مقدمة
1 - نابوليون في نظر الطبيب
2 - ميلاد نابوليون وطفولته
3 - فتوة نابوليون
4 - نابوليون يتسلمه التاريخ
5 - 18 برومير
6 - اجتماع نابوليون بكورفيزار
7 - من سنة 1803 إلى 1810
8 - عام الطلاق
9 - الداء الخفي
10 - نتائج سوء الهضم
11 - محاولة الانتحار في فونتنبلو
12 - مملكة الأقزام
13 - مشية الظافر
14 - حكومة المائة اليوم
15 - واترلو
16 - إلى المنفى
17 - لونكوود
18 - آخر مراحل العذاب
ذيل
مقدمة
1 - نابوليون في نظر الطبيب
2 - ميلاد نابوليون وطفولته
3 - فتوة نابوليون
4 - نابوليون يتسلمه التاريخ
5 - 18 برومير
6 - اجتماع نابوليون بكورفيزار
7 - من سنة 1803 إلى 1810
8 - عام الطلاق
9 - الداء الخفي
10 - نتائج سوء الهضم
11 - محاولة الانتحار في فونتنبلو
12 - مملكة الأقزام
13 - مشية الظافر
14 - حكومة المائة اليوم
15 - واترلو
16 - إلى المنفى
17 - لونكوود
18 - آخر مراحل العذاب
ذيل
حول سرير الإمبراطور
حول سرير الإمبراطور
تعريب
نقولا فياض
نابوليون في طريق المنفى.
مقدمة
يختلف هذا الكتاب عن كل ما كتب عن نابوليون بكونه نظر إليه نظر الطبيب الفاحص والعالم المستقصي، فهو يدرس نابوليون الرجل صاحب الوراثة المرضية، وما اكتنف نشأته من الأحوال، وما كان من تأثير مزاجه وطباعه في جميع أدوار حياته.
ففي هذه الفصول يجد القارئ درسا تحليليا مبتكر الأسلوب لشخصية ذلك العبقري الفريد الذي لم تلد القرون له مثيلا.
وقد استشهد الكاتب بحوادث ونوادر كثيرة تزيد في طلاوة الكتاب، كما تزيد في رونقه الصور الكثيرة التي تحلى بها.
إدارة الهلال
الفصل الأول
نابوليون في نظر الطبيب
هذا كتاب عن نابوليون يروي للقارئ شيئا غير حروبه وفتوحاته.
فلقد قيل وأثبت الطب أن للصحة والمزاج تأثيرا كبيرا في حياة الإنسان وأعماله.
وهذا ما نريد أن نلم به في كلامنا عن الإمبراطور العظيم.
ولا يتوهم القارئ أن هذا البحث خلو من الفائدة العملية، فإن رجلا كنابوليون طبقت شهرته الآفاق، وترك طابعه على عصره والعصور التي تليه، ليس من الحكمة أن يغفل تاريخه الصحي أو تجهل حالة سلالته من هذه الوجهة، ولا سيما أنها تعد للباحث مثالا واضحا من الوراثة المرضية تتجاوز فائدته الطبية إلى المؤرخ، فقد ظهر اليوم بما لم يبق معه مجال للشك أن هذا المزاج الذي يسمونه: الأرتريتيكي (وسنعود إلى الكلام عنه) هو من أهم عوامل التقهقر في الأسر المالكة.
وقد كان نابوليون مقتنعا بتأثير الوراثة إلى حد أنه وهو على سرير الموت كان شغله الشاغل أن تتخذ الحيطة اللازمة لحماية ابنه من الداء الذي هد كيانه.
على فراش الموت (نابوليون يعطي للمارشال برتران السيف المعد لابنه).
ولذلك أوصى بتشريح جثته وفحص معدته بوجه خاص؛ لاعتقاده أن فيها مركز الداء، ولم يخطئ ظنه، كما أثبت التشريح المرضي بعد ذلك، فقد وجدوا قرحة سرطانية في المعدة، كما وجدوا أثرا للسلال في رئته.
واجتماع العلتين؛ أي السرطان والسل، لم يكن معروفا فيما مضى، أو بالأحرى لم تكن الآراء متفقة عليه، أما اليوم فقد أصبح من الأمور المقررة إمكان اجتماع الداءين في الجسم الواحد.
بقي علينا أن نعرف إذا كان في أسلاف نابوليون من أصيب بإحدى هاتين العلتين، ولكن قبل الدخول في الموضوع يحق لنا أن نتساءل هل السرطان وراثي؟
المعروف اليوم أن الإنسان يرث عن أبويه الاستعداد أو التربة، وقد كان الأقدمون يعللون مصائب عظمائهم بأنها من غضب الآلهة وحكم الأقدار، أما اليوم فقد بدلنا من هذا كله حقائق علمية، من ضمنها حقيقة الوراثة المرضية، ولا سيما الأرترتيسم
Artritisme .
ما هو الأرترتيسم؟
شارل بونابرت، والد نابوليون.
كلمة لم يتفق العلماء على تعريفها، فهي ليست علة واضحة كذات الرئة مثلا، بل يراد بها مزاج خاص تسوء فيه التغذية فتنتج عنها أعراض مختلفة، ولا يعنى بالتغذية الطعام والشراب، بل الوظيفة الأولى التي تقوم بها المادة الحية، أي مجموع التفاعلات والمبادلات الحادثة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها ويتغذى منها.
أظنك أيها القارئ، لم تزدد بيانا بهذا التعريف، حسبك أن تعرف أن كلمة الأرترتيسم تشمل النقرس والبول السكري والروماتزم وحصوة الكبد والكلية والصداع والربو والبواسير والطفح الجلدي وبعض أشكال سوء الهضم والالتهاب المعوي، كل هذه الأمراض ترجع إلى نسب واحد وأسرة واحدة فينوب بعضها عن بعض بالانتقال الوراثي؛ أي إن البول السكري قد يورث الربو والنقرس والبواسير إلى آخره.
والأرترتيسم على نوعين، فمنه ما يصيب المزاج العصبي فيكون صاحبه نحيل البدن قليل شعر الرأس، ومنه ما يصيب اللمفاوي فيكون سمينا محتقن الوجه.
ليتسيا بونابرت، والدة نابوليون.
وقد مثل نابوليون الدورين ولبس الحالتين، فصار في الكهولة إلى عكس ما كان عليه في شبيبته، فبعد أن كان نحيفا نشيطا أمسى بدينا مترهلا على تثاقل في الهمة وتردد في العزيمة، كما سيمر بك.
وهذه الوراثة المرضية تأتي في الغالب عن الأب دون الأم حسبما ظهر من إحصاءات العارفين، وما كان نابوليون ليشذ عن القاعدة، فقد اشتهر عن أبيه وجده أنهما ماتا بالسرطان، وهو نبأ يحتاج إلى دليل بالنسبة إلى الجد، أما الأب فمما لا ريب فيه أنه مات كذلك، كما ظهر من تقرير الأطباء الذين شرحوا جثته، وقد وجدت نسخة من هذا التقرير عند البارون ديبوا مولد ماري لويز. والظاهر أن الأطباء أرادوا في كتابة هذا التقرير خدمة الأسرة اعتقادا منهم بتأثير الوراثة؛ ولذلك تجد فيه بعد الوصف والشرح الكافي عن حالة معدة شارل بونابرت والورم الذي فيها إسهابا في ذكر العلاج والغذاء الملائم لمن يصاب بمثل هذا الداء. نعم، إن كلمة سرطان لم ترد في هذا التقرير، ولكن كل ما قيل فيه ينطبق عليه، وفضلا عن ذلك فإن شارل بونابرت مات في الأربعين، وعمه كان مصابا بالنقرس، وكانت آلامه شديدة إلى حد أنها ألهمت أحد أحفاده وهو نابوليون أن يكتب إلى الدكتور تيسو وهو طبيب مشهور في سويسرا ليستشيره بشأنه، ولا بأس من عرض صورة هذا الكتاب التي تمثل صفحة من حياة نابوليون ونفسه في زمن الفتوة:
سيدي،
قضيت أيامك في خدمة الإنسانية، وطار اسمك في العالم حتى اخترق جبال كورسيكا التي قلما يحتاج الإنسان فيها إلى طبيب. لم أتشرف بالتعرف إليك إلا أن ما أسمعه عن علمك وفضلك يجرئني على مكاتبتك لأستشيرك بشأن عم لي مصاب بالنقرس.
ولا يوافقني في هذا الحديث أن أعترف بعمر عمي البالغ السبعين، ولكن لا تنس يا مولاي، أن في إمكان الإنسان الوصول إلى المائة وما فوقها، وبنية عمي تسمح له أن يكون في عداد هؤلاء الممتازين ، وهو فضلا عن ذلك يعيش باعتدال وحكمة لا تعصف به أهواء النفس ولا تثيره زوابع الحياة، كما أنه لم يصب أبدا بعلة من العلل ولم يشك ألما من الآلام، وإذا كنت لا أجاري فونتانل فأقول عنه: إنه كان يملك الخلتين اللتين تضمنان العمر الطويل: الجسم الصالح والقلب الطالح، فأنا أعتقد أنه مع ميله للأنانية لم يضطر إلى الإغراق فيها.
وقد تنبأ أحدهم له في صباه أنه سيصاب بهذا الداء مستندا في ذلك إلى صغر يديه وضخامة رأسه، ولكنك ترى مثلي - على ما أظن - أن ذلك من قبيل الاتفاق.
الدكتور تيسو (من لوزان).
نابوليون بونابرت بلباس شرقي.
وبعد أن يصف نابوليون داء عمه وما يقاسيه من الأوجاع يختم كتابه إلى الطبيب بهذه العبارة:
الإنسانية يا مولاي، تجعلني على أمل من جوابك، أنا نفسي أتعذب منذ شهر بالحمى المتقطعة؛ ولهذا أشك في أنك ستقرأ بسهولة أسطري هذه.
وأختم بتقديم الاحترام الذي يوحيه إلي فضلك السابق واللاحق.
بونابرت ضابط في المدفعية سنة 1787
أما تيسو الطبيب فلم يتنازل إلى الإجابة عن هذا الكتاب، ولم يعلم أكان ذلك منه نسيانا أم إهمالا أم ظنا أن هذا الغريب المجهول يحاول أن يستفيد من علمه مجانا بلا أجر، ولم يدر في خلده أن سائله هذا سيملأ اسمه الخافقين.
الفصل الثاني
ميلاد نابوليون وطفولته
ولد نابوليون في أجاكسيو في 15 أغسطس سنة 1769 بعد أن ضمت كورسيكا إلى فرنسا باتفاق بين جمهورية جينوا ولويس الخامس عشر.
وكان نحيف البدن ضعيفا إلى حد أن أمه استعانت بمرضع لتغذيته خوفا عليه وإشفاقا، ولم تجسر على تعميده إلى أن بلغ السنتين وولدت أخته ماري حنة، فانتهزت الفرصة وعمدتهما في وقت واحد، وكان يمتاز منذ ذلك العهد برأس كبير لا يكاد يستقر على عنقه، وكلما ترعرع زادت ملامحه وضوحا في الدلالة على قلة الصبر وسوء الطبع وشدة العناد، فلم يكن يقوى عليه أحد غير أمه التي كانت على حنوها الشديد نحوه صارمة في معاملته حتى اضطرت مرة إلى جلده، وقد بقي تذكار ذلك الجلد حاضرا في ذهن الإمبراطور إلى الساعة الأخيرة، كما روى خادمه في جزيرة المنفى.
وكان على الرغم من المعارضة واللوم والتأنيب قوي الحجة كثير اللجاج، يحب التدخل في كل أمر، وفي ذلك يقول عند المقابلة بينه وبين ابن الجنرال برتران: «كنت كهذا الولد، عنيدا أحب الخصام ولا أهاب أحدا، فأضرب هذا وأخدش ذاك بأظافري، ولا أخضع إلا لوالدتي التي كانت تعرف أن تضع الجزاء والعقاب كلا في موضعه.»
ومن الحوادث التي تظهر بعض ما كان عليه نابوليون من العزم والعناد في طفولته، ما روته الكونتيسة دورسه عن أمه وكان عمره يومئذ 7 سنين، قالت: «كان نابوليون يتمشى في الحديقة فدهمه المطر، وكانت أمه تراقبه من وراء زجاج النافذة وتشير عليه بالدخول، إما هو فلم يحفل بإشارتها وظل على حاله دون أن يسرع الخطى على الرغم من انهمار السيل وقصف الرعد وثوران الزوبعة، بل كان كأنه يشعر بلذة غريبة لوجوده في تلك الحالة، ولما انقطع الماء وصفت السماء عاد وقد أصابه البلل حتى العظم كما يقولون، وسار توا إلى أمه يستغفرها عن هذا العصيان محتجا بوجود التعود على معاكسات الجو؛ لأنه سيكون جنديا.»
المدرسة الحربية الملكية في عهد لويس السادس عشر.
وكانت رغبته في الخدمة الحربية ظاهرة في أكثر حركاته، فكان يرسم على الجدار صور الجنود وقد اصطفت للقتال، كما كان يبدل من خبزه الأبيض بخبز الجنود الأسمر.
هذه الأمور تافهة في ذاتها، ولكنها ذات قيمة في حياة الرجل العظيم؛ لأنها تظهر تلك البذرة التي خرجت منها تلك الشجرة الكبيرة فتجعلنا نفهم أسرار الغرابة التي كانت تتجلى في كثير من أعماله.
ومرت طفولة نابوليون بغير علة تذكر، وانقضى طور التسنين دون أن يحدث في حالته العمومية تأثيرا، لولا قليل من الصفراء والإسهال، تركا وجهه شاحبا قاتما، وجعلاه عصبيا قليل النوم سريع التهيج، مما جعل ذويه غير مرة يجبهونه باللوم والتأنيب، دون أن يدركوا أنه غير مسئول عن هذه الحالة؛ لأنها حالة مرضية، وكم من الوالدين حتى يومنا هذا يسيرون مع أولادهم على هذا النمط، إذا بدر منهم بعض الحدة أو ظهرت عليهم أعراض الكسل فيقسون حيث يجب اللين، ولا يبحثون عن السبب الذي كثيرا ما يكون من اختلال وظائف الهضم، أو اعتلال أحد الأعضاء الرئيسية، أو التهاب الحلق أو الأذن، وما شاكل هذا.
وأدخل نابوليون إلى المدرسة قبل العاشرة، فلبث في «أوتن» مع أخيه جوزف ثلاثة أشهر وعشرين يوما منتظرا من حين إلى آخر أن ينتقل إلى مدرسة بريان
Brienne
الحربية.
ولم يغب عن أساتذته في أوتن ما كان عليه من العبوس والتفكير؛ لأنه كان يحب الانزواء، فلا يعاشر أحدا، ولا يشترك مع رفقائه في الألعاب الرياضية وغيرها، وكان يختلف عن أخيه جوزف كل الاختلاف في العريكة والأخلاق، ولا يشابهه إلا في الاجتهاد وحب المطالعة.
وبعد زمن قصير ورد على أبيه كتاب من وزير الحربية البرنس مونباره يبشره فيه بتنازل الملك إلى قبوله في عداد تلامذة مدرسة بريان، وكانت هذه المدرسة خصيصة بالنبلاء، فوجد نابوليون نفسه غريبا فيها، مضطهدا من رفقائه أبناء الأسر العريقة في النسب المنتفخين غرورا انتفاخهم بالمال، ومن قرأ كتابه إلى أبيه يومئذ يتبين من خلال سطوره شدة الحنق الذي كان يلهب قلب هذا الشاب في أول مرحلة من حياته، فقد جاء فيه: «إذا كنت لا تستطيع أن تعطيني ما يلزم لأعيش في هذا المعهد، فادعني إليك حالا؛ فقد سئمت نفسي التظاهر بعدم الاكتراث بينما أعيش على مرأى ومسمع من هؤلاء الأغرار الذين لا يمتازون عني بشيء سوى غناهم.»
وكانت رغبة الملك أن يتم على أولاد النبلاء نعمة التربية الاجتماعية، فأدخل في نظام المدرسة ما يوجب اختلاط التلامذة بعضهم ببعض لتلين طباعهم بالاحتكاك ويخف كبرياؤهم فيتعودوا النظر إلى سواهم نظرة أدنى إلى العدل والمساواة، وكانت مدة الدراسة ست سنوات لا يجوز في خلالها لتلميذ أن يطلب إذنا بالتغيب، كما أنه من الواجب على كل فرد أن يلبس ثيابه ويغسلها بدون مساعدة خادم أو أجير، وأن يجعد شعره بنفسه ويرسل منه ضفيرة صغيرة إلى الوراء، ولا يحق له أن يذر عليه «البودرة » إلا في الآحاد والأعياد، أما السرير فكان بسيطا، فراشه وغطاؤه لا يغيران صيفا ولا شتاء.
وكانت الرياضة البدينة وكل ما يزيد في قوة الجسم وخفته من الأمور الضرورية، أما الرقص والموسيقى فليس لهما أن يأخذا من أوقات الدرس كثيرا ولا قليلا، وكان العقاب بالضرب ممنوعا؛ لأن الضرب «مما يضر بالصحة ويذل النفس ويفسد الأخلاق»، ومن الواجب تجافي العقاب ما أمكن؛ لأنه يجلب العار على التلميذ ويحط من كرامته.
تلك هي الشرائط التي جرى عليها نظام مدرسة بريان لإعداد رجال أقوياء بدنا وعقلا، على أنها لم تكن تحترم كل الاحترام، فكم تغيب تلميذ! وكم عوقب بالضرب سواه! حكي أن نابوليون استحق القصاص مرة فأمر أن يركع أمام باب غرفة الأكل ويتناول طعامه على هذه الحال، فأطاع إلا أنه ما كاد يحني ركبتيه حتى أصابه قيء شديد ونوبة عصبية واتفق أن مر المدير حينئذ، فأخذه بيده بعد أن وجه إلى المعلم كلمات اللوم، وأسرع أستاذه في الرياضيات شاكيا محتجا على إهانة أفضل تلاميذه.
