ماذا تعني بقولها: «إن ما يتراءى لك من السرور في صلتك بي وقتي جدا، ولكن الكدر الذي يمازج حياتك بعده يدوم؟» أتعني به ما كانت تنهاني عنه قبلا من الاتحاد بها كزوجة؟ لقد قنعت بما قسمت، فلماذا جفت!
مثل هذه الأفكار خطر لي ألوف، فلم أظن منها واحدا صائبا، وفي مساء اليوم التالي كنت في سبلندد بار، فسمعت اثنين إلى جانبي يذكران اسم إيفون، فانتبهت لحديثهما فسمعت منه ما يأتي: ... إيفون مونار؟ سمعت بها.
كانت محظية الأمير ص، بك، ك، وقبل ذلك كان بيتها شبه حانة يتردد إليه بعض معارفها. - وهي الآن صاحبة حانة؟ - ليست حانة بكل معنى الكلمة، وإنما استأجرت حديثا منزلا في عابدين، وجعلته شبه حانة فهلم بنا نزرها. - تبلصنا بمبلغ كبير بلا فائدة.
لا نمكث طويلا، نشرب قليلا وحينئذ ترى إيفون بجلالها وبهائها ورقتها.
وعند ذلك نهضا وركبا مركبة، فتبعتهما بمركبة أخرى إلى منزلها الجديد، فإذا هو أصغر قليلا من منزلها الأول، انتظرت ريثما صعدا فصعدت والوجد يتدفع مع عواطفي، والجزع يتنازع كل حاسة وشعور في، نقرت على الباب ففتح لي خادم جديد غير خادمها، فأدركت في الحال سر عدم عثوري على خادمها في دار البريد، فقلت له: «افتح لي غرفة إيفون وادعها إلي.»
فقال: تفضل إلى الصالون. - افتح لي غرفة وادعها إلي ولا تدع أحدا يلاحظ أني هنا.
ففتح غرفة قريبة من الباب، وفي الحال دخلت علي فانتين محمرة الوجه فبادرتها بالسؤال مضطربا: أين إيفون؟ - هنا. - أريد أن أراها. - ستأتي عما قليل. - أما وصلت رسالتي إليها؟ - لم أر معها رسالة منك. - لماذا انتقلت إلى هنا؟ - كذا استحسنت. - تركت الأمير؟ - نعم. - لماذا؟ - لا أدري. - لماذا تمكرين علي يا فانتين! أتنسين سريعا عشرتنا الجميلة؟ قولي لي لماذا غيرت إيفون أسلوبها السابق، وعادت إلى الحانة! ولماذا جافتني! - يظهر أنها آثرت هذا الأسلوب لاعتقادها أنه أفضل لها. - ما ذنبي حتى قضت علي بهذا الجفاء المشقي؟ - يلوح لي أنها تريد الاستقلال التام. - تأخرت، ادعيها، ادعيها حالا. - أمهلها ريثما يخرج الزائران اللذان دخلا الآن.
فتململت وتأففت ثم أشارت فانتين لي أن أجلس على المقعد وخرجت، وجعلت أنتظر فأفرغ الصبر تارة، ثم أستمده أخرى فلا ألبث أن أعود فأفرغه، وما مرت ثلاث دقائق حتى عدمت الاصطبار، فأومأت إلى الخادم فأتى، فقلت: «ادع المدموازيل إيفون إلى هنا حالا.»
بعد هنيهة دخلت إيفون وحيت ولكن ليس في تحيتها ما عهدته من الانعطاف، ولا على وجهها مسحة من البشاشة التي تعودت أن أراها، فانقبض قلبي جدا وصغرت نفسي ولم تعد لي الجرأة التي ألفتها في محادثتها كأني لم أكن صديقها الوحيد، على أني تشددت وجذبتها إلي وأجلستها إلى جنبي، وكان الدمع ينبثق من عيني قطرات قليلة، فقلت لها بصوت أجش: ماذا تعنين بما كتبت لي يا إيفون؟ - إن ما كتبته صريح. - أتعنين أنك لم تعودي لي بعد الآن؟ - نعم. - لماذا؟ - ذكرت لك السبب يا موريس. - تعنين أن حبي لك وقتي لا يدوم. - عجيب يا موريس! إن ما كتبته لك واضح الفحوى فلماذا تحاول أن تأوله، أفي حاجة نحن الآن إلى تحقيق إخلاصنا الواحد للآخر؟ - «إذن لماذا تقولين: إن سروري في صلتي بك وقتي؟» - لأني أعلم أن ما قدر لي من العز والبهاء والنضارة قد استنفدته في سني شبيبتي القصيرة، فأنا الآن صبية في العمر، ولكني شيخة في الحياة، إن زهرة حياتي على وشك الذبول يا موريس، فبعد سنة أو سنتين لا تعود تراني إيفون مونار التي تراها الآن، لا تراني إلا هيكلا ماثلا قد تجرد من المحاسن المادية. - إنك تجرحين فؤادي بهذا الكلام يا إيفون، بربك أقصري عنه. - ولكن هي الحقيقة التي أعلمها وأتوقعها، أقولها لك لكيلا تنفق زهو شبيبتك في حب عقيم سريع الزوال، وبعدئذ تبتغي أسلوبا للحياة جديدا؛ فلا تجد لأنك لا تقدر أن تجدد طور الشبيبة البهي المجيد، إن عمر عزي قصير جدا يا موريس، فلماذا تقصر أنت عمر مجدك وسعادتك معي؟ اغتنم زهوك الحالي وعزك الحاضر لحب خصيب دائم هنيء. - ألعلك تهزئين بي أو توبخينني لسبب لا أعلمه؟ - بل هي الحقيقة التي أعرفها وأوكدها فأعلنها لك.
ففكرت في هذا الكلام ولم تخف علي الحكمة فيه، ولكني لم أكن حينئذ لأكترث بمستقبلي فلم يقتنع ضميري أن إيفون تبعدني عنها حرصا على مستقبلي وضنا بسعادتي، بل خطر لي أنها تغيرت علي فلجأت إلى هذا الأسلوب في ردي عنها بالحسنى والملاينة. فنهضت من مكاني هاما أن أمضي وقلت: تقدرين يا إيفون أن تقولي لي بصراحة: «لم أعد أحبك»، فلماذا هذه المراوغة؟ إنك كاذبة منافقة.
Bilinmeyen sayfa