Yeni Dünyada Düşünce Hayatı
حياة الفكر في العالم الجديد
Türler
8
وما دام فيلسوفنا قد اطمأن إلى الأساس، اطمأن إلى أن الوصول إلى الحق المطلق ممكن؛ فقد أخذ بعد ذلك يبحث عما عساه أن يكون حقا في علمنا بالكون، فمن ذلك أنه يرى استحالة أن يكون العالم قد نشأ في الواقع نشأة مادية أول الأمر، ثم أنشأ بعد ذلك عقولا تدركه؛ لأن العالم والعقل الذي يدركه وجهان لحقيقة واحدة ومحال تصور أحدهما بغير الآخر، محال أن يكون هنالك شيء ما دون أن يكون معه في الوقت نفسه ذات تعرفه، ولو كان صوابا أن المادة قائمة أو يمكن أن تقوم بذاتها مستقلة عن أي عقل يدركها، فكيف يمكن لإنسان أن يدرك هذه الحقيقة؟ كيف يمكن لإنسان أن «يعرف» (والمعرفة حالة عقلية) بأن هنالك شيئا خارج عقله موجودا وجودا مستقلا بغض النظر عن إدراك عقله له أو عدم إدراكه؟ إن مجرد كون الشيء موضوعا لحكمك بأنه كذا وكذا، يجعله فكرة في عقلك،
9
وفي هذا نقد لكل من يزعم بأن في العالم جوانب يستحيل على الإنسان إدراكها، ففيه نقد ل «كانت» ومذهبه القائل بأن الإنسان يعرف من الأشياء ظواهرها، أما «الأشياء في ذاتها» فمستحيلة الإدراك، وكذلك فيه نقد ل «هربرت سبنسر» في رأيه القائل بأن وراء العالم الطبيعي جانبا مستحيل على الإنسان معرفته، كل هذه مزاعم - في رأي «رويس» - تنقض نفسها؛ لأن مجرد حكمك على أي شيء، مهما يكن نوع ذلك الحكم، هو في ذاته دليل على أن ذلك الشيء قد أصبح جزءا من فكرك.
ومن البراهين التي يسوقها «رويس » على مثاليته، يسوقها ليؤيد بها أن العالم عقل مطلق، ونحن الأفراد بعقولنا أجزاء من ذلك العقل المطلق المشترك بيننا، أقول: إن من براهينه على ذلك برهانا قويا رغم سهولته، فأولا كيف أعرف أن ما أمامي الآن منضدة؟ إني أعرف ذلك - كما أسلفنا القول - بإدراكي الحسي الحاضر مضافا إليه إدراكاتي السابقة التي احتفظت بها في الذاكرة، والتي أستطيع استعادتها وتصورها تخيلا؛ أي إنني حين أعرف أن هذه منضدة لا أعتمد فقط على إدراك اللحظة الحاضرة، بل لا بد من مجاوزتها إلى خبرة الماضي أستعين بها لأعرف ماذا أمامي، وإلا فلو اكتفيت بإدراكي الحسي الحاضر وحده لما كان هنالك فرق بيني وبين الطفل الرضيع، وهو ينظر إلى المنضدة، ولا يعرف ماذا يرى، وإذن فلا بد من الاستعانة في إدراكي للأشياء بالمحصول المدخر في نفسي من خبرات الماضي، فافرض أنني وإياك قد نظرنا إلى منضدة بعينها، واختلفنا على شيء فيها، كأن نختلف - مثلا - على نوع الخشب الذي صنعت منه، أما أنا فأقول إنها من خشب الزان، وأما أنت فتقول: إنها من خشب البلوط، فكل منا إنما يستمد حكمه من خبراته الماضية، أي يستمده من داخل نفسه، من حصيلته الفكرية التي لا يراها أحد في الدنيا سواه، وإذن فنحن إذ نختلف فيما بيننا، إنما نقيم اختلافنا على أساس أن هنالك - خارج عقلك وعقلي - حقيقة موضوعية، هي المنضدة ذات الطبيعة المعينة، لكننا يستحيل أن نلتقي على موضوع مناقشتنا إذا لبث كل منا مقتصرا على عقله الفردي وحده؛ لأن كلا منا عندئذ سيكون بمثابة المغلق على نفسه بين جدران برجه، ولا سبيل إلى الالتقاء بين المتناقشين، إذن لا بد أن تكون المنضدة الخارجية وأنت وأنا جميعا أجزاء من شيء واحد يحتوينا، وبذلك يمكن لنا أن نلتقي معا على موضوع لا هو جزء من عقلك ولا جزء من عقلي، فنحن الثلاثة فكرات في عقل مطلق، وعندئذ تكون المنضدة في حقيقتها الموضوعية فكرة في العقل المطلق، يمكن لي ولك أن نصحح عليها أفكارنا عنها.
