ولكن شيخ الخفراء يسارع إلى نجدة عمدته. - وما يهمك يا حضرة العمدة؟ سنخبر الذي نجده، ومن لا نجده نخبر المأمور أنه ذهب إلى البندر؛ لأنه لم يكن يعلم بمجيئه. - وهو كذلك، اذهب إذن فادع من تجده، ومر الخفراء أن يلبسوا ملابسهم الرسمية ويقفوا على طول الطريق من عند المفارق حتى البلد ليؤدوا التحية.
ويذهب شيخ الخفراء، وينتقل العمدة إلى منزله في حيرة واهتمام بالغين مناديا زوجته: يا صفية، يا صفية.
وتجيب زوجته من أقصى المنزل: نعم، نعم.
فيسارع إليها العمدة حيث هي ويصرخ في وجهها: المأمور يا صفية، المأمور! - ما له المأمور؟ - وصلت إلينا إشارة تليفونية الآن أنه ... - مات؟ - لا سيجيئ. - أكل هذا؛ لأن المأمور سيجيئ؟ أهذه اول مرة يزورك فيها المأمور؟ إنك منذ عشرين سنة عمدة، وفي كل يوم يأتيك مأمور. - نعم، ولكن هذا مأمور جديد، ويقولون عنه إنه شديد جدا. - إنهم في كل مرة يقولون إن المأمور الجديد شديد، ثم يأتي، وما إن تصل إليه الفراخ والسمن والديوك حتى يصبح لينا لطيفا كالخراف التي تذهب إليه تماما. - هذا صحيح، ولكن لا بد لنا من جس النبض أولا. - اذهب واطمئن، وكل شيء سيكون على ما يرام. - الفطور يا صفية، هذه أول مرة يزورنا فيها المأمور الجديد. - ألم أقل لك اطمئن؟!
ويذهب العمدة مهرولا ليرى كيف دبر شيخ الخفراء الأمر، ولكن الوقت لم يتسع بعد؛ لأن يصل شيخ الخفراء إلى أول خفير، ولا بد من الانتظار انتظارا قلقا مليئا بالأفكار السوداء. أي داهية ستحط على دماغه إذا جاء المأمور ولم يجد ممن طلب أحدا؟ لا شك أنه سيقفه عن العمودية، ومن يدري من أي حزب هذا المأمور؟ لعله من الحزب المناوئ؟! ولكن ما يهم؟ إن جميع المآمير ينتمون إلى الحزب الحاكم، والحزب الحاكم هو حزب العمدة، والحمد لله لعله إذن شريف، يا للخراب لو كان شريفا! إذن فهو لن يقبل أن يتناول الفطور، وإذن لن يقبل الهدايا التي سيقدمها له، ولكن كيف يكون مأمورا شريفا؟! إنه مأمور، ثم هم يقولون إنه مأمور قديم، أي إنه ظل مأمورا مدة طويلة من الزمان، وهل يعقل أن يظل مأمورا مدة طويلة من الزمان ويظل شريفا؟ لو أنه كذلك لكان قد فصل منذ زمن بعيد! أو كان على الأقل قد نقل إلى وظيفة أخرى! ولكن هب يا حضرة العمدة أنه صغير في السن، وأن تلك الأنباء التي وصلت إليك كاذبة، وأنه ما زال طائشا مجنونا يعتقد في الشرف ويتمسك بأهداب الفضيلة، إذن فهو متعجرف، ولن يمكن لك يا حضرة العمدة أن تتفاهم معه. وإذن فهو سيقفك، بل لعله يفعل ما هو أدهى، لعله يفصله عن العمل، يا للخراب النازل! يفصله من العمودية تلك الوظيفة التي ظل فيها عشرين عاما، وأي مصير سيصير إليه؟ وكيف تتزوج درية إذن؟ ومن ذلك الذي سيتزوج ابنة عمدة مفصول؟ نعم، إن عنده خمسين فدانا، ولكن ما خمسون فدانا بالنسبة للعريس الذي يرجوه لدرية؟ إنه يريد شابا من كبار الأثرياء، ابن أحد الباشوات، فإن تواضع فابن أحد البكوات، وما الذي يدعو مثل هذا الشاب إلى الزواج من ابنة عمدة مفصول، لا يملك من حطام الدنيا إلا خمسين فدانا لن تزيد؟ ومن أين لها أن تزيد، وقد فصل صاحبها من العمودية؟! ويل لدرية من الأيام إذن لو كان المأمور شريفا!