وكانت العادة أن يزور المدارس الحربية بين آونة وأخرى مفتش خاص غايته فحص التلاميذ والإشراف على أحوال معيشتهم ودروسهم وصحتهم؛ ليقدم بذلك تقريرا وافيا إلى الوزير، فجاء بريان هذه المرة المسيو ده كراليو، وذلك في سبتمبر 1783، ولما رأى نابوليون أدرك حالا ما عنده من الاستعداد على الرغم من أن معارف التلميذ الشاب كانت وقتئذ قليلة لا تكاد تتعدى الرياضيات، فوقع اختياره عليه لإرساله إلى باريس، وحرر بذلك شهادة أتى فيها على وصفه من حيث القامة والبنية والصحة، ولم ينس أن يذكر فيها أنه ضعيف في اللغة اللاتينية وفي الألعاب.
ثم جاءت أمه لزياته، فأفرغت جهدها في إقناعه بالعدول عن البحرية؛ حيث لا يجد إلا عدوين: الماء والنار. والذي زادها قلقا عليه ما رأت من نحوله وتحول ملامحه، حتى إنها أبت بادئ ذي بدء أن تصدق أنه ولدها، كما يقول نابوليون نفسه في حديث له مع الجنرال مونتولون؛ لأنه حقا كان قد تغيرت صحته وساءت كثيرا؛ لإفراطه في الدرس وسهر الليالي مكبا على المطالعة، وذلك «لأن فطرته كانت تأبى عليه إلا أن يكون الأول في صفه».
ولا توجد تفاصيل عن حياة نابوليون في بريان سوى ما كتبه أحد رفقائه في المدرسة ونشره بعد سقوط الملكية؛ أي سنة 1815، فقد جاء في هذا الكتاب أن نابوليون كان يجهل تقريبا الفرنسوية، فعينوا له أستاذا خصوصا هو الأب ديبوي، وكانت ذاكرته ضعيفة جدا؛ بحيث لا يقوى على استظهار دروسه، إلا أنه كان يفهم بسرعة معنى كل ما يقرأ، وقد قرأ كثيرا وخصوصا التاريخ.
وكان متطرفا في مدح الإنكليز وذم الفرنسويين، وقد اضطر فيما بعد إلى تغيير رأيه هذا، وكان لون وجهه أصفر شديد الاصفرار، فكان يعلل ذلك بأنه وهو في المهد كانت الحرب مستعرة في كورسيكا، فاضطرت مرضعه أن تنجو به إلى الجبال، وجلبت له عنزة تشاركها في إرضاعه لقلة لبنها، ولكن العنزة ماتت فلم تجد غير الزيت لتغذيه به (كذا).
بونابرت حين كان طالبا في المدرسة الحربية الملكية.
ويقال: إن نابوليون لم يكن ليشترك مع رفقائه في الرياضة واللعب، ولكن الكاتب الذي يدعي أنه رافق نابوليون أيام المدرسة يقول: إنه في باريس كان يلعب كغيره، ولا سيما لعبة تسمى لعبة اللص وأخرى لعبة الصيد، وكلاهما حركة وركض. أما ألعاب الخفة فكان يجهلها تماما حتى إنه لم يكن يعرف أن يرمي حجرا فيصيب، بل إنه كان عاجزا عن تجعيد شعره بذاته، وقد بلغ ذلك منه أن سمح له بالشذوذ عن القاعدة، فصار يدعو مزينا لتجعيده وإرسال جديلة وراء رأسه حسب زي تلك الأيام.
وقد غادر نابوليون بريان في 17 أكتوبر سنة 1784 غادرها غير آسف؛ لأن شوقه إلى كورسيكا لم يزل متقدا وحنينه إلى سمائها الجميلة لم يزايل فؤاده لحظة.
أما مدرسة باريس فقد أنشئت على عهد لويس الخامس عشر بالقرب من الأنفاليد، كأنما أراد منشئها أن ينعش الأبطال القدماء ويفرح شيخوختهم بمنظر الشباب المعزي، ثم أقفلت واعتيض عنها بمدرسة خاصة أعدت لقبول زهرة الطلاب ممن امتازوا في دروسهم من أي بلد فرنسوي كانوا، وقد أظهر نابوليون أنه حائز الصفات المطلوبة فقبل فيها بسهولة.
ولا نعرف من حياة نابوليون في هذه المدرسة الملكية إلا نتفا يرويها رفقاؤه، ومنها هذه الحادثة التي تدل على نفسه: كان الاعتراف إجباريا في المدرسة، فإذا لم يجئ التلميذ من تلقاء نفسه إلى الكنيسة جيء به غصبا، ووقف عند الباب حارس يمنعه من الخروج قبل أن يتم هذا الفرض الديني، فلما جاء دور نابوليون ووقف أمام الكاهن سأله هذا عن وطنه، فأجابه أنه من كورسيكا، فما كان من الكاهن إلا أن انطلق في ذم الكورسيكيين وعد عيوبهم ولصوصيتهم، فتكدر نابوليون واحتدم الجدال بينه وبين معرفه حتى انتقل من السب إلى التهديد، وانتهى بأن ضرب نابوليون بقبضة يده على الحديد الفاصل بينه وبين الكاهن، فكسره وهجم عليه، ولولا الحارس الذي أسرع إلى الفصل بينهما لكانت معركة دموية، ولم يعاقبه رؤساؤه على ما جرى؛ لأنه لم يفعل ذلك إلا دفعا للإهانة التي أراد أن يلصقها الكاهن ببلاده.
وإليك حادثة أخرى ليست أقل دلالة على أخلاقه:
كانت العادة إذا مات قريب لطالب أن ينبئوه بذلك تدريجا بعد أن يدعى إلى غرفة خاصة يكون فيها وحده فيتسع له الاستسلام للحزن والبكاء، فلما مات والد بونابرت دعاه الرئيس وأخبره بمصابه، وأشار عليه أن يختلي إلى نفسه في الغرفة المعدة للراحة والتطبيب، فما كان من نابوليون إلا أن أجابه: «لن أذهب، فالبكاء للنساء، أما الرجل فعليه أن يتعلم كيف يتألم، وأنا لم أصل إلى هذه الساعة دون أن أفتكر في الموت وأعود نفسي عليه كما أعودها على الحياة»، ولم تنحدر له دمعة وبقي متتبعا دروسه بهدوء، كأن لم يمت له أحد، وكان يسمي هذا فلسفة.
وخرج نابوليون من المدرسة في أكتوبر سنة 1785 قاصدا فالانس، حيث انفتحت أمامه أبواب البيوتات وأخذت الطبقة الراقية تستقبل بلطف وإعجاب هذا الضابط الشاب الذي يحمل في جيبه شهادة ليوتنان في فرقة المدفعية، ويقال: إنه عندما بلغ قمة مجده سنة 1807 وصله يوما من معلمة الرقص هذه الكلمة: «إن الذي قاد خطواتك الأولى في الصالونات يستنجد كرمك اليوم.»
ويشهد أحد المؤرخين أن فالانس واجتماعاتها كانت له مدرسة كبرى شحذ فيها غرار ذكائه وادخر ذلك الاختبار الواسع وهو الذي يصفه بقوله: كان صغيرا حليقا أصفر، بالغا من النحول حده الأقصى، ضيق الكتفين تحت ثوبه الحربي، تحيط برقبته ربطة معقدة، ويغطي أذنيه شعر رأسه المنبسط، وكان غائر الوجنتين، مطبق الشفتين، حاد النظر، قليل الكلام، وجيز العبارة، أجش الصوت، وكل ملامح وجهه تدل على العناد والعزم وكثرة التفكير وحب الانفراد والنفور من الناس.
وكان يشغل أوقات الفراغ بالقراءة والتأملات، وأحب المؤلفين إليه روسو الذي ترك أثرا في كل ما كتب من 1786 إلى 1793، ولكن كان لهذا الميل والحب حد فسيجيء يوم يقول فيه عن معبوده الفيلسوف: كان خيرا لفرنسا وراحتها ألا يولد هذا الرجل.
الفصل الثالث
فتوة نابوليون
اختلف المؤرخون في تاريخ اليوم الذي غادر فيه الضابط الشاب فالانس إلى ليون، فزعم بعضهم أنه أصيب في هذه المدينة بحمى ألزمته الفراش أياما، وكانت سببا في تعرفه بآنسة من جنيف اسمها أوجيه، وهي التي اهتمت به وأحاطته بعنايتها وعطفها حتى الشفاء، ولكن مفكرات نابوليون لا تذكر شيئا من هذا، بل فيها أنه ترك فالانس قاصدا أجاكسيو في سبتمبر سنة 1786 وعمره يومئذ 17 سنة.
ولدى وصوله ألفى عمه الأرشيدياك تضنيه آلام النقرس، وتبرح به، وقد أعيا داؤه أطباء الجزيرة، فرأى أن يكتب إلى الدكتور تيسو كما مر بك، والدكتور تيسو واسع الشهرة، وهو عضو في الجمعية الملكية وجمعية بال الطبية وجمعية برن الاقتصادية، فليس غريبا أن يتجه نابوليون بأفكاره إليه ويعلق آماله عليه، ولا نعلم أي تأثير ترك في نفس نابوليون إغفال هذا العالم الرد عليه على الرغم مما أولاه من ثناء وتمجيد.
ولشدة الداء امتنع عمه عن العمل بتاتا، فاضطر نابوليون أن يتسلم زمام الإدارة في البيت لأن شقيقه الأكبر كان على سفر إلى بيز، فلم يبق لنابوليون من سبيل إلى ترك أجاكسيو حينئذ، فكتب إلى وزير الحرب يسأله إجازة خمسة أشهر مع حفظ معاشه فأجابه إلى طلبه.
وقد يتعجب القارئ لهذا الغياب المتكرر من المدرسة، ولكنها عادة جرى عليها الجميع من الكولونيل إلى الماجور إلى الليوتنان، وهكذا كان نابوليون يروح ويجيء بين فرنسا وكورسيكا، محتجا بضعفه حينا واعتلال أمه حينا آخر.
مائدة وكرسيان وجدت في الغرفة التي كان يشغلها بونابرت في أوكسون حينما كان ليوتنان المدفعية.
وقد كانت أمه استفادت فيما مضى من حمامات جوانيو الواقعة في كورسيكا على مسافة ثلاثين كيلومترا من أجاكسيو، فرافقها ابنها إليها هذه المرة، وكانت جوانيو أو كوانيو عظيمة الشهرة لذلك العهد، يؤمها الناس من كل صوب، فيجتمع فيها زهاء ثلاثمائة بين مريض يرجو الشفاء ومتعب يطلب الراحة من هموم الأعمال أو عراك السياسة، وفائدتها الكبرى هي تسكين الأوجاع العصبية، تلك الأوجاع التي منيت أمه بها، وانتقل إليه شيء منها بالوراثة كما ورث عن أبيه استعداده المرضي، وقد كان يعلم أنه مدين بما فيه من الحالة العصبية لأمه خصوصا؛ ولهذا كان يقول عن نفسه: «رأس رجل على جسم امرأة.»
ولم يغادر نابوليون كورسيكا إلا في شهر أكتوبر سنة 1787، فوصل باريس في التاسع من نوفمبر، ونزل في أوتل شربورغ بشارع سنت أونوره.
ومن راجع مفكرات نابوليون وقرأ ما كتب بعنوان «أدوار حياتي» يجد هذه العبارة: «وصلت إلى أجاكسيو سنة 1786 في سبتمبر وتركتها سنة 1787 في سبتمبر، ثم عدت إليها في يناير وتركتها في يونيو إلى أوكسون.»
أما حياته في أوكسون فلم نعرفها إلا على وجه التقريب بعد البحث في مختلف ما كتب عنه، والظاهر أنه كان يسكن فيها مع أخيه الصغير لويس في الطابق الثالث من جناح الثكنة، وكانت غرفته مظلمة يدخلها الهواء من نافذة صغيرة، وهناك وجه كل همه إلى الرسم والرياضيات وعلم الفراسة، وكان له صديق اسمه دي مازيس يختلف في الأخلاق عنه كل الاختلاف، ومع ذلك فقد تمكنت بينهما أواصر الود فكانا يأكلان معا، ولضيق ذات اليد أراد نابوليون أن يعيش باللبن وحده مدعيا المرض، ففعل صديقه مثله وشاركهما في هذا النوع من الإضراب عن الطعام رفيق ثالث.
وكان من شروط هذا الاتفاق الثلاثي أن يؤلف كل بدوره قصة نثرية يقرؤها بعد الغداء، فعاشت القراءة بقدر ما عاش الاتفاق؛ لأن معدة نابوليون قصرت عن احتمال اللبن، بل إن هذا الحرمان أثر في صحته فاعتلت واضطر إلى ملازمة الفراش، ولم يدخل إلى المستشفى حينئذ؛ لأن النظام كان لا يسمح بالدخول إليه إلا لمن كان في خطر، وفضلا عن ذلك فإنه كان يعاف الأدوية ويأنف الخضوع لنظام المستشفى.
وكان طبيبه في تلك المدة الدكتور بيانفلو، فلما صار نابوليون قنصلا أول سنة 1802 واستعرض الجيش في ساحة مارس، كان بيانفلو لا يزال في وظيفته فعرفه نابوليون حالا وصاح به: أي بيانفلو، ألا تزال غريب الأطوار؟! فأجابه هذا: «ليس بالمقدار الذي أنت فيه من الغرابة أيها القنصل، الذي لا يعمل مثل سواه ولا يجد من يقلده»، والظاهر أن الجواب لم يغضب نابوليون فسمى الطبيب عضوا في جوقة الشرف وبقي في وظيفته إلى سنة 1815.
ما هو ذلك المرض الذي أصابه في أوكسون، وكم كانت مدته؟ ربما كان الحمى الراجعة الكثيرة الانتشار في تلك البلاد، والتي كان نابوليون معرضا لها، ولا يجهلها، كما نرى من كتابه لأمه إذ يقول: «صحتي الآن أحسن فأستطيع أن أحرر لك، إن المناخ هنا سيئ لوجود المستنقعات وفيضان النهر المتواصل الذي يملأ الحفر بماء آسن، وقد تعبت كثيرا لتعدد نوبات الحمى المنهكة، وأما الآن بعد أن صحا الجو وذاب الثلج وتبدد الضباب فإني أشعر بتحسن سريع.»
ولم تمنعه آلامه من متابعة دروسه، فكان يستيقظ الساعة الرابعة ويبدأ بالعمل، ولا يأكل إلا مرة واحدة في النهار نحو الساعة الثالثة، وبعد شهر من مرضه طلب أن يستريح فلم يرفض طلبه هذه المرة أيضا، فذهب إلى أجاكسيو وقصد إلى الاستشفاء بمياه أوريزيا الحديدية، ثم عاد إلى أوكسون مصطحبا معه أخاه الصغير لويس يرشده ويدربه ويعلمه الرياضيات والتاريخ.
وفي أبريل سنة 1791 رقي إلى رتبة ليوتنان أول في فرقة كرنوبل، فذهب إلى فالانس وأقام فيها زمنا، ومنها سافر إلى كورسيكا، ثم عاد إلى باريس والثورة في غليانها.
يقال: إن أخاه لويس دخل عليه يوما متأخرا عن عادته فلامه أخوه على كسله، فقال له معتذرا لقد كنت أحلم حلما جميلا وهو أني صرت ملكا، فقهقه نابوليون وقال: «أنت ملك؟! هذا يكون يوم أصير إمبراطورا»، ولم يدر في خلده أن تلك النبوة ستصدق.
ويقال أيضا: إنه مر في ساحة التويلري في يونيو سنة 1792 بين الهرج والمرج وازدحام الشعب المسلح الهاجم على القصر، وكان الراوي وهو أحد المحامين يحادث صديقا له عن الأحوال الحاضرة، فقاطعهما شاب مجهول أصفر اللون حاد النظر قوي الصوت وقال لهما: «لو كنت أنا الملك لما صار شيء من هذا أبدا» وعرفا فيما بعد أن هذا الشاب هو بونابرت.
وفي سنة 1793 أصابه في أفنيون مرض فامتنع عن العمل، ولكنه لم يمتنع عن الكتابة فألف عشاء بوكير
Souper de Baucaire
بإنشاء سهل مقبول يظهر من خلاله محبته للعلم والمطالعة وميله إلى التدقيق.
وبعد حين وطئت أقدام نابوليون أرض نيس وكانت الساعة تقترب، تلك الساعة التي سيمثل فيها على مسرح السياسة دوره العظيم.
ففي ليلة من ليالي أكتوبر سنة 1793 انتشر نبأ الخيانة وتسليم طولون للإنكليز، وكان نابوليون قائما بوظيفة في المدفعية قياما لا مأخذ فيه لطاعن، فأعجب به قائد الفرقة أيما إعجاب، وقد ذكر المؤرخون كيف دعي نابوليون بونابرت لقيادة الجنود التي عهد إليها استرجاع طولون.
من ذلك اليوم أخذ نجمه يلمع في الأفق! من ذلك اليوم تسلمه التاريخ تسلما أبديا! من ذلك اليوم ارتدى ثوب الخلود!
الفصل الرابع
نابوليون يتسلمه التاريخ
لم يكن استرجاع الفرنسويين مدينة طولون كافيا لتلفت الأنظار إلى نابوليون، نعم، إن هذا الحادث الخطير كان أول انتصاراته ومطلع مجده، إلا أنه لم يوطئ له مهاد الشهرة فبقي كما كان مجهولا، حتى إنه لم يرد لاسمه ذكر في التقرير الذي رفعه القائد ديجوميد إلى «ألكونفانسيون» ولا في المراسلات التي كانت على اتصال بين الضابط مارمون وأسرته على وجود مارمون معه في المدفعية ومرافقته له كل حين، وكل ما ورد بشأنه هو هذه الجملة في إحدى رسائل مارمون الأب: «من هو هذا الجنرال بونابرت؟ ومن أين أتى؟ لا علم لأحد به!» ذلك لأنه لم يكن معروفا حتى تلك الساعة، ثم أخذت الأقدار تساعده وتشق أمامه سبل الشهرة والمجد.
