[مقدمة المصنف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وآله وأصحابه أجمعين، قال الشيخ الإمام علم الهدى علامة الورى، الذي أطبق علماء الأمة على علو شأنه، ورفعة منزله ومقداره، أعني به ناصر الحق والدين، المعروف بالقاضي البيضاوي، أسكنه الله تعالى حظائر القدس مع العلماء الأبرار، والسعداء الأخيار، آمين. في أول تفسيره المسمى بأنوار التنزيل، وأسرار التأويل (بسم الله الرحمن الرحيم) والباء فيه للاستعانة أو المصاحبة والمعنى مستعينا بالله أشرع فيما قصدته من التصنيف أو ملابسا أو مصاحبا باسم الله على وجه التيمن به أشرع. وقلنا مستعينا بالله دون بسم الله لأن المستعان به في الحقيقة هو الله تعالى كما يدل عليه القصر المستفاد من قوله: إياك نستعين وذكر اسمه تعالى إنما هو لزيادة التعظيم ثم قال: الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده. ولام الملك في قوله تعالى:
الحمد لله أفاد اختصاص جنس الحمد به تعالى إن حمل تعريف الحمد على الجنس، واختصاص جمع أفراد المحامد به تعالى إن حمل على الاستغراق مع أن اختصاص الجميع به تعالى يفهم من حمله على الجنس أيضا لأن اختصاص الجنس به تعالى يستلزم اختصاص جميع المحامد به تعالى. وعبر عن المحمود أولا باسم الذات ثم لكونه منزلا للقرآن على
Sayfa 7
أشرف نوع البشر وأكمله تنبيها على أن له تعالى استحقاقا ذاتيا للحمد كالاستحقاق الوصفي.
والمراد بالاستحقاق الذاتي كونه تعالى مستحقا للحمد بجميع صفاته الثبوتية والسلبية وبالاستحقاق الوصفي كونه مستحقا لذلك باعتبار اتصافه بالوصف المذكور مع قطع النظر عن اتصافه بغيره. والاستحقاق الذاتي لا يتصور إلا في الباري تعالى ولذلك تراهم يذكرون في مقام الحمد اسم الذات أولا والوصف ثانيا، وفي مقام التصلية يذكرون وصف الرسول صلى الله عليه وسلم أولا واسمه ثانيا على طريق عطف البيان. والإنزال والتنزيل عبارتان عن تحريك الشيء مبتدئا من الأعلى إلى الأسفل وبينهما فرق من جهة أن التنزيل يدل على النزول تدريجا والإنزال يدل على النزول دفعة، وذلك لأن بناء التفعيل للتكثير وكثرة النزول إنما يكون بكونه على سبيل التدريج. ثم إن المتحرك قسمان: أحدهما: متحيز بالذات كالجواهر الفردة وما يتركب منها وثانيهما: متحيز بالتبع وهو الأعراض القائمة بموضوعاتها فإن العرض تابع لموضوعه في التحيز سواء كان قارا في الموضوع كالسواد والبياض أوسيا لا مترتب الأجزاء ممتنع البقاء كالحركة والكلام اللفظي، وكل واحد من القسمين المذكورين تعرض له الحركة حقيقة إلا أن القسم الأول منهما تعرض له الحركة أصالة وبالذات بخلاف القسم الثاني فإنه لا يتحرك أصالة لاستحالة انتقال الأعراض عن موضوعاتها، وإنما يتحرك بتبعية محله ضرورة تحرك الحال بحركة المحل كالجسم الأسود المتحرك إذا تحرك بحركة تحرك ما حل فيه من السواد والكلام تبعا له. ثم إن الكلام النفسي الذي هو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى لا يتصور فيه الحركة والنزول لا بالذات وهو ظاهر لامتناع انتقال شيء من صفات الله تعالى عنه، ولا بتبعية موصوفه الذي هو ذات الواجب تعالى وتقدس لاستحالة الحركة عليه حتى تتحرك صفاته تبعا له، وإنما المنزل هو الكلام اللفظي الحادث المركب من الألفاظ والحروف المؤلفة من الآيات والسور وهو القرآن المعجز المتحدي به لكون كلام الله حقيقة على أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليف المخلوقين لا على معنى أنه صفة قائمة بذاته تعالى لأنه حادث ويمتنع قيام الحوادث به تعالى. ويجوز أن يخلق الله تعالى أصواتا مقطعة مؤلفة على هذا النظم المخصوص فيأخذها جبريل عليه الصلوة والسلام ويخلق له علما ضروريا أنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام النفسي القديم الذي هو كلام الله على معنى أنه صفة له قائمة به مع أن الأشاعرة يجوزون أن يسمع كلامه تعالى الأزلي بلا صوت وحرف كما يرى ذاته تعالى في الآخرة بلا كم وكيف. فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى لجبريل عليه السلام وهو في مقامه عند سدرة المنتهى سماعا لكلامه الأزلي وإن لم يكن من جنس الحروف والأصوات ثم يقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم. وقيل: أظهر الله تعالى في
Sayfa 8
اللوح المحفوظ كتابة هذا النظم المخصوص ونقشه فقرأه جبريل عليه السلام وحفظه وخلق الله تعالى فيه علما ضروريا بأنه هو نفس العبارة المؤدية للمعنى القديم على أن إنزال الملك الكتاب السماوي لا يتوقف على سماع الفظ لجواز أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا لا جسمانيا بأن يلهم الله تعالى الملك ذلك المعنى القديم ويخلق فيه قدرة على التعبير عنه، ويسمى النظم الصادر عنه كلام الله تعالى باعتبار كونه عبارة عن الكلام النفسي دالا عليه. ثم إن الكلام اللفظي لكونه غير متحيز بالذات بل هو عرض قائم بالموضوع لا يكون إنزاله وتنزيله إلا تبعا لحامله ومبلغه فإنه تعالى لما نزل جبريل عليه السلام وحركه إلى أسفل وهو حامل للقرآن بأن أمره بالحركة إلى أسفل فتحرك هو بأمره تعالى فقد تحرك القرآن القائم به تبعا لحركته فينبغي أن يكون قوله: «نزل الفرقان» مجازا على طريق إطلاق اسم العرض الحال على المحل الذي هو ذلك الحامل فإنه هو المنزل بالذات والأصالة والقرآن منزل تبعا له، والمعنى نزل القرآن بواسطة تنزيل جبريل عليه السلام. ثم إن القرآن العظيم يصح أن يوصف بأنه منزل ومنزل لأنه تعالى أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأمر السفرة الكرام بانتساخه ثم نزله إلى الأرض إلى النبي عليه الصلاة والسلام منجما موزعا على حسب المصالح ووقوع الحوادث إلا أن في إنزاله إلى السماء الدنيا قولين: أحدهما: ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ثم نزل إلى الأرض في عشرين سنة. وثانيهما: أنه أنزل من اللوح إلى السماء الدنيا كل سنة مقدار ما يكون منزلا في سنة واحدة بحسب المصالح، فعلى هذا القول يقع الإنزال الدفعي عشرين مرة وعلى القول الأول يقع مرة واحدة. وإنما حمد الله تعالى على التنزيل دون الإنزال على أن التنزيل أعم وأكمل نعمة في حقنا بالنسبة إلى الإنزال إذ لا تظهر لنا فائدة في نزوله جملة إلى السماء الدنيا. والقرآن في الأصل مصدر بمعنى الجمع وبمعنى القراءة أيضا. يقال: قرأت الشيء قرآنا إذا جمعته. ويقال أيضا: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا إذا تلوته، ثم نقل إلى هذا الجموع المقدر المنقول إلينا من دفتي المصاحف أي من جنبيها نقلا متواترا. وقد يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض من أبعاضه وهذا هو المراد هنا بقرينة لفظ التنزيل. وفي بعض النسخ وقع لفظ «الفرقان» بدل «القرآن» وهو في الأصل مصدر بمعنى الفرق وهو الفصل بين الشيئين سمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل بتقديره وبيانه، أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفرقا بعضه عن بعض في الإنزال وإنما قال: «على عبده» دون نبيه أو رسوله إشارة إلى أن العبودية أجل صفاته عليه الصلاة والسلام وأشرفها وذلك لأن أشرف ما سوى العبودية من صفاته عليه
Sayfa 9
الصلاة والسلام هي الرسالة، وعبودية الرسول لكونها انصرافا من الخلق إلى الحق أجل وأشرف من رسالته لكونها بالعكس فإنها انصراف من الحق إلى الخلق لتبليغ أحكام المرسل.