بل ويل لي أنا حضرة العمدة إذا كان المأمور شريفا، ماذا أفعل؟ أينقل هذا التليفون الذي ظل ببابي عشرين عاما؟ ألا يدعوني أحد إذن يا حضرة العمدة؟ ومن ذلك الذي سيعين عمدة بدلا مني؟ لعلهم ينتخبون ذلك الرجل الخرف عبد الرحمن السلامي، ذلك القزم القميء، ذلك الرجل النحيل الفقير، نعم فقير، إنه لا يملك غير عشرين فدانا، ولكنه أغنى فرد في البلدة بعدي. ويل لي إذن، لكن ما لك قد يئست إلى هذا المصير الأسود؟ إنك بعد لم تر المأمور، آه إن المصيبة هنا أنني لم أر المأمور حتى الآن، أكان لا بد أن أكون مريضا حين دعا المأمور العمدة للاجتماع به؟ أما كنت أستطيع الذهاب؟ وكيف؟! أكنت أريد المأمور أن يراني متوكئا على عصاي، ضعيفا لا قوة بي ولا هيبة؟ ماذا كان سيظن حينئذ؟ لقد كان جديرا إذن أن يظنني ضعيفا غير حازم، لا أستطيع معالجة الأمور الجلائل التي تتعرض لها العمودية. كان لا يمكن الذهاب، ولكنني أرسلت تلغرافا. أجل إنني بهذا التلغراف أعلنت إلى المأمور الجديد أنني رجل أحترم اجتماع العمد، كما أنني غني؛ لأني أرسل تلغرافا لا خطابا مع خفير، كما أنني كريم؛ لأنني لم أبخل بثمن التلغراف المطول الذي أرسلته إليه. أجل، لقد كانت فكرة طيبة فكرة التلغراف هذه، وكان أسلوبه أيضا عظيما. هذا الولد ابن الشيخ حسن يكتب كتابة عظيمة، ولد طيب فخري ابن الشيخ حسن هذا. لقد اهتم بالتلغراف اهتماما بالغا، أكانت فكرته أم كانت فكرتي؟ لا إنها فكرتي، نعم هو فكر أولا ولكني نفذتها، أجل، ألست أنا من أرس التلغراف؟ ألست أنا من دفع أجره؟ ولكن لا، إنه هو الذي دفع الأجر! نعم وهو الذي كتبه، ولكن ولكن ألست أنا على أي حال من وقعه؟! ولكن التوقيع لا يصل مع التلغراف! نعم ولكنه كان باسمي ... النهاية كانت فكرة عظيمة، أقول في التلغراف، أعني أن فخري يقول باسمي: لمرض فاجأني واضطرني ألا أنال شرف ...
وحينئذ يسمع نقير سيارة قادمة من قريب، أي نهار أسود هذا! لقد وصل المأمور ولم يصل المشايخ ولا حتى الخفراء، وما هي إلا لحظات حتى كان المأمور يترجل سيارته ذات الصندوق الضخم الرمادي اللون أمام بيت العمدة، الحمد لله أن المأمور كبير السن. - أهلا وسهلا سعادة البك المأمور. - أهلا بك يا عمدة. - شرفت يا سعادة البك، نورت يا سعادة البك. - شكرا يا عمدة.
يا عمدة! من غير «حضرة»، النهاية، اللهم اجعله خيرا. - لم تصلنا الإشارة إلا الآن يا سعادة البك، وقد أرسلنا في طلب المشايخ. - أنتظر إذن. - أظن أن سعادة البك لم يتناول فطوره بعد، الفطور جاهز يا سعادة البك. - وما لزوم التعب يا حضرة العمدة؟
لقد جاءت «حضرة» أخيرا، يومنا لبن إن شاء الله. يسارع العمدة بالإجابة: تعب يا سعادة البك؟ تعب؟ فطور سعادتك تعب؟! هذا شرف يا سعادة البك هذا تنازل يا سعادة البك ... يا ولد يا عبد الهادي.
ويأتي عبد الهادي مهرولا. - نعم يا حضرة العمدة. - الفطور يا ولد لسعادة المأمور، أسرع. - دقيقة واحدة يا حضرة العمدة دقيقة واحدة.
Bilinmeyen sayfa