بسم الله الرحمن الرحيم
وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم
أخبرنا الشيخ الثقة أبو الطاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الفرشيّ الخشوعي ﵀ قراءة عليه، وأنا أسمع في يوم اثنين تاسع عشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وخمسمئة، قال: أخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن المُسلَّم بن محمد بن الفتح السُّلمي الفقيه قراءة عليه، وأنا أسمع، في شوال سنة تسع عشرة وخمسمئة، قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن أبي الحديد السُّلميّ، بقراءتي عليه، في ذي الحجّة سنة ست وستين وأربعمئة، قال: أنبأ جدّي أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان السُّلمي، قراءةً عليه، قال: أنبا أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل السَّامرِّيِّ الخرائطيِّ، قال:
1 / 21
حدثنا إبراهيم بن هانئ النيسابوري، قال: ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية ابن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبير بن نُفير، عن أبي ثعلبة، قال: قال رسول الله ﷺ: الجنُّ على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيّات وكلاب، وصنف يحلُّون ويظعنون.
1 / 22
حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، قال: ثنا عمارة بن زيد، قال: حدثني أبو البَخْتَرَي وهب بن وهب، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى ابن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: حدثني سلمان الفارسي، قال: كُنَّا مع النبي ﷺ في مسجده في يوم مطير، ذي سحائب ورياح، ونحن ملتفُّون حوله، فسمعنا صوتًا لا نرى شخصه، وهو يقول: السلامُ عليك يا رسول الله. فَرَّد عليك السلام، وقال: ردَّوا على أخيكم السلام قال: فرددنا عليه. فقال رسول الله ﷺ: من أنت؟ قال: أنا عُرفُطة، أظهر لنا "رحمك الله" في صورتك.
1 / 23
قال سلمان: فظهر لنا شيخٌ أَزَبُّ أشعر، قد لبس وجهه شعر غليظ متكاثف قد واراه، وإذا عيناه مشقوقتان طولًا، وله فم في صدره، فيه أنياب بادية طوال، وإذا له في موضع الأظفار من يديه مخالب كمخالب السباع، فلما رأيناه اقشعرَّت جلودنا، ودنونا من النبيِّ ﷺ.
فقال الشيخ: يا نبيّ الله. أبعث معي من يدعوا جماعة قومي إلى الإسلام، وأنا أردُّهُ إليك سالما إن شاء الله.
فقال رسول الله، ﷺ لأصحابه، أيُّكم يقومُ فيبلِّغُ الجنَّ عنِّي وله عليَّ الجنَّة. فما قام أحد.
وقال الثانية والثالثة، فما قام أحد.
فقال عليٌّ كرم الله وجهه: أنا يا رسول الله.
فالتفت النبيُّ ﷺ إلى الشيخ، فقال: وافِني إلى الحرَّة، في هذه الليلة، أبعثُ معك رجلًا، يفصل بحكمي، وينطق بلساني، ويبلَّغ الجنّ عنّي. قال سلمان: فغاب الشيخ، وأقمنا يومنا، فلما صلَّى النبيُّ ﷺ العشاء الآخرة، وانصرف الناس من المسجد، قال: يا سلمان سر معي. فخرجت معه، وعليٌّ بين يديه، حتى أتينا الحرَّة.
فإذا الشيخ على بعير كالشاة، وإذا بعير آخر على ارتفاع الفرس، فحمل عليه رسول الله ﷺ عليًّا، وحملني خلفه، وشدَّ وسطي إلى وسطه بعمامة، وعصَّب عينيَّ؛ وقال: يا سلمان لا تفتحنَّ عينيك حتى تسمع عليًّا يؤذِّن، ولا يروعك ما تسمع، فإنك آمن إن شاء الله. ثم أوصى عليًّا بما أحبَّ أن يوصيه، ثم
1 / 24
قال: سيروا، ولا قوَّة إلاَّ بالله.
