Yeni Dünyada Düşünce Hayatı
حياة الفكر في العالم الجديد
Türler
بهذا ننتهي إلى نظرية «جون لوك» في الدولة، وهي النظرية التي بني عليها «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة بناء مباشرا؛ فإذا كان الإنسان الفرد بحكم طبيعته العقلية - كما رأينا - حرا حرية مطلقة ومستقلا بذاته، فليس هنالك في طبيعة الإنسان ما يبرر قيام الدولة إلا رضا الإنسان نفسه؛ أي إنه ليس جزءا من طبيعته أن يتصل بغيره كما قد ذهب أرسطو وغيره حين زعم أن الإنسان اجتماعي بطبعه لا بمجرد رضاه وموافقته، لا، ليس في طبيعة الإنسان ما يستلزم اجتماعه بغيره سوى العرف، وإذن فليس للدولة سند يؤيد وجودها سوى العرف كذلك، فهكذا اتفق الناس أن تقوم فيهم دولة تصون حقوقهم، ومن هنا تنشأ المقدمتان الرئيسيتان اللتان استند إليهما «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة، وهما: ولد الناس أحرارا وسواسية، وأساس الحكومة هو موافقة المحكومين على قيامها.
ولد الناس أحرارا وسواسية؛ لأن العنصر العقلي - في مذهب «جون لوك» - يولد صفحة بيضاء، ثم تأتي الخبرات عن طريق الحواس، فتؤثر في تلك الصفحة، وبذلك يبدأ الاختلاف بين الناس في مدى خبراتهم، لكنهم من حيث الحالة الطبيعية متساوون، فلم يولد واحد منهم وفي عقله ما ليس في عقل الآخر، وما دامت نظرية جاليليو ونيوتن في الطبيعة تجعل الظواهر المحسة غير حقائق الاشياء؛ بحيث يحس الإنسان لونا وطعما ورائحة ... إلخ، مما ليس في الأشياء، إذن فالطبيعة كما تقع في حس الإنسان، إنما تقع على غرار واحد في الناس جميعا على السواء، لا فرق بين الأبله والعبقري في رؤية اللون وشم الرائحة وسماع الصوت وذوق الطعوم، ولد الناس سواسية في طبائعهم الواعية، فكل يدرك ظواهر الأشياء كما يدركها زميله، وكل يخلع هذه الظواهر على الأشياء كما يخلعها زميله، ولئن تفاوت شخص وشخص في القدرة، بحيث ينبغ النابغ ويسقط الأبله، فليس هذا التفاوت في طبيعة العنصر العقلي الروحاني، بل هو في أجزاء البدن المادية كتركيب المخ وما إلى ذلك، وهكذا ينجم عن علم الطبيعة الحديث تصور حديث للإنسان، هو الذي ذهب إليه «لوك»، وأخذه عنه قادة الثورة الأمريكية، وهو هذا: ليختلف الناس ما شاءت لهم حظوظهم في تركيب المخ، وفي الطبقة الاجتماعية، وفي الثراء، وفي درجة التعليم، وفيما شئت من نواحي الحياة، لكن كل إنسان - رغم هذا التفاوت كله - هو ككل إنسان آخر باعتباره إنسانا.
يقول «لوك» في مقاله عن «الحكومة المدنية» إنه ما دام الناس بطبيعتهم سواسية أحرارا مستقلا بعضهم عن بعض، فلا يجوز أن يحرم أحد من حالته الطبيعية ليخضع لقوة سياسية يملكها شخص آخر، وأن يكون هذا الخضوع بغير إرادته، لكن هنا تنشأ المشكلة الكبرى التي ما فتئت قائمة في تحديد العلاقة بين الفرد والدولة، فمهما حدت الدولة من سلطانها فهو سلطان على كل حال، ولا يكون هذا السلطان إلا بتنازل الفرد عن بعض حريته واستقلاله، فلماذا يتنازل الأفراد عن حقوقهم؟ لماذا يتنازل الفرد عن الحقوق التي كان يتمتع بها في حالته الطبيعية مع أنه كان عندئذ سيدا مطلقا على نفسه وعلى ملكه؟ جواب ذلك هو أنه في الحالة الطبيعية كان غير المنتج يسطو - إذا استطاع - على إنتاج المنتج فيسلبه إياه وقد يفتك به، فأراد الإنسان الحر المستقل أن يتنازل للدولة عن بعض حريته واستقلاله ليحمي شخصه وأملاكه من عبث العابثين.
وإذن فالمبرر الوحيد لوجود الحكومة هو حماية الملكية الفردية، ويدخل الجسد في الملكية؛ لأن المالك الحقيقي هو العنصر العقلي من الإنسان، فقيام الحكومة شر، لكنه أهون شرا من تعرض الجسد وسائر الممتلكات المادية للنهب والتخريب، ليس قيام حكومة في الناس هو الخير الأسمى، وإنما الخير الأسمى هي الحالة الطبيعية التي تخلو من الحكومة إذا خلت كذلك من احتمال اعتداء الأفراد بعضهم على بعض، وعلى ذلك فلا يدخل الإنسان عضوا في المجتمع الخاضع للدولة بسبب كونه اجتماعيا بالطبع والضرورة، بحيث لا يكون له مناص من حياة اجتماعية تمكنه من التعبير عن نفسه تعبيرا سياسيا وخلقيا ودينيا، بل يدخل عضوا باختياره ليصون حقوقه، فإن لم يجد تلك الحقوق مصونة كان له أن يخرج عن الجماعة ويثور عليها، ومن النتائج الخطيرة لهذا الرأي ألا يكون من حق الدولة حرمان الفرد من ملكه إلا بموافقته؛ لأن صيانة الملكية هي - كما قلنا - الغاية الأولى والأخيرة من قيام الدولة.