وليس المعنى أن عبودية غير الرسول أفضل من الرسالة فإنه لم يقل به أحد وإنما الكلام في النسبة من أوصاف الرسول أيها أفضل فكما أن القرآن المعظم لكونه معجزا باقيا ومبينا لجميع ما يتعلق به من سعادة المكلفين في النشأتين كان أجل الكتب السماوية وأكملها، فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أشرف أفراد نوع البشر وأكملها فكان معنى الكلام الحمد للسلطان المستجمع لجميع صفات الجلال والإكرام الذي نزل أشرف الكتب السماوية وأفضلها على أشرف أفواه نوع البشر وأفضلهم.
قوله: (ليكون للعالمين نذيرا) الظاهر أن اسم «كان» ضمير العبد بدليل قوله تعالى:
يا أيها المدثر قم فأنذر [المدثر: 1 - 2] يحتمل أن يكون ضمير القرآن بشهادة قوله تعالى:
بشيرا ونذيرا [البقرة: 119] وآيات أخرى والمراد بالعالمين الإنس والجن فإنهم قد اتفقوا على أن الجن أيضا مكلفون بالشرائع وإن الكافر منهم يعذب بجهنم لقوله تعالى: لأملأن جهنم [ص : 85] من الجنة والناس أجمعين وإن اختلف في دخول من آمن منهم الجنة قال به أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. ثم قيل: ليس لهم ثمة أكل ولا شرب بل غذاؤهم فيها شم كما في الدنيا. وقيل: يأكلون ويشربون كما في الإنس. وقال بعضهم: لا يدخلونها ولا ثواب لهم إلا النجاة من العذاب ثم يقال لهم: كونوا ترابا كالبهائم. ونسب الإمام الرازي هذا القول إلى أبي حنيفة. وقال الفضل الأموي: إن أبا حنيفة توقف في كيفية ثوابهم قائلا بأن الله تعالى لم يبين في القرآن ثوابهم ونحن نعلم يقينا أن الله تعالى لا يضيع إيمانهم فيعطيهم ما يشاء. والنذير بمعنى المنذر أي المخوف ويجوز أن يكون بمعنى الإنذار به عليه السلام كالنكير بمعنى الإنكار به، واقتصر في تعليل التنزيل على ذكر الإنذار مع أنه عليه السلام كما أنه منذر لأهل العصيان والضلال مبشر لأهل الإيمان والطاعة بناء على أن الإنذار هو المقصود الأصلي الأولى من الإرسال والتنزيل، فإن الطبيب الذي يباشر معالجة مرض القلب لا بد له أن يبدأ أولا بتنقيته عن العقائد الزائغة والأخلاق الرديئة والأعمال القبيحة المكدرة للقلب بأن يسقيه شربة الإنذار بسوء عاقبة تلك الأمور وبعد تنقيته عن المهلكات يعالجه بما يقويه على مواظبة الطاعات بأن يسقيه شربة التبشير بحسن عاقبة الأعمال الصالحة، كما أن طبيب الأمراض البدنية يبدأ أولا بتنقية البدن عن الأخلاط الرديئة ثم يباشر المعالجة بالمقويات. ولهذا اقتصر الله تعالى على ذكر الإنذار في مبدأ أمر النبوة حيث قال: يا أيها المدثر قم فأنذر ولأن الإنذار شامل لجميع المكلفين من العصاة والمطيعين فإنهم جميعا
Sayfa 10
فتحدى بأقصر سورة من سوره مصاقع الخطباء، من العرب العرباء، فلم يجد به قديرا، ينتفعون به وإن اختلف الحال بحسب اختلاف المحال فإن البعض منهم ينطر بنار الجحيم والبعض الآخر بانحطاط الدرجات في دار النعيم والبعض الثالث بنار الحجاب عن مطالعة جمال رب رحيم.
قوله: (بأقصر سورة من سوره) الظاهر أنه معطوف على قوله «نزل» وأن المتحدي هو الله تعالى حيث قال : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله [البقرة: 23] «وإن» الأقصرية مستفادة من تنكير سورة في قوله: فأتوا بسورة من مثله ويجوز أن يكون المتحدي هو العبد بأن يرجع ضمير فتحدى إليه ويستفاد الأقصرية من التنكير الواقع في قوله تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله [يونس: 38] والتحدي طلب المعارضة من صاحبك بإتيانه مثل ما فعلت أنت يقال: تحديت فلانا إذا بارزته في فعل ونازعته الغلبة وهو مشتق من الحد فإن الحديين متعارضان فيه ويعني كل واحد منهما مثل ما أتى به صاحبه. والحداء والحد وسوق الإبل والغناء لها يقال: حدوت الإبل حدوا وحداء إذا استقتها مع الغناء لها. والمعنى أنه تعالى طلب ممن ارتاب من أن القرآن منزل من عند الله تعالى أن يعارضوه ويأتوا بمثل أقصر سورة في الاشتمال على كمال الفصاحة والبلاغة. والمصاقع جمع مصقع وهو البليغ المتقدم على أقرانه في المحافل بقوة فصاحته وكمال بلاغته من صقع الديك إذا صاح. والعرب العرباء أي الخلص منهم من قبيل قولهم: ليل أليل وظل ظليل فإنهم إذا أرادوا المبالغة في شيء يأخذون من لفظه صفة ويؤكدونه بها. والظاهر أن الباء في قوله: «فلم يجد به قديرا» بمعنى على وأنها متعلقه بقوله: «قديرا» فإن الباء قد تكون بمعنى على كما في قوله تعالى ومنهم: من إن تأمنه بقنطار [آل عمران: 75] أي على قنطار أي. فلم يجد من يقدر على ذلك أي على إتيان مثله فضلا عن وجود من يعارضه بالفعل فإن عدم الوجدان كناية عن عدم الوجود لأن عدم وجدانه من عالم الغيب والشهادة سبب لازم لعدم وجوده في حد نفسه فيصح أن يكنى به عنه. فإن قلت: القدير من صيغ المبالغة مثل شريف وكريم فيكون عدم وجدان القدير نفيا لوجدان ما هو كامل القدرة ونفيه لا ينافي ثبوت من يقدر عليه في الجملة. أجيب عنه: بأن المبالغة ليست بلازمة لصيغة فعيل مطلقا بل إنما تفيدها إذا كانت مشتقة من باب فعل بضم العين كما في المثالين المذكورين به. ولفظ قديرا ليس مأخوذا من ذلك الباب فلا دلالة فيه على المبالغة حتى يلزم ما ذكرتم، والفرق بين ما بابه فعل وغيره أن باب فعل لا يستعمل إلا في أفعال لازمة لفاعلها فيكون معنى الصفة المشبهة المشتقة من ذلك الباب وإن ثبت لها في أفعال لازمة لفاعلها فيكون معنى الصفة المشبهة المشتقة من ذلك الباب وإن ثبت لها الفعل لازما غير منفك عنها وما لم تكن مشتقة منه لا تدل على المعنى وإنما تدل على مجرد
Sayfa 11
وأفحم من تصدى لمعارضته من فصحاء عدنان، وبلغاء قحطان، حتى حسبوا أنهم سحروا تسحيرا. ثم بين للناس ما نزل إليهم حسبما عن لهم من مصالحهم ثبوت الفعل لفاعله ولا تدل على المبالغة. قوله: (وأفحم) أي واسكت لغاية فصاحته وكمال بلاغته من تصدى لمعارضته. والظاهر أنه معطوف على قوله: «فلم يجد به قديرا» بين بالقرينة الأولى عدم قدرتهم على ذلك رأسا وبالثانية عدم ظهور قدرتهم على معارضته وإتيان مثله بعد التصدي بمعارضته ممن توهم أن له قدرة ما على ذلك قبل التصدي. وفي أكثر النسخ «افحم» بدون الواو إما على الاستئناف جوابا عما يقال من أين علم عدم وجود من يقدر على ذلك رأسا؟ فكأنه قيل في الجواب إنه أعجز كل الفصحاء والبلغاء فلزم عجز الكل ضرورة، وإما على أنه تأكيد وتقرير لما سبق من نفي قدرة فصحائهم وبلغائهم عموما على سبيل الكناية لأن القدرة على ذلك إذا انتفت عن أكملهم في البلاغة لزم انتفاؤها عن الجميع فنفيها عن الكمل باعتبار دلالته على هذا اللازم يكون تأكيدا لما سبق. والمراد بعدنان وقحطان قبائل العرب المشهورة بكمال الفصاحة والبلاغة. قوله: (حتى حسبوا أنهم سحروا تسحيرا) إذ لم يهتدوا إلى التفرقة بين السحر والمعجزة. ثم إن المصنف لما فرغ من تحقيق إعجاز القرآن شرع في بيان أسلوبه في الدلالة على ما فيه من الحكم والإحكام وفي كيفية تكميله وإرشاده للأنام فقال: (ثم بين للناس) أي لكل نوع البشر عموما وإن لم ينتفع البعض بذلك التبيين ولم يتبين له المراد لعدم تبصره وسلوكه طريق الانتفاع بذلك البيان، وأشار بكلمة «ثم» إلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن لم يجز تأخيره عن وقت الحاجة إلى العمل بمضمونه، وأخذه من قوله تعالى: ثم إن علينا بيانه [القيامة: 19] فإن الآيات القرآنية منها محكمات اتضح معناه وخلا عن الإجمال وتعدد الاحتمال بأن يظهر عند العقل أن المعنى هذا لا غير، ومنها متشابهات وهي ما لم تكن كذلك بل يكون لها محتملات عند العقل لا يتضح المراد منها لإجمال أو مخالفة ظاهر أو نحو ذلك فينغلق باب الاطلاع على المراد إلا ببيانه بالتنصيص على المقصود أو بنصب ما يدل عليه كالقياس، ودليل العقل والمحكم والمتشابه بهذا المعنى غير ما اصطلح عليه الحنفية لأن المحكم بهذا المعنى يتناول الظاهر والنص والمفسر وأن المتشابه يتناول الخفي والمشكل والمجمل ولا مشاحة في الاصطلاح. قوله: (حسبما عن لهم من مصالحهم) أي بين ما نزل إليهم قدر ما ظهر واعترض لهم من مصالحهم يقال: ليكن عملك بحسب ذلك أي بقدره وعدده، وقد تسكن السين في الضرورة. ويقال: عن لي كذا يعن بضم العين وكسرها عنا أي سنح ولاح واعترض. وقوله: «من مصالحهم» بيان لما وفيه إشارة إلى ما وقع عليه الاتفاق من أنه تعالى يراعي مصالح عباده إلا أن ذلك عندنا بطريق التفضل وعند المعتزلة بطريق الوجوب.
Sayfa 12
ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب تذكيرا، فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هن رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا، قوله: (ليدبروا) أي ليتدبروا أو يتفكروا في آياته تفكرا يفضي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من المعاني اللطيفة المستنبطة بالتأويلات الصحيحة، واللام فيه متعلقة بنزل أو بين والتذكر إما بمعنى الاتعاظ أو استحضار ما هو كالمركوز في العقول لفرط التمكن من معرفته بما نصب من الدلائل الدالة عليه، والإلباب جمع لب وهو العقل خص العقلاء بالتذكر لأن غيرهم من المتدبرين لا ينتفعون بها. وقوله: «تذكيرا» مصدر من غيره لفظ فعله كقوله تعالى: وتبتل إليه تبتيلا أو حال بمعنى مذكرين فإن العالم كما يجب عليه العمل بموجب علمه يجب عليه أيضا إعلام غيره. قوله: (فكشف) عطف على قوله بين على طريق عطف تفصيل المجمل على المجمل كما في قوله تعالى: ونادى نوح ربه فقال [هود: 45] والقناع ما تستر به المرأة رأسها وهو أوسع من المقنعة، والانغلاق انسداد الباب وإضافة القناع إليه من قبيل أضافة المشبه به إلى المشبه كلجين الماء أي ماء كالفضة في البياض والصفاء شبه الآيات القرآنية تارة بالنفائس المخزونة وأخرى بالعرائس المحتجبة على طريق الاستعارة بالكناية وأثبت لها في الأولى الانغلاق وفي الثانية القناع على طريق التخييل، ففيه استعارتان مكنيتان واستعارتان تخييليتان فإن قيل: إذا اتضح معاني المحكمات ولم يبق فيها احتمال آخر ولا يوجد فيها انغلاق فكيف يستقيم قوله فكشف قناع الانغلاق عن آيات محكمات؟ أجيب بأن الاحتمال المنفي عن المحكمات هو الاحتمال الناشىء عن الدليل وانتفاؤه لا ينافي ثبوت مطلق الاحتمال، ولو سلم أن المنفي هو مطلق الاحتمال فالمراد بالكشف المتعلق بالمحكمات إنزالها مكشوفة مبينة كما يقال: ضيق فم الركية أي اجعله ضيقا من أول الأمر. والرمز في الأصل مصدره ومعناه الإشارة بالشفتين أو الحاجب وهو ههنا اسم بمعنى الرامز مطلقا ولذلك جمع ولو بقي على أصل المصدرية لما جمع، والخطاب في الأصل توجيه الكلام نحو الحاضر وأريد به ههنا الكلام الموجه للإفهام مطلقا والظاهر أن إضافة الرموز إليه من إضافة الجزء إلى الكل كيد زيد أو من أضافة الجزئي إلى الكلي كخاتم فضة، والمعنى هن رامزات من الخطاب إلى المراد منها رمزا خفيا على أن تكون كلمة «من» في قولنا من الخطاب للتبعيض على تقدير أن تكون إضافة الرموز من قبيل إضافة الجزء إلى الكل، وعلى تقدير أن تكون من قبيل إضافة الجزئي إلى الكلي تكون من للتبيين. وصف المحكمات بأنهم أم الكتاب أي أصله لكونها في أنفسها متضحة المعاني ويرجع إليها في تأويل المتشابهات وبيان المراد منها، ووصف المتشابهات بأنهن رموز الخطاب على طريق رجل عدل. قوله : (تأويلا وتفسيرا) حالان من فاعل كشف بمعنى مؤولا ومفسرا. والتأويل
Sayfa 13
وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق، لينجلي لهم خفايا الملك والملكوت، وخبايا صرف الكلام إلى بعض محتملاته وترجيحه على سائر المحتملات بدليل دعا إليه مما يتعلق بالدراية كما إذا كان اللفظ مشتركا بين معاني متعددة محتملا لكل واحد منها فيحمل اللفظ على بعض تلك المعاني لكونه موافقا للأصول من الآية المحكمة أو الحديث المتواتر أو إجماع الأمة فتعين ذلك المعنى بهذا الطريق. هو التأويل وهو من الأول الذي هو الرجوع والانصراف سمي تأويلا لما فيه من إرجاع اللفظ إلى ما يقتضيه الدليل فإذا وقع الكلام المحتمل للمعاني المتعددة في القرآن أو الحديث فلا بد من عرضه على الأصول الشرعية من آية محكمة أو حديث متواتر أو إجماع الأمة، فإن وافق الأصول ووافق القواعد المقررة عند أرباب العربية أيضا فصحيح وإلا فهو فاسد لكونه قولا بمجرد التشهي. فظهر أن التأويل لا بد أن يكون فيه مدخلا للرأي والدراية بخلاف التفسير فإنه لا مدخل لهما فيه بل هو منوط بالنقل والرواية فقط فإنه عبارة عن تبيين المعنى وكشفه مستندا إلى النقل والسماع كالإخبار عن سبب نزول الآية وبيان من نزلت فيه ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا من شهد النزول وعاين السبب وهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فجاز لهم التفسير لتمكنهم من كشف المعنى عن العلم الحاصل بالمعاينة بخلاف غيرهم فإنهم لو أخبروا بشيء من ذلك من غير أن يسندوه إلى من شهد النزول فذلك تفسير بالرأي. وقد أوعد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». وما جاء عن السلف والفقهاء المجتهدين من استنباط معاني القرآن بالرأي والاجتهاد فذلك تأويل لا تفسير والذي دعاهم إلى ذلك أن الله تعالى جعل القرآن هدى للناس يرجع إليه في جميع ما يحتاج إليه في باب العمل والاعتقاد وليس كل ذلك منصوصا في القرآن فوجب أن يكون بعضه ثابتا بدلالة النص وإشارته واقتضائه لا يستخرج ذلك إلا بالرأي والعرض على الأصول فهذا هو الذي دعاهم إلى استنباط بعض المعاني بالرأي والاجتهاد. والتفسير مأخوذ من الفسر وهو مقلوب من السفر وهو الكشف والإظهار يقال: أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه، وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت نقابها ومنه سمي السفر سفرا لأنه يظهر عن أخلاق الرجال. قال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما لغة كما يتقارب لفظهما لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول والسفر لإبراز الأعيان للأبصار.