فثار البعير سائرًا يدفُّ كدفيف النعام، وعليٌّ يتلو القرآن؛ فسرنا ليلتنا حتى إذا طلع الفجر أذَّنَ عليٌّ، وأناخ البعير، وقال: انزل يا سلمان. فحللت عينيَّ ونزلت، فإذا أرض قوراء، لا ماء ولا شجر، ولا عود ولا حجر، فلمَّا بأن الفجر أقام عليٌّ الصلاة وتقدَّم وصلَّى بنا أنا والشيخ. ولا أزال أسمع الحسَّ حتى إذا سلَّم عليٌّ التفت، فإذا خلق عظيم، لا يُسمعهم إلاَّ الخطيب الصَّيِّت الجهير، فأقام عليٌّ يسبِّح ربَّه، حتى طلعت الشمس، ثم قام فيهم خطيبًا، فخطبهم، فاعترضه منهم مَرَدَةٌ، فأقبل عليٌّ عليهم، فقال: أبالحقِّ تكذِّبون، وعن القرآن تصدفون، وبآيات الله تجحدون؟ ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: بالكلمة العظمى، والأسماء الحسنى، والعزائم الكبرى، والحيِّ القيّوم، محيي الموتى، وربِّ الأرض والسماء؛ يا حَرَسَة الجنِّ، ورَصَدَة الشياطين، خُدَّام الله الشرهباليين، ذوي الأرواح الطاهرة.
اهبطوا بالجمرة التي لا تطفأ، والشهاب الثاقب، والشواظ المحرق، والنحاس القاتل، بآلمص، والذاريات، وكهيعص، والطواسين، ويس، و(ن والقلم وما يسطرون) (والنجم إذا هوى) (والطور وكتاب مسطورٍ في رَقٍّ منشورٍ والبيت المعمور)
1 / 25
والأقسام والأحكام، ومواقع النجوم؛ لما أسرعتم الانحدار إلى المَرَدةِ المتولِّعين المتكبرين، الجاحدين لآيات ربِّ العالمين.
قال سلمان: فحسستُ الأرض من تحتي ترتعد، ثم نزلت نار من السماء صَعِقَ لها كلُّ مَن رآها من الجن، وخرَّت على وجوهها مغشيًّا عليها، وخررتُ أنا على وجهي، ثم أفقت فإذا دخان يفور من الأرض يحول بيني وبين النظر إلى عَبَثَة المردة من الجن، فأقام الدخان طويلًا بالأرض.
قال سلمان: فصاح بهم عليّ: ارفعوا رؤوسكم: فقد أهلك الله الظالمين، ثم عاد إلى خطبته، فقال: يا معشر الجنِّ والشياطين والغيلان، وبني شمراخ وآل نجاح، وسكان الآجام والرمال، والأقفار، وجميع شياطين البلدان: اعلموا أن الأرض قد مُلئت عدلًا، كما كانت مملوءة جورًا. هذا هو الحقُّ (فماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال فأنى تُصرفون) .
قال سلمان: فعجبت الجنُّ لعلمه، وانقادوا مذعنين له، وقالوا: أمنّا بالله وبرسوله، وبرسول رسوله، لا نكذِّب وأنت الصادق والمصدَّق.
قال سلمان: فانصرفنا في الليل على البعير الذي كنّا عليه، وشدَّ علٌّ وسطي إلى وسطه، وقال: اعصب عينيك، واذكر الله في نفسك.
وسرنا يدفُّ بنا البعير دفيفًا، والشيخ الذي قدم على رسول الله ﷺ أمامنا،
1 / 26
حتى قدمنا الحرَّة، وذلك قبل طلوع الفجر، فنزل عليٌّ ونزلت، وسَرَّح البعير فمضى، ودخلنا المدينة فصلينا الغداة مع النبيِّ ﷺ، فلمَّا سلَّم رآنا، فقال لعليٍّ: كيف رأيت القوم؟ قال: أجابوا وأذعنوا.