والحق أولى أن يقال، ليس في الناس من ساعد حظه على الظهور وخدم شهرته كنابوليون، فقد كان في طولون يقدم على الموت غير هياب ولا وجل، ويهجم في طليعة فرقته تحت رصاص العدو المنهمر كالسيل مدفوعا بحماسة الشباب وحدة المزاج، متنقلا من جهة إلى جهة، كأنه يحاول أن يكون في كل مكان، وكان من جراء هذه المجازفة بحياته أن قتل تحته جواد وأصابته طعنة حربة في فخذه سببت له جرحا بالغا كاد يقضي بقطع ساقه، ذلك ما جعله يقول وهو في السفينة التي كانت تقله إلى جزيرة القديسة هيلانة: إن أول من جرحه كان إنكليزيا.
نابوليون يتفقد المصابين بالحرب في يافا (نقلا عن صورة للمصور جرو).
وقد أصابه في الجيش داء الجرب المنتشر يومئذ انتشارا هائلا، فكانت النتيجة أن ظهر فيه مرض جلدي نسميه - نحن الأطباء - إكزيما، واستعصى عليه شفاؤه، وكان سبب الجرب لذلك العهد مجهولا، فلم يكن أحد يجسر على معالجة الطفح الناتج عنه خوفا من أن يغور في الجسم ويسبب علة أخرى أشد وطأة وأصعب علاجا، وهذا ما يفسر لك كيف أنه عندما جاء مصر وظهرت فيه لأول مرة أعراض الداء في معدته لم يجد الأطباء خيرا من أن يلفوه بثوب مريض بالجرب ظنا منهم بل اعتقادا أن إرجاع البثور إلى جلده هو أفضل واسطة لتحويل الألم عن معدته.
وكان الأطباء يعتقدون فائدة التطعيم بالجرب حتى إن أحد النورمانديين المشهورين ادعى شفاء السل به، وغيره شفاء الصرع، وبقيت هذه الطريقة الوحشية يتخذها الطب سلاحا إلى أن عرف أصل الجرب وماهيته.
ولبث نابوليون زمنا طويلا متأثرا بذلك الداء، حكى الدكتور أنتومارشي طبيبه في منفاه أنه رآه مرة هائجا مضطربا فأشار عليه ببعض المسكنات فأجابه الإمبراطور: «أشكرك، ولكن عندي ما هو أفضل من عقاقيرك، وأرى الساعة قد دنت، والطبيعة تمد يدها لمساعدتي»، قال هذا وانطرح على المقعد، وقبض على فخذه الأيسر وأعمل يده في الجرح فانفتح وسال الدم ثم قال: «ها أنا ذا قد استرحت، ألم أقل لك: إن لي نوبات كلما آن أوانها جلبت الراحة لجسمي»، وكان بعد أن يسيل الدم ويجف الجرح ويندمل يقول للطبيب: «أرأيت كيف أن الطبيعة تتكفل بكل ما يلزم فترجع التوازن إلى الجسم كلما أفلت منه؟!»
الدكتور دجنت (نقلا عن رسم لدوترتر).
قال أنتومارشي: فحيرني هذا الحادث ودفعني الفضول إلى درسه، فتبين لي بعد البحث أنه قديم يتكرر آونة بعد أخرى، ويرجع تاريخه إلى حصار طولون.
ولما هوى روبسبير كان نابوليون في حالة شديدة من التعب والضعف، فذهب إلى ذويه على مقربة من أنتيب طلبا للراحة، وهنالك لم ير بدا من دعوة طبيب لمعالجته، فجاءه الدكتور دجنت وكان موضع ثقته واحترامه، إلا أنه تمادى معه في الجدل فغير رأيه فيه ولم يرد أن يستعمل الدواء الذي أشار عليه به، وربما كان هذا الإهمال سبب التمادي في ضرره.
أما معرفته بالدكتور دجنت فيرجع عهدها إلى نيس عندما كان الضباط يجتمعون في مخازن الأزياء حول بعض البائعات الجميلات، وكان بونابرت في عدادهم على أنه لم يكن يريد إلا المحادثة فقط، ولا يخرج دون أن يشتري شيئا ولو زهيدا، وكان معروفا منذ ذلك الحين ببروده، ولكن الأيام والضعف قد أضافا إلى ذلك معايب أخرى، فكان في الزمن الأخير أيام اجتماعه بالطبيب لمعالجته قبيح المنظر، قليل العناية بذاته، هزيلا، أصفر اللون، محدودب الظهر، كما روت الدوقة دبرانتس.
وإليك صورة من نابوليون وهو في السادسة والعشرين، كما رسمها لنا ستاندل:
كان أغرب رجل عرفته في حياتي، وأشد الناس هزالا، وكانت ثيابه رثة خلقة، حتى لا يكاد الناظر إليه يصدق أنه جنرال، ولكنه كان جميل النظر، فتان اللحظ، ممتلئا حياة حين يتكلم، ولولا نحوله البالغ حده الأقصى لاجتذب الأنظار ما فيه من رقيق الملامح وجميل الابتسام.
أما شجاعته فلم يكن سبيل للشك فيها.
وفي إحدى التظاهرات كان نابوليون الجنرال يسير على جواده وهو حديث العهد بالإبلال، فأحاطت به عصبة من النساء بين العويل والوعيد يطلبن خبزا، وتقدمت إليه منهن واحدة بدينة وهي تصيح: «ألا إن هؤلاء الرجال يهزءون بنا، ولا يهمهم مات الشعب أو عاش إذا ملئوا بطونهم وسمنوا هم»، فأجابها نابوليون بلطف: «انظري يا سيدتي، من منا نحن الاثنين أكثر سمنا؟!» وكان في ذلك اليوم شديد النحول، كثير الاصفرار، غائر العينين.
نابوليون على جمله في مصر.
وفي 8 مارس سنة 1796 تزوج من أرملة بومارشه، وفي 21 منه ذهب لتسلم قيادة جيش إيطاليا، وبقيت صحته في اعتلال، كما يظهر من رسائله إلى زوجته جوزفين، فقدم استعفاءه في سبتمبر.
ومن 10 سبتمبر سنة 1797 إلى 11 مايو سنة 1798 أي مدة إقامته في باريس قبل الرحيل إلى مصر أخذ يشعر بالتحسن والعافية.
ولكن زوجته جوزفين كانت قلقة عليه، فاجتمعت في إحدى السهرات عند باراس بالطبيب كورفيزار، وسألته رأيه في الداء الذي يمكن أن يخاف منه على صحة الجنرال، فأجابها على الفور إنه سيموت بالقلب وسمع نابوليون ذلك فالتفت إلى كورفيزار وقال: «وهل كتبت في ذلك كتابا؟» - كلا، غير أني عن قريب سأفعل. - اكتب إذن، اكتب، ومتى أتيحت لنا فرصة تكلمنا معا عنه.
أما الكتاب فلم يظهر إلا بعد سنين، ولم يقدمه كورفيزار إلى الإمبراطور إلا بعد الطبعة الثانية، وقد صدره بهذه الكلمات:
إلى جلالة الملك والإمبراطور:
إن سماح جلالتك لي أن أقدم لها هذه الطبعة الثانية من كتابي لهو أحسن مكافأة لعملي الحقير، ولقد كان من الصعب قبلا أن يقدم مؤلف كتابه إلى ملك ولا يبالغ في عبارات المدح، أما اليوم فالمبالغة نفسها قاصرة عن أن تفي بمدح نابوليون.
ولكن يا مولاي، إذا كان العقل يدعوني إلى السكوت فالعواطف تأمرني أن أذيع على رءوس الأشهاد مآثرك وعرفاني الجميل.
وكان كورفيزار يوم ألقى عليه الإمبراطور نظرة الرضا شهيرا يشغل مكان الطبيب الأول في مستشفى الرحمة، والذي أعجبه منه بوجه خاص هو حسن التشخيص وبراعته التي لم يدانه فيها أحد.
الدكتور كورفيزار.
ثم جاء نابوليون مصر وسوريا، فلم يفعل فيه الحر ولا تعب السفر ، بل احتملت بنيته الضعيفة كل هذا فوق ما كان معرضا له من العدوى بالطاعون لاختلاطه بالمرضى وملامسته لهم.
وقد جرى جدال في إحدى جلسات المجمع العلمي في مصر عن عدوى الطاعون بين الجنرال والطبيب دجنت، فأبى هذا أن يوافق نابوليون على إنكار العدوى، وما كان نابوليون ينكرها عن جهل، بل إبعادا للخوف عن الجيش، فصاح به من الغضب: «تلك هي مبادئكم أيها الأطباء والصيادلة، تفضلون أن يموت جيش بأسره عن أن تضحوا بواحد منها.»
وأحسن وصف له بعد رجوعه عن مصر هو ما كتبه عنه خادمه الذي أقام معه 15 سنة، فقد ذكر أن الإمبراطور كان أصفر نحيلا نحاسي اللون، غائر العينين، مكشوف الجبين، قليل شعر الرأس، إلا أن جمال الزرقة في عينيه كان يعكس عواطف نفسه الحساسة في قساوة وحنو وشدة ولين، وكان فمه حسنا، وأسنانه بيضاء سليمة، وأنفه جميلا يوناني الشكل، أما رأسه فكان ضخما محيطه 22 بوصة مسطحا من الجانبين، شديد التأثر والإحساس، مما كان يضطره أن يضع في قبعته الجديدة قطنا ويكلف خادمه لبسها مرارا قبله حتى تلين، صغير الأذنين، قصير العنق، ضيق الكتفين، عريض الصدر على ندرة الشعر فيه، مفتول الساعدين والساقين، قامته خمس أقدام وبوصتان.
وقد ذهب نحوله فيما بعد دون أن يذهب بجماله، بل كان ملكا أجمل منه قنصلا، كأن الهموم والأطماع والشواغل التي أنهكت بونابرت قد تضاءلت وارتدت أمام نابوليون بعد أن بسم له الزمان وخضعت له دول الأرض وشعوبها.
الفصل الخامس
18 برومير
إن تفاصيل هذا النهار المشهور قد عرفت لكثرة من كتب عنها، ولكن ثمة أشياء لم تعرف، وهي تمثل لنا الفصل الأول من هذه الرواية، وقد ذكر بعضها المستشار كوندر قال: رأيته في التويلري فوق جواده الأشهب وهو يقصد إلى سان كلود، وكان وجهه طويلا نحيلا أصفر، وشعره الأملس مقصوصا إلى فوق الأذن، وعلى رأسه قبعة صغيرة، وقد ذكر بعضها الآخر ألبر فاندال قال: خرج بونابرت من موكبه ودخل بين الجماهير وحده مكشوف الرأس، ودنا من المنبر فعلا الضجيج والصياح: ليسقط الدكتاتور ، ليسقط الظالم. ونهض الجمع بأسره مظهرا غضبه على الرجل الوقح الذي جاء بسلاحه وحذائه يخرق حرمة ذلك المعهد كأنه قيصر الرومان.
وفي أسرع من لمح البصر كانت الجماهير قد التفت من حول الجنرال، هذا يشتم، وهذا يتوعد، وهذا يمد يده إليه ويمسكه من عنقه ويهزه بعنف، فلم يقو هذا الرجل العصبي المزاج الشديد التأثر الذي كان يتجافى الجمهور وينفر من الازدحام على احتمال هذا الثقل الذي انحط عليه، لم يقو على ملامسة هذه الأيدي المتوحشة واستنشاق هذه الأنفاس الخارجة بالشتيمة من أفواههم والهواء الساخن المختلط بتلك الأنفاس، فأحس بضعف وانقباض صدر وغشاوة بصر وأغمي عليه.
كم من الزمن شغلت غيبوبته؟! كان من عادة الغضب عند نابوليون أن يرجع إليه التوازن المفقود شيئا فشيئا، فلما عاد وعيه أخذ يشتم المجمع ويشكو من اعتداء الناس عليه، ويصرخ «يا للقتلة!» وهو على جواده بين جيئة وذهاب، وقد خدش وجهه المصفر بأظافره من الغضب حتى سال الدم، وذاع أن نابوليون مجروح في جبينه، وبفضل هذا الجرح رجحت في جانبه كفة الميزان، فكفى أخاه لوسيان أن يدل الجماهير عليه وعلى الدم المتجمد على وجهه بصوت وحركات لا يفرق فيها عن أبرع الممثلين؛ ليصل إلى قلوبهم ويخفف من حدتهم وغضبهم.
ولم تفده «القنصلية» في تحسين صحته، بل ظل كالأول هزيلا أصفر، ولكن نظره الساحر كان يدل على فكرة وقادة وتبصر غريب، وقد وصفه أحد الإنكليز بقوله: كانت ملامحه تدل على السوداء والتفكير العميق، وقلما كانت تعرف شفتاه الجميلتان الابتسام، أما عيناه فكانتا متقدتين كجذوة من نار، وصوته عميقا كأنه خارج من القبور.
وقال فيه الشاعر روجر: إن اصفراره كان اصفرار الموت، واتفاق الجميع على ذكر اصفراره دليل على ما كان عليه من المزاج الصفراوي، فهو يدخل في تلك الفئة التي يسميها اليوم الأستاذ جلبر الأسرة الصفراوية.
وإذا كان التشخيص على ما يقدمه لنا الوصف شيئا لا يخلو من الجسارة، فإنه هنا سهل لاتفاق الكل على نقطة معينة، ولا سيما لأن ذلك كان قبل الزمن الذي ارتقى فيه نابوليون ذروة المجد، فصار في عين الأمم، كما قال فريدريك ماسون: أبعد من أن تناله عاديات الزمن والحياة والشيخوخة.
قال الشاعر ألفرد ده فيني: بونابرت الرجل ونابوليون الوظيفة، الأول يلبس قبعة والثاني تاجا.
ولكن هذا النحول الذي رافقه في الأدوار الأولى من حياته سيتبدل مع الزمن، فينتفخ الوجه والبدن ويخف شعر الرأس ويحول اسوداده ويصير كما قال عنه أحد التجار الألمان وقد التقى به في جزيرة ألبا: «إني عرفت هذا الرجل قديما، فلما رأيته اليوم كدت لا أعرفه، نعم، إنه لم يعد ذلك الرجل، إذا نظرنا إليه الوجهة الطبية»، وهذا ما سنظهره في الفصول الآتية.
الفصل السادس
اجتماع نابوليون بكورفيزار
إن اجتياز جبل سان برنارد سنة 1800 كان حادثا عظيما في التاريخ، ولا نحاول هنا إعادة ما قيل، ولا نقل المعروف عن كتب التاريخ، بل نتلمس الحقيقة كعادتنا في مظانها الحقيرة الصادقة، فنروي للقراء ما عثرنا عليه مما لا يزال أكثره مجهولا، فقد جاء في مذكرات الدليل الذي رافق البطل في هذه الحملة ما يأتي: الفرق عظيم بين الجنرال فيكتور والقنصل، فالأول كان شديدا عاتيا قليل الصبر، لم أجد في رفقته إلا الخوف، فكلما عثر بغلي تحته كان «يهول» علي بالكرباج أو بالسيف، على أنه كان جميل الطلعة، حسن الهندام، أما بونابرت فكان هزيلا شاحبا، وبياض عينيه كقشرة الليمون (ملاحظة خليقة بطبيب!) وكان قليل الكلام، حزين النفس، يكثر من التلفت وراءه ليتحقق من تقدم الجيش الزاحف.
وذكر إنكليزي رآه بعد سنتين من هذا التاريخ وهو يستعرض الجيش في التويلري: إن ملامحه كانت تدل على التعب والسوداء قال: «ما كادت المركبات تصطف في أماكنها وتقف فرق الخيالة والمشاة أمام القصر، حتى أطلق المدفع فشاهدنا رجلا صغيرا يقفز بخفة لا مثيل لها فوق جواد أبيض، وينطلق مسرعا بين الصفوف يتبعه القواد والضباط، أما الجواد فكان اسمه مارانكو، وأما الراكب فنابوليون بونابرت القنصل الأول.»
الإمبراطورة ماري لويز.
وكان مرتديا سترة زرقاء ذات حواش بيضاء، ولابسا قبعة صغيرة عليها شريط مثلث الألوان.
أما وجهه فلا ريشة المصور ولا قلم الكاتب يقدران أن يأتيا بالحقيقة عنه، فإن لونه كان أصفر قاتما، وعيناه غائرتين في رأسه، ولهما زرقة ضاربة إلى السواد، ونظر أحد من السهام.
وكانت شفتاه جميلتين تعلوهما من آن لآن ابتسامة حلوة ساحرة، إلا أنها نادرة وكثيرا ما خلفتها عبوسة مخيفة لأدنى سبب؛ لأن نابوليون لم يكن يطيق المعارضة.
وكان يطعن في الأطباء ويستهزئ بهم إلى أن أصابه داء في صدره، فشفاه كورفيزار وجعله يغير اعتقاده، فصار كما يقول هو نفسه: يثق بالطبيب دون الطب. وهذه عبارة لا معنى لها؛ لأن الطبيب هو بطبه قبل كل شيء، ولكنها من تناقضات نابوليون الكثيرة.
ومن تناقضاته أيضا في مسائل الطب والفسيولوجيا تعريفه الموت بأنه فقدان الإرادة، وكان يقدم برهانا على صحة رأيه الحادثة الآتية:
جمح به مرة جواد المركبة في سان كلود، فوقع منها على صخر وأصابت الصدمة معدته، فآلمته كثيرا، فلما كان الغد وقد استرجع قواه قال لمن حوله: «أمس أتممت اختباري عن الإرادة، فإن الضربة التي أصابتني في معدتي كانت شديدة، حتى خيل لي أن الحياة أخذت تفارقني، ولكن بقي لي متسع من الوقت لأفتكر وأقول: لا أريد أن أموت، ففزت وبقيت حيا، ولو كان سواي في مكاني لما عاش بعدها.»