قوله: (وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق) عطف على قوله «فكشف القناع عن المحكمات والمتشابهات تأويلا وتفسيرا» فيكون مجموع الكشف والإبراز تفصيلا للتبيين المذكور سابقا. ذكر أولا على سبيل الإجمال أنه تعالى بين الفرقان المنزل على حسب المصالح ليكون ذلك مؤديا إلى تدبرهم وتذكرهم ثم فصل طريق التبيين فقال إنه تعالى كشف
Sayfa 14
عنه القناع فاتضح معناه الذي هو صورة ذهنية دل عليها بالألفاظ المنزلة ثم ذكر أنه تعالى بواسطة كشف القناع عنه وإيضاح معناه وأبرز وأظهر غوامض الأعيان الخارجية التي هي أعيان عالم الشهادة وعالم الغيب وعالم الأرواح وعالم الأشباح فإن العبارات تدل على معانيها التي هي صورة ذهنية وهي تدل على الأعيان الخارجية، وبتبيين المنزل على الوجه المذكور ينجلي لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت فعلى هذا يكون المراد بالحقائق أعيان عالم الشهادة وبالدقائق أعيان عالم الغيب وبالغوامض واللطائف ما خفي على الإنسان دركه من العالمين. فمعنى «إبراز غوامض الحقائق» إظهار ما خفي من عالم الشهادة، ومعنى «إبراز لطائف الدقائق» إظهار ما خفي من عالم الغيب فتكون الإضافة في الموضعين بمعنى اللام.
ثم علل الكشف والإبراز المذكورين بقوله: «لينجلي لهم» أي لأولي الألباب والعقول.
والخفايا جمع خفية والخبايا جمع خبية وكلاهما بمعنى مخفية يقال: خبأت الشيء إذا سترته وأخفيته، والقدس بسكون الدال وضمها الطهر والتنزه عن شوائب النقصان وإضافته إلى الجبروت بيانية وهو الطاهر والمعنى لينكشف لهم تقدس الذات وتنزهه عن شوائب النقصان الذي هو اتصافه بالصفات السلبية، فإن الجبروت من الجبر بمعنى القهر كالجلال فإنه أيضا بمعنى القهر فإنه يقال صفات الجلال وصفات الجبروت ويراد صفات القهر وهي الصفات السلبية والقهر لما كان منبئا عن سلب القوة مستلزما ما له ذكروا ما يدل على القهر وأرادوا السلب فقالوا: صفات الجلال والجبروت وأرادوا الصفات السلبية. ثم إنهم قد يكتفون بلفظ الجبروت عن ذكر الصفات فيذكرون لفظ الجبروت مفردا ويريدون الصفات السلبية، ومنه قول المصنف: «قدس الجبروت» أي تقدس الذات وتنزهه عن شوائب النقصان الذي هو جبروته واتصافه بالصفات السلبية فزيدت الواو والتاء على لفظ الجبر للمبالغة كما زيدتا على لفظ الملك فقيل: ملكوت فإنه فعلوت من ملك ومعناه الملك إلا أن في الملكوت من المبالغة ما ليس في الملك، وكذا الرهبوت فإنه بمعنى الرهبة وهي الخوف إلا أن الأول أبلغ، ثم إن الملك قد يستعمل بمعنى السلطنة والتصرف والاستيلاء وقد يستعمل بمعنى المملكة وهي موضع الملك ومنه مالك الملك [آل عمران: 26] في أسماء الله تعالى فإن الملك فيه بمعنى المملكة والمالك بمعنى القادر التام القدرة والموجودات كلها مملكة واحدة والله تعالى مالكها وقادرها تنفذ مشيئته فيها كيف يشاء إيجادا وإعداما. والظاهر أن الملك في قوله: «لينجلي لهم خفايا الملك والملكوت» بمعنى المملكة فيكون الملكوت بمعنى المملكة التي هي أعظم وأوسع من الملك، فيحتمل أن يراد بالملك عالم الإنس وأن بدن كل شخص مملكة واحدة للروح الناطقة ومحل دلالتها وبالملكوت عالم الآفاق، وأن يراد بالملك عالم
Sayfa 15
قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا. ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها، من نصوص الآيات والماعها، ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا. فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فهو في الدارين حميد وسعيد، ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه الشهادة ويقال له عالم الخلق وبالملكوت عالم الغيب ويقال له عالم الأمر وبالجبروت عالم الكروبيين وهم الملائكة المقربون، والكروب فعول من كرب بمعنى قرب وقوله: «ليتفكروا» متعلق بقوله: «لينجلي». قوله: (فيها) أي في تلك المعلومات المنكشفة المبرزة تفكيرا أي تفكرا والمقصود من التفكر في المصنوعات أن يستدلوا بها على عظم شأن صانعها وباهر سلطانه ليزدادوا خوفا منه وطمعا ويجتهدوا في طلب مرضاته. قوله: (ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها) عطف على قوله: «كشف» أو «أبرز» لأن هذا التمهيد من جملة المبنيات للمنزل. والقواعد جمع قاعدة وهي قضية كلية مشتملة على أحكام جزئيات موضوعها إجمالا فيتعرف منها تلك الأحكام بأن تضم تلك القاعدة إلى صغرى سهلة الحصول مثل قول الأصولي: ما أمر به الشارع واجب، فإذا ضم هذا القول إلى قولنا: الصلاة مما أمر به الشارع مثلا يخرج منهما الحكم الشرعي الفقهي من القوة إلى الفعل وهو قولنا: الصلاة واجبة. والمراد بتمهيد القواعد التي يستخرج منها أحكام جزئيات موضوعها أن يوفق المجتهدين لتحصيلها وإقدارهم على استخراجها وإثباتها فإن كل ما يكون من العلماء من وجوه التأويل بل وطرق الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية وغير ذلك راجع إليه تعالى، فإن اهتداء العلماء إلى ذلك إنما هو بتوفيق الله تعالى وإقداره إياهم على ذلك وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله [الأعراف: 43] وقوله: «وأوضاعها» عطف على قواعد الأحكام وما فيه من الضمير المجرور راجع إلى الأحكام والمراد بأوضاع الأحكام العلل والمعاني الموضوعة لإفادة الأحكام كالطواف في حديث سؤر الهرة. قوله: (من نصوص الآيات) حال من الأحكام وأوضاعها أو صفة لهما أي مستنبطين أو المستنبطين منها. والمراد بنصوص الآيات عباراتها المسوقة لإفادة المعاني وبإلماعها إشاراتها ودلالاتها واقتضاءاتها، والإلماع جمع لمع كضوء وأضواء وزنا، ومعنى.
