهانهم الخواطر، وتتفق فيها الأشباه، وتتبين الفوارق بين الأضداد؛ فينجاب الظلام سدفة بعد سدفة، ويعقبه النور قبسا وراء قبس، ويداخلهم على مهل شعور الأعمى الذي يسترد بصره مشدوها بالرؤية لأول مرة، أو شعور المدلج الذي يصحب الليل من السحر إلى الصباح: هداية في رفق ورحمة، واقتراب في غير عناء ولا اقتحام.
في وسعنا أن نتخيل أولئك البسطاء يقتربون من معلمهم بالفهم والمعرفة، أو يقتربون منه بالعطف والمودة.
في وسعنا أن نتخيل من ثم فضل الرسول في الرسالة، فلا رسالة في الحق بغير رسول، ولا سبيل إلى قيام المسيحية بغير مسيح، فإن مصدر الرسالة الروحية هو زبدتها وجوهرها، وهو الأصل الأصيل في قوتها ونفاذها، وكل ما عداه فروع وزيادات.
Bilinmeyen sayfa