وسواء أكان صادقا فيما رواه عن نفسه أم غير صادق، فإنه لم يظهر مثل هذه الشجاعة في أحوال غيرها كانت تتطلبها، فقد قيل إنه كان يتنزه مرة في النهر مع بعض حاشيته، فانقلب بهم القارب وسقط الجنرال برنيار في الماء، فأخذ منه الرعب مأخذه وأغمي عليه، ولم يذع هذا النبأ، بل بقي سرا من أسرار الدولة.
وكان في بروكسل سنة 1803 يوم أصابته علة الصدر وبصق دما، فبعث في الحال من جاءه بكورفيزار الذي لم تخف على ذكائه أسباب الداء، ولكنه أبى أن يخيف مريضه بذكر تشخيصه، واكتفى بالقول: إنه فساد في الدم يمكن إخراجه بوضع محرقة على الصدر، وقد استفاد نابوليون من علاج الطبيب فوقف بصق الدم، وخف السعال، وزال ضيق الصدر، فصار كورفيزار منذ ذلك الحين طبيبه الخاص، وموضع ثقته المغمور بالمكافآت.
وقد أحجم كثيرا قبل دعوة كورفيزار، ولولا إلحاح كاتم سره لما فعل، وقد قص هذا الأخير كيف تم ذلك، فإنه كان في مالميزون يشتغل إلى جانب بونابرت فلاحظ غير مرة أن سيده كان يصفر فجأة عند انتصاف الليل، وينحني على الكرسي ويفك أزرار صدرته ويتنهد تنهدا أليما، فيقوم ويرافقه إلى غرفة النوم وهو مستند إلى ذراعه، وقد مضى ستة أشهر على هذه الحالة، وكلما فاتح سكرتيره بأمر التداوي ومن يختار طبيبا كان الجواب كورفيزار.
ومن تأبين ديبواترن الذي لفظه على قبر زميله نرى أن الصفات التي فتحت لكورفيزار طريقا إلى قلب نابوليون كانت سرعة الخاطر، والتدقيق، وحرية الفكر، وقد استطاع الطبيب أن يحفظ كرامته أمام الرجل الذي لم يترك لأحد كرامته، وقد قيل إنه وهو سائر إلى مالميزون كان يردد في نفسه: «لا أعلم أي ربح أجنيه من هذه الزيارة، ولكني متأكد أنني سأخسر حريتي»، ولقد أخطأ ظنه؛ فإنه لم يكن أبدا عبدا لذلك السيد الذي كان يسامحه على الكثير إكراما لعلمه وإخلاصه.
والذي وافق نابوليون بوجه خاص أن كورفيزار كان يتكل على الطبيعة أكثر مما يتكل على الأدوية، ولا سيما لأن الطب في نظر نابوليون كان علم احتياط لا علم تدقيق، وكان يعترف بفائدة الهيجين أي علم الصحة، وله فيه آراء خاصة.
وكان يستيقظ مبكرا فيأمر حالا بتجديد هواء الغرفة، ثم يتناول كأسا من الشاي أو ماء زهر الليمون ويسرع بالحلاقة لنفسه، وقد اضطر إلى هذه العادة لأنه لم يجد بين المزينين من يستطيع أن يقوم بهذه المهمة نظرا لما كان عليه من ضيق الصدر وقلة الصبر، فكانت تساوره حركات عصبية لا يأمن معها المزين من أن يجرحه مرارا، ومن الغريب أنه لم يكن يستعمل إلا صابونا إنكليزيا وموسى إنكليزية، ويتعجب من إمكان الحلاقة بغيرهما، وقد اشتهر بالصرامة في معاقبة التهريب حتى إنه كان يحرق كل سنة ما يساوي الألوف من البضائع الإنكليزية المهربة، ولكنه رضي لنفسه بالشذوذ حتى إنه كان يدفع ثمن الموسى جنيهين وهي تساوي ربع القيمة.
وكان مملوكه رستم يمسك له المرآة أثناء الحلاقة، حتى إذا انتهى وآن أوان الاستحمام بالماء الساخن، لبث في الحمام زمنا طويلا يسمع في خلاله من سكرتيره قراءة الجرائد والتلغرافات، وقد يطول الوقت نحو الساعتين غير مبال بإذن الطبيب فاتحا حنفية الماء الساخن إلى أن يتصاعد البخار ويملأ الغرفة، ويحول دون القراءة، فيضطر السكرتير إلى فتح الباب، وكان ولعه بالاستحمام شديدا إلى درجة أنه يستيقظ أحيانا في نصف الليل فينهض حالا إلى الماء، ومن أجل هذا كان يعد له الحمام أين ذهب دون نظر للمكان ولا الزمان، ولما ولدت ماري لويز جاءته البشرى وهو في الحمام.
وكان من نتائج هذه المغاطس الساخنة المتكررة أن سمن بدنه شيئا فشيئا، ولكن ذلك لم يمنعه عن المثابرة عليها لاعتقاده أنها تخفف عنه عسر البول الذي شعر به لأول مرة في حملة إيطاليا، وما برح يزداد حتى اشتدت عليه النوبة سنة 1812، كما أنها تقيه شر الإمساك المزمن الذي رافقه منذ الصغر.
وبعد خروجه من الماء كان يفرك بدنه بفرشاة قاسية، ثم يسكب عليه ماء الكولونيا بغزارة، وقد استفاد عادة الفرك هذه من الشرق، ولها عنده منافع جلى.
وكان يدعي أن السر في صحته ومقدرته على احتمال التعب هو إفراطه من آن إلى آن في عكس ما تعود عليه، فكان مثلا يستريح 24 ساعة، أو يمشي ستين ميلا، أو يركض على جواده طول النهار، كما كان يفعل في جزيرة ألب، كأن التعب ضروري لبنيته ولهذا كان يرجع من فتوحاته وحروبه وهو أوفر سمنا وأقوى صحة.
ولا يخفى على الناقد البصير ما في قوله هذا من الحقيقة، فإن الرياضة البدنية تساعد على إفراز الغدد الجلدية وإخراج الفضلات والسموم، ولا سيما في الأجسام المصابة بالأرترتيسم، ذلك ما كان يحمل نابوليون على القول وهو في جزيرة القديسة هيلانة قبل موته بثلاثة أشهر: «آه! لو كان في الإمكان أن أعرق! وأن ينفتح جرحي! فشفائي من وراء ذلك.»
هذه الرياضة وهذا التعب جعلاه يتمتع بالصحة والعافية أربع سنين متعاقبة، أي من سنة 1802 إلى 1806، كما يظهر من رسائله الخاصة.
الفصل السابع
من سنة 1803 إلى 1810
في 12 نوفمبر سنة 1803 كان في بولونيا البحرية
Boulogue sur mer ، فكتب إلى زميله كامباسرس
Cambaseres
أنه قضى ليله في الميناء في مركبه أو فوق جواده، ولم يزعجه أبدا ابتلال جسمه ساعات متوالية.
وفي 12 أكتوبر سنة 1805 كتب إلى جوزفين من أوكسبورغ أنه بخير على الرغم من فساد الجو واضطراره إلى تغيير ثيابه مرتين في اليوم لكثرة المطر.
ثم كتب لهما بعد أيام أنه أصيب بانحراف يسير لوجوده طول النهار في الماء، ولكن راحة يومه أنسته كل عناء.
وفي 3 ديسمبر من تلك السنة كتب يخبرها أنه قهر الجيوش النمسوية والروسية بقيادة الإمبراطورين، وقد تعب قليلا لإقامته تحت المضارب ثماني ليال باردة ومني برمد بسيط عالجه بماء الورد الفاتر فشفي منه بعد ثلاثة أيام.
وفي سنة 1806 كان السمن قد أخذ سبيلا إلى بدنه فخفت مقدرته على احتمال حياة التنقل، ففي 27 سبتمبر بينما كان في مايانس مع الإمبراطورة وتاليران أصابه عند الوداع ضعف فجائي فضم بذراعيه جوزفين وتاليران معا، وأخذ يخاطبهما بكلام ملؤه حنو حتى أبكاهما، وما كان الدمع ليسكن نابوليون، بل انتهى بنوبة عصبية شديدة من تشنج وقيء، حتى إذا ثاب إلى نفسه أفلت منهما وأمر بالرحيل.
نابوليون الإمبراطور.
وفي 13 أكتوبر أرسل إليها يقول: لقد نحلت في هذه السفرة، ها أنا ذا أقطع كل يوم عشرين ميلا راكبا، أنام الساعة الثالثة وأنهض نصف الليل فأفتكر أنك في هذه الساعة لا تزالين مستيقظة.
وفي غد اليوم الذي خط فيه هذه الكلمات جرت موقعة يانا الشهيرة، فكتب إليها وكانت في مايانس مع الملكة هورتنس والأميرة ستفاني: لقد انتصرت انتصارا باهرا على البروسيان يا صديقتي، وكاد الملك والملكة يقعان في أسري، ثم أعقب هذه الرسالة في اليوم التالي بمثلها: لقد صدق تدبيري فقهر جيش العدو كل القهر، ولم يبق إلا أن أقول: إنني بخير، وإن التعب والسهر ونوم الخيام قد أكسبني سمنا.
وفي 28 نوفمبر أخلى الروس فرسوفيا فدخلها مورا وأقام هو في بوزن أو بولزانو كما يسميها الطليان اليوم، ومنها كتب يخبر جوزفين أنه حضر ليلة راقصة كان فيها كثير من النساء الغنيات الجميلات، وكن لا يحسن اللبس على الرغم من أن الأزياء باريزية.
وهكذا لم يكن يمضي يوم دون أن يخط إلى زوجته قبل النوم ولو سطرا يشركها به في تأثراته، وقد يوجز ما أمكن الإيجاز، ولكن كلماته كانت تتقد شوقا وغراما، كما ترى من الرسالة الآتية: «كنت في المرقص، ليلة ماطرة، صحتي حسنة، أحبك وأذوب شوقا إليك، كل نساء بولونيا فرنسويات، ولكن في نظري لا يوجد إلا امرأة واحدة، أتعرفينها؟! ما أطول الليالي بعيدا عنك! أرجو أن أدعوك إلى موافاتي عند سنوح الفرصة، إن حرارة كلماتك أرتني أنك لا تعرفين الموانع، وما تريده المرأة يكون، أما أنا فإني عبد ومولاي لا يعرف الرحمة، وهو طبيعة الأشياء.»
وكان حبه لجوزفين قد تجدد كأنه في الزمن الأول، وكل رسائله تنم عن حالة نفسية حسنة، وهي دليل على الصحة، كما كان يقول: أنا بخير، وعمري ما نعمت بالصحة مثل الآن.
الإمبراطورة جوزفين.
وفي 18 مايو كتب يقول: إنه وصل إلى درسد بصحة تامة على الرغم من بقائه في المركبة مائة ساعة دون أن يتحرك.
وقد روى الكونت سيكور في مذكراته أن نابوليون ابتدأ يشعر بآلام المعدة وهو في فرسوفيا من سنة 1806، وكان يقول إنه سيموت كأبيه، إلا أن هذه الغمامة السوداء سرعان ما تبددت لأن رسائله لذلك العهد تشير إلى شيء من هذا.
وفي 9 أكتوبر سنة 1808 أرسل إليها يقول إنه شهد الرقص في فيمار، وقد رقص الإمبراطور إسكندر، أما هو فقد بلغ حد الأربعين؛ ذلك لأنه أخذ منذ ذلك الحين يشعر بالكبر المبكر فانتفخ وجهه، وخفت حدة بصره، وتجعد جبينه، واستدارت ذقنه، وسمن بدنه، وثقلت حركاته، وفقد سرعة الخاطر وتلك الطلاقة في اللسان.
وفي 18 أكتوبر عاد إلى سان كلود فلم يمكث طويلا لقرب حملة إسبانيا والنمسا، وبعد شهر جرح في راتيسبون فآساه الجراح إيفان، وكان الألم شديدا؛ لأنه لم يخلع حذاءه منذ ثلاثة أيام فتورمت رجله تحت الضغط، وكان قليل الصبر، فاعتلى جواده ورجله المجروحة لا تزال في يد الجراح، ثم سار بين الجنود يريهم نفسه ليطمئنوا فقابلوه بالتصفيق والهتاف.
ووصل الخبر مجسما إلى زوجته فكتب لها مطمئنا أن الرصاصة أصابته دون أن تجرح، فلا سبيل إلى انشغال بالها، وكتب مثل ذلك إلى ابنة عمه ملكة وستفاليا.
الدكتور إيفان في ملبسه الرسمي.
وبعد افتتاحه راتيسبون بأسابيع تعرض لخطر جديد، فإن رصاصة أصابته في رجله فخرقت حذاءه حتى الجلد، وكانت سبب تلك الكلمة التي قالها له أحد قواده: انسحب من هنا، وإلا أمرت رجالي بحملك. وأصابت رصاصة أخرى فخذ جواده فصاحوا جميعهم: إن لم ينسحب الإمبراطور حالا فإننا نضع السلاح ونكف عن القتال.
وكان قبل ذلك قد أحس وهو في شنبرون باعتلال فأشاروا عليه أن يرى الدكتور فرانك الشهير، وقد روى نابوليون عن نفسه سنة 1816 حكاية هذه الاستشارة الطبية، ومنها تتجلى للقارئ حالته الصحية سنة 1809، وتعطيه دليلا صادقا على مزاجه:
إن فرانك حقا لماهر، وقد عرفت هذا آخر إقامتي في فينا سنة 1809، فقد ظهر طفح جلدي في رقبتي أقلق أتباعي فألحوا علي أن أقابل طبيبا مشهورا هو فرانك، فلما جاء أظهر اهتماما كبيرا، وأشار باستعمال عقاقير وأدوية واتباع معالجة لا نهاية لها، فدعوت كورفيزار، وكان ذلك كافيا ليحيي الآمال الميتة، كنت مريضا ملازما فراشي، وقد ضاع رشدي، واضطرب الجميع من حولي، وصار كل يرسم خطته، فأسرع كورفيزار بالمجيء وهو يظن أنني أحتضر، فرآني أستعرض الجيش، ولما قابلته أخذت أضحك للتعجب الشديد البادي على محياه، وقلت له: أي كورفيزار، ما عندك من الأخبار؟ ماذا يقال في باريس؟ أتدري أنهم يعتقدون هنا أنني في خطر الموت؟ بي طفح جلدي خفيف وصداع، يزعم الدكتور فرانك أنه يحتاج إلى معالجة طويلة وصارمة، فما قولك؟ وكنت قد نزعت رباط رقبتي وأريته موضع الألم، فقال: آه يا مولاي، تدعوني من بعيد لأمر تافه كهذا؟! لا تمضي أربعة أيام حتى يزول أثره. وكان كما قال، فقد وضع على الجلد
Vėsicataisc
وكفى ذلك، وقبل أن يترك كورفيزار فينا ذهب لزيارة فرانك وشكره، بل لامه؛ لأنه كان الباعث على هذه السفرة المتعبة، وكان رجوعه لباريس سببا لإزالة قلق البعض وآمال البعض الآخر.
وقد زعم البعض - وفيهم البرنس نابوليون حفيد الإمبراطور - أن البثور التي ظهرت في رقبة عمه ناتجة عن احتكاك الجلد بنسيج السترة القاسي، وظن بعضهم أن معالجتها هي التي سببت له ألم المعدة، وأنه يكفي تهييج الجلد وإرجاعها لتذهب الأعراض الخفيفة، ولكن ذهاب الأعراض ليس دليلا على ذهاب العلة؛ ولهذا كان شفاء نابوليون شفاء ظاهرا، هل يستنتج من هذا أن كورفيزار أخطأ في معالجته أو أضره كما أشاع البعض بتعجيل سير الداء؟ إن الدكتور فرانك ابن فرانك الشهير ادعى ذلك، وقال: إنه شاهد غير مرة بين سكان لومبارديا من أصيب بسرطان في المعدة بعد التداوي من العلل الجلدية، فيكون الإمبراطور بدعوته كورفيزار ليقوم مقام الطبيب الألماني كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولا يخفى ما في هذا من المبالغة ولسنا هنا في مقام الدفاع عن كورفيزار، ولكن ما لا ريب فيه أنه كان أعلم من زميله الغريب بمزاج مريضه الشهير واستعداده وحالته الصحية، ومن المستحيل أن تكون معالجته قد قدمت أو أخرت في سير علة مجهولة في طبيعتها وفي أعراضها.
الفصل الثامن
عام الطلاق
ويمكننا أن نسميه أيضا عام الزواج الثاني، ففي سنة 1810 طلق نابوليون جوزفين وتزوج من ابنة إمبراطور النمسا، ولم يكن هذا الطلاق ابن ساعته بل ترجع فكرته إلى سنة 1804؛ لأن حاشية نابوليون وأتباعه كانت تلح عليه منذ ذلك الحين أن ينفصل عن زوجته العاقر، وجاء موت ابن الملكة هورتنس ولويس ملك هولاندا فنزع بقية الأمل من فؤاد الإمبراطور وجعله أقرب إلى تحقيق فكرة الطلاق من ذي قبل.
ولم تنجع وسائل الطب وعناية كورفيزار في تغيير الحالة، وذهبت الإمبراطورة للاستحمام في إكس فلم تر أدنى فائدة، وكانت قبل أيام حملة مصر قد ذهبت إلى بلومبيار لذلك السبب، فكان زوجها يمازحها معددا ضياع الوقت وخيبة أمل من يتطلب الذرية من المياه المعدنية .
ولم يكن هذا المزاح حلوا على قلب جوزفين؛ ولهذا كان يتجافاها في الساعات العصيبة، ولا سيما عندما كان يتألم فلم يكن يعرف حينئذ كلمات الحنو والعناق والتقبيل، أما هي فكانت من جراء ذلك كريشة في مهب الريح، لا تعرف أين تستقر، يتنازعها الأمل والخوف، وكانت تقول لأصحابها: إنها لا تصدق بهذه الظواهر، بل ترى أن الإمبراطور يحاول بذلك حملها على التعب منه والملل والكراهة.
