ويقوم خارجي عليه فيقتل أبطاله، وينتهب أمواله مرارا، ويجهز إليه الرشيد جيشا قويا فيحاربونه ويغلبونه، ويأمر الرشيد بإحضاره، فلما يمثل بين يديه، يقول الرشيد: «ما تريد أن أصنع بك؟» قال: «ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه»، فيأمر بإطلاقه ... فلما خرج قال بعض جلسائه: «يا أمير المؤمنين ... رجل قتل أبطالك، وانتهب أموالك، تطلقه بكلمة واحدة، فهذا مما يجرئ عليك أهل الشر»، فقال الرشيد: «ردوه» فعلم الرجل أنه قد تكلم في أمره، فقال: «يا أمير المؤمنين لا تطعهم؛ فلو أطاع الله فيك الناس ما ولاك عليهم.»
فيعفو ثانية ...
ويخرج خارجي آخر ليس له مثل حججه وبراعته، فيقتل أبطاله ويدوخ جيوشه، فيحضر إليه، والرشيد على سرير الموت، فيأمر بقتله، ويقول: «والله لأقتلنك، ولو كنت في النفس الأخير»، وهكذا تتجاذبه عواطف الخير والشر، والانتقام والعفو، والناس يقلدونه.
قدوة الرعية
فما صدقوا أن رأوا الرشيد يقيم مجالس اللهو، ويستمع إلى إبراهيم الموصلي وغيره، ويشهد حفلات الرقص حتى قلدوه في ذلك؛ فالغني الكبير، والوسط الحال، والتاجر الواسع الثراء، يقيمون حفلات على قدرهم مثله، وقد رزق الله بني العباس كثرة في العدد؛ من كثرة ما يصلون إلى الأحرار والإماء، حتى لقد أحصي عدد أولاد العباسيين فكانوا أكثر من ثلاثين ألفا، كانوا - أو أكثرهم - أغنياء مترفين، يقلدون رئيسهم الرشيد، ويفعلون فعله في اللهو والترف.
وقد حدثونا أن عبد الله بن العباس ابن الوزير الفضل بن الربيع كان مغنيا ماهرا وماجنا مستهترا ... يصطبح في حدائق النرجس، ويعيش عيشة لهو وخلاعة، وأمثاله كثيرون يطول ذكرهم.
وسرت العدوى من أولاد الأغنياء إلى الطبقة الوسطى، وبالغوا في الموائد وتنسيقها، وألوان طعومها، ولكن الحق يقال: إن الحياة الاجتماعية في بغداد كانت أشبه شيء بالحياة الاجتماعية الآن في مصر؛ غنى مفرط، وفقر مفرط؛ فالأمراء وكبار التجار يجري المال في أيديهم جري الماء، والعلماء وصغار الفلاحين وصغار التجار لا يجدون ما يأكلون إلا أن يتصل عالم بخليفة أو أمير فيدر عليه الرزق، فالمعيشة لم تكن ديمقراطية على النحو الذي نألفه اليوم في الديمقراطية، يستطيع أن يتكسب فيه العالم من الشعب.
إنما كانت حياة أرستقراطية، إن لم يستعن العالم أو الشاعر بأمير مات من الجوع؛ ولذلك اشتهر قول القائل في بغداد:
بغداد دار طيبها آخذ
نسيمها مني بأنفاس
Bilinmeyen sayfa