والغول شيء لم تره العرب، ثم وضع كتابا في مجاز القرآن.
وأما الكسائي فقد تعوده الرشيد من صغره؛ إذ كان هو مربيه، وكان فارسي الأصل عربي الولاء، ويمتاز عن الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكان النحو في أيامهم واسع المدلول؛ فهو يشمل الصرف والمعاني والبيان والبديع، ونحو ذلك، ويظهر أنه كان جادا كل الجد ليس كالأصمعي مرحا كل المرح، ولم يكن له علم بالشعر كالذي للأصمعي، فكان الأصمعي يغلبه في الشعر، والكسائي يغلبه في النحو. •••
ولقد كانت مجالسهم مجالس جد من لغة ونحو وأخبار، وما إلى ذلك، وقد استفاد الرشيد كثيرا من علمهم ونحوهم.
ومجلس آخر كان عماده الشعر يجلس فيه أبو العتاهية وأبو نواس ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأمثالهم، فينشدون له الشعر أحيانا في مديحه ومدح آبائه إلى نحو ذلك.
وهو يتخذهم دعابة له، ومظهر ترف وأبهة، ويجزل لهم العطاء بقدر ما يجزلون له من الثناء.
وأحيانا يكون المجلس مجلس فقه ومحاولة لخروج من مأزق من مآزق القصر، حول جارية أو حول مشادة بينه وبين زبيدة ... وعماد ذلك أبو يوسف القاضي، كالذي روي أن أميرا من أمراء البيت العباسي اشترى جارية جميلة، فطلبها منه الرشيد، فحلف بالأيمان المغلظة أن لا يبيعها، وحلف الرشيد أيضا الأيمان المغلظة أن يشتريها، وتحرج الأمر بينهما.
فاستدعى أبا يوسف، فحل الإشكال؛ بأن يهب الأمير نصفها للرشيد، ويشتري الرشيد نصفها الآخر، فكان ذلك، وكان واسع العلم متفنن الحيلة لبقا، مما جعل الرشيد يعينه قاضي بغداد، وهذا يجعله قاضي القضاة فينتشر بذلك مذهب أبي حنيفة شيخ أبي يوسف.
تنظيم الضرائب
وكان إلى جانب ذلك يهديه إلى نظم الضرائب، وهو الذي وضع له كتاب الخراج، فنظم له فيه الضرائب، وكيف يجبيها، وذكر الرشيد في أول كتابه هذا، وقدمه له مع نصائح حكيمة وقورة مثل ما يخاطبه به فيقول: «لا تؤخر عمل اليوم إلى غد ... فإنك إن فعلت ذلك أضعت»، و«إن الأجل دون الأمل ... فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل»، «إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى رعيته، فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به رعيته»، و«لا تزغ فتزيغ رعيتك»، و«إياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب»، و«إذا نظرت إلى أمرين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، فاختر أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى»، و«كن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم، واحذر فإن الحذر بالقلب وليس باللسان.» •••
ويذكر أبو يوسف أن رجلا نصرانيا كان يأتي الحسن البصري، ويغشى مجالسه؛ فمات، فسار الحسن إلى أخيه ليعزيه فقال له: «أثابك الله على مصيبتك ثواب من أصيب بمثلها من أهل دينك، وبارك لنا في الموت، وجعله خير غائب ننتظره ... عليك بالصبر فيما نزل بك من مصائب»، وهكذا نرى في ثنايا الكتاب دررا غالية، ونصائح عالية.
Bilinmeyen sayfa