وتغضب فاطمة من هذا المزاح الثقيل، وتثور أن ينطق كمال - وإن كان مازحا - بمثل هذه الكلمة، فما كانت لتظن أن يخطر بباله هذا الفكر. وإن كان مازحا فهي تسارع مجيبة وقد دقت صدرها بيمناها وبدا الحنق على وجهها: هل جننت يا ولد؟! ألم يبق إلا أنت يا طبال حتى تقول هذه الكلمة؟! والله إن لم يبق في الدنيا كلها إلا أنت لما قبلت أن أسمع منك هذه الكلمة.
ولا يعجب كمال من ردها هذا؛ فقد كان يعلمه، ولكنه يسارع ملاطفا في ضحكة ما زالت مازحة: أعرف يا فاطمة لكني كنت أمزح. - ولو! لكل شيء حد! أيصل بك المزاح إلى هذا؟ - لا تغضبي يا ستي فاطمة، أنا غلطان. - طيب، كل وأسرع. - اللهم أطل عمرك يا فاطمة أنت ...
وتتركه فاطمة وتنصرف إلى عملها، ويفكر هو فيما كان بينه وبين فاطمة غير غاضب، فهو قد تعود أن تصده الألسنة وتعود أن يحتملها، ولكنه يخاف أن يبلغ الغضب بفاطمة حدا تبلغ معه سيدها بما كان من أمره وأمرها، ولكنه لا يلبث أن يصرف هذا الخاطر عن ذهنه؛ فهي تعلم أنه كان يمزح، ولن تذكر من الأمر شيئا، ففاطمة عاقلة، وهي تأبى أن يرتبط اسمه باسمها وإن كان يمزح.
يخرج العمدة إلى شرفة منزله فيستقبله شيخ الخفراء بالتحية والود، ثم يسأله العمدة: هل أرسلت أحدا ليحرث الفدانين كما قلت لك أمس؟
ويجيب شيخ الخفراء في فرح: نعم يا حضرة العمدة، لقد ذهب إليهما عبده أبو مسعود بعد صلاة الفجر مباشرة. - وهل اتفقت معه على الأجر؟ - خيرك سابق يا حضرة العمدة. - لا، أنا لا أقبل هذا أبدا. - لا تقبل ماذا يا حضرة العمدة؟ - أيريد أن يرشوني أبو مسعود؟ - لا، ومن قال هذا لا سمح الله؟ إنما هو يقدم خدمة خالصة لوجه الله. - آه، إن كان هذا فلا بأس. - وسيزورك الليلة إن شاء الله. - زيارة لوجه الله أيضا؟ - طبعا طبعا يا حضرة العمدة ، لكن فقط ... - ماذا؟ - له مسألة بسيطة. - ما هي؟ - عبد الحميد جاره منع عنه المياه. - ابن الكلب! والله لأمنعنه هو أن يروي أرضه، وأجعلن الماء يمر في أرضه إلى عبده أبو مسعود ... ألم يأت صالح حتى الآن؟ - لقد رأيته راكبا حماره في الفجر، يمر بالبيوت ليشتري الفراخ التي طلبتها منه سعادتك؟ - أنا! أطلب؟ أتعقل هذا يا عبد الجليل؟ أليس هو الذي قال إنه سيحضر لي فراخا اليوم؟! وحين أقسمت أن يأخذ ثمنها أقسم هو بالطلاق أنه سيحضرها هدية في مقابل تعبي في قضيته التي كانت بينه وبين امرأته؟ سبحان الله يا أخي أأرفض الهدية وأطلق المرأة من زوجها؟ ألم تكن شاهدا؟ - نعم يا حضرة العمدة ولكني نسيت، ولكنك يا حضرة العمدة - باسم الله ما شاء الله - تتذكر كل شيء، هذا ما كان والله! - وأنت ماذا تنتظر؟ ألم تذهب لتراقب الأولاد وهم يجمعون القطن؟ - لقد جئت يا حضرة العمدة من أجل هذا. - من أجل ماذا؟ - أريد أن أجمع القيراطين اليوم، وأريد أن تمنحني إجازة. - ماذا جرى يا عبد الجليل؟ أتطلب الإجازة اليوم؟ وتريدها اليوم؟ لماذا لم تقل بالأمس حتى أرسل غيرك؟ - والله يا حضرة العمدة نسيت. - دائما تنسى ولكن لماذا تجمع القطن اليوم؟ لماذا لا تنتظر إلى الغد؟ - لقد ذهب الأولاد فعلا إلى الأرض. - اجعلهم يذهبوا إلى أرضي اليوم، وغدا اجمع قطنك. - أمرك يا حضرة العمدة. - وما أجر الولد عندك؟ - مثلما تعطيهم يا حضرة العمدة. - عظيم لقد خفت أن ترفع أجورهم فيتركوني إليك. - وماذا يفعلون عندي؟ سعادتك عندك الأرض واسعة، أما أنا فثلاثة أفدنة أيتركون الدائم للعاجل؟ أهم مجانين؟
ويضحك العمدة ملء شدقيه بهذه المقارنة التي جعلته يزداد إحساسا بمكانته، ويأمر شيخ الخفراء بالانصراف ليشرف على جني القطن ونقل الأولاد من غيط إلى غيط. ويكاد شيخ الخفراء يفعل لولا خفير التليفون الذي يأتي مهرولا مقبلا من حجرة التليفون التي كانت أمام الشرفة، ويصيح الخفير: انتظر يا شيخ الخفراء.
ويسأل العمدة في قلق: ماذا جرى لك يا ولد يا عبد الهادي؟ - المأمور يا حضرة العمدة. - ما له يا ولد؟ - يجيء الآن. - الآن يا ولد؟! - الآن يا سيدي.
فيلتفت العمدة إلى شيخ الخفراء في اهتمام: عبد الجليل، أين الخفراء؟ - في الغيط. - اجمعهم وأسرع. - أمرك يا حضرة العمدة، ولكن ألا تعرف لماذا سيأتي المأمور؟ - علمي علمك يا عبد الجليل، اذهب أنت الآن وأحضر الخفراء.
ولكن عبد الهادي خفير التليفون لا يجعله يذهب، فكأنما أقسم في صباحه هذا أن يثير الرعب والقلق في نفس العمدة. - بل انتظر يا عمي يا عبد الجليل.
فيقول العمدة في ثورة مكبوتة: ماذا تريد أيضا يا عبد الهادي؟ - سعادة البك المأمور يريد مشايخ البلد. - أيضا؟ - أيضا. - ومن أين آتي بهؤلاء ما هذا النهار الأسود؟
Bilinmeyen sayfa