وقصَّ عليه خبرهم. فقال رسول الله: أما إنهم لا يزالون لك هائبين إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤذن، قال: ثنا محمد بن عمران "بن محمد بن عبد الرحمن" ابن أبي ليلى، قال: ثنا سعيد بن عبيد الله الوصافي، عن أبيه عن أبي جعفر محمد بن علي، قال:
1 / 27
دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب، فقال: نشدتك بالله يا سواد بن قارب؛ هل تحسُّ اليوم من كهانتك شيئًا؟ فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما استقبلت أحدًا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به. قال: سبحان الله يا سواد! ما كنّا عليه من شركنا أعظم ممّا كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنه لعجب من العجب.
قال: أي والله يا أمير المؤمنين، إنه لعجب من العجب. قال: فحدثنيه. قال: كنت كاهنًا في الجاهلية، فينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني نجيّي، فضربني برجله، ثم قال: يا سواد! اسمع أقل لك. قلت: هات قال "من السريع":
عجبتُ للجنِّ وإيجاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحلْ إلى الصفوة من هاشمٍ ... واسمُ بعينيك إلى رأسها
قال: فنمتُ، ولم أحفل بقوله شيئًا، فلما كانت الليلة الثانية، أتاني فضربني برجله، ثم قال: قم يا سواد اسمع أقُلْ لك. قلت: هات. قال "من السريع":
عجبتُ للجنِّ وتطلابها ... ورحلها العيسَ بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادقو الجنّ ككذّابها
فارحلْ إلى الصفوة من هاشم ... ليس المقاديمُ كأذنابها
1 / 28
قال: فحرَّك قوله مني شيئًا، ونمت: فلما كانت الليلة الثالثة، أتاني فضربني برجله، ثم قال: يا سواد، أتعقل أم لا تعقل؟ قلت: وما ذاك؟ قال: قد ظهر بمكة نبيٌّ، يدعو إلأى عبادة ربه، فالحقْ به: اسمع أقلْ لك. قلت: هات. قال: "من السريع":
عجبتُ للجنِّ وأخبارها ... ورحلها العيسَ بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفّارها
فارحلْ إلى الصفوة من هاشمْ ... بين روابيها وأحبارها
قال: فعلمتُ أن الله ﷿ قد أراد بي خيرًا.
فقمتُ إلى بُردة لي ففتقتُها، ولبستُها، ووضعتُ رجلي في غرز ركاب الناقة حتى انتهيت إلى النبيِّ ﷺ، فعرض عليَّ الإسلام، فأسلمتُ وأخبرته الخبر. قال: إذا اجتمع المسلمون فأخبرهم.
فلمّا اجتمع الناس قمتُ فقلتُ "من الطويل":
أتاني نجيِّ بعد هَدءٍ ورَقدةٍ ... ولم يكُ فيما قد بلوتُ بكاذبِ
ثلاث ليالٍ قولُهُ كلَّ ليلةٍ ... أتاكَ رسولٌ من لؤيّ بن غالبِ
فشمَّرتُ عن ذيلي الإزار ووسَّطت ... بي الدُّعلبُ الوجناءُ غبر السَّباسبِ
وأعلمُ أنَّ اللهَ لا ربّض غيرُه ... وأنك مأمونٌ على كلِّ غائبِ
وأنك أدنى المؤمنين وسيلةً ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايبِ
فمرنا بما يأْتيكَ يا خيرَ مُرسلٍ ... وإنْ كان فيما جاءَ شيبُ الذَّوائبِ
وكن لي شفيعًا يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سواك بمغنٍ عن سواد بن غاربِ
قال: فسُرَّ المسلمون بذلك.
1 / 29
فقال عمر: هل تحسُّ اليوم منها بشيء؟ قال: أمَّا مُذ علَّمني الله القرآن فلا.