ويميز «رويس» بين نوعين من المعرفة؛ المعرفة بالإدراك المباشر، والمعرفة بالوصف، فأنا أعرف بياض الورقة التي أمامي بإدراكي المباشر لها، وأحس الألم في ضرسي بإدراكي المباشر له، وهكذا أحس جمال الشيء الجميل كما أدرك الخير في الفعل الفاضل، وأما المعرفة بالوصف فهي تلك التي نعبر عنها بكلمات اللغة وعباراتها، إن المعرفة بالإدراك المباشر محال نقلها من شخص إلى شخص، إذ كيف يمكنك أن تنقل إلي ألما تحسه، أو جمالا تراه، أو لونا ينطبع على شبكية عينك أو ضغطة على أصابعك؟ فماذا تصنع لو أردت أن تنقل إلي خبراتك هذه؟ إنك عندئذ تلجأ إلى كلمات تقولها، لكن الكلمات ليست هي إحساسك المباشر، وإذن فالمنقول إلي منك ليس هو خبرتك المباشرة كما خبرتها، بل رموز لفظية تشير إليها، وتدل عليها فقط، حاول مثلا أن تنقل إلى من تتحدث إليه، خبرتك المباشرة عن صديق تحبه، فماذا في وسعك سوى أن تمضي في وصفه جهد استطاعتك، فتذكر له طوله ووزنه وعمره ولون بشرته، وطريقة نطقه بالكلام، وطريقة مشيته، وتناوله الطعام، وأنواع الثياب التي يرتديها وهكذا وهكذا، لكن يستحيل أن تستنفد هذه «الأوصاف» صديقك، بل سيظل في نفسك منه جوهره وصميمه، سيبقى في نفسك منه ذلك الجزء الذي جعله عزيزا لديك، وجعله فردا متميزا بطبيعته، سيبقى ذلك الجزء مستحيلا على الوصف بالكلمات.
وهكذا قل في سائر المدركات، فلكي يتبادل الناس المعارف بينهم، تراهم يلجئون إلى وصف ما يمكن وصفه مما يعلمونه، على أن يبقى دائما في نفوسهم مما يعلمونه جزء، هو إدراكهم المباشر الذي يحسونه من الشيء موضوع علمهم، دون أن يستطيعوا نقله إلى سواهم. يختار الناس في تبادلهم العلم بالأشياء، جوانبها التي يمكن قياسها، ويمكن وصفها، ومن ذلك يتكون «علم» بالعالم من هذه الجوانب الممكنة الوصف وحدها، لكنه بالبداهة «علم» مجرد، جردناه من الأشياء، ولم نستنفد به الأشياء من كل أقطارها ونواحيها، لقد جردنا من الأشياء بعض جوانبها ، وتركنا في أنفسنا منها جوانب، جردنا منها «الظواهر» التي تخضع للعدد وللقياس وللوصف وللتحقيق بالمشاهدات العلمية والتجارب، ولا بأس في ذلك على شرط ألا ننسى أبدا أن هذا الذي نقوله عن الأشياء بعضنا لبعض إنما يمس ظواهرها التي يمكن وصفها، ولا يتناول البتة صميمها ولبابها وجوهرها، فكل ذلك يقع في النفس وقوعا مباشرا، ونقله محال، والعلوم الطبيعية على اختلافها من هذا النوع من المعرفة الذي يتناول من الأشياء ما يوصف ويترك منها ما يستحيل نقله؛ ولذلك فهي تتناول من الأشياء ظواهرها التي يمكن تصنيفها وقياسها ومشاهدتها وإجراء التجارب عليها.
