وفي اليوم التالي عدت جميع مرضاي وجعلت زيارة إيفون الأخيرة؛ لكي يتسع لي الوقت لمحاضرتها، ومن حسن الحظ وجدتها أحسن حالا بالرغم مما هي فيه من السقم والهزال والونى، وظهر لي حينئذ أن ثورة انفعالاتها شرعت تخمد. - أراك اليوم أحسن حالا يا مدموازيل إيفون ولي الأمل أن يكون شفاؤك قريبا. - الشفاء والفناء عندي سيان يا دكتور بوشه، وإنما أتمنى الخلاص من هذا العذاب بأي منهما. - أظن أن سبب مرضك الحالي الهواجس المحزنة، فيجب أن تصرفيها وأنا أضمن شفاءك بإذن الله.
فتنهدت قائلة: آه، ليت ذلك في طوقي، كل شيء يستطيعه الإنسان إلا تحويل الفكر عن وجهته. - لا أجهل هذه الحقيقة يا مدموازيل إيفون، وإنما عندي لدفع الأفكار المحزنة المؤلمة وسيلة فلسفية وهي «حب النفس»، أحبي نفسك فوق كل شيء تضحي بكل العالم لأجلها، وحينئذ لا تبالين بغير مسراتك، أرى أن هذه القاعدة هي العلاج الوحيد للأفكار المحزنة والهموم المزعجة؛ لأني لم أجد مريضا بداء الفكر إلا من يهتم بشئون الآخرين.
فابتسمت ابتسامة لطيفة جدا تشف عن تسامي عقلها عن هذه الفلسفة، وانقلبت عن جنبها إلى ظهرها ولم ترد جوابا، وكان سكوتها أفصح دلالة على أنها لم تقتنع بقولي، ولكن لم يكن لها جلد على مجادلتي، وبعد هنيهة قلت لها: زارني المسيو موريس كاسيه أمس، وسألني بتدقيق عنك.
فتململت، وفي الحال أدركت أن الحديث عنه يهيج عواطفها، ولكني لم أفهم البتة لماذا. - أشكر لطفه، أتعرفه من قبل يا دكتور؟ - كلا ولكن معرفتي له أمس كانت كمعرفة عمر، فإني أعجبت بذوقه ولطفه وعظم ثقته بي. - ماذا قلت له عني؟ - قلت: إنك مقبلة على الشفاء بإذن الله، على أنه كان قلقا جدا عليك، ودقق في التساؤل عنك.
بقيت إيفون صامتة كأنها تأبى الخوض في هذا الموضوع؛ ولذلك رأيت أن اقتضاب هذا الحديث أفضل لئلا يسوءها التمادي فيه، فنهضت وودعتها ومضيت وأنا أشعر أني خارج من حضرة ملاك؛ لأن صورة تلك المرأة رسمت أثرا جميلا في صفحة مخيلتي، ولم أزل إلى الآن كلما تنبهت لها ذاكرتي تخيلت رسم فتاة وديعة سليمة الطوية أبية النفس سمحة الخلق.
ولما عدت إلى البيت وجدت بربريا ينتظرني، وفي يده رسالة لي ففضضتها وقرأت:
سيدي الدكتور بوشه
أصبحت اليوم والصداع يجنني والحمى تشويني شيا، وكنت أنتظر أن تخمد قليلا؛ لكي أستطيع أن أزورك في الموعد المعين وأتلقن منك أخبارك السارة عن مدموازيل إيفون مونار، ولكن خاب فألي فهل تتفضل علي بهذا الفضل العظيم، وهو أن تعودني في أفرغ أوقاتك؟ أمتن لك على كل حال.
موريس كاسيه
فشعرت على أثر قراءة هذه الرسالة أني أتوقع لذة من الاجتماع بموريس، والاطلاع على حقيقة صلته بإيفون، فركبت مركبتي والبربري إلى جانب الحوذي يرشده إلى منزل سيده.
Bilinmeyen sayfa