قوله: (ليذهب) علة لمهد أي مهد الله تعالى ذلك ليزيل عنهم القذر جهلا كان أو ذنبا فإن الحكمة الإلهية في شرع الأحكام وبيان الحلال والحرام أن يعرفوها ويعملوا بموجبها فبمعرفتها يزول قدر الجهل وبالعمل بموجبها يزول قذر الذنب فتحصل الطهارة الكاملة، فلهذا قال: ويطهركم تطهيرا [الأحزاب: 33] حتى يستعدوا ويصلحوا للتمكن والاستقرار في حظيرة القدس فيفوزوا بمشاهدة جمال ذي الجلال والإكرام. ثم إن المصنف لما ذكر أنه تعالى كما يستحق الحمد لذاته يستحقه أيضا بسبب تنزيله القرآن المعجز على أشرف أفراد
Sayfa 16
يعش ذميما ويصل سعيرا، فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كل مقصود، نوع البشر وتبيينه للناس بكشف معانيه وإبراز أحوال الأعيان الخارجية من عالمي الغيب والشهادة وتمهيد قواعده التي تستخرج منها الأحكام الجزئية، ذكر أن المكلفين في الاهتداء بالمنزل المذكور على ثلاثة أقسام: الأول من كان له قلب، والثاني من ألقى السمع وهو شهيد، والثالث من أطفأ نبراسه أي مصباحه الذي هو فطرته السليمة التي خلق الناس كلهم عليها كما قال الله تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها [الروم: 30] ووجه انقسامهم إليها هو أن كل إنسان في مبدأ ولادته مخلوق على فطرة الإسلام أي على التمكن من تحصيله والاستعداد لقبوله وهي الفطرة السليمة الخالية عن العقائد الباطلة والأخلاق الرديئة المستعدة لقبول الحق المبين، ثم إنهم عند بلوغهم أوان التكليف واستماعهم نداء صاحب الشرع القويم ودعوته إلى الصراط المستقيم صاروا قسمين: القسم الأول من اشتعل نور فطرته الأصلية وأثمرت شجرة قابليته الفطرية بأن أجاب من دعاه إلى الرشاد وسلك ما هداه إليه من سبل السداد، والقسم الثاني من أطفأ نور فطرته السليمة وأبطل قابليته الفطرية ولم يتنبه من رقاد غفلته بالنداء وأصم واستكبر واستغشى ثوب الردى. والقسم الأول فرقتان:
فرقة بلغت بإجابة الدعوة واتباع الشريعة إلى حيث تنورت رياض بصيرتها وتوقدت أنوار معرفتها حتى تمكنت من التفكر في حقائق القرآن ودقائقه ومن الاطلاع على نكته والوقوف على دقائقه ومن الغوص في لجج معانيه العميقة لاستخراج لأليه واستنباط عجائب مكنوناته، وفرقة لم تبلغ إلى هذه المرتبة ولم تزد على ما نالته من شرف إجابة الدعوة وقبول الحق وسلوك سبيله ولم يتيسر لها الارتقاء إلى مدارج الفضائل العلمية ومصاعد الكمالات العرفانية لعدم تجرده عن الشواغل البشرية والصوارف النفسانية لكنه مصغ لاستماع الحق وجامع حواسه عن التفرق إلى ما لا يعنيه وهو حاضر القلب يعلم ما يتلى عليه ويفهم ما يلقى إليه.
فالمصنف أشار إلى الفرقة الأولى بقوله: «فمن كان له قلب» والتنكير فيه للتعظيم أي قلب كامل خالص عن الشواغل النفسانية مكمل بالمعارف الإلهية والمعارف الربانية، وإلى الفرقة الثانية بقوله: «أو ألقى السمع وهو شهيد» أي حاضر بقلبه ليفهم ما بلغ إليه من التنزيل الإلهي وما فيه من التكاليف ليعمل بموجبها وحكم على كلا الفريقين بأن كل واحد منهما حميد في الدنيا وسعيد في العقبى، وأشار إلى القسم الثالث بقوله: «ومن لم يرفع إليه رأسه» أي لم يلتفت إليه إيثارا للبطالة العاجلة على سعادة الدارين «وأطفأ نبراسه» أي مصباحه والمراد به الفطرة السليمة التي هي بمنزلة المصباح في كونها وسيلة إلى نيل المطلوب. قوله: (يعش ذميما في الدنيا ويصل سعيرا) أي يدخل جهنم في الآخرة يقال: صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها ويقال: صلى فلان النار بالكسر يصلي صليا أي احترق. وفي
Sayfa 17
صل عليه صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه، وعلى من أعانه وقرر بنيانه تقريرا، بعض النسخ «وسيصلى سعيرا» بالرفع مع كونه معطوفا على المجزوم لوجود السين الدالة على الاستئناف بوعيد الآخرة، وأوثر هذا الطريق أعني إخراج الكلام عن صورة الجواب وإيراده على صورة الاستئناف والوعيد ليدل على أن دخول السعير أمر مقطوع به في حقه لا بد أن يحصل ذلك له ألبتة، لأن السين كما تدل على تأخر حصول الفعل إلى الزمان المستقبل تدل على أن حصوله فيه أمر مقطوع به بخلاف كونه ذميم العيش فإنه غير مقطوع به إذ قد يطيب عيشه استدراجا فلا يحسن أن يدخل عليه ما يدل على كونه مقطوع الوقوع وهو السين، فأورده مجزوما للدلالة على كونه مرتبا على إطفاء نبراسه وإبطال استعداده وإن لم يكن ذلك الإطفاء موجبا له. ثم إن المصنف لما ذكر الله تعالى باسم ذاته المستجمع لجميع صفات الجلال والإكرام وأورد يصلي عاريا عن الجزم للإشعار بكونه مجزوم الوقوع وبكونه منزلا للقرآن العجز على عبده المتوسط بينه وبين المكلفين من خلقه من حيث أن له مناسبة بالجناب الأقدس الفياض لكل خير بجهة تجرده فيستفيد منه ما نزل عليه وأوحي إليه ومناسبته بخلقه بجهة تعلقه، فيبلغ إليهم ما استفاده من ذلك الجناب ويكلمهم بحسب قوتهم النظرية والعملية ولزم من ذلك كونه تعالى واجب الوجود وفائض الجود وغاية كل ما يقصد ويراد باستعمال القوتين، قال على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب «فيا واجب الوجود ويا فائض الجود ويا غاية كل مقصود» أي يا من رضاه أو معرفته غاية كل ما يقصد ويراد قدر الرضى أو المعرفة لأن غاية الشيء في العرف عبارة عن كل حكمة ومصلحة تترتب على ذلك الشيء، ومعلوم أن ذاته تعالى لا تترتب على شيء. والفيض في اللغة كثرة الماء بحيث لا يسعه الوادي الذي يجري فيه الماء فيسيل من جوانبه يقال: فاض الماء فيضا وفيوضة إذا كثر حتى سال من جوانب مجراه، وفي الاصطلاح فعل فاعل يفعله دائما لا لعوض ولا لغرض، والجود إفادة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض. وههنا يستقيم كل واحد من معنى الفيض أما الثاني فظاهر وأما الأول فلتشبيه جوده تعالى بما زاد على مجراه فسال من جوانبه.
