ومن أدراك؟ - عرفت. - وماذا تريدنني أن أفعل؟ أسكت حتى يذكر الدفراوي أسماءنا ونذهب في الحديد؟ - أمن أجل هذا اختطفتها؟ - هل جننت؟ إن لم يكن من أجل هذا فلماذا؟ - حب قديم كان يائسا، ولعل أملا يداعبك فيه اليوم؟ - يا شيخة وحياة والدك أهذا وقته؟! - فمتى الوقت؟ طبعا وأين أنا الآن وقد قضيت ليلة معها في المغارة؟ - اسمعي يا وطنية أنا يا ابنتي - مهما أفعل - لن أزيد عن كمال الذي عرفته. كمال الذي كان حتى أمس تأمر خادمتها أن تقدم له فضلة طعام الخدم. كمال الذي ظل طول عمره خادما عندهم أو مستجديا على بابهم، أفهمت؟ أفهمت؟
وفهمت وطنية تماما فهمت أن كمالا عرف هذا جميعه من ليلة أمس، وفهمت أن كمالا حين واجه درية منفردا في المغارة هو السيد الآمر وهي المطيعة المنفذة، لم يستطع كمال إلا أن يجد نفسه كمال المستجدي، وإلا أن يجد درية السيدة الآمرة. لم يستطع كمال وهو في مأمن من الوحدة، وفي عزوة من السلاح إلا أن يكون كمالا الطبال في القرية أمام درية بنت العمدة. فهمت وطنية هذا فقد كانت تجيد الفهم، فهي تقول لكمال: وماذا تنوي أن تفعل بها؟ - والله لا أدري الأمر الآن بيد العمدة. - أتقتلها؟!
وهب كمال جازعا: أقتلها! - فماذا تنوي أن تفعل؟ - لا أدري.
17
تلقى العمدة النبأ من فاطمة وعبد الهادي، فألقى به في بحران من الاضطراب والذهول والحيرة والجزع والثورة: ابنته في يد العصابة وأقواله في المحضر، لا سبيل له إلى ابنته ولا سبيل له إلى المحضر، ماذا يفعل؟ وتصيح به زوجته: أسرع ... أسرع إلى المركز وغير أقوالك.
ولا يجيب العمدة وقد اختلط صوت زوجته في ذهنه بخوالج قلبه، فما يدري أهو صوتها أم صوت من أعماقه؟ فما يلبث أن يغمغم وكأنما يحادث نفسه: ومن يصدقني؟ لقد ثبتت أقوالي وانتهى الأمر، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وتعود الزوجة إلى الإلحاح، ويظل هو ساهما مطرقا يقلب الأمر على كل وجه له. إنه لو قبل أن يطيع زوجته ويجعل من نفسه كاذبا متعلقا بخيط واهن من الأمل فمن لفتحي الخفير، ومن لهذه القرية التي عرفت جميعها منه ومن فتحي أنهما رأيا منصورا وتعرفاه، ومن لهذه الأقوام التي جاءت تهنئه في الصباح ؟ من لدرية الآن في مكانها مع السفاكين؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، طريق واحد الذي أمامه ... طريق واحد ليس غيره.
وظل العمدة إلى الصباح يهذي صامتا وزوجته إلى جانبه تهذي في ضجيج حائر، كلاهما لا يدري من أمر نفسه شيئا. لا يتكلم العمدة - إن تكلم - إلا بقول واحد: طريق واحد ليس لي غيره.
ويطلع الفجر فيصليه العمدة، فيثوب إلى نفسه شيء من ثبات يكفيه ليطلع إلى الناس وليذهب إلى هذا الطريق الذي لا يعرف غيره.
قصد العمدة إلى لطيف بك، فقد كان يعلم أنه يحتاج إليه اليوم؛ لأن الانتخاب أصبح على الأبواب، وقد كان يعلم أنه لن يقيله من تلك الكارثة النازلة به إلا لطيف بك، يقصد إليه رغم أنه لم يكن مواليا له في الانتخابات، وإن يكن لطيف قد أعفاه مما يوقعه بمن ناصبوه العداء في الانتخاب، فما كان ذلك منه إلا عن أمل في المستقبل، وعن ثقة أن هذا العمدة بالذات، وهو في جوار بلدته، لا بد أن يلجأ إليه في يوم، وكان لطيف قد أزمع في نفسه أن يحميه إذا لجأ إليه، فقد كانت بلدة السلام بلدة يخطب ودها عند الانتخاب.
Bilinmeyen sayfa