إلى كثير من أمثال ذلك.
فالنقمة عليهم روعت الناس، من تقريب شديد إلى تنكيل شديد، من غير ما ذنب معروف جنوه.
وأما الغربيون فقد روعهم الحادث؛ لأنه لم يكن في نظرهم عادلا؛ فلم يحاكموا بتهمة معينة، ولا سمعت أقوالهم، ولا عرفت أسباب النقمة عليهم، وتجلى المنظر عن قوم في السماء وضعوا في الحضيض، ومن أيد تقبل إلى خدود ترغم ... فنقموا على الرشيد فعلته.
دفاع عن الرشيد
والحق أن هذا عيب الحاكم المستبد دائما؛ فهو عرضة لأن يفعل أقصى الخير وأقصى الشر، وهذه الحادثة مما شهرت الرشيد، فالإنسان العظيم يشتهر بما يأتي من خير وشر، ولكن عيب هؤلاء المؤرخين أنهم يقيسون دائما الزمن الماضي السحيق في القدم بزمنهم، غير مقدرين فروق الزمان والمكان، وبهذه النظرة عابوا على الإسلام - مثلا - إقراره الرقيق وتعدد الزوجات، ونحو ذلك.
ولم ينظروا إلى الرقيق قبل الإسلام، وما فعله الإسلام، ولا إلى تعدد الزوجات قبل الإسلام وبعده، كذلك لم ينظروا إلى كل ظروف الرشيد، وما يحيط به من شئون عائلية واجتماعية وغير ذلك، وقد كان الرشيد في أيامه مثالا للملك الحاكم بأمره ... فيه مزاياه، وفيه عيوبه، وما كان لأي رجل من رجال العصر الحاضر أن يفعل غير ما فعل لو عاش في زمنه، وتخلق بأخلاقه، وأحيط بالبيئات التي أحاطت به.
فلنأخذ الأمور كما جرت، ولنقسها بمقياس زمانها لا بمقياس زماننا نحن، خصوصا وأننا لم نسمع من الرشيد حججه فيما فعل، كما لم نسمع من البرامكة دفاعهم عن أنفسهم، وقد فعل أبو جعفر المنصور مثل ذلك في أبي مسلم الخراساني، وهو الذي قامت الدولة العباسية بفضله وفضل أمثاله، وكذلك قتل وزيره أبا أيوب المورياني، ووكل المهدي بمن سماهم الزنادقة، وهي أمور خفية جدا لا يعلمها إلا الله، والمتهم، وكثيرا ما يكون الشخص حر التفكير نوعا ما فيتهم بالزندقة، ويقضى عليه.
نعم، إن الخطأ لا يبرر الخطأ ... ولكن سقنا هذا لنبين أن ما فعله الرشيد بالبرامكة هو طبيعة العصر وسنة ذلك الزمان، بل نجد في عصرنا الحاضر أمثال ذلك ... فقد نكل ملك فرنسا بالمسيو فوكيه، ونكل هتلر باليهود، ونحو ذلك كثير.
على أن المؤرخين يروون عن الرشيد ندمه على فعلته، وضيق صدره مما كان، حتى ربما كان ذلك سببا من أسباب رحيل الرشيد بعد قليل من النكبة من قصر الخلد ببغداد إلى الرقة بالجزيرة ... لئلا تقع عينه على مساكنهم، ولا تثير الحزن في نفسه المناظر التي كان يراها، والمجالس التي كان يجلسها مع جعفر البرمكي، ونحو ذلك، يضاف إلى سبب انتقاله ثورات الشام المتوالية، وحاجته الشديدة إلى القرب منها لسهولة قمعها. •••
ولا شك أنه كانت من مزايا البرامكة أنهم تحملوا عبء الدولة كله عن الرشيد أيام كان غضا طريا لم ينضج بعد، فلما نكل بهم كان في سن ناضجة يستطيع أن يتحمل العبء الكبير الذي خلفوه؛ فقد كان في يدهم مناصب الوزارة، ومناصب الجيش الكبرى والإدارة، فحمل الرشيد كل ذلك.
Bilinmeyen sayfa