وكانت الأيام تؤيد مخاوفها؛ لأن الإمبراطور أخذ يظهر برودة وجفاء وهجرا، ويخاصمها لأدنى سبب، فقد عاد يوما من فينا واتفق مع جوزفين أن يلتقيا في فونتنبلو، فجاءها قبل الميعاد بساعات، وكان هذا التأخر منها سببا لتعنيفها، والذي أماط عن عينيها الحجاب وأراها حقيقة ما هي إليه صائرة هو سد الطريق، أو بالأحرى أمره بقفل الباب الواصل بين حجرتيهما، وفي 30 نوفمبر 1809 كانت الساعة الهائلة؛ إذ أخبرها بعد العشاء بعزمه الأكيد على الطلاق، فكان ما كان من بكاء وندب وغيبوبة وغيرها، وفي 14 ديسمبر أمضيا عقد الطلاق، وفي 7 فبراير عقد له في فينا على ماري لويز.
وكان الاتفاق أن يجتمع العروسان في كومبيان، وأن يرافق الإمبراطور في هذا الموعد كل حاشيته ورجال قصره، فكان الحرس منتظرا والمركبات معدة وكل في موقفه، وإذا بالخبر ينتشر أن الإمبراطور قد اختفى؛ وذلك لأن صبر العاشق قد عيل فلم يطق الانتظار، فخرج من باب الخدم وركب عربة بسيطة يصحبه فقط مورا، وسار إلى أن وصل إلى مقربة من سواسون، فوقف بجانب كنيسة التوبة حتى إذا مرت عربة الإمبراطورة خف إليها وفتح بابها بشدة ودخل العربة، وجلس مكان الملكة كارولين بدون خطاب ولا جواب، وقبل الإمبراطورة فنال هذه الدهشة، ولكنها رضيت عنه ومالت إليه.
ويقال إن الذي جعل الإمبراطورة تحوز رضا أخوات الإمبراطور هو كونها أدنى منهن جمالا، فكانت على الرغم من شعرها الأشقر الغزير ووجهها المشرق وألحاظها اللطيفة تظهر كأن عمرها 30 سنة؛ نظرا لامتلاء فخذيها وضخامة صدرها، ولم تكن شفتاها السميكتان لتزيد محاسن وجهها.
وقد تحققت آمال الإمبراطور بأسرع وقت، فحملت ماري لويز في سبتمبر سنة 1810، وبلغ مجلس السفا بذلك، فأقيمت الصلاة في الكنائس واشترك الشعراء والمصورون والموسيقيون في تخليد تلك الساعة المباركة.
ولما أحست بالمخاض (19 مارس) كان الإمبراطور في الحمام، فقيل له إن المولد يرى صعوبة في توليدها وربما اضطر إلى تغيير مركز الجنين أو استعمال الحديد لإخراجه، فقال: لا تهتموا برغبتي الخاصة أن يكون لي ولد وخلصوا الأم أولا، وقد استعمل ديبوا الحديد فأخرج الولد في حالة الاختناق وعالجه حتى أفاق وصرخ فاطمأن الجميع.
وجرت بعد أشهر حفلة التنصير، فكان مشهد لم يسبق مثله في العظمة، وقبل أن تنتهي الأعياد سافرت أم الإمبراطور في حاشية كبيرة إلى إكس لاشابل لمعالجة الصداع، ثم تبعتها ابنتها إليزا، ولكنها لم تطل المكث في إكس، بل سارت منها إلى سبا حسب نصيحة أطبائها، وذهب أخوها لويس إلى كراس للتداوي من آلامه العصبية والشلل المصاب به بعد أن طرد طبيبه وتعلق بأحد الدجالين.
وكان لويس بونابرت كسائر الناس المصابين بالأرترتيسم معرضا للصلع، ومن نتائج الصلع الزكام والنزلات الصدرية؛ ولهذا أوصى في باريس بشعر مستعار يقيه مؤثرات الهواء، ثم اطلع في إحدى الجرائد على إعلان لمرهم نباتي ينمي الشعر ويقويه فسارع إلى شرائه.
وكان وهو على عرش هولاندا قد دعا من برلين الدكتور هوفيون، والظاهر أن علاجه لم يفلح فسار يهيم من بلد إلى بلد في استرجاع صحته، وعلى الرغم من شقائه هذا فقد كان يعتبر نفسه سعيدا لبعده عن الأعمال.
أما نابوليون فقد كان في هذه السنة 1811 يستعد لحملة روسيا، وقد عزم على قضاء فصل الصيف في إحدى البلدان المائية، ولكن الأحوال عاكسته، وكان فيما مضى عندما دعا كورفيزار إلى فينا قد سمع الجنرال كلاباريد يثني على حمامات أفن ويغرق في مدحها، فدفع ذلك الإمبراطور إلى أن يطلب من كورفيزار رسالة بهذا الموضوع يعرضها على جامعة مونبلييه، ولا سيما أن أفن قريبة منها، فأيدت الجامعة قول الجنرال وعقد الإمبراطور النية على تجربته هذه المياه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فافتكر في إنشاء مصح عسكري فيها لولا أحوال السياسة التي غيرت كل مشاريعه؛ لأن الأقدار كانت تدعوه إلى ناحية أخرى.
الفصل التاسع
الداء الخفي
من الكلام المأثور عن نابوليون وقد فاه به لأول مرة في حرب إيطاليا: «إن الصحة ضرورية في الحرب، ولا شيء في العالم يغني عنها.» وقد مرت به أحوال، وسنحت له فرص جعلته يرى في هذا القول شبه نبوءة، أجل، لا نريد أن نبالغ في وصف الأثر الذي يتركه هذا العامل العظيم عامل الصحة في تصرفات الإنسان، ولكن ما لا ريب فيه أن له - كما للظواهر الجوية والحوادث الطارئة - يدا في تغيير الخطط التي يرسمها الفكر الشرير وعرقلة المشاريع التي ينفعه في تدبيرها الذكاء والوقت بما ينطبق عليه قول الشاعر:
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ولم تكن حملة سنة 1812 - التي نظر إليها البعض بعين الإعجاب والإكبار كما رآها البعض الآخر جسارة لا تصدق - إلا واحدة من هذه الحوادث التي تظهر أن الأقدار تصرفها قبل فكرة الإنسان.
والأقدار كلمة نأتي بها لتخفيف مسئولية الإنسان وستر جهلنا في تفسير ما لا يفسر، فإذا أردنا أن نكون عادلين في الحكم فعلينا أن نبحث لنحدد تلك المسئولية.
اختلف المؤرخون في انتقاد أعمال نابوليون وقدرها، وكثيرون من أعجب بحملة 1796 وحملة 1814، ورأى مواطن الضعف في سواها كحملة 1805 و6 و7 و8، وعلى رأي هؤلاء أن الإمبراطور لم يعرف أن يستفيد من انتصاره في واكرام، وكان دون المنتظر منه في روسيا إلى أن سقط آخر الأمر سقوطا لا نهوض بعده.
الكيماوي برنوليه.
ماذا أصاب هذا النبوغ الحربي الذي شهد به الأعداء حتى كانت تغشى بلورته الصافية من وقت إلى آخر غمامة سوداء تحجب بريقه وتستر نوره؟! يقال إن هناك داء كامنا كان يحاول نابوليون بكل قواه أن يبقيه خفيا على من حوله، وقد شبهوه بنوع من الغيبوبة أو نوبة فجائية تنتاب العقل والبدن فيصيبهما الضعف والخمول وألم حاد، قد يأتي في أهم ساعات العمل وأشد محتدم الجلاد، فيذهب برشد نابوليون ويظلم ذهنه فيترك المقادير تجري في أعنتها دون أن يملك لها زماما، هكذا يفسر المارشال ولسلي فشل نابوليون في روسيا. نعم، إن الدوسنطاريا كانت تفتك بالألوف من جنوده، وإن كثيرا من خيله ضاع بين البرد والمطر، حتى إنه قبل وصوله إلى فلنا اضطر أن يترك وراءه مائة مدفع وخمسين عربة نقل، ولكن علام التردد في أول الحملة وتضييع الوقت بالتباطؤ وهو المتعود الإقدام والسرعة؟! وما معنى هذه الراحة الطويلة في فلنا ثم في فستبسك لولا حدوث انحطاط في قواه العقلية والبدنية ونزول الإرادة عن مستواها العالي نزولا لم يخف على الكثيرين حوله؟!
قد يكون العامل الأكبر إجهاده العقل إجهادا هائلا بين عمل متصل وقلق متعب، ولكن هذا القول يحتاج إلى دليل؛ فإن شهادة من رافقوه في هذه الحملة المشئومة لا تؤيده أقل تأييد، بل تثبت أن الإمبراطور لم يعره تغير في عزيمته ونشاطه ولا في حدة ذكائه عما كان عليه في حروبه السابقة، قال الجراح لاداي: «إن الإمبراطور كان يهتم بكل شيء ولا تخفى عليه خافية». ولكن من يقرأ متمعنا يلمح خلال السطور شيئا جديدا، فقد جاء في كلام لاداي ما يأتي: «إن الذي كان يحتمل حر مصر ويجوب قفارها المحرقة وهو ضاحك ويترك عربته فارغة تسير على الرمل في خدمة برتوله ومونج دون أن يركبها البتة، والذي كان في إسبانيا يدهش الإسبانيين بسرعة تنقله ومقاومته للتعب كان يشكو حينئذ من الظواهر الجوية ويعيش في مركبته أو يقضي الساعات في السرير وهو غير لابس.»
الجنرال كونت دي سيجور.
الجنرال كوركو.
أما قواده المخلصون فلا يريدون أن يصدقوا أنه قصر لحظة في القيام بمهمته الخارقة قدرة البشر، قال الجنرال راب: كانت همة الإمبراطور فوق التصور، فكان يحيط بكل شيء، ويسهر على كل شيء، ويكفي لكل شيء، وقال ياوره الجنرال كوركو: «إن صحة الإمبراطور في ذلك الحين كانت على غاية ما يرام، وكان على الرغم من كثرة الأشغال يجد متسعا لركوب الخيل والصيد ساعات متتابعة، ولقد أظهر في حملة روسيا من العزيمة والنشاط والمقدرة مثل ما أظهر قبل وبعد.»
وقال أيضا: «يصورون لنا الإمبراطور في فلنا خلوا من الحماسة والإرادة وصدق الرأي، كيف يكون ذلك، وقد رأيناه منذ الساعة الأولى يهدم خطط الروس، ويقطع جيشهم شطرين، ويقهرهم على ترك مواقفهم ومخازنهم، فيتسلم منهم ليتانيا بدون حرب، وكذلك في فستبسك فقد ادعى الكونت سيكور أن الخمول كان مستوليا على الإمبراطور، ولكن أين هذا من الحقيقة؟! لقد أقبل الروس لمحاربته وهذا ما كان يريد، ظنوه آتيا بالجيش عن يمينهم فجاز بأسرع من البرق دنيبر وحمل على ميسرتهم.»
أما كلام سيكور الذي أشار إليه الجنرال كوركو فهو: «لم تعد البنية القوية تساعد هذا النابغة كسابق عهدها، وقد تعود منذ صباه الاستحمام لمغالبته ألما خفيا لا يريد أن يعرفه أحد، وقد أصابه عسر في البول منذ ليلة المعركة «موسكو»، فلم يخلص منه إلا ثاني يوم دخوله كرملين، وقد أنبأني أبي والجراح وكاتم سره أن هذا الداء يلازمه منذ صباه.»
وروى الدكتور إيفان أن هذا الألم كان يحس به نابوليون منذ سنة 1796، وكان يعالجه بالماء الساخن، فإذا لم يجد مغطسا أمامه أنزل في برميل، والمظنون أن هذا الألم ناتج عن التهاب في عنق المثانة أو عن حصوة كلوية، وقد ذهب بعضهم إلى أن نابوليون وهو في سنت هيلانة اعترف في إحدى نوبه بأصل الداء، وأن الأطباء نسبوه يومئذ إلى جهل الشبيبة على أنه كان متزوجا وعلى ثقة من نفسه.
وإلى القارئ بعض التفاصيل مأخوذة عن السجلات الرسمية، كما كتبها الدكتور ماستيفيه طبيب الإمبراطور لذلك العهد، فإنها تلقي شعاعا على هذه الحوادث الغامضة:
إن عسر البول الذي أحس به الإمبراطور لم يذهب تماما إلا في اليوم الثاني بعد دخول موسكو، وقد دعاني إليه عند الصباح وأراني إناء مملوءا بولا وقال: إنه مستريح بعد هذا البول الغزير، ولكنه قلق لتراسب الموجود في الإناء إلى ثلثه تقريبا، فطمأنته بقرب انفراج الكرب، فسألني كعادته: ماذا يقال حولي؟ وكان سريره موضوعا بحيث لا يرى المدينة فأجبته أن حلقة من النار تحيط بكرملين، فقال: قد يكون من حماقة بعض الجنود الذين أشعلوا النار بالقرب من البيوت الخشبية، ثم حدق بنظره في السقف وسكت بضع دقائق، وإذا بوجهه قد تغير وبدت ملامحه في شكل هائل، فدعا خادميه رستم وكونستان وترك سريره بسرعة فحلق ذقنه بيده ولبس ثيابه وهو صامت قليل الصبر، حتى إنه رفس المملوك رستم ورماه على قفاه لأنه أخطأ فقدم حذاءه الأيسر قبل الأيمن.
وبقيت في مكاني ساعة أنتظر إشارة رأسه المعهودة لأنصرف، فدخل إليه بعضهم وذهب إلى الغرفة المجاورة.
الإمضاء
ماستيفيه عضو الجمعية الملوكية
ويؤيد هذه الشهادة شهادة أخرى كتبها الجراح إيفان، وإيفان من أصدقاء الإمبراطور الحائزين كل ثقته، حتى إنه وقع وحده عقد زواج كارولين ومورا، وكانت جوزفين تستشيره دائما قبل الذهاب للمياه المعدنية، فضلا عن ذلك فقد خدم في جيش إيطاليا خمس سنوات، ورافق نابوليون في كل حروبه، وكان عليه بعد المعركة أن يطلع الإمبراطور على عدد الجرحى والقتلى وحالة المستشفيات النقالة، وأهمية جراح الرؤساء والقواد، فكان مركزه كمركز كورفيزار، بل أسمى لحاجة الإمبراطور إليه في كل المواقع، وصحبته له كل يوم وكل ساعة، وهاك الشهادة:
الدكتور إيفان يعالج جرح نابوليون في راتيسبون.
كان الإمبراطور سريع التأثر بالعوارض الجوية، وكان من الضروري عنده أن تظل وظائف الجلد سليمة لحفظ التوازن في صحته، وإلا أصابه سعال وعسر بول، ففي 5 سبتمبر سنة 1812 هبت ريح هوجاء وانتشر ضباب كثيف وسقط مطر غزير، فظهرت فيه الأعراض بشدة اضطررت إلى تسكينها بدواء ذهبوا في استحضاره بعيدا عن المعسكر، ولم تذهب الأعراض والحمى وتهدأ حالته إلا بعد أيام، ثم يقول في مكان آخر:
أخذ نابوليون يشعر بانحراف صحته منذ السابع من شهر سبتمبر، فكانت البداية صداعا شديدا لم يمنعه مع ذلك من النهوض باكرا واعتلاء صهوة جواده قبل ساعة الهجوم أي نحو الساعة الخامسة، وكان فطوره قليلا من الخمر المعتقة وغذاؤه خبزا مبللا بالنبيذ.
وفي 8 منه قضى ليلته بين أنقاض البلدة المجاورة، وفي الغد كان في موسكو، فاحتل منزلا جديد البناء وجمع أعوانه من حوله ليلقي أوامره كعادته، وإذا بصوته قد بح فجأة وامتنع عليه الكلام والإملاء، فتناول قلما وورقة وأخذ يرسم ما يجول بخاطره من خطط وأوامر، ويدفع إلى من حوله من مساعديه وكتابه، وعلى الرغم من كثرة هؤلاء الأعوان فقد كانت المهمة شاقة؛ لأنهم كانوا يقفون حيارى عند كل سطر من خطه قبل أن يصلوا إلى حل رموزه وطلاسمه، وكان كلما انتهى من تسطير أمر يضرب بقبضة يده على الطاولة ليأخذوا ما تكدس حوله من هذه الأوراق.
نابوليون في فرائه في أثناء حملة روسيا في سنة 1812.
قيل إنه كان وهو في تلك الحالة التي يعاني فيها أثقال المخاوف والهموم وآلام الفكر والبدن ضعيفا في إرادته مترددا في عزمه بعيدا عن القدرة والإقدام اللذين اتصف بهما، ولكن هذا القول يحتاج إلى إثبات، ومن يقرأ شيئا من تلك الأوامر لا يسعه إلا الاعتراف بأنها صادرة عن ذهن صاف وخاطر سريع ونظر بعيد.
واستراح طويلا في موسكو، فلم يغادرها إلا في أصيل اليوم الثاني عشر من الشهر، بعد أن اطلع على حالة الخسارة في الجيشين وحركات العدو والذخيرة وغير ذلك، فكان حتى الساعة الأخيرة قابضا على زمام الإدارة والإحكام، يدير بنفسه دفة الجيش، ماشيا على قدميه ليلا ونهارا، لا يعرف الراحة إلا مضطرا، ولا ينام إلا غرارا.
هذه هي الحقيقة فيما يختص بمرض نابوليون الذي جعله الكونت سيكور وغيره العامل الأكبر في اندحار الإمبراطور وتقهقره.
وقد تناول قلم تولستوي بالهزء من زعم أن نتيجة هذه المعركة كانت معلقة بزكام نابوليون فقال: إن مخلص روسيا إذن هو ذلك الخادم الذي نسي أن يقدم إلى سيده حذاء لا يخترقه الماء، كما قال من قبل فولتير مستهزئا أيضا: «إن مذبحة سان برنامي كانت نتيجة الهضم في معدة شارل التاسع.»