حدثنا عبد الله بن محمد البلويّ، بمصر، قال: ثنا عُمارة بن زيد، حدثني عيسى بن زيد، عن صالح بن كيسان، عَمَّن حدّثه، عن مرداس بن قيس الدَّوسيّ، قال: حضرتُ النّبي الله عليه وسلّم، وقد ذُكرت عنده الكناهة، وما كان من تعبيرها عند مخرجِهِ. فقلت: يا رسولَ الله، قد كان عندنا من ذلكَ شيءٌّ، أُخبرك أَنَّ جاريةً منّا يقال لها خلصَة، لم نعلمْ عليها إِلاَّ خيرًا، إِذا جاءَتنا فقالت: يا معردوس، العَجَبَ العَجَب لِمَا أَصابني! هل علمتم إلاّ خيرًا؟ قلنا: وما ذاك؟ قالت: إنّي لفي غنمي، إذا غشيتني ظلمةٌ، ووجدت كحسِّ الرجل مع المرأة، فقد خشيت أن أكون قد حبلت. حتى إذا دنت ولادتها، وضعت غلامًا أغضف له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا حتى إنه ليلعب مع الغلمان، إذا وثب وثبةً، وألقى إزاره، وصاح بأعلى
1 / 30
صوته، وجعل يقول: يا ويله يا ويله، يا عوله يا عوله، يا ويل غنم، ويا ويل فهم، من قابس النار "من الرجز":
الخيلُ واللهِ وراءَ العقبة ... فيهنّ فتيانٌ حِسانٌ نَجَبَه
قال: فركبنا وأخذنا الأداة، وقلنا: ويلك ما ترى؟ قال: هل من جاريةٍ طامث؟ قلنا: ومن لنا بها؟ فقال شيخٌ منّا: هي والله عندي، عفيفة الأمّ. فقلنا: فجعلها؛ وأتى بالجارية، وطلع الجبل، وقال للجارية: اطرحي ثوبك واخرجي في وجوههم.
وقال للقوم: اتبعوا أثرها. وصاح برجل منّا يُقال له: أحمر بن حابس، فقال: يا أحمر بن حابس، عليك أول فارسٍ.
فحمل أحمر فطحن أول فارس فصرعه، وانهزموا وغنمناهم. قال: فابتنيا عليه بيتًا وسميناه: ذا الخلصة. وكان لا يقول لنا شيئًا إلاّ كان كما يقول. حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله، قال لنا يومًا: يا معشر دوس نزلت بنو الحارث بن كعب فاركبوا، فركبنا، فقال لنا: أكدسوا الخيل كدسًا، واحشوا القوم رمسًا، القوهم غُدَيَّة، واشربوا الخمر عشيَّة.
قال: فلقيناهم فهزمونا وفضحونا، فرجعنا إليه فقلنا: ما حالك؟ وما الذي صنعت بنا؟ فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه، وابيضَّت أُذناه، وانزمَّ غضبًا، حتى كاد أن ينفطر، وقام. فركبنا واغتفرنا هذه له.
ومكثنا بعد ذلك حينًا، ثم دعانا، فقال: هل لكم في غزوة تهب لكم عِزًا، وتجعل لكم حرزًا، وتكون في أيديكم كنزًا؟ قلنا: ما أحوجنا إلى ذلك.
فقال: اركبوا، فركبنا، وقلنا: ما تقول؟ قال: بنو الحارث بن مسلمة، ثم
1 / 31
قال: قفوا، فوقنا. ثم قال: عليكم بفهم، ثم قال: ليس لكم فيه دمٌ؛ عليكم بمضر، هم أرباب خيل ونعم. ثم قال: لا، زهط بن دريد الصِّمَّة. قليل العدَّة، وفيِّ الذِّمة، ثم قال: لا، ولكن عليك بكعب بن ربيعة، واشكرها صنيعة، عامر بن صعصعة، فلتكن بهم الوقيعة.
