وعلى كل حال فقد شاعت بين الناس حوادث التنجيم والإيمان بها، واستغل المنجمون الناس حتى الخلفاء، وقد رووا أن المنصور تخير وقتا معينا لوضع الحجر الأساسي لبناء بغداد، وتخير الفاطميون بعد ذلك وقتا مناسبا لوضع الحجر الأساسي للقاهرة، وليست حادثة المعتصم بعيدة عن الأذهان؛ فقد نصح له المنجمون بالخروج إلى الحرب أيام نضج التين والعنب حتى يكون النصر، ولكن الحالة الحربية اضطرته إلى الخروج في غير هذا الوقت فانتصر، وقال أبو تمام في ذلك قصيدته البائية المشهورة:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
وكان الرشيد يؤمن بهذا التنجيم أحيانا، ويستمع إلى أخبار المنجمين، وتنبؤاتهم حتى رووا أن منجما يهوديا قال للرشيد: «إني أرى في أحكام النجوم أنك ستموت سريعا.»
فاغتم لذلك اغتماما شديدا، وأحضر جعفرا البرمكي ليسري عنه، فحضر ووجده كئيبا حزينا، فقال جعفر للمنجم: «أترى أن الخليفة يموت سريعا؟» قال: «نعم!» قال له: «وماذا تراه في نفسك؟» قال: «أرى عمري طويلا» قال: «اقتله يا أمير المؤمنين حتى يتبين كذبه» فقتله، واستراح الرشيد. •••
ولقد كان هذا التنجيم وسيلة لعلم الفلك، كما كان تحويل المعادن إلى ذهب سببا في تعرف قوانين الكيمياء الصحيحة، فقد رووا لنا أن محمد بن إبراهيم الفزاري صنع زيجا، ورووا أنه قدم على الخليفة المنصور رجل من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هند في حركات النجوم، وأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتاب يتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، وبذلك ابتدأوا العلم بكثير من التخريف، وانتهوا به إلى التصحيح والتدقيق.
وظل أمر التنجيم إلى اليوم في التنبؤ بالسعادة لمن ولد في شهر كذا، والشقاء لمن ولد في شهر كذا، وفي اختلاف أخلاق من ولد في بعض الشهور عمن ولد في شهور أخرى، ونحو ذلك.
ولو كان هذا صحيحا لاطردت النتائج فيمن ولدوا في شهر واحد من سعادة أو شقاء أو سلوك، مع أنا نجد كثيرا من الفوارق بينهم ... ولكن هي طبيعة الإنسان تريد أن تخترق حجب الغيب، ويستغل الدجالون غريزة الاستطلاع عند الناس، والله أعلم.
تقدم العلوم
ولتسرب هذه الثقافات المختلفة والعناصر المختلفة إلى المسلمين ظهر أثر واضح هو تحول العلوم من أشكالها البسيطة الدائمة إلى قواعد علمية، وتسابق العلماء في ذلك، كل يريد أن يؤسس علما، وتشارك في هذا العمل علماء من العرب كالخليل بن أحمد الفراهيدي، وعلماء من الفرس كسيبويه، وأبي حنيفة، ومن الهنود كابن الأعرابي، وعلماء من المسلمين، وعلماء من النصارى، فكانت حركة غريبة حقا؛ فهذا النحو يتحول من نظرات بدائية ومسائل جزئية كالتي تروى عن أبي الأسود الدؤلي إلى علم تام وقواعد منظمة كالذي كان من الخليل وتلميذه سيبويه.
Bilinmeyen sayfa