نعم، إن حالة الإنسان العقلية والبدنية تؤثر في تصرفاته، ولكنها لا تكفي وحدها للتعليل عما يعقبها من الحوادث، وقد قال تولستوي: إن نابوليون لم يأت في معركة موسكو أمرا يجلب له الضرر أو يقلل من نجاحه، وإذا كان بدا عليه السأم ثم تولاه اليأس فذلك بعد أن تألبت عليه العناصر والبشر جميعا، وما عتم أن استرجع قواه الأولى عندما ابتعد عن روسيا، بل لم يذكر التاريخ أنه أظهر في زمن من الأزمان من النشاط والمقدرة ما أظهره في أواخر هذا العام 1812 وأوائل 1813 حيث تجلت مقدرته العقلية الخارقة بأسمى مظاهرها.
لم يحتج إلى أكثر من 4 أشهر ليعد جيشا جديدا، فسافر في 15 إبريل إلى مايانس، ومنها إلى فيمار فلوتسن، حيث انتصر في معركة 2 مايو، وبعد 6 أيام دخل درسد ظافرا، وفي 20 فاز في معركة بوتزن، وقتل من ورائه المارشال دوروك، فكان ذلك سبيلا إلى إشاعة سرت بسرعة البرق مؤداها أنه جرح جرحا بالغا أو قتل، حتى إنه عندما رجع إلى درسد (في 10 منه) زعم الناس أن الذي مر أمامهم في مركبته ليس الإمبراطور، بل تمثال له من الشمع، ولم يصدقوا ببقائه حيا إلا بعد أن أطلقت المدافع وقرعت الأجراس.
ربما ساعد على هذا الشك أن الإمبراطور عند وصوله إلى درسد سار توا إلى غرفته لأنه كان منهوك القوى من السهر ونام في سريره نوما عميقا حتى الساعة التاسعة من اليوم التالي، إذ ركب جواده واستعرض الجيش في مروج درسد، ولم يكن من السهل معرفة الحقيقة في حينها؛ لأن الإمبراطور عود الناس أن يؤمنوا بنجمه الذي لا يعرف الأفول، وبقوته التي لا يتطرق إليها الضعف، فكانوا يعتقدون أنه أبعد من أن ينال بأذى إلا أن الملتفين حوله والمتقربين إليه أدركوا ما كان يعتوره حينا بعد حين من شبه نعاس أو غيبوبة تضعف معها الإرادة وترتخي الأعصاب، وقد وصفه المارشال مارمون بقوله: «كان قليل الاهتمام بالعواقب لا يصدق الحقيقة إلا إذا وافقت هوى في نفسه، وكان متعجرفا يحتقر كل الناس، وذا عقل واسع التدبير كثير الإنتاج كعادته، إلا أنه ضعيف الإرادة كثير التردد.»
ذلك لأن الإمبراطور كان قد تقدم في العمر وتغير عما كان عليه في أوسترلنز ويانا، والأربعون جاءت شديدة الوطأة على هذا الرجل الخارق العادة الذي تسع حياته أعمارا كثيرة.
وقد كان انتصار درسد في 27 أغسطس آخر شعاع من كوكب مجده لولا اعتلال فجائي أفسد نتائجه الباهرة.
الفصل العاشر
نتائج سوء الهضم
إن الحركات الحربية التي قام بها الإمبراطور حول درسد جرت تحت سيل من المطر لم يدع منفذا إلى بدنه، فوصل درسد كأنه قربة ماء من رأسه إلى قدمه، وانتابته قشعريرة وحمى وقيء كثير، وبعد النوم والدفء والعرق نهض في الغد مستريحا.
وقد زعم بعض من لا تنكر شهادتهم أن لاعتلال الإمبراطور سببا آخر هو سوء الهضم بعد أكلة فيها قليل من الثوم لم تحتملها معدته، فظن نفسه مسموما وعاد أدراجه تاركا إلى المارشال مونيه وسان سير مهمة اللحاق بالجنرال فاندام ومساعدته، على أن الجنرال فاندام لم يتقدم إلا على أمل أن يتبعه الإمبراطور عن كثب، فرجوع الإمبراطور إلى درسد قبل أن ينتهي من حملته حول النصر إلى انكسار.
ومن ذلك اليوم قلب له الدهر ظهر المجن، وصارت كل خطوة منه مزلقا للخيبة ومنحدرا للفشل، فاستولى اليأس على الإمبراطور، وتوارى كوكب آماله خلف ضباب من الأكدار والمخاوف، واستحكم التردد منه فبقي شهرا في درسد لا يأتي بحركة.
وفي 7 أكتوبر غادر درسد إلى دوبن فوصلها في 10 منه، وأقام في القصر الصغير يومين وهو مستلق على ظهره حاضر كغائب، وأمامه أكداس التلغرافات لم تقرأ، بل لم تفض، وقد رآه الماجور أودلين قبل معركة ليبزيك بأيام حزينا خامل الهمة، فاتر النظر، وقد شمل السكوت ما حوله حتى غرفة انتظاره التي كانت من قبل تشبه حصان ترواده لازدحام الخلق فيها.
معركة ليبزيك.
وكان المارشال ناي ورفقاؤه معارضين له في الهجوم على برلين، فاختار ليبزيك وقام بالهجوم في 6 أكتوبر، ولكنه في اليوم الثاني شعر بعودة أوجاع المعدة واشتدادها فانطرح على مقعد وهو يئن من الألم ويردد في نفسه: «قد يحتمل رأسي الألم، وأما جسمي فلا»، فعرض عليه الدوق دي فيسانس أن يدعو إيفان، فرفض الإمبراطور وقال: إن خيمة الملك شفافة كالزجاج، ولا بد من خروجي ليبقى كل في موقفه؛ لأن العدو قريب منا، وطالت المحادثة بينهما على هذا النحو: ولكنك يا مولاي مريض ويداك ملتهبتان من الحمى ، فأسترحمك أن تأخذ لنفسك بعض الراحة. - لا، لا يمكن أبدا، إن الواجب يقضي علي أن أكون واقفا مستعدا. - اسمح لي إذن أن أدعو إيفان. - إياك أن تفعل، إذا مرض جندي أعطيته إذنا بالدخول إلى المستشفى، فمن يعطيني أنا الإذن؟! ثم تنهد تنهدا عميقا وأحنى رأسه، وبعد قليل مد يده إليه وشدها بلطف قائلا: الأمر بسيط كما ترى فلا تدع أحدا يدخل علي وإني أشعر بالتحسن، ثم قام مستندا إلى ذراعه ومشى خطوات في الخيمة وهو يقول: أنا أحسن أيها العزيز.
ولم يمض على هذا الحادث نصف ساعة حتى كان نابوليون ممتطيا جواده محاطا بقواده يلقي أوامره يمينا وشمالا، وما جرى بعد ذلك من ضياع ثمرة النصر بسبب خيانة بعض الفرق ونقص الذخيرة معروف ولا محل لذكره هنا، وقد قال أحد المؤرخين: «إن نابوليون في معركة ليبزيك قد أتى بما يفوق طاقة البشر، فتغلب على الخيانة وحالة الأرض، وتفوق العدو بالعدد.»
الفصل الحادي عشر
محاولة الانتحار في فونتنبلو
في 25 يناير سنة 1814 ترك الإمبراطور باريس لمحاربة أوربا المجتمعة عليه، وفي 11 إبريل قبل تنازله عن العرش ولم يبق إلا أن يضع توقيعه، وكان رسول الحكومة المؤقتة ينتظر في ناحية من القصر، إلا أن الإمبراطور كان مترددا، وقد مرت في رأسه فكرة الانتحار، وكان يرجو أن تأتي إليه ماري لويز بعد تركها في بلوا، فلما أعياه الانتظار وخاب أمله منها عقد النية على أمر حاسم، فنام تلك الليلة قبل الساعة التي اعتادها، وترك كعادته باب الغرفة مفتوحا قليلا، وقد نام الخادم (هوبر) على عتبته، ونام كونستان في غرفة أخرى، فلما انتصف الليل نادى الخادم وطلب منه أن يشعل النار ثم أمره بالانصراف، فذهب هوبر، ولكنه لم ينم لريبة في نفسه، بل أخذ يراقب مولاه من شق الباب، فرآه يمشي طولا وعرضا ثم يجلس ويكتب على ورق ثم يمزق الورق ويلقيه في النار، وبعد حين رأى الإمبراطور يتناول مسحوقا من إحدى حقائبه ويذيبه في الماء ويتجرعه، فخاف وأسرع فأخبر كونستان وعاد معه ودخلا بلا استئذان على مولاهما، فوجداه في حالة تهيج شديد، وسرعان ما انتشر الخبر في القصر أن الإمبراطور قد شرب السم، فأنيرت الغرف وقطع سكوت ذلك الليل وقع أقدام الخدم جيئة وذهابا، وأقبل إيفان والمارشال الكبير والدوق دي فيانس والجنرال كوركو فوجدوا الإمبراطور شاخص العينين جامد النظر، أما هو فالتفت إلى إيفان وابتدره بهذه الكلمات: إيه إيفان، لقد أعطيتني سما لا يفعل. فاضطرب إيفان وخاف أن يفهم من ذلك أنه أراد تسميمه، فترك الغرفة ونزل السلم مسرعا، وذهب إلى الإسطبل فامتطى جوادا وانطلق إلى باريس، وكان رابطا منديلا أبيض بذراعه، وبهذه الشارة أمكنه أن يخترق صفوف الدول المتحالفة ويصل آمنا إلى منزله، أما الإمبراطور فقد سقي ماء ساخنا، فتقيأ وعرق عرقا غزيرا ونام نوما هادئا، ومضى الليل بلا عارض.
الطبيب والفيلسوف كابانيس.
هل حاول الإمبراطور الانتحار حقيقة؟ هذا ما لا يسعنا الجواب عليه، ولكن ما لا ريب فيه أنه لم يكن يهاب الموت، وهو الذي يعرض نفسه له كل يوم، وقد كان في الأيام السابقة لهذا الانتحار في حالة انحطاط ظاهر حتى اعتراه شبه ذهول، فلم يكن ينتبه إلى من حوله، وقد يرسل في طلب أحدهم فإذا أتى لبث نصف ساعة دون أن يوجه إليه الخطاب، وذكر خادمه الخاص أنه كان ساعة لبسه وزينته صامتا لا ينبس ببنت شفة، فإذا عرض عليه أن يشرب الدواء كعادته في مثل ذلك الوقت لم يكن يجيب، بل لم يكن يظهر على ملامحه أنه سمع كلام الخادم، وكان كل يوم يزداد حزنا وميلا إلى الوحدة، وكانت رسائل البرق التي ترد عليه من باريس تسبب له هياجا خاصا، حتى إنه غرز يوما أظافره في فخذه وأسال الدم دون أن ينتبه.
أما السم فقد اختلفوا في ماهيته، فبعضهم - ومنهم ابن الجراح إيفان - يقول: إنه مسحوق البلادونا، وبعضهم يزعم أنه نفس السم الذي انتحر به كوندورسه سنة 1794، استحضره كابانيس ولم يذكر تركيبه لأحد.
الفصل الثاني عشر
مملكة الأقزام
قضت معاهدة فونتنبلو بتنازل نابوليون عن عرش فرنسا وحرمان أسرته من حقوق الإرث، وتعهدت له إزاء ذلك أن يكون صاحب السلطة المطلقة في جزيرة ألب.
وقد ظن الإمبراطور أنه يسمح لماري لويز أن ترافقه في هذا المنفى بعد إقامتها حينا للتداوي في بارم أو بلازانس أو إحدى مدن الاستشفاء في إيطاليا، فاستشير كورفيزار في ذلك فكان رأيه مخالفا، واضطر نابوليون أن يسافر بدونها، يصحبه بعض أعوانه الأمناء وأربعة من ضباط الدول المتحالفة لحراسته في الطريق.
وكان الناس يستقبلون الموكب الإمبراطوري أين حل بالشتائم والتهديد، حتى كاد البعض يفتك بالإمبراطور عند وصوله إلى أورجون.
فأثرت مظاهر البغضاء هذه في صحته، وسببت له اضطرابا في المعدة وقيئا، فاضطر الموكب إلى البقاء حينا في فريجوس قبل متابعة السفر.
على أن نابوليون في طريق المنفى لم يكن يحلم إلا بقضاء بقية العمر في إمارته الجديدة منصرفا إلى العلوم والآداب، فكان يعلل النفس بإنشاء مرصد فلكي ومعمل كيماوي وحديقة للنبات ومكتبة عمومية؛ ولهذا أرسل برتران يستشير مونج وبرتوله ولابلاي ويطلب منهم اختيار أساتذة وعلماء لكل هذا.
مونج.
ووصل نابوليون إلى مرفأ فراجيو في 3 مايو، فكان همه الأول بعد الاستراحة أن يمتطي جواده ويطوف في مملكته الجديدة، ثم اتخذ تلك النزهة عادة فصار ينهض كل يوم قبيل الفجر ويسير في أنحاء الجزيرة مخترقا سهولها وحزونها غير مبال بحرارة الشمس المحرقة ولا شاعر بتعب التجوال، حتى قال فيه المندوب الإنكليزي القائم بمراقبته: إنه يريد أن يحقق الحركة الدائمة، أو إنه يجد لذة في إنهاك قوى من يرافقه، وإنه أبعد من أن يقوم بالمشاريع التي عرض بها عند وداع فونتنبلو ما دامت صحته تساعده على الجولان طول النهار ولا تترك له سبيلا إلى الجلوس والكتابة.
وكانت هذه الرياضة البدنية أنفع علاج للإمبراطور بتهييجها وظائف الجلد ومساعدتها على إفرازه، إلا أنها لم تمنعه بعد حين من أن يشكو شدة المناخ ويتألم منه، فأخذ يتنقل من مكان إلى آخر جاعلا مسكنه حينا في الجنوب وحينا في الشمال وآنا في جهة الشرق وآونة في الغرب، وكان حيث أقام يعمل على تحسين منزله وتجديد ما فيه، حتى إذا تم له ذلك ولم يعد للجديد من رونق أحس بالملل يتطرق إلى فؤاده، فانزوى في غرفته ساعات متواصلة لا يأتي فيها بحركة كأنه محمول على أجنحة الحلم أو مأخوذ بشبه نوم لطيف، على أن صحته لم تتأثر كثيرا من هذه التقلبات، ولم تبد عليه علائم التعب والانحطاط، بل غاية ما هنالك أنه أقل من ركوب الخيل، واستعاض عنه بالخروج في مركبته.
كيف كانت حياة هذا المنفي العظيم الذي صار ملكا على الأقزام بعد أن ملك العالم؟!
إنه مثل دوره تمثيلا صحيحا، فلم يترك حقا من حقوق الملك لم يستول عليه، ولا واجبا من واجباته لم ينهض إلى قضائه، فكانت الجزيرة كقفير النحل تعج بالحركة عجا فلا يسمع فيها إلا أصوات المطارق بين هدم وبناء، وقد صدرت أوامره إلى كل جانب بتطهير البيوت والثكنات وتنظيف الطرق والشوارع، وإلزام السكان بوضع الأقذار في آنية خاصة تفرغ في الليل ومعاقبة من يطرح من بيته شيئا في الشارع، ومنع كل غريب من دخول الجزيرة قبل أن يفتش صحيا، وتنشيف المستنقعات، ووقاية مياه الشرب، وتشييد أحواض كبيرة يخزن فيها الماء لأيام الحاجة، ومراقبة الأمراض السرية، وهذا يعلم الناس العائشين في الأقذار معنى النظافة، فانتعشت الجزيرة بعد الموات وازدهرت فيها الحياة، وذاق السكان للمرة الأولى طعم العيش الرغيد.
مسكن نابوليون في جزيرة ألب.
نابوليون في الحمام في جزيرة ألب (صورة تهكمية نشرت في ذلك الحين).
وكان نابوليون قليل الثقة بالأطباء إلا أنه يميل إلى الطب ويهتم بكل ما يتصل به، فلم تحرم المستشفيات نصيبا من عنايته، بل كان يؤمها كل صباح فيصل أحيانا قبل الطبيب، وكان يستفهم عن كل داء وعن طريقة مداواته، ويظهر تفضيله لوسائل العلاج البسيطة على غيرها.
وكانت لجنة الإدارة تجتمع مرتين في الشهر لتجمع المعلومات اللازمة وتطلع المليك عليها وعلى كل ما يحدث في المستشفى، وقد بلغ من اهتمامه بالصحة والمستشفى العسكري أن حبب إليه بقية المرضى الذين كانوا في المستشفى المدني، فطلبوا الدخول إليه، وانتهى الأمر بإقفال هذا الأخير.
هذه الحياة المملوءة عزما ونشاطا وإبداعا، وهذه القوة التي كانت تنفق بلا حساب في هذه القطعة الحقيرة من الأرض فتحت لبعض الإنكليز والفرنسويين من أتباع لويس الثامن عشر بابا جديدا للسخرية والتشفي، فملئوا الأرض نشرات وصورا تمثل نابوليون في حالات مضحكة ومخزية؛ هذا يسميه البهلوان الذي يقلد محمدا والذي يحكم اليوم على العبيد والقردة، وذاك يصوره قزما محاطا بكل أحدب وأعرج، وقد أمر بتعبئة جيش ضخم قوامه ثلاثون رجلا، أو مشى للنزهة على الشاطئ بثياب روبنسون وعلى رأسه قبعة من الفرو وفي يده مظلة وعلى كتفه ببغاء هي نسره المهيض الجناح.
أما هو فلا ريب أنه في أعماق نفسه كان يتألم كثيرا لهذا السقوط الهائل، والذي زاد في جراحه هو بعده عن ماري لويز التي كانت لا تزال تملأ قلبه، وقد كتب لها مرارا من الجزيرة، ولكنها كانت تعتذر بانحراف صحتها ناسية واجباتها الزوجية، مشغولة عنه بالحب الأثيم الذي علق بقلبه بها شراره.
