وقد يكون الفضل بن الربيع والرشيد معذورين في بعض ذلك؛ لأنهما رأيا أن الدولة العربية تزول شيئا فشيئا، حتى لم يبق للعرب في المملكة سلطان، وأن السلطة تزيد في الفرس يوما فيوما حتى قبض البرامكة على كل ما للدولة من شئون.
قد يضاف إلى ذلك ما يروي بعض المؤرخين من أن الرشيد كان لا يستغني عن جعفر والعباسة، فعقد له عليها؛ حتى يحل اجتماعهما، وأمر أن لا يمسها فتعهد له بذلك، ثم طغى عليهما سلطان الغرام، ولسنا نذهب إلى ما ذهب إليه ابن خلدون من استبعاد هذا؛ فهذه عاطفة إنسانية يقع فيها الشريف والوضيع، والغني والفقير، وكم سمعنا بمثل ذلك في كل العصور، وسلطان الحب فوق كل سلطان، إنما نستبعد ذلك من ناحية أخرى، وهي أن هذا لو كان السبب ... لفتك الرشيد بجعفر البرمكي وحده دون يحيى الشيخ، ودون إخوة جعفر.
فلا بد أن يكون السبب مشتركا، ولسنا نجد سببا مشتركا إلا حيازتهم للسلطة، خصوصا وأن مسرورا الخادم قد سأله بعض الخلفاء بعد ذلك عن حادث جعفر والعباسة، فنفاها نفيا باتا، ولمح إلى أن السبب هو السلطة، وقد كان الرشيد تنازل لهم عن كل سلطان، فولي جعفر الغرب كله من الأنبار إلى إفريقية، وقلد الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وهما ينيبان عنهما من أرادا ... والناس إذا رأت السلطان في يد توجهت إليها بالاستجداء والمديح والملق، وكذلك كان شأن البرامكة.
فكان الشعراء يقفون ببابهم أكثر من الشعراء الذين يقفون على باب الرشيد، وقد منح البرامكة سماحة وكرما، وصفهم إبراهيم الموصلي فقال: «أما الفضل فيرضيك بفضله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد»، وكما أسروا الناس بحسن صنيعهم أسروهم ببلاغتهم، ومأثور كلامهم، وحسن توقيعهم، حتى تناقلت كتب البلاغة عباراتهم.
إشاعات مغرضة
وقد فكر الرشيد طويلا في الإيقاع بهم؛ لعظم مكانتهم ، وخوفه من الثورة عليه من أجلهم، فكان مما احتاط أن يشيع بين الناس كفرهم وزندقتهم، وأنهم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، وأن عندهم بعض بقايا من الآثار الوثنية ونحو ذلك حتى تكرههم العامة، فأوعز - مثلا - إلى الأصمعي أن يقول فيهم ما يحط من شأنهم كالذي قال:
إذا ذكر الشرك في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
ولو تليت بينهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك
Bilinmeyen sayfa