ذلك هو «جون لوك» الذي اتخذه الأمريكيون في عهد ثورتهم فيلسوفا لهم، بحيث جعلوا مذهبه أساس إعلان استقلالهم، فكيف كان صدى آرائه في قادة الرأي عندئذ؟ سنختار للإجابة عن هذا السؤال رجلين: «تومس جفرسن» و«تومس بين» وهما من أعلام حركة التنوير في الولايات المتحدة عندئذ. (2) «تومس جفرسن» وحقوق الإنسان «لقد عاهدت الله أن أكون إلى آخر الدهر عدوا للطغيان في شتى صوره، الطغيان الذي يستبد بعقل الإنسان.» هكذا قال «جفرسن» عندما تقدم لرئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة عام 1800م، فقاومه المحافظون من رجال الدين لتطرفه في الدعوة إلى الحرية، فإذا جاز لنا أن نختار من أقواله قولا يلخص حياته وفكره اخترنا له هذه العبارة شعارا؛ لأن دفاعه عن حرية العقل كان مدار فكره وحياته، وإنما يكون هذا الدفاع في ميادين ثلاثة: السياسة، والدين، والتعليم. (1)
فهو في السياسة يعبر عن روح عصره في النظر إلى حقوق الإنسان كما يمكن أن يستدل عليها من فلسفة «جون لوك» التي أسلفنا لك شرحها، وهي بدورها فلسفة ناتجة عن علم الطبيعة في ذلك العصر كما يتمثل في «جاليليو» و«نيوتن»، ولسنا بحاجة هنا إلى تكرار ما قلناه عن حقوق الإنسان المستندة إلى فطرته وطبيعته، لا إلى منحة يمنحها إياه ملك أو حاكم، وتلك بعينها هي نظرة «جفرسن» وزملائه الذين قادوا الفكر والسياسة في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر، ونكتفي بذكر لمحات يختص بها «جفرسن» وإن تكن في حقيقة أمرها شروحا وتعليقات على النظرية الأساسية.
من ذلك أنه - كسائر أبناء عصره - يجعل للفرد حق الثورة على الحكومة القائمة إذا هي قصرت في تحقيق السعادة التي ينشدها في حياته، والتي من أجلها تعاقد الأفراد على أن يجتمعوا وأن يقيموا على أنفسهم حكومة، لكنه وقف إزاء هذا الحق - حق الثورة - موقفين؛ أحدهما فيه تحفظ واعتدال، والآخر فيه تطرف ومبالغة، أما الموقف الأول فهو موقفه في صياغة «إعلان الاستقلال»، فكأنما أحس بضرورة القصد في القول إذا ما كان الأمر وثيقة مكتوبة، أو إذا ما كان التعبير ليس تعبيرا عن رأيه الشخصي وحده، بل تعبيرا عن الشعب كله؛ لذلك تراه ها هنا لا يبرر الثورة على الحكومة - وإن تكن حقا طبيعيا للناس - إلا إذا أفحشت الحكومة في خطئها وضلالها، وأصرت على أن تمضي عنيدة في هذا الخطأ والضلال، معرضة شعبها إلى فادح الخطر.
أما وهو يعبر عن رأيه الشخصي بعيدا عن الوثائق الرسمية التي يتوخى فيها القصد والاعتدال والتحفظ، فعندئذ يرسل القول في تطرف وحرارة عاطفة، فتراه مثلا يقول: إن الثورة على الحكومة حينا بعد حين، هي العلاج الناجع الذي يضمن أن تظل الحكومة سليمة معافاة، «فاللهم لا تقدر لنا أن نظل عشرين عاما بغير ثورة»؛ لأن «شجرة الحرية لا بد لها من الازدهار حينا بعد حين مرتوية بدماء الشهداء ودماء الطغاة، فالدماء هي المخصب الطبيعي لنمائها».
حق الثورة على الحكومة إن أخطأت هو من الحقوق التي تترتب على النظرية السياسية التي تجعل الحكومة صنيعة الشعب، وحرية الناس هي من حقوقهم الطبيعية التي هي - كما أوردها «جفرسن» في وثيقة «إعلان الاستقلال» - الحرية والحياة والتماس السعادة، لكن تلك الوثيقة لم تقل إن هذه الثلاثة هي كل الحقوق الطبيعية، بل قالت إنها بعض تلك الحقوق؛ لذلك ترى «جفرسن» يذكر حقوقا أخرى في مواضع متفرقة كحرية الفكر وحرية الدين وحرية الكلام وحرية تبادل الرأي، وحرية الصحافة وحرية التجارة والحرية الشخصية، وهي كلها فروع للحرية بصفة عامة كما وردت في «الإعلان».
وإلى جانب تلك الحقوق الفردية حقوق أخرى اجتماعية ومدنية، كحق الملكية، لكن هذا الضرب من الحقوق مقيد بالحد الذي يمكن الآخرين من التمتع به، ولم يفت «جفرسن» أن يتنبه للجوانب التي تنتفي فيها حقوق الإنسان؛ أي إنه لم يحصر فكره في الحقوق الإيجابية وحدها، من ذلك قوله: ألا حق لأحد أن يعتدي على حقوق سائر الأفراد، ولا حق لأحد أن يكون قاضيا في قضية هو أحد أطرافها، ولا حق لأحد في أن يحتكر لنفسه شيئا ... وهكذا.
Bilinmeyen sayfa