الفصل الثالث عشر
مشية الظافر
صورة تهكمية ضد نابوليون وهو في جزيرة ألب.
في 16 فبراير سنة 1815 ودع الإمبراطور أمه وشقيقته البرنسس بونس وترك قصره الحقير محاطا برجال السلطة والسكان الذين هرعوا لتوديعه، وركب البحر قاصدا شطوط فرنسا فوصلها في أول مارس.
وكان أمامه طريقان: طريق بروفانس وكلها أخطار لبغض السكان وشدة عدائهم له، وطريق الألب وكلها أمان لكثرة محبيه ومريديه فلم يسعه التردد في الاختيار.
ولا يزال في قرية سان فاليه القائمة على قمة الجبل من فوق مدينة كراس تذكار خطي لمرور نابوليون في تلك الناحية واستراحته حينا مع جيشه الصغير قبل مواجهته الأقدار.
ويقال إنه في كراس كانت بادية عليه سيماء الضعف والألم، حتى كان لا يقوى على الركوب ويتجافاه ما أمكن، فأحضر له برتران مركبة كبيرة قطع فيها شوطا من الطريق ثم تركها؛ لأنه أراد أن يظهر للشعب راكبا، وربما كان سبب هذا الألم تشنج المثانة الذي كان ينتابه حينا بعد حين، أو أنه كان مصابا بالبواسير.
كارولين مورات أخت نابوليون.
ولا نحاول اتباع الإمبراطور في مشيته الظافرة نحو العرش، بل نكتفي أن نذكر للقارئ ما بقي مجهولا عن الكثيرين، وهو أن كرنوبل كانت مفتاح نصره، ولو لم تفتح له أبوابها لعاد بالخيبة والفشل، وهو مدين بأكثر نجاحه لإخلاص طبيب من أتباعه كان ينتمي إلى هذه المدينة، فإنه شجع نابوليون وبشره بما يكنه مواطنوه له من الحب والعبادة، كما أنه سبقه إليها ومهد له الطريق بإقناع المترددين واستمالة الكارهين، حتى إذا جاء المساء كانت النشرات تتطاير في الشوارع محيية الإمبراطور، فلم يبق للضباط والجنود من سبيل إلى المقاومة أمام هذا التيار، ولم ينس نابوليون فضل الرجل فخصه في وصيته الأخيرة بمائة ألف فرنك، ووكل إليه والبارون لاراي توزيع 200 ألف فرنك على الأحياء من جنود واترلو.
الفصل الرابع عشر
حكومة المائة اليوم
عودة نابوليون في 20 مارس 1810.
في العشرين من مارس وفي الساعة الرابعة صباحا فتحت فونتنبلو أبوابها لاستقبال الإمبراطور، وفي الليلة التالية كان شيخ عاجز يغادر تلك الديار بعد أن جلس عشرة أشهر على العرش، منفي يعود إلى ملكه ومليك يرجع إلى منفاه، وهكذا ابتدأت حكومة الأيام المائة.
وكان نابوليون قد تغير في هذه الفترة القصيرة تغيرا ظاهرا، فزاد اصفرارا وسمنا، وخف نشاطه، وثقلت حركاته، وبدأ العجز والانحطاط في قواه، ولا بدع فإن أخطار السفرة وهمومها وتنظيم الجيوش والحكومة واستعداده لحملة البلجيك فوق ما كان عليه من التألم المعنوي في منفاه وتهيج أعصابه كل حين، كل ذلك كان ينزع عنه ثوب العافية ويخمد نار الهمة ويطفئ شعاع الأمل، وقد قيل إنه لذلك العهد كان حزين النفس تنم صورته على اليأس الشديد تارة وعدم المبالاة طورا، وكان يميل كثيرا إلى النوم، وهو الذي لم يكن ينام أكثر من أربع أو خمس ساعات، نعم، إن صفات نبوغه النادر لم تتغير، ولكن الإرادة والإقدام والثقة بالنفس قد تزعزعت جميعا، فكان الفكر يؤثر في الجسم ثم يعود الجسم فيؤثر في الفكر (اقرأ تيوفيل كونيه، وهنري هوساي، وباسكيه).
وإن رجلا عصبي المزاج كنابوليون لا يسعه وهو عبد لهذه النوب التي كانت تساوره حينا بعد آخر، وتشتد وطأتها عليه إلا أن يرزح تحت أثقالها فيضيع رشده وتخبو همته ويظلم فؤاده؛ ولهذا كانت تعرض له أشباح حوادث المستقبل بصور مخيفة، فيتمثل فرنسا مقهورة مداسة، فيرتعش بدنه ويتألم فكره، ولا يجد سبيلا إلى إبعاد هذه التخيلات إلا بالنوم، وكثيرا ما أجهش بالبكاء وهو منفرد وأمامه صورة ابنه؛ ذلك لأن نابوليون لم يعد يؤمن بنجمه.
الفصل الخامس عشر
واترلو
تيوفيل غوتييه الشاعر.
رحيل لويس الثامن عشر (19 مارس 1815).
ترك نابوليون باريس قاصدا إلى شارلروا وآماله بالنصر ضعيفة، ولما وصل إلى شارلروا انطرح على سريره منهوك القوى ولم ينهض للعمل في الصباح إلا نحو الساعة الحادية عشرة، فخسر ساعات ثمينة كفت بلوشر ليتم استعداده ووالنتون لينال النجدة اللازمة.
وقد ذكر كروشي أنه في اليوم التالي أي في 17 كان التعب الشديد باديا على وجه الامبراطور ولم ينكر عليه منتقدوه إبداعه في الخطة التي رسمها في «ليني»، ولكنه لم يمض فيها إلى النهاية، فإنه عندما وقفت رحى المعركة اضطجع في سريره ونام ولم يجرؤ أحد أن يوقظه ليتلقى أوامره، وهكذا مضى اليوم والغد وهو على هذه الحال، حتى قال الجنرال فاندام: إن نجاحنا سيكون عقيما.
ديكوست البلجيكي؛ وهو دليل نابوليون يوم واترلو.
وفي 18 كان المطر قد انقطع تماما وهبت ريح قوية جففت الأرض، فاختار نابوليون مركزه عن يسار الطريق على قمة يشرف منها على الميدان وأتوه بمائدة صغيرة نشر عليها خرائطه ولبث طول المعركة كأنه في خمول يذكرهم بيوم موسكو.
هل كان هذا الخمول أو النعاس أو انحطاط القوى أمرا عارضا، أو هي الأعراض التي كان يشعر بها من زمن طويل؟ هذا لا يزال سرا من الأسرار، وكل من درس المسألة أبدى رأيا، أما نابوليون فكان يقول في جزيرة القديسة هيلانة عن ذلك اليوم المشئوم: إنه انكسار لا يفهم له سببا، ونسبه تياري إلى القضاء والقدر، ومالو إلى تزعزع ثقة الإمبراطور بنفسه، وهنري هوساي إلى انحطاط قواه العقلية، وكلوزفتز إلى مخاطرة الإمبراطور بلا حساب كما يفعل المقامر .
أما شهادة الأطباء فهي أن نابوليون لم يضع وعيه ولم تخنه الذاكرة أبدا، ولكن ألم الجسم أثر في أخلاقه وضعضع حواسه، وعلى رأي كابانيس: إن الإمبراطور في معركة واترلو كان يتألم من البواسير، وهذا الداء قديم يرجع عهده إلى أيام الصبا، كما يظهر من كتاب أرسله سنة 1809 إلى أخيه جيروم، أضف إلى هذا العامل المرضي العامل الجوي للأمطار التي هطلت وجعلت الأرض بحيرة من الوحل لا يمكن الخيل والمركبات أن تتحرك فيها، يتبين لك بعض الأسباب في اندحاره.
وهناك عامل ثالث لا يجب أن نتناساه وهو العامل الأدبي فقد تعبت فرنسا من حرب لا تعرف الغاية منها، وتاقت إلى السلام، فخفت حماسة الفرنسوي وانتقلت إلى أعدائه، يدلك على هذا تصرف كل من القائدين الفرنسوي والبروسي.
هذا يصدق إلهامه؛ لأنه يريد الانتصار، وذاك يتردد ويقف؛ لأنه لم تعد جذوة الحماسة تلهب عواطفه.
فلا ريب أن نابوليون كان مريضا يوم واترلو، وقد أثر هذا المرض في نتيجة المعركة، غير أنه لا يحق لنا أن نلقي تبعة الانكسار كلها عليه، فننسى كما قال مونتسكيو «الأسباب العامة التي ترفع الممالك وتخفضها.»
ونابوليون كغيره خاضع لهذه الشرعة، فلو لم يقهر في واترلو لقهر بعدها.
الفصل السادس عشر
إلى المنفى
مدام دي مونتولون.
بقي نابوليون مترددا في اختيار البلاد التي ستكون مقره في منفاه، وقد أشار عليه بعض أصحابه أن يقصد إلى أميركا، أما هو فلم يستطع أن يعقد عزما كأنه يخاف المخاطرة أو أن قوة غريبة شريرة كانت مسيطرة عليه.
صورة لنابوليون عند وصوله إلى جزيرة القديسة هيلانة.
ولما جاءه أمر الحلفاء وهو على ظهر الباخرة بلرفون بأن تكون إقامته في جزيرة القديسة هيلانة كانت قواه الأدبية والبدنية في خور وانحطاط، ولم يسمح بمرافقته إلا لعدد محدود من ضباطه وأعوانه، وقد تألم في الأسبوع الأول من دوار البحر فتعرف إلى الجراح الإنكليزي أوميرا وطابت به نفسه، فسأله أن يكون طبيبه الخاص فلم يرفض على شرط أن يكون حرا في تركه متى أراد.
نابوليون في منفاه (من رسم من ذلك الحين).
وبعد ثلاثة أشهر بدت للأعين جزيرة القديسة هيلانة بشواطئها الصخرية، فكانت من المناظر التي تنقبض لها النفس أيما انقباض.
وقد ذكر هدسون لو سجان نابوليون أن الفكرة في إرسال الإمبراطور إلى هذه الصخرة المنفردة كأنها سجن قائم في وسط الأوقيانوس ليست بنت الاتفاق أو الإلهامات الفجائية التي تومض في عقول رجال السياسة، بل هي نتيجة تفكير طويل يرجع عهده إلى جزيرة ألب، فإن السفراء كانوا لذلك الحين يتداولون في مؤتمر فينا في نقله إلى ما وراء الأوقيانوس، والذي أدلى لهم بهذه الفكرة هو والنتون.
وكان نزول نابوليون إلى البر في جامستون في 17 أكتوبر.
وجامستون هذه مدينة صغيرة جميلة المنظر نظيفة البيوت بيضاؤها، إلا أنها أتون نار في الصيف، وهي واقعة بين جبلين، وليس لها إلا شارع واحد، وقد أحس الضيف الجديد بحرها ورطوبتها؛ ولهذا قبل مع الشكر خيمة أرسلها له الأميرال مالكوم ليأوي إليها.
وقد كانت أيامه الأولى في المنفى سعيدة إذا قيست بما بعدها؛ وذلك أنه كان لأحد الموظفين في شركة الهند الشرقية بيت جميل قائم على بعد ميل من المدينة، تحيط به أشجار الموز والرمان والورد البري، فقدمه هذا الموظف (ويقال إنه الابن الشرعي للبرنس دي غال) إلى الإمبراطور، ورأى هذا من مضيفه وحسن معاملته ما حبب إليه البقاء في تلك الناحية، ورفض الرجوع إلى جامستون، ولكن الأمر لم يكن له.
وكانت عيشة نابوليون في هذا المنزل صحية مقتصرة على النهوض من النوم مبكرا والأكل القليل والرياضة، وكان لطيف المعشر يأنس به كل من قاربه، ويعجب بأخلاقه ومعارفه، حتى إن طبيب المكان لم يكن يفتأ يذكر نابوليون بالثناء وتعداد معارفه الطبية.
وقد بينا فيما سبق رأي نابوليون في الطب، وأنه لم يكن يصدق الأطباء على احترامه لهم، ويعتقد أن خير علاج هو الحمية والحمامات الساخنة.
ولما تم إصلاح لونكوود وصارت أهلا لاستقبال نزيلها أرسل المارشال برتران في طليعة القوم لدرس حالة المسكن، ثم أتبعه بلاكاز لأن رائحة الدهان كانت قوية وهو لا يقوى على احتمالها، فلما جاءه تقرير هذا الأخير بأن الرائحة قد خفت ذهب إليها (10 سبتمبر سنة 1815).
الفصل السابع عشر
لونكوود
منظر لونكوود.
لم تكن لونكوود على رأي أحد كتبة الإنكليز تصلح لغير البهائم، فالريح تعصف فيها ليل نهار، والرطوبة منتشرة في الجو، والأرض جرداء تكاد لا تجد فيها خيالا للظل، وكان الانتقال من الإعصار إلى الأمطار إلى الضباب أو ضربة الشمس المحرقة أمرا عاديا لا يخلو منه يوم.
وكان يخيل إلى نابوليون كلما دخل غرفته أنه داخل في سرداب أو نفق تحت الأرض لشدة الرطوبة، وكثيرا ما جاء المساء، فإذا ثيابه تعصر من جراء تلك الرطوبة.
والذي زاد الطين بلة فضاق له صدر نابوليون وعيل اصطباره، وارتفع صوته بالشكوى على غير طائل هو وجود الجرذان بكثرة هائلة في الجزيرة، جرذان كبيرة لها جلبة بصوت يملأ البيت، وتمشي تحت الأسرة وفوقها وتقفز من ناحية إلى أخرى، وتدخل في الأرض وفي السقف وفي الحائط، حتى إنهم اضطروا إلى مطاردتها بإطلاق البارود عليها.
وقد حدث مرة أنه أراد بعد الأكل أن يلبس قبعته فما كاد يمد إليها يده حتى باغته جرذ كبير كان في تلك القبعة.
وكان هدسون لو سجانه وجلاده وحاكم الجزيرة يضحك من هذه الأمور، وكلما زاد نابوليون في الشكوى زاده هو سخرية واستهزاء.
هذا هو المكان الذي أعد سكنا لمن كانت تضيق به قصور الملوك، وكان منزله الخاص مؤلفا من حجرتين: واحدة للنوم، وأخرى للاستقبال، وحمام وملعب صغير للبلياردو على ضيق في المساحة وبساطة في الأثاث وفقر في النور والهواء، والذي يستلفت الأنظار وسط هذه الأشياء الحقيرة مغسل جميل من الفضة كان البقية الباقية لمجد قد مضى.
وكان نابوليون يقضي القسم الكبير من النهار في حمامه أو على مقعد مغطى بفراش أبيض فيضطجع عليه، وإلى جانبه كتب كثيرة وهو مرتد بذلة الصباح فوق بنطلون أبيض وقميصه مفتوح عند العنق وغطاء رأسه قبعة حمراء ذات رسوم مربعة، وإذا أراد الخروج لبس بذلة خضراء للصيد ذات أزرار ملونة، حتى إذا خلقت جدتها أبى تغييرها وفضل أن يقلب جوخها عن أن يلبس جوخا إنكليزيا.
وقد مرت الأيام الأولى في منفاه وهو ينام إلى ساعة متأخرة من النهار خلافا لعادته، ثم أخذ ينهض مبكرا نحو الخامسة فيخرج للنزهة راكبا ويعود للاستحمام، وعند الساعة الحادية عشرة يتناول غداء بسيطا مؤلفا من العدس والبيض الطازج وقليل من اللحم مع النبيذ الممزوج بالماء، ثم يلبس عند الساعة الثانية لباسه ويتعشى نحو السابعة، ولم يلبث أن غير هذا النظام إكراما لمدام مونتولون فصار الغداء الساعة الثالثة والعشاء نحو العاشرة.
وكانت شهوة الإمبراطور للأكل حسنة، ومن عاداته أن يطلب كتابا قبل نهاية الطعام، فيقرأ بصوت عال بينما يكون المارشال برتران منهمكا في أكل الملبس والحلوى، ثم يتناول شيئا من القهوة ويختلي مع بعض أصحابه للمحادثة أو لعب الشطرنج، حتى إذا دقت الساعة العاشرة أو الحادية عشرة يصرفهم جميعا ويدخل إلى غرفة النوم.
وكان يقوم الساعة الثالثة صباحا فيطلب نورا ويأخذ في المطالعة إلى الساعة السابعة ثم يعود إلى النوم، وله طريقة خصوصية في قراءة الكتب وهي تقليب الصفحات بسرعة، فيأتي على آخر الكتاب في ساعة من الزمن.
والمشهور أنه لم يكن يسمح لأحد أن يظل في حضرته جالسا أو لابسا قبعته، وحكت لادي مالكولم أنه بقي يوما أربع ساعات يتمشى في ردهة لونكوود وكل منهما متأبط قبعته؛ ذلك لأن الإمبراطور كان يفضل احتمال هذا التعب على أن يرى نفسه مع زوجها غير محترم كما يريد، وكم مرة أحس طبيبه أنتومارشي بالإعياء لاضطراره إلى الوقوف زمنا طويلا وهو لابس ثوبه الرسمي؛ إذ لم يكن يقبل بدونه.
الفصل الثامن عشر
آخر مراحل العذاب
ليس بين أيدينا كتاب يشرح بالتفصيل حالة السجين العظيم في أعوامه الأخيرة، ويذكر لنا التطورات التي تقلبت فيها صحته منذ أخذ الداء يظهر فيه بأجلى مظاهره. نعم، ثمة تقارير الحلفاء لمندوبيهم القائمين بمراقبته، ولكنها لا تحوي كل الحقيقة؛ لأنه لم يكن يسمح لهم بمواجهته، وكل ما فيها قائم على الإشاعات والأخبار الدائرة على الألسن.
والذي يمكن استنتاجه من كل ما قيل عنه أن هذه التطورات ابتدأت في سنة 1816، فقد ذكر مونتولون أن الإمبراطور كان في يوليو من تلك السنة يتألم شديد الألم من أعصابه ومن الصداع، حتى كان لا يقوى على العمل.