قوله: (توازي غناءه) أي تساوي وتعادل نفعه الذي حصل منه لأمته صلى الله عليه وسلم وظاهر أن نفعه عليه الصلاة والسلام لأمته أكثر من أن يحصى فتكون الصلاة عليه كذلك، ومقصوده أن يحصل له عليه الصلاة والسلام في مقابلة نفعه لأمته مثوبات غير متناهية ليستحق بذلك الحظ الوافر من الأجر بحكم قوله عليه الصلاة والسلام: «من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشرا» والغثاء بفتح الغين المعجمة والمد النفع. قوله: (وتجازي عناءه) بفتح العين المهملة والمد التعب أي صلاة تكون عوضا عن تعب حصل له في تبليغ أحكام الرسالة. قوله:
(وعلى من أعانه بنيانه تقريرا) أراد بهم الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء العاملين إلى
Sayfa 18
وأفض علينا من بركاتهم، واسلك بنا مسالك كراماتهم، وسلم علينا وعليهم تسليما كثيرا.
(وبعد) فإن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا، علم التفسير يوم الدين، والبنيان في الأصل الحائط مستعار منه لما يبنيه عليه الصلاة والسلام من الشريعة وأحكام الدين، والبركة النماء والزيادة فكأنه أراد بها علومهم ومعارفهم. قوله: (واسلك بنا مسالك كراماتهم) أي اجعلنا سالكين طرقا سلكوها ووصلوا بها إلى إكرامك وتعظيمك إياهم، والتسليم أن يقال: سلام عليك والمراد به ههنا التكريم والتعظيم. قوله: (وبعد فإن أعظم العلوم مقدارا) الفاء فيه إما على توهم أما قبل قوله: «بعد» كما ينجر الاسم على توهم حرف الجر قبله كما في قول الشاعر:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فإن قوله ولا سابق مجرور معطوف على قوله مدرك على توهم دخول الباء في خبر ليس. وإما على تقديرها في نظم الكلام وكأنهم لما حذفوها جعلوا الواو عوضا عنها جعل علم التفسير أعظم العلوم لأن شرف العلم بكون شرف موضوعه وبشرف معلومه وبشرف غايته وبشدة الاحتياج إليه وعلم التفسير مشتمل على هذه الجهات الأربع للشرف فيكون أشرف العلوم أما اشتماله على شرف الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو منبع كل حكمة ومجمع كل فضيلة، وأما اشتماله على شرف المعلوم فلأن معلومه مراد الله تعالى المستفاد من كلامه وليس موضوع علم الكلام ذات الله تعالى وصفاته ولا معلومه ما يتعلق بهما فقط حتى يكون أشرف من علم التفسير بل موضوعه المعلوم مطلقا من حيث تثبت به العقائد الدينية وكذا معلومه ما يتعلق به مطلقا من تلك الحيثية، وأما شرف غايته فلأن غايته ما يترتب على تحصيل العقائد الدينية من الفوز بالسعادة الأبدية، وأما شدة الاحتياج إليه فلأن كل كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية ومدارها على العلم بكتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قوله: (وأرفعها شرفا ومنارا) أي دليلا فإن المنار ما يستدل به على الشيء، ونير الطريق ما يتضح هو منه، وسميت المنارة منارة لأنها موضع إظهار ما هو نير دخول وقت الصلاة وعلامته وفي جعل شرفه أرفع من المبالغة ما لا يخفى فإنه بمنزلة أن يقال وأرفعها رفعة. وعلم التفسير هو علم يعرف به معاني كلام الله تعالى بحسب الطاقة البشرية وهو رئيس العلوم الدينية لنفاذ حكمه عليها ورأسها لتوقفها عليه لكونه مرجع معظم أدلتها ومبني قواعد الشرع أي مبني المسائل الكلية التي تتفرع عليها الأحكام المشروعة وأساسها المبنية هي عليه لأن القواعد إنما تبنى على
Sayfa 19
الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية، والفنون الأدبية، بأنواعها.
الأدلة المبنية والمؤسسة على هذا العلم. قوله: (لا يليق لتعاطيه) أي لتناوله والتصدي للتكلم فيه بالتأويل واستخراج لطائف تتعلق بالأحكام إلا من برع، بفتح الراء المهملة وضمها أيضا والعين المهملة، أي فاق أصحابه في العلوم الدينية كلها أصولها يتناول علم الحديث والكلام وأصول الفقه وفروعها يتناول الفقه وعلم الأخلاق. قوله: (وفاق في الصناعات العربية) العلم إن لم يتعلق بكيفية العمل كان مقصودا في نفسه ويخص باسم العلم وإن كان متعلقا بها كان المقصود منه ذلك العمل ويسمى صناعة في عرف الخاصة وينقسم إلى قسمين: قسم يمكن حصوله بمجرد النظر والاستدلال كالطب، وقسم لا يحصل إلا بمزاولة العمل كالخياطة وهذا القسم يخص باسم الصناعة في عرف العامة.
قوله: (والفنون الأدبية بأنواعها) سميت بالأدبية لتوقف أدب النفس في المحاورة والدرس عليها وعرفوا علم الأدب وقد يسمى بعلم العربية أيضا بأنه علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وقسموه إلى اثني عشر قسما بعضها أصول: وهي اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والعروض والقافية وبعضها فروع: وهي الخط وقرض الشعر والإنشاء والمحاضرات ومنه التواريخ والقرض القطع والقرض أيضا قيل: الشعر خاصة يقال: قرضت الشعر أقرضه إذا قلته والشعر قريض، والمحاضرات المحاورات والإنشاء تأليف نحو الرسائل والخطب. وأما علم البديع فقد جعلوه ذيلا لعلمي المعاني والبيان لا قسما برأسه لعدم دخوله في تعريف علم الأدب إلا أن بعضا من هذه الفنون لا يستمد منه علم التفسير أو هو علم العروض والقافية وقرض الشعر والخط والإنشاء لأن ما سوى الإنشاء لا دخل له في إفادة المعنى أصلا مع اختصاص ما سوى الخط بالشعر والإنشاء لا تعلق له بالقرآن، فينبغي أن يكون المراد بقوله: «بأنواعها» أنواعها الكاملة التي لها مدخل في إفادة المعنى. ثم إن علم القراءة معتبر في التفسير فإما أن يجعل مما يستمد منه ويندرج في العلوم الدينية دون العربية لأن المراد بها ما لا يختص بكلام دون كلام وهو يختص بالقرآن، أو يجعل من التفسير على ما يفهم من إشارة المصنف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ويعرف علم التفسير بما يعرف به معاني كلام الله تعالى أو ألفاظه بحسب الطاقة البشرية فيكون تسمية المجموع بعلم التفسير من باب تسمية الشيء باسم أشرف أجزائه فإن قيل:
كونه رئيس العلوم الدينية ورأسها ومبنى قواعد الشرع وأساسها يقتضي تقدمه على العلوم الدينية وانحصار لياقة تعاطيه والتكلم فيه فيمن برع في العلوم الدينية يقتضي تأخره عنها فأوجه
Sayfa 20
ولطال ما أحدث نفسي أن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوي على نكت بارعة، التوفيق؟ أجيب بأن الحكم الأول بالنظر إلى السلف من الأصحاب المقتبسين أنوار حقائق التنزيل من مشكاة النبوة والحكم الثاني بالنظر إلى الخلف المستنبطين ما يتعلق بالحكم والأحكام فإنهم إذا أرادوا استخراج النكت واللطائف من علم التفسير وجب عليهم الالتجاء بالعلوم الدينية والفنون الأدبية. قوله: (ولطال ما أحدث نفسي) اللام موطئة للقسم و «ما» مصدرية ولذلك كتبت مفصولة عن الفعل في عامة النسخ. وقيل: هي كافة تكف الفعل عن طلب الفاعل ويرده أنها لو كانت كافة لكتبت موصولة كما في إنما. قوله: (في هذا الفن) أي في فن التفسير، والصفوة بالحركات الثلاث للصاد بمعنى الخالص. والصحابة في الأصل مصدر كالصحبة يقال: صحبه يصحبه صحبة بالضم وصحابة بالفتح وهو ههنا جمع صحابي بمعنى الإصحاب والصحابي عند جمهور أهل الحديث مسلم رأي النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو عنه حديثا ولم يكن له طول المصاحبة معه، وشرط بعضهم طول الصحبة، وبعضهم شرط مع طول الصحبة أن يروي عنه حديثا. وأراد بعظمائهم عليا وابن عباس وابن مسعود وعمر وابن العاص وابن الزبير وابن عمر وابن العاص وأبي بن كعب وزيدا بن ثابت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وصدرهم علي حتى قال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي.