قال: فلقيناه فهزمونا وفضحونا، فرجعنا وقلنا: ويلك! ما تصنعّ بنا؟ قال: ما أدري، كذبني الذي كان يصدقني؛ اسجنوني في بيتي ثلاثا ثم ائتوني ففعلنا به ذلك، ثم أتينا بد ثالثةٍ، ففتحنا عند فإذا هو كأنه جمرةٌ نار.
فقال: يا معشر دوس حرست السماء، وخرج خير الأنبياء.
قلنا: أين؟ قال: بمكة؛ وأنا ميت فادفنوني في رأس جبل فإني سوف اضطرم نارًا، وإن تركتموني كنت عليكم عارًا. فإذا رأيتم اضطرامي وتلهُّبي فاقذفوني بثلاثة أحجار، ثم قولوا من كل حجرٍ: باسمك اللهم. فإني أهدأ وأطفأ.
قال: وإنه مات فاشتعل نارا، ففعلنا بعه ما أمر فقذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كلّ حجر باسمك اللهم. فخمد وطفئ.
وأقمنا حتى قدم علينا الحاجُّ فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله.
حدثنا عبد الله بن محمد البَلَويّ، قال: قال عُمارة ثنا عبد الله بن العلاء،
1 / 32
عن الزهري، عن عبد الله بن الحارث بن عبد المطّلب، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لمّا توجَّه رسول الله ﷺ يريد مكة في العام الذي رَدَّته قريش عن البيت، وهو عام الحديْبِيَة، فلما سار رسول الله ﷺ مرحلتين أو ثلاثًا، قدم عليه بشر بن سفيان العتكي، فسلّم عليه. فقال له رسول الله ﷺ: يا بشر هل عندك علمٌ أنّ أهل مكة علموا بمسيري إليهم؟ فقال بشر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ أخبرك أني كنت أطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا "وسمَّى الليلة التي أمر بها رسول الله ﷺ أصحابه بالسَّير فيها إلى مكة" وقريش في أنديتها حول البيت، إذا صرخ صارخٌ من أعلى جبل أبي قُبيس، بصوت أسمع أهل مكة بعيدهم وداينهم، وهو يقول "من البسيط":
هبُّوا فساحركم منّا صحابتُه ... سيروا إليه وكونوا معشرًا كُرُما
1 / 33
بعد الطوافِ وبعد السعي في مَهَلٍ ... وأَن يحوزهمُ من مكة الحرما
شاهت وجوهكمُ من معشرٍ نَكُلٍ ... لا ينصرون "إِذا ما حاربوا" صَنَما
قال: فما هو إلاّ أن سمع القوم ذلك حتى ارتجّت مكة، وقام أبو سفيان في جماعة من أشراف قريش، منهم عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أُمية، في جماعة معهم، فاجتمعوا عند الكعبة وتحالفوا وتعاقدوا ألاّ تدخل عليهم مكة في عامهم هذا، وتركتهم يجمعون لك.
فقال رسول الله ﷺ: أمّا الهاتف الذي سمعت فهو سلفع شيطان الأصنام، يوشك أن يقتله الله، إن شاء الله، فسر إلى مكة وانظر ما هم فاعلون ثم تعودُ إليَّ يكسبك الله بذلك أجرًا.
قال: فرجع بشر بن سفيان إلى مكة، فبينا هو يطوف بالبيت، إذا رأته قريش، فهتفت به فجاءهم، فقالوا: إيه يا بشر، هل عندك علم من محمد؟ أتراه يريد الدخول إلى مكة في عامه هذا؟ فقلت: إنما أنا كواحد منكم، ولقد سمعت الهاتف الذي هتف بكم يُؤْذنكم بذلك، وما رأى هذا حقًا.
قالوا: بلى يا بشر إنه لكائن، هذا هُبَل حَرَّكَنا لنصرته، والمحاماة عليه،
1 / 34
وما جَرَّبنا عليه كذبًا قط؛ وليعلمنّ محمدٌ إن جاءنا أنها الفيصل فيما بيننا وبينه.
