Felsefi Hasat
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Türler
49
لقد توصلنا - كما سبق القول - إلى أن أية نظرية للمجتمع لا ينبغي أن تكتفي بالعقلانية الغائية فحسب، ولن تستقيم بالعقلانية التواصلية وحدها، بل بالجمع بينهما باعتبارهما يمثلان قطبي العقلانية الجديدة. فعلى الرغم من أن العقلانية الأداتية تستجيب للمتطلبات المادية بشكل يصعب معه التخلي عن دور التقنية في التنظيم المادي للمجتمع، إلا أنها غير قادرة على حل مشكلات متعلقة بالأخلاق أو الثقافة؛ لذلك تأتي العقلانية التواصلية لتهتم بالمشكلات والقضايا الرمزية والمقومات الثقافية المتعلقة بالمعايير الأخلاقية. والنتيجة المترتبة على هذا كله هو أن كلا من النشاط الغائي والأداتي والنشاط التواصلي يشارك في إعادة عقلنة العالم المعيش، عن طريق إعادة الإنتاج المادي للعالم المعيش بواسطة النشاط الغائي، وأيضا عن طريق إعادة الإنتاج الرمزي له - أي العالم المعيش - بواسطة النشاط التواصلي، باعتبار أن الأساس المادي للعالم هو الشرط الضروري للبنية الرمزية له، وباعتبار أيضا أن الفعل الأداتي هو أحد مكونات الفعل التواصلي. هكذا تمتزج خيوط مختلفة - يكشف عنها التواصل اليومي - من عناصر المعرفة الأداتية والعناصر الأخلاقية العملية بالإضافة إلى العنصر اللغوي، تمتزج جميعا في إعادة بناء العالم المعيش.
لم يتوقف هابرماس عند الإنتاج المادي للعالم الذي يتحقق عن طريق النشاط الغائي أو الأداتي، لا لعدم أهميته، بل لأنه الجانب الوحيد الذي أثمرته الحداثة الغربية. ولذلك أسهب في تفاصيل ما اعتبره الجانب المهمل في المشروع الحداثي، وهو النشاط التواصلي وما يفترضه من معايير وقيم أخلاقية. ويؤكد على ممارسة الفعل التواصلي في الحياة اليومية التي هي الوسط الذي يتم فيه إعادة الإنتاج الرمزي. إن المشاركين في التواصل يوجدون في تراث ثقافي يستخدمونه وفي نفس الوقت يجددونه، ولكي ينسقوا أفعالهم عن طريق اعتراف الذوات فيما بينهم بصحة مزاعم الصدق، فإنهم يحرصون على أن يصبحوا أعضاء في جماعات اجتماعية، كما يعملون في نفس الوقت على تدعيم هذه الجماعات وتحقيق تكاملها «إن الأفعال التواصلية ليست مجرد عمليات تفسيرية يتم فيها اختيار المعرفة الثقافية التراثية ... وإنما هي في الوقت نفسه عمليات تكامل اجتماعي وإضفاء للطابع الاجتماعي على الأشخاص المنتمين لمجتمع معين»،
50
ومن خلال التفاعل مع الأشخاص الأكفاء يستوعب الناشئون في وعيهم توجهات القيم للجماعة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ويكتسبون القدرات العامة على الفعل.
كيف يمكن - إذن - عقلنة العالم المعيش؟ إن هذه المهمة كما تصورها هابرماس تقتضي القيام بثلاث عمليات لا ينفصل بعضها عن بعض من أجل تأسيس مجتمع عقلاني حديث: تتطلب العملية الأولى إعادة التحليل النقدي للمعرفة، وتقتضي الثانية تأسيس قيم ومعايير مجتمعية جديدة، أما الثالثة والأخيرة فهي تهتم بتنشئة ذات إنسانية قادرة على تحمل مسئوليتها، وعلى تأسيس هويتها الذاتية: «إذا نظرنا إلى التفاهم المتبادل نظرة وظيفية وجدنا أن الفعل التواصلي يعمل على نقل وتجديد المعرفة الثقافية التراثية، وإذا نظرنا إليه كفعل تنظيمي أو تنسيقي وجدنا أنه يساعد أو يعمل على التكامل الاجتماعي، وإقامة وترسيخ التضامن. وأخيرا فإننا لو نظرنا إليه من وجهة نظر إضفاء الطابع المجتمعي، فإن الفعل التواصلي يساعد في تكوين الهويات الشخصية. وهكذا نجد أن إنتاج البناءات الرمزية للعالم المعيش يتم عن طريق مواصلة المعرفة الصحيحة، وترسيخ التضامن الجمعي، وإضفاء الطابع الاجتماعي على الذوات المسئولة والفاعلة.»
51
وتمثل هذه العمليات السابقة العناصر البنائية للعالم المعيش - وهي الثقافة والمجتمع والشخص - بحيث يعاد بناؤه - أي العالم المعيش - بالاستخدام الأمثل للمعرفة وباستقرار المجتمع وتحقيق الاندماج بين أفراده، وبتكوين أفراد أو فاعلين يملكون القدرة على الكلام والفعل وقادرين أيضا على تحمل مسئولياتهم وتحقيق ذواتهم وتأكيد هوياتهم، هكذا نرى أن عقلنة العالم المعيش هو أحد المظاهر الإيجابية للحداثة أو المجتمع الحديث التي يجب المحافظة عليها، والتي تتم فيها مراجعة دائمة للتراث الثقافي، وكذلك إنتاج قيم ومبادئ أخلاقية وقانونية جديدة في المجتمع مغايرة للقديمة. ويتكفل النشاط التواصلي المدعم بالحجج والبراهين العقلية بوضع معايير لها أو تبريرها. وفي ظل هذا الإطار الثقافي والمعياري الجديد ينشأ الفرد الذي يسعى للدفاع عن ذاته، وتحمل مسئولية كلامه وأفعاله، أي الشخص القادر على المناقشة والحوار والقادر على الإجابة بنعم أو لا التي يتمرس عليها خلال التنشئة الاجتماعية، بحيث يصبح شخصا مستقلا، ولكنه مندمج اجتماعيا في جماعة تربطه بها علاقات اجتماعية ومصالح.
هكذا نجد أن العناصر البنائية المكونة للعالم المعيش (وهي الثقافة والمجتمع والشخصية) تتطابق معها عمليات إعادة الإنتاج (إعادة إنتاج ثقافي - تكامل اجتماعي - انتماء للجماعة)، وكلها ترتكز على الوجوه المختلفة للفعل التواصلي (التفاهم - التنسيق - الفعل الاجتماعي)، وكلها ممتدة الجذور في العناصر البنائية المكونة لأفعال الكلام (القضايا التقريرية - أفعال القول - الأقوال التعبيرية).
52
Bilinmeyen sayfa