وأراد هدسون مقابلته في أول أكتوبر فرفض بدعوى المرض أو التمارض، ولم يخرج في غداة ذلك اليوم، وفي 24 منه أبى أيضا أن يستقبل أحدا، ولما رأوه بعد يومين كانت لثته ملتهبة وعلى شفتيه بعض البثور الناتجة عن الحمى، ولم تمنع هذه الأعراض الواضحة مندوب النمسا أن يكتب إلى مترنيخ: «لا يزال بونابرت بتمام العافية، يأكل كثيرا ويسمن.» وبديهي أن يسمن رجل قضى عمره في الحركة ثم منعت عنه دفعة واحدة، وكان يقول لمن يذكره بضرورة الرياضة والخروج للنزهة في العراء: «إنكم لا تفهمون شيئا عن صحتي، فأنا شاعر بالحاجة إلى الرياضة، ولكن رياضة صحيحة طويلة أقطع فيها الأميال، لا دورة محدودة حول هذا البستان الصغير نتيجتها احتقان في رأسي وألم في مفاصلي.»
الدكتور أوميرا.
وكان يميل إلى الركوب في بادئ الأمر، غير أن وجود ضابط إنكليزي على أعقابه جعله يكره ذلك، فاكتفى بالحركة داخل البيت: تارة يلعب بالبلياردو، وطورا يترجح على جواد من خشب صنعه خصوصا لذلك.
وفي عام 1817 زادت آلامه وقل نومه وأصابه ورم في رجليه وخور في أعصابه وتعب في عضلاته، فكان يقول لمونتولون: «إن دمي سيقتلني، ففي النفس حاجة عظمى إلى الحركة والتعب، ولكن أنى لي ذلك؟! وهدسون يخترع كل يوم سببا جديدا لمنعي من الركوب.»
لا ريب أن الذي مهد السبيل إلى هذا الانحطاط السريع الهائل في صحة الإمبراطور هو الإقامة في جزيرة القديسة هيلانة ومعاملة هدسون القاسية، فإن هذا الحاكم كان ضيق الإدراك، فلم يدع سببا من أسباب الاضطهاد والجاسوسية إلا أخذ به، وحول الجزيرة بالمدافع وحراسة النسافات إلى سجن يقتل العافية كما يقتل الأمل، أضف إلى ذلك فساد الهواء في تلك الناحية، فقد كانت آثاره السيئة بادية على كل وجه، حتى قال أوميرا: «إنه من المستحيل أن يعمر إنسان في هذه البقعة من الأرض ، وإن منظر امرأة عجوز فيها لمن الأمور الخارقة العادة.» وقد شكا سوء المناخ كل من في حاشية الإمبراطور ما عدا برتران، حتى إن أولاد هذا أصابهم من الحمى والضعف ما كانوا منه على شفا خطر، وقد سبق لنابوليون قبل المنفى أن عانى الإجهاد، فلم يرزح تحته واتفق له غير مرة أن تناول من الطعام ما لا يلائم معدته، وأن أكل بلا نظام دون أن يشعر بأذى، ولكن مناخ الجزيرة واضطهاد حاكمها قد غلباه على أمره وساعدا على إظهار الداء قبل أوانه.
السير هدسن لو.
ومني نابوليون بالإسهال والدوسنطارية، فقلق مندوبو الحلفاء وطلبوا من هدسون أن يسمح لهم بمقابلته فأبى.
وتحسنت صحته بعد ذلك فمضت عليه أسابيع دون أن يشكو ألما، ثم عاودته الأعراض بشدة من ورم ووجع وعسر بول، وكان مقر الألم في الجانب الأيمن من المعدة وفي الكتف اليمنى يصحبه أحيانا خفقان القلب الشديد، فشخص أوميرا التهابا في الكبد، ولم يحاول إخفاء رأيه عن عليله، بل ترك الفكرة تتسرب إليه شيئا فشيئا وهو يعالجه بالمسهلات والمقرفات وحمامات البحر، ولما رأى نابوليون أن كل هذه الوسائل لم تجد نفعا بدأ الحزن يفعل فيه والخمول يتسلط عليه، فعاف الكتابة والتأليف، وصار يميل إلى الوحدة، وتمشى التعب في مفاصله، والانحلال في أعصابه، وأصبح لا حديث له إلا الموت، فكان يقول لمونتولون: «أنتظر الموت صابرا فهو منقذي الوحيد من هذا العذاب.»
الدكتور أنتومارشي.
وكان الجفاء قد بلغ حده الأقصى بين أوميرا وهدسون؛ لأن الطبيب أبى أن يكون جاسوسا للحاكم، فجاء ذلك ضغثا على إبالة؛ لأنه أفضى إلى عزل أوميرا ووضعه تحت المراقبة ثم تسفيره سنة 1818، وصار نابوليون في حيرة شديدة؛ فإما أن يقبل الأطباء الذين يعينهم سجانه، وإما يبقى بلا معونة طبيب، وكانت أوجاعه تتزايد يوما بعد يوم، وقد خفت فيه شهوة الأكل، وساورته فكرة الخوف من أن يموت مسموما فامتنع عن كل دواء، وصار مونتولون يقضي الليالي إلى جانبه مواسيا ومعزيا، فيضع الكمادة الساخنة على معدته، وهو يشهد عن كثب دبيب الداء ، ويرى آثار فتكه في اصفرار الإمبراطور وهزاله، وفي عينيه الغائرتين ورجليه اللتين لم تعودا قادرتين على حمله.
نابوليون يفلح الأرض في منفاه.
قبر نابوليون في جزيرة القديسة هيلانة.
وبقي على هذه الحال بدون معالجة من شهر يوليو سنة 1818؛ أي منذ سفر أوميرا إلى يناير سنة 1819، وكلما عرض عليه هدسون لو طبيبا رفضه نابوليون بحجة أنه ضعيف مضطهد فلا تكون تقاريره صادقة إلا بقدر ما ترضي الإنكليز. كان هدسون يقول: إذا كان بونابرت لا يقبل من أعينه من الأطباء فلأنه متمارض ويخاف أن تكشف حيلته.
وفي ذات يوم أصابت العليل نوبة شديدة غاب فيها عن الوعي، فاختار أصحابه طبيبا من بين الأربعة الذين عرضهم «لو»، وهو الدكتور ستوكه مفتش البحرية الملكية، وأرسلوا في طلبه مستعجلين، فلما وصل كانت النوبة قد زالت واستولى على المريض نوم الراحة، فلم يتسن له أن يراه، ولكن برتران حادثه حينا وعرض عليه أن يقوم مقام أوميرا بمعالجة مولاه، فأبى خوفا من أن يصيبه ما أصاب زميله من اضطهاد الحاكم، ثم لان بعد اللتيا والتي وقبل تولي هذه الوظيفة.
دوق ريشتاد (ابن نابوليون).
وجاء تشخيص ستوكه للعلة مطابقا تشخيص أوميرا، بل زاد عليه أن المناخ هو العامل الأكبر في مرض الجنرال بونابرت، فكان هذا الاعتراف شكوى صارخة ضد الحكومة الإنكليزية عادت عليه بسوء المغبة؛ إذ أرسل له الأميرال بمغادرة الجزيرة حالا والمثول أمام محكمة عسكرية.
وكانت التهم الموجهة إلى الطبيب ستوكه عشرا، منها أنه تحدث مع الجنرال وحاشيته فيما هو خارج عن موضوع الطب، وأنه في تقريره الأول سمى الجنرال بغير ما تقرر تسميته به فدعاه «المريض» في حين لم يكن هدسون لو يعترف بمرضه، وبعد مرافعة أربعة أيام حكم على ستوكه بشطب اسمه من البحرية وإنزال معاشه إلى 2500 فرنك في العام، ولكن نابوليون كان قد نفحه من قبل بما رأى فيه التعويض الكافي، فضلا عما وقفته له الوالدة وبعض أعضاء الأسرة الإمبراطورية.
وقد جاء هذا الحكم مثبطا للعزائم ونذيرا لكل طبيب يريد أن يحافظ على الذمة والضمير، فإما أن يقول الحقيقة فيتعرض لغضب الحاكم وانتقامه، أو يعلن أن بونابرت ليس مريضا وإذن فلا حاجة إلى معالجته.
وغضب مندوب النمسا وروسيا لهذه المعاملة، فاحتجا بشدة، وأنذرا الحاكم أنه إذا قضى الإمبراطور نحبه فهما لا يتحملان تبعة ما ينتج عن ذلك من القيل والقال.
كل هذا وهدسون لو باق على عناده واعتقاده، فلا يحيد قيد شعرة عن الخطة التي اختطها لنفسه في معاملة أسيره فاتحا بتصرفه بابا واسعا للأخبار الكاذبة والإشاعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكان سكان الجزيرة يقولون تارة: إن نابوليون صار راعيا واشترى أجمل الأغنام وهو يتسلى بإطعامها بيده، وقد وضع في أعناقها أجراسا كي لا تضيع بين الصخور. وطورا: إنه يخرج للتنزه في لباس الصباح وعلى رأسه عمامة حمراء وفي يمناه عصا البلياردو وفي يسراه نظارة تقرب الأبعاد، والويل لمن يجسر أن يدعي أنه عليل.
وبقيت مسألة طبيبه مشكلة المشاكل، وكلما عرض الحاكم واحدا رفض نابوليون مقابلته إلى أن جاء الجزيرة الدكتور أنتومارشي موفدا من قبل الوالدة وعمه الكردينال.
جاء أنتومارشي فكانت زيارته الأولى للحاكم الذي أحسن استقباله وانتهز الفرصة لإقناعه أن مرض السجين ليس إلا خداعا، وقد كفت هذه الزيارة ليجعل الإمبراطور ينظر إليه بغير عين الرضا، إلا أنه أغضى الطرف أخيرا عندما عرف أن في حقيبة أنتومارشي كتبا من تأليف أوميرا وفيها طعن بهدسون لو.
نابوليون في ساعة الموت (عن رسم صنع قبلا).
وساعد على الرضا تحسن صحته فجأة، فأخذ ينزل إلى الحديقة ويشتغل بيديه في غرس الأشجار وسقي الأزهار مسرورا بما تجلبه له هذه الرياضة من لهو الخاطر وتناسي الحاضر، فعادت إليه شهوة الأكل وانقشع عنه ضباب الأسى والسوداء، وخف أرقه وسكن هياجه، إلا أن ذلك لم يطل، فما عتم الداء أن أعاد الكرة عليه بشدة، وقوي الألم في معدته، وكان هذه المرة أشبه بطعن المدية، ولم تفد معالجته أنتومارشي، بل كانت تزيده تأججا بما كان يعطيه من المقيئات والمسهلات حتى صاح نابوليون الغوث من هذه الأدوية، وسأل طبيبه أن يبعد عنه كأسها القاتل، ولكن أنتومارشي لم يسمع شكواه، ولم يفهم وظل على غيه في وصفها وتدبيرها إلى أن تذكر نابوليون أن كورفيزار أشار عليه يوما في حال مثل هذه أن يستعمل الكي، فقال للطبيب في ذلك، ففضل هذا «الحراقة» على الكي، فقال له العليل المسكين: «ألا ترى إذن كفاية في تعذيب هدسون لي؟! فاعمل ما بدا لك.» ولكن أنتومارشي كان يجهل حتى طريقة وضع «الحراقة»، فلم يقطعها بالشكل الموافق، ولم يحلق الشعر في الموضع الذي اختاره لها، فلما عاد في اليوم التالي ليرى فعلها استقبله نابوليون باللوم والتقريع قائلا: «ليس من العدل أن يقضى عل مسكين مثلي بهذا الوجه! فأنت جاهل، وأنا أجهل منك لقبولي علاجك.»
وفي رأس عام 1821 أراد الإمبراطور أن يستقبل «هيئة بلاطه»، فلم يقو على ذلك، وجرب بعد ذلك ركوب الخيل فعاد بعد ساعتين منهوك القوى، وكان يقوم في الليل ويشرب ليموناده «لإطفاء النار المتقدة في أحشائه»، وعند الصباح يزوره أنتومارشي كالعادة فيكتب له الدواء ويعده بعجائبه الموهومة، وكلما جر الحديث إلى استشارة طبيب آخر كان الجواب التسويف حتى شهر آذار، فجاء الدكتور أرنولت وقال لمونتولون: «لا أعلم ما ينتظرني، ولكني أعدك إذا تشرفت بمقابلة الإمبراطور أن أتصرف كجندي لا يطيع إلا ضميره والشرف.»
ولم يكن أنتومارشي يجهل إحساسات الإمبراطور نحوه؛ لأنه لم يعرف أن يكتسب ثقته لسوء تصرفه وإهماله وجهله، فطلب مغادرة البلاد، وعاد أخيرا فرضي البقاء واعدا أن يكون أكثر يقظة وعناية واهتماما.
وأصبحت تغذية الإمبراطور صعبة؛ لأن معدته كانت تلفظ كل ما يدخل إليها، وكان القيء هذه المرة أسود بما لم يبق معه ريب في طبيعة الداء، ولكن أنتومارشي بعيد عن أن يفهم أو يرى في علة الأمراض غير التهاب الكبد، فأشار باستعمال طريقة «أليبر» المشهور لذلك العهد، فطلب نابوليون كتاب أليبر واطلع على ما فيه فإذا الطريقة استعمال الليمونادة مع المقيئ فقبل بتجربتها فكانت ويلا عليه.
لم يبق للإمبراطور حينئذ إلا الرجوع إلى عادته القديمة وهي الحمية واستعمال المغاطس والشراب المبرد ، ولكن الداء كان يمشي بسرعة هائلة حتى أميط الحجاب عن بصر الحاكم، فآمن بمرض الإمبراطور، وعرض عليه ما شاء من الأطباء.
وأخذت النوب تتكرر من ألم وغيبوبة وهذيان، وقد سمعه مونتولون في الليلة الأخيرة يذكر فرنسا والجيش وجوزفين، ثم رآه ينهض من سريره مندفعا بسرعة فحاول رده فلم يفلح، بل شعر أن تهيج الإمبراطور قد أعطاه قوة خارقة العادة، حتى رمى مونتولون على الأرض وشد عليه الخناق، وكان أرشمبلولت في الغرفة المجاورة فأسرع عند سماعه الجلبة وساعد مونتولون على إرجاع المريض إلى سريره، وأقبل بعد ثوان المارشال واشومارش، وكانت العاصفة قد هدأت، وبعد حين أشار إليهم بيده يريد ماء، فقدموا له إسفنجة مبلولة لأنه لم يعد يستطيع البلع.
وطلعت عليه شمس اليوم الخامس من شهر مايو وهو في حالة النزع الشديد، وآذنت بالمغيب وهو يلفظ آخر أنفاسه.
ذيل
ظهر من تشريح الجثة أن نابوليون كان مصابا بالسل الرئوي وقرحة سرطانية في المعدة، أما احتقان الكبد فقد أنكره البعض من الإنكليز كي لا يقال إن مناخ الجزيرة قضى عليه، وإذا كان اتفق الأطباء في حياته على تشخيص التهاب الكبد؛ فلأن الداء كان متفشيا في تلك البقعة، فلم تنصرف أفكارهم إلى سواه، ونتج عن خطأ التشخيص خطأ العلاج، فأكثروا من العقاقير المهيجة كالزئبق وغيره، على الرغم من تألمه وممانعته. مسكين! كم تناول من المسهلات والمعرقات والمقيئات والحبوب والحقن والأشربة المختلفة والمغاطس المالحة! معالجة قاسية عقيمة خالية من الرحمة! هيهات أن يقوى على احتمالها أشد الأجسام صلابة! قيل إنه قال يوما لمن قدم له الدواء: دعني، وليكن موتي من الداء لا الدواء، وقال لمونتومارشي: خل أدويتك جانبا أيها الطبيب؛ فإني لا أريد أن أصاب بعلتين: مرضي والمرض الذي تعطيني إياه.
ولا ريب أنه لو وجد نابوليون لعهدنا هذا لكان نصيبه من المعالجة أحسن وأرقى؛ فإن تشخيص الداء في حينه يساعد على محاربته وتخفيف أعراضه، وإن لم يصل إلى قتل جرثومته أو تغيير الوراثة.
ما يقول العلم عن وراثة السرطان؟
اتفق أكثر الأطباء على أن السرطان ليس وراثيا، وأهم من يؤيد هذه الفكرة الأستاذان دلبه وكنير من باريس، ولا يخفى أهمية ذلك من الوجهة الاجتماعية، ولا سيما في مسائل الزواج، ومن الأدلة على صحة هذا الرأي أنك قلما تجد بين المرضى بالسرطان من ورث ذلك عن أبيه، وبالعكس، فإن غير واحد من المصابين بأمراض مختلفة كان السرطان عند آبائهم ولم ينتقل إليهم.
إن آفة أسرة بونابرت هي الأرترتيسم لا السرطان، وقد حاولنا تفسير هذه الكلمة في صدر الكتاب، فلا نعود إليها خوفا من أن نزيدها غموضا، كانت والدة نابوليون مصابة بالأوجاع العصبية، وأبوه بالسرطان، فجاء حاملا هذا المزاج المرضي؛ أي الأرترتيسم الذي من أعراضه البواسير والإمساك وسوء الهضم والإكزيما، والسمن والإحساس الزائد بالبرد وضعف الكبد والصداع ومرض الكلية، وكل هذه الأعراض اجتمعت فيه على نسب مختلفة، وقد وجدوا لدى تشريحه حصى كثيرا في المثانة.
وعلى الجملة، فإن نابوليون بونابرت إمبراطور فرنسا ومدوخ العالم وسجين هدسون لو كان صورة من صور ذلك المزاج الأرتريتيكي الذي يقتل صاحبه، وتاريخه هذا درس من دروس الطب العام يجد كل واحد منا فائدة فيه، كما قال أوغست كونت: «الأموات يديرون الأحياء.»
Bilinmeyen sayfa