قال: فبينما هم كذلك، إذ سمعوا من أعلى الجبل صوتًا وهو يقول "من البسيط":
شاهت وجوهُ رجالٍ حالفوا صَنَمًا ... وخابَ سعيُهُم ما أَقصر الهِمَمَا
ما خيرَ في حجرٍ لا يستجيبُ لهم ... إِذا دَعَوا حولهُ وَلاَّهُمُ صَمَمَا
إِنّي قتلتُ عدوَّ الله سلفعةً ... شيطانَ أَوثانكم، سحقًا لمن ظَلَمَا
وقد أَتاكم رسول الله في نفرٍ ... وكلُّهم محرمٌ لا يسفكون دَمَا
حدثنا عليّ بن حرب، قال: سمعتُ أبا المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن عبد المجيد بن أبي عبس، عن أشياخه، قال: لمّا هاجر رسول الله ﷺ، خفي على قريش خبره، فبينا قريش في أنديتها حول البيت، إذا سمعوا صوتًا من أبي قبيس، يقول "من الطويل":
إِنْ يُسلم السَّعدان يصبحْ محمدٌ ... بمكةَ لا يخشى خلافَ المخالفِ
فقالت قريش: أي السعود؟ سعد هذيم؟ سعد تميم؟ سعد مَذحج؟ فلما كانت القابلة سمعوا في ذلك الموضع صوتًا يقول "من الطويل":
1 / 35
يا سعدُ سعدَ الأَوسِ كن أَنت ناصرًا ... ويا سعدُ سعدَ الخزرجين الغطارفِ
أَجيبا إِلى داعي الهدى وتمنّيا ... على الله في الفردوسِ منية عارفِ
قال عليّ بن حرب: وزادني فيه ابن زبّان عنه، فلما سألتُه لم يحفظه:
فإِن ثوابَ اللهِ للطالب الهدى ... جنانٌ من الفردوسِ ذاتُ رفارفِ
فعلمت قريش أَنّ ناصري النبي ﷺ من الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.
حدثنا عبد الله بن محمد البلويّ، بمصر، قال: ثنا عُمارة بن زيد، قال: حدثني عبد الله بن العلاء، قال: حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه: أنّ نفرًا من قريش منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قُصيّ، وزيد بن عمرو بن نُفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث؛
1 / 36
كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، وقد اتخذوا ذلك اليوم من كلِّ سنةٍ عيدًا، وكانوا يعظمونه، وينحرون له الجزر، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه. فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوبًا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردُّوه إلى حاله فلم يلبث أن انقلب انقلابًا عنيفًا، فأخذوه فردُّوه إلى حاله. فانقلب الثالثة. فلمّا رأوه ذلك اغتمّوا له، واعظموا ذلك.
فقال عثمان بن الحويرث: ما له قد اكثر التنكس؟ إنّ هذا لأمر قد حدث.
وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله ﷺ.
فجعل عثمان يقول "من الطويل":
أَيا صنمَ العيد الذي صُفَّ حولَهُ ... صناديد وفدٍ من بعيدٍ ومن قربِ
تكوَّستَ مغلوبًا فما ذاك قلْ لنا ... أَذاك سفيةٌ أم تكوَّست لِلَّعْبِ
فإِن كان من ذنبٍ أَتينا فإِننا ... نبوءُ بإِقرارٍ ونُولي على الذنبِ
وإِن كنتَ مغلوبًا تكوَّست صاغرًا ... فما أَنت في الأَوثان بالسيّد الرَّبِّ
قال: وأخذوا الصنم فردُّوهُ إلى حاله، فما استوى هتف بهم هاتفٌ من الصنم بصوتٍ جهيرٍ، وهو يقول "من الطويل":
تَرَدَّى لمولودٍ أَنارت بنورهِ ... جميعُ فجاج الأَرض بالشرقِ والغربِ
وَخَرَّت لهُ الأَوثانُ طُرًَّا وأُرعدت ... قلوبُ ملوكِ الأَرض طُرًَّا من الرعبِ
ونارُ جميعُ الفرسِ باخت وأَظلمت ... وقد باتَ شاهُ الفرسِ في أَعظم الكربِ
1 / 37
وصُدَّت عن الكهّانِ بالغيبِ حِنُّها ... فلا مخبرٌ عنهم بحقٍّ ولا كذِبِ
فيالَ قصيٍّ ارجعوا عن ضلالكم ... وهبّوا إِلى الإِسلامِ والمنزلِ الرّحبِ
فلمّا سمعوا ذلك خلصوا نجيًّا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا، وليتكم بعض على بعض، فقالوا: أجل.