إلا أنه تجرد لهذا الشأن وتتبعه حق التتبع حتى قالوا: إن المحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي. وكان علي يحرض الأمة على الأخذ عنه، وكان عبد الله بن مسعود يقول: نعم الترجمان عبد الله بن عباس وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه بالتأويل» وحسبك بهذه الدعوة. وقال علي: ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق. ويتلوه ابن مسعود وغيره. والتابعون جمع تابع وهو من صحب الصحابي وأراد بعلمائهم الحسن البصري فإنه أدرك من الصحابة مائة وثلاثين، ومجاهدا فإنه قرأ على ابن عباس قراءة تحقيق وإتقان، وسعيد بن جبير فإنه قرأ على ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وغيرهم قراءة مقبولة. وبمن دونهم عبد الرزاق وأبا علي الفارسي وعليا بن أبي طلحة وأمثالهم، ومن المبرزين فيهم محمد بن جرير الطبري فإنه جمع على الناس أشتات التفاسير، وأبو إسحق الزجاج حتى قال مولانا شمس الدين الأصفهاني في مقدمات تفسيره الجامع بين التفسير الكبير والكشاف: تتبعت الكشاف فوجدت أن كل ما أخذه أخذه من الزجاج.
قوله: (وينطوي) مطاوع لطوى ويلزمه الاشتمال على النكت. والنكت جمع نكتة وهي اللطيفة المستخرجة بقوة الفكر من نكت في الأرض إذا أثر فيها بقضيب ونحوه، فالنكتة اسم للأثر الحاصل في الأرض بالنكت. قوله: (بارعة) أي فائقة ورائعة أي معجبة رفيعة القدر.
Sayfa 21
ولطائف رائعة، أستنبطها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين، وأماثل المحققين، ويغرب عن وجوه القراءات المعزية إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين. إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام، حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على الشروع فيما أردته، والإتيان بما قصدته، ناويا أن أسميه بعد أن أتممه بأنوار التنزيل وأسرار التأويل فها أنا الآن أشرع بحسن توفيقه أقول. وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.
قوله: (أستنبطها) أي استخرجت تلك النكت واللطائف بالكد والاجتهاد والاستنباط. في الأصل استخراج النبط وهو أول ما يظهر من ماء البئر إذا حفرت يقال: أنبط الحفار إذا بلغ الماء فاستعمل في استخراج المعاني اللطيفة بالكد. قوله: (ويعرب) أي يفصح ويكشف.
والمعزية المنسوبة من عزاه إذا نسبه، والأئمة الثمانية المشهورون هم السبعة المذكورون في التيسير والشاطبية وهم: نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمر والبصري وابن عامر الشامي وعاصم وحمزة والكسائي الكوفيون وثامنهم أبو محمد يعقوب بن إسحق الحضرمي البصري فإنه كان إماما كبيرا ثقة صالحا عالما انتهت إليه رياسة القراءة بعد أبي عمرو وكان إمام البصرة سنين وله روايتان روح ورويش. قوله: (يثبطني) أي يشغلني يقال: ثبطه عن الأمر تثبيطا أي شغله عنه. قوله: (ما صمم به عزمي) أي ما خلصني عن التردد فصار عزمي ماضيا لا فتور فيه الجوهري: صميم الشيء خالصه وصمم السيف إذا مضى في العظم وقطعه وصمم فلان على أمره أي مضى على رأيه فيه. قوله: (وبحسن توفيقه أقول) أقول ههنا منزل منزلة اللازم فليس له مقول. قوله: (ومعطي كل مسؤول) فإنه تعالى لا يخيب أمله ولا يرد سائله محروما بل يعطيه إما عين مطلوبه إو ما يعادل مطلوبه في توقف صلاح حاله بذلك أو يدفع عنه من المضار والآفات ما يعادل مطلوبه في الانتفاع به. وقد قيل: هذا في تأويل قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم [غافر: 60] والله أعلم.
Sayfa 22
سورة فاتحة الكتاب
سورة الفاتحة
قوله: (سورة فاتحة الكتاب) السورة طائفة من القرآن مترجمة وأقلها ثلاث آيات والآيات طائفة من القرآن أقلها ستة أحرف صورة نحو الرحمن فإنه آية إن جعل خبر مبتدأ محذوف، ومعنى الترجمة هو المسماة باسم فإن بعض القرآن قد لا يسمى باسم مخصوص إلا أنه يتناول الطائفة التي تسمى باسم مخصوص كالحزب والعشر والآية فاحترز عنها بقوله أقلها ثلاث آيات. والسورة في الأصل اسم لكل منزلة من منازل البناء وطبقاتها وسميت الطائفة المذكورة سورة لكونها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى وأقصر السور سورة الكوثر لأنها أقل حروفا من السور التي هي ثلاث آيات. والفاتحة في الأصل صفة ثم نقلت من الوصفية وجعلت اسما لأول الشيء لأن فتح الشيء والدخول فيه إنما يكون بملابسة الجزء الأول منه فكان أول الشيء كالفاتح له بهذا الاعتبار، فسميت السورة الأولى من الكتاب الكريم فاتحة الكتاب لذلك. والتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الإسمية لا للتأنيث الموصوف المقدر كالقطعة مثلا إذ لا حاجة إلى تقديره وإضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من قبل إضافة فاتحة الكتاب لامية كما في قولك: جزء الشيء ويد زيد لا بمعنى «من» لأن المضاف إليه ليس كليا صادقا على المضاف كما في خاتم فضة، وما أضيف إليه الفاتحة ههنا وهو الكتاب ليس كليا صادقا على الفاتحة بل هو كل مركب من الفاتحة وسائر السور لأن
Sayfa 23
وتسمى أم القرآن لأنها مفتتحة ومبدأوه فكأنها أصله ومنشأه ولذلك تسمى أساسا، أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده
كون الفاتحة أول الكتاب إنما هو بالقياس إلى الكل لا إلى الكلي فوجد مصداق كون الإضافة لامية وهو عدم كون المضاف إليه ظرفا للمضاف ولا صادقا محمولا عليه كما في قولك: يد زيد. قوله: (وتسمى أم القرآن) عطف على ما يفهم مما سبق بحسب اقتضاء المعنى فإنه يفهم من قوله: «سورة فاتحة الكتاب» أنها تسمى بهذا الاسم. قوله: (لأنها مفتتحه ومبدأه فكأنها أصله ومنشأه) كون الشيء مبدأ لشيء آخر بمعنى كونه جزءا أولا له لا يصلح وجها لتسمية الشيء الأول أما للثاني وإنما يصلح وجها له أن لو كان الشيء الأول منشأ للثاني وموضع صدور له وكونه جزءا أولا للثاني غير كونه منشأ للثاني وغير مستلزم له أيضا فلا يصلح ما ذكروه وجها لتسميتها أم القرآن. قوله: (ولذلك) أي ولكون الفاتحة كأنها أصل القرآن تسمى أساسا لأنها لما كانت كلها أصل القرآن كان ما عداها من القرآن كأنه مبني عليها فكانت هي أساسا لما عداها. قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه) تعليل ثان لتسميتها أم القرآن وليس المراد بما فيه جميع ما فيه بل المراد معظم ما فيه وهو أصول مقاصده إقامة لها مقام جميعها ضرورة أن في القرآن مقاصد أخرى غير ما ذكر من الأمور الثلاثة التي هي الثناء على الله تعالى والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده، والمقاصد الأخر كالقصص والأمثال والمواعظ.