نعم إن عالم الوصف - وهو العالم الذي تجعله العلوم موضوع بحثها - عالم حقيقي واقع، وليس وهما ولا خداعا، لكنه مع ذلك ليس هو كل الحق، بل ليس هو أهم جانب من جوانب الحق؛ إذ هناك إلى جواره جانب آخر، هو الجانب الذي نتلقاه في أنفسنا بإدراكنا المباشر، ويستحيل علينا نقله بالعبارات اللغوية، فكما قلنا في مثال صديقك الذي تحبه وتعزه، إذا ما أردت «وصفه» للآخرين، فلن يسعك إلا الوقوف منه عند الجوانب التي يمكن وصفها، وأما «شعورك» بمنزلته في «نفسك» فشيء سيظل إلى الأبد ملكا لك محال أن يشترك معك فيه أحد آخر، وهكذا قل في كل شيء، فاللون الأخضر الذي ينطبع على عيني عند رؤية الشجرة لا يمكن نقله إلى سواي؛ لأنه إدراك مباشر، وكل ما أستطيعه في علم الطبيعة إزاءه هو أن أقيس موجته الضوئية التي منها يتكون انطباعي الحسي باللون الأخضر، لكن طول الموجة الضوئية شيء يختلف كل الاختلاف عن الإحساس باللون كما يقع عند الشخص المدرك، فكأنما العلم عند قياسه لطول الموجة الضوئية التي تكون إحساسي باللون الأخضر، إنما يقف عند «ظاهرة» تصاحب إحساسي باللون، ولا يتناول الإحساس اللوني نفسه، فهو يأخذ أقل الجانبين أهمية، ويترك أكثرهما تكوينا لخبرتي، وأمسهما بنفسي، فلا شأن لخبرتي ونفسي بالموجات وأطوالها، إنما الخبرة النفسية خبرة بألوان.
عالم الوصف هو عالم العلم، وهو حقيقي إلى الحد الذي يمتد إليه، حقيقي في المدى الذي يتناوله، والمدى الذي يتناوله هو مدى الظواهر التي نكشطها كشطا ونجردها تجريدا من السطح، ليبقى اللباب بعيدا عن تناوله ، فلا بد من تقدير العلم بقدره الصحيح، فلا نقص ولا زيادة، ومن سبيل الإسراف في تقديره أن نظن أنه يقول الحق كله عن العالم، أو يمكنه أن يقول ذلك الحق كله، مع أننا قد رأينا أنه بحكم اعتماده على الوصف، فلا بد أن يتقيد بالجوانب التي يمكن وصفها دون الجوانب التي تكون في صميم خبراتنا، ومع ذلك فوصفها محال.
لكن ماذا نحن صانعون إزاء هذه الخبرة الخاصة التي تقع لكل منا على حدة، والتي لا يمكن نقلها بعضنا إلى بعض بوسيلة الوصف والتعبير، هل نيأس من الاشتراك فيها معا؟ لا، لا يأس، فهنالك الطريق إلى ذلك، لكنه ليس طريق الوصف، أي ليس طريق العلم، وإنما طريقه هو الفلسفة التي تكشف لنا أننا في الحقيقة لسنا أفرادا مستقلا أحدنا عن الآخر، بل نحن أجزاء من نفس كلية تطوينا جميعا في جنباتها، أجزاء من «المطلق» أو الله، فإذا ما أدركنا ذلك، عرفنا أننا خلال هذا الاشتراك في عقل واحد كبير، يمكن لأحدنا أن يدرك إدراكا مباشرا ما يستقر في عقل الآخر، فما قد يطوف بخبراتنا الذاتية الخاصة، مما قد نظنه عابرا يأتي ثم يمضي، هو جزء لا يفنى من مجموعة الخبرة الكونية الكبرى، وإذن ففي اتصالنا بالحقيقة الكونية وسيلة إلى إدراك ما نريد إدراكه، من الحقائق الذاتية التي يعز على العلم ولغة العلم أن تكشفه لنا.
Bilinmeyen sayfa