فقال لهم ورقةُ بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد أخطأوا المَحَجَّةَ، وتكوا دين إبراهيم؛ ما حجر تطيفون به لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضرُّ، يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض، ويسألون عن الحنيفية، دين إبراهيم ﷺ.
وأمّا ورقة بن نوفل فتنصَّرَ، وقرأ الكتب حتى علم علمًا.
وأمّا عثمان بن الحويرث فصار إلى قيصر، فتنصَّرَ، وحسنت منزلته عنده. وأمّا زيد بن عمرو بن نُفيل فأراد الخروج فحبس، ثم إنه خرج بعد ذلك، فضرب في الأرض حتى بلغ الرَّقَّةَ من أرض الجزيرة، فلقي بها راهبًا عالمًا، فأخبره بالذي يطلب.
فقال له الراهبُ: إِنك لتطلب دينًا ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلَّك زمان نبيُّ يخرج من بلدك يبعث بدين الحنيفية.
فلما قال له ذلك، رجع يريد مكة، فثارت عليه لخم فقتلوه.
1 / 38
وأمّا عبيد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبيُّ ﷺ، ثم خرج إلى أرض الحبشة، فلمّا صار فيها تنصَّرَ، وفارق الإسلام، وكان بها حتى هلك هنالك نصرانيًّا.
حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، أبو بكر الوّراق، قال: ثنا عمرو بن عثمان، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن عبد العزيز، قال: حدثني محمد بن عبد العزيز، عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن أنس السُّلمي، عن العباس بن مرداس.
انه كان يغير في لقاح له نصف النهار إذا طلعت عليه نعامة بيضاء عليها
1 / 39
راكب، عليه ثياب بيض مثل اللبن، فقال: يا عباس بن مرداس، ألم تر أنّ السماء كُفَّتْ أحراسها، وأنّ الحرب جُرِّعت أنفاسها، ولأن الخيل وضعت أحلاسها، وأنّ الدين نزل بالبرّ والتقوى، يوم الاثنين ليلة الثلاثاء "مع" صاحب الناقة القصوى؟
قال: فرجعت مرعوبًا، قد راعني ما رأيت وسمعت حتى جئت وثنًا لنا يُدعى الضِّماد وكنَّا نعبده، ونُكلَّمُ من جوفه؛ فكنست ما حوله، ثم تمسَّحتُ به، وقبَّلتُهُ، فإذا صائحٌ من جوفه يقول "من الكامل":
قلْ للقبائل من سُلي كُلِّها ... هلكَ الضِّمادُ، وفازَ أَهلُ المسجدِ
هلكَ الضِّمادُ كان يُعبدُ مَرَّةً ... قبلَ الصَّلاةِ مع النبيّ محمدِ
إِنّ الذي جا بالنبوَّة والهدى ... بعدَ ابن مريمَ من قريشٍ مهتدِ
قال: فخرجت مرعوبًا حتى أتيت قومي. فقصصت عليه القصة وأخبرتهم الخبر، وخرجت في ثلاثمئة من قومي من بني حارثة إلى رسول الله ﷺ، وهو بالمدينة فدخلنا المسجد. فلمّا رآني رسول الله ﷺ، قال لي: يا عباس، كيف كان إسلامك؟ فقصصت عليه القصة. قال: فسُرَّ بذلك، فأسلمت أنا وقومي.
1 / 40