والمراد من الثناء عليه بما هو أجل الصفات الكمالية قوله: الحمد لله [الفاتحة: 2] إلى قوله: مالك يوم الدين [الفاتحة: 4] والتعبد والاستعباد وهو تصيير الشخص كالعبد بتكليفه بالأمر والنهي يقال: عبدني فلان تعبيدا واعتبدني اعتبادا وأعبدني إعبادا وتعبدني تعبدا والكل بمعنى استعبدني، ومعنى التعبد مفهوم من قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: 5] لأن عبادة المكلفين من لوازم تعبده تعالى إياهم بأمره ونهيه فإن الإمام الرازي فسر العبادة بأنها إتيان الفعل المأمور على سبيل التعظيم للآمر والقيام بحق العبودية ومقتضى التكليف بامتثال أوامر المولى واجتناب نواهيه. فإن قيل: امتثال أوامر المولى ونواهيه ليس داخلا في معنى العبادة ولا لازما له وإلا لوجب أن تختص العبادة بمن له أمر ونهي وليس كذلك لقوله تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم [الفرقان: 55] فإذن لا يلزم من اشتمال الفاتحة على قوله: إياك نعبد اشتمالها على التعبد بأمره ونهيه وهو المدعي:
قلنا: قوله تعالى: ويعبدون من دون الله من قبيل الاستعارة التصريحية التبعية تشبيها لتذلل المشركين للأصنام بعبادتهم لها بناء على زعمهم الفاسد فلا ينافي ذلك كون العبادة من لوازم التعبد واشتمال سورة الفاتحة على التعبد المذكور، وأما بيان وعده لأهل الطاعة ووعيده للعصاة فهو مفهوم من قوله تعالى: أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم [الفاتحة: 7] أو
Sayfa 24
ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء. وسورة الكنز والوافية والكافية من قوله: مالك يوم الدين أي الجزاء المتناول للثواب والعقاب، ويرد على الأول أن يقال: لا يسلم أن اشتمال الفاتحة على قوله: أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم يستلزم اشتمالها على الوعد والوعيد وإنما يستلزمه أن لو وجب كون الإنعام مسبوقا بالوعد به والغضب والانتقام من العصاة مسبوقا بوعيدهم بذلك فاشتمال أنعمت عليهم على الوعد ودلالته عليه غير مسلم وكذا اشتمال الغضب بالقياس إلى الوعيد.
قوله: (أو على جملة معانيه) عطف على قوله: «ما فيه» فهو وجه آخر لتسميتها بأم القرآن أي أو سميت بذلك لاشتمالها على معاني القرآن جملة أي مجملة من غير تفصيل فإنها لما اشتملت على معاني القرآن مجملة على أحسن ترتيب ثم صارت تلك المعاني مفصلة في سائر السور نزلت منها منزلة مكة من سائر القرى حيث مهدت أرضها أولا ثم دحيت الأرض من تحتها فكما سميت هذه القرية أم القرى سميت تلك السورة أم القرآن قوله: (من الحكم النظرية والأحكام العملية) بيان لجملة معانيه وقوله: «التي» مع صلته في موضع الجر على أنه صفة جملة معانيه المبنينة بالحكم النظرية المقصود بها نفس المعرفة والأحكام العملية المطلوب بها نفس العمل وليس صفة الأحكام العملية وحدها، إذ لا يصح أن يحكم عليها بأنها سلوك الطريق المستقيم لأن السلوك المذكور هو العمل لا الحكم بالعمل فيحتاج إلى تقدير المضاف ويقال في تقدير المضاف في تقرير الكلام هي أحكام سلوك الطريق المستقيم نعم على تقدير كونها صفة لجملة معانيه يحتاج أيضا إلى أن يقال تقرير الكلام هي التي تفيد سلوك الطريق المستقيم و «ما» عطف عليه ومنهم من جعله صفة للأحكام العملية وحدها بتقدير المضاف أي أحكام سلوك الطريق المستقيم وجعل قوله: «هي سلوك الطريق المستقيم» ناظرا إلى الأحكام العملية، وقوله: «والاطلاع» ناظرا إلى الحكم النظرية على طريق اللف والنشر الغير المرتب ولا وجه له لأن سلوك الطريق المستقيم لا يختص بالأحكام العملية بل يتناولها والحكم النظرية أيضا. فإن استقامة الطريق كما تكون بالنظر إلى الأعمال تكون بالنظر إلى العقائد أيضا وكذا الاطلاع على مراتب السعداء للاقتداء بهم كما يشير إليه قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم [الفاتحة: 7] وعلى منازل الأشقياء للاتقاء عنها كما يشير إليه قوله تعالى: غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة: 7] لا يختص بالحكم النظرية بل هو من آثار الحكمتين وثمراتهما ومن جملة معانيهما، فلا وجه للحمل على اللف والنشر لا سيما غير المرتب. قوله: (وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك) بنصب الثلاثة عطفا على أم الكتاب أي وسميت بذلك أيضا لاشتمالها
Sayfa 25
لذلك، وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها عليها، والصلاة لوجوب قراءتها واستحبابها فيها. والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام: «هي شفاء من كل داء». والسبع المثاني لأنها سبع آيات بالاتفاق على ما في القرآن أو على جملة معانيه فكانت كأنها كنز واف كاف فإن الكنز هو المال المكنوز المدفون، فالمكنوز في هذه السورة إما أصول مقاصد القرآن أو جملة معانيه وهي وافية كافية في بيانها. وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال:
نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش. قوله: (لاشتمالها عليها) أما اشتمالها على الحمد فظاهر وأما على الشكر فلذكر بعض أفراد الشكر اللساني فيها كرب العالمين والرحمن الرحيم، وأما على تعليم المسألة فلأنه تعالى ذكر فيها قوله: اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة: 6] بعد تقديم الثناء عليه بما هو أهله وعلم بذلك كيفية السؤال منه تعالى وطريقه وهي البداءة بالثناء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدأ بالدعاء قبل الثناء فحق أن لا يستجاب له». ومن طرقه أن لا يخص نفسه بالدعاء بل يسأل مطلوبه في حق المؤمنين كافة مثل أن يقول: اللهم اغفر لنا وارحمنا، لا اغفر لي وارحمني كما قال في هذه السورة اهدنا ولم يقل اهدني فإن الدعاء مهما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب فإنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة فإذا أجاب الله تعالى دعاءه في حق البعض فهو أكرم من أن يرده في حق الباقي. قوله: (والصلاة) بالجر عطف على الحمد في سورة الحمد.
قوله : (لوجوب قراءتها فيها) كما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وقراءة الفاتحة في الصلاة وإن كانت واجبة عند الحنفية أيضا لأن الواجب عند الشافعية بمعنى الفرض لا عند الحنفية كما أشار إليه بقوله: «واستحبابها فيها» أي في الصلاة كما هو عند الحنفية.
قوله: (والشافية والشفاء) منصوبان بالعطف على معقول تسمى ويجوز جرهما عطفا على الحمد أي وتسمى الشافية والشفاء أيضا لقوله عليه الصلاة والسلام: «هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء». وقال صاحب الكشاف: وسورة الشفاء والشافية بجر الشفاء ونصب الشافية ولكل وجه. قوله: (والسبع المثاني) بالنصب عطف على مفعول تسمى وعلل تسميتها بالسبع بقوله: «لأنها سبع آيات» بالاتفاق وذكر علي في التفسير أن هذه السورة ثمان آيات في قول الحسن البصري، وست آيات في قول حسين الجعفي، وسبع آيات في قول الجمهور من أهل العلم. فالحسن رحمه الله عد التسمية وأنعمت عليهم آيتين، وتركهما الجعفي، والباقون اتفقوا على أنها سبع آيات لكن أصحابنا عدوا أنعمت عليهم آية وقالوا: ليست التسمية من الفاتحة. والإمام الشافعي رحمه الله تعالى جعلها من الفاتحة ولم يجعل أنعمت عليهم آية. إلى ههنا كلامه فلا بد أن يكون مراد المصنف بالاتفاق على كونها سبع